الطعام: أصنافه، إعداده، آدابه في القاهرة خلال العصور الوسطى
العدد 27 - جديد النشر
المؤلف: باولينا لفيتسكا
بدأ في العقود الأخيرة توجه باحثي التاريخ الإسلامي الوسيط نحو دراسات تُعنى بمظاهر الثقافة المادية في المجتمعات الإسلامية، وتأخذ هذه الدراسات عادة الطابع الأثنوغرافي، أو الوصف المنهجي الدقيق لأسلوب الحياة ومجموعة التقاليد والعادات لدى جماعة معينة، أو مجتمع معين خلال فترة زمنية معينة، وبالطبع تأتي عادات الطعام وآداب المائدة كأحد العناصر المحورية في هذه الدراسات. وينظر البعض إلى الأثنوغرافيا على أنها تمثل فرعاً مستقلاً من فروع البحث الأنثروبولوجي، والحقيقة أنها لا تشكل تخصصاً فرعياً في حد ذاتها كما هو الحال في الأركيولوجيا-مثلا- وإنما هي طريقة لرسم ملامح الثقافة والحياة الاجتماعية،
وفن الطهي أو الطّبخ ليس مادة أثنوغرافية لها أهميتها في تصوير وتقييم حياة الشعوب، والدلالة على أسلوب معاشها وتطور أساليب حياتها فحسب، بل هو تعبير صادق ودقيق عن تكامل اجتماعي وحضاري يمكن الكشف عنه وراء الأطعمة نفسها، وارتباطها بكافة مظاهر الحياة الإنسانية المادية والفكرية.
والدراسة التي نعرض لها صادرة عن دار بريل للنشر، ليدن، للباحثة باولينا لفيتسكا، الأستاذة بكلية الدراسات الشرقية جامعة وارسو- بولندا-، وأبحاثها تنصب دائما على الحياة اليومية في المجتمعات العربية والإسلامية الوسيطية، وتحديداً المجتمع القاهري، وتحاول الباحثة في دراستها رسم صورة مقرّبة لثقافة الطّبخ والمائدة في مجتمع القاهرة الوسيط، وتتناول كل المعطيات البعيدة والقريبة المتصلة بثقافة الطعام، ووصف إعداده، ومكونات أطباقه، وتقديمها على الموائد. والحدود المكانية للدراسة ليست المدينة الفاطمية فحسب، بل تشمل أيضا الفسطاط العاصمة الإسلامية الأولى لمصر، شيدها عمرو بن العاص (20هـ/640م) بعد فتح مصر، فلا يستطيع الباحث في التاريخ الوسيط للقاهرة أن يُغفل الفسطاط؛ فقد ظلت ذات أهمية كبيرة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، في حين ظلت القاهرة في العصر الفاطمي تختص بالخليفة وحاشيته، يقول المقريزي موضحا تطور طبوغرافية المدينة: وصارت القاهرة دار خلافة، ينزلها الخليفة بحرمه وخواصه واستمر سُكنى الرعية بالفسطاط، إلى أن انقرضت الدولة الفاطمية (567هـ/1171م) على يد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي، فصيَّرها مدينة لسكن العامة والجمهور، فصارت خِططا وحارات وشوارع ومسالك وأزقة، ثم اتسعت المدينة في العصر المملوكي، وشيدت أحياء خارج المدينة واتصلت عمائر الفسطاط والقاهرة، فصارت بلداً واحداً، يشتمل على البساتين والمناظر والقصور والدور والأسواق والفنادق والشوارع والحارات.
مصادر الدراسة
تُبرز الأستاذة الباحثة في فصل تمهيدي المصادر الأولية التي ارتكزت عليها في دراستها وهي:
1 - كتب الطبيخ:
وتتصدر المُصنّفات المُعتمدة باعتبارها المستودع الطبيعي لأسرار إعداد وطرق الأطعمة المختلفة، ومن بين كتب الطبيخ التراثية التي وصلتنا اختارت الأستاذة المؤلفة خمسة مصادر لدراستها، منها كتاب «الطبيخ» لمحمد بن الحسن الكاتب البغدادي القرن (7هـ/13م)، وكتاب «الطبيخ وإصلاح الأغذية» لابن سيار الوراق القرن (4هـ/11م)، وهو أقدم الكتب في موضوعه، ومن النصوص البالغة الأهمية؛ لشمولها وحسن ترتيبها وقِدمها، أما المؤلفات التي تُعنى بالبيئة المصرية فمنها «كنز الفوائد في تنويع الموائد» لمؤلف مجهول، وعلى الأرجح كُتّب في العصر المملوكي، ويقف على سوية كتاب الطبيخ لابن سيار، من حيث الشمول والإحاطة وحُسن التأليف، ويحتوي على830 صنفاً من الأطعمة، مما يجعله أكثر الكتب غزارة بين كتب الطعام الأخرى، المصنف الثاني «الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب» لكمال الدين بن العديم (ت660هـ/1262م)، المؤلف الحلبي الشهير، والمصدر الثالث «وصف الأطعمة المعتادة» لمؤلف مجهول أيضا، ويرجع تقريبا إلى العصر المملوكي.
2 - كتب الحسبة:
وهي الرقابة الرسمية على الأسواق، ومنها مراقبة أسواق الطعام، والمهن التي ترتبط بصناعة الغذاء، مثل الخبَّازين، والجزَّارين، والطبَّاخين، وأدوات المطبخ وقواعده، ويبدو أن كتب الحسبة وُضعت كدليل إرشادي لعمل المحتسب حتى يتسنى له إتمام عمله بصورة متكاملة، وأقدم كتب الحسبة التي أُعتمد عليها «نهاية الرتبة في طلب الحسبة» لعبد الرحمن بن نصر الشيزري القرن (6هـ/12م)، ويعطينا صورة رائعة للأفران وأسواق الطعام، ويرد في مصنفه خمسة عشر صنفاً من الأطعمة، وطريقة إعداد بعضها مثل الزلابية، وقلي السمك، والثريد، والهريسة، والمضيرة، واللبنّية، والبهطة، والسنبوسك، وتسعة أصناف من الحلوى، ثم يأتي محمد القرشي المعروف بابن الأُخُوة (ت729هـ/1329م) فيذكر أصناف أخرى من الطعام في كتابه «معالم القُربة في أحكام الحسبة» منها الحسبة على الكُبُوديين (بائعي الكبدة)، والبوارديين (عدة أصناف من الوجبات السريعة)، والحسبة على اللبًّانين، وأنواع أخرى من اللحوم المسلوقة من المعز، والبقر، والضأن، ثم يسرد أكثر من خمسين صنفاً من الحلويات المعروفة بالقاهرة في ذلك الوقت، الكتاب الثالث «نهاية الرتبة في طلب الحسبة» لابن بسام (قبل 844هـ/1440م)، ويُضيف أصنافا أخرى يمكن وصفها أنها أطعمة للطبقات الفقيرة، مثل هريسة التمر، والحمص المسلوق، والعدس، والترمس المسلوق، واللفت المخلل، والكشك، والجبن والبيض المقلي.
3 - كتب الحوليات التاريخية:
وهي مصادر عديدة ومتنوعة، فمن مُصنفات العصر الفاطمي كتاب «أخبار مصر» لمحمد المسبحي (ت420هـ/1029م)، و»نزهة المقلتين في أخبار الدولتين» لابن الطُوير (ت617هـ/1220م)، و«أخبار مصر» لابن المأمون البطائحي (ت588هـ/1192م)، ومن المصادر المملوكية «زُبدة كشف الممالك» لخليل بن شاهين الظاهري (ت873هـ/1468م)، و»بدائع الزهور في وقائع الدهور» لابن إياس الحنفي (930هـ/1523م)، و«المواعظ والاعتبار» للمقريزي (845هـ/1442م) وله أيضا كتاب «السلوك في معرفة دول الملوك».
4 - كتب الرحلات:
والحق أن الفضل يرجع إلى هؤلاء الرحالة القدامى في نشأة الدراسات الأثنوغرافية؛ من خلال تسجيل مشاهداتهم عن المجتمعات والشعوب المختلفة، فلم يُغفلوا ذكر الطعام وطقوسه في المجتمعات التي زاروها، ومن الرحالة إلى القاهرة في العصور الوسطى عبد اللطيف البغدادي (590هـ/1190م) وسجل يومياته في كتاب «الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر» والرحالة الأندلسي ابن جُبير (ت614هـ/1157م)، ورحلة ابن بطوطة، وابن سعيد المغربي، وناصر خسرو الرحالة الفارسي الذي زار مصر في العصر الفاطمي ومصنفه «سفرنامة»، ومن قبله المقدسي القرن (4هـ/10م) وكتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم».
5 - كتب العقاقير والأغذية:
وهي المصنفات التي تبحث في خصائص مفردات النباتات والتوابل المستعملة، من حيث الطب والغذاء، وبيان منافع أصناف الأطعمة، من طيور ولحوم وأسماك، والتصانيف كثيرة وافية في هذا المجال، منها المعتمد في الدراسة كتاب «الأغذية والأدوية» لإسحاق بن سليمان الإسرائيلي (ت320هـ/932م)، وهو أقدم وأكبر المصنفات، ويُعدّ من الجسور الأولى بين الطب العربي وطب الأمم القديمة.
6 - النصوص الأدبية:
ولا غرابة في أهميتها في دراسة الأطعمة، فمعظمها يتخللها أخبار الموائد وصنوف الطعام، ولكنها لا تقدم وصفات تفصيلية عن مكونات الغذاء وطريقة طهيه كما نرى في كتب الطبيخ، فهي تتجه للوصف الخارجي للأطباق، وتصفها وصفاً فنياً بحسب براعة الكاتب. في مقدمة مصادر الدراسة قصص ألف ليلة وليلة، فمن خلال الحكايات يرد ذكر عدد كبير من صنوف الأطعمة القاهرية، ومن المصادر المملوكية والتي تعتمد عليه المؤلفة بدرجة كبيرة بين المصادر السابقة، قصة خيالية لأحمد بن يحيى بن حسن بن الحجار، بعنوان «الحرب المعشوق بين لحم الضأن وحواضر السوق» وهي تمثل حربا بين معسكرين، الأول يقوده ملك الضأن وجنوده الخراف ورعيته القصابين والجزارين، ووزيره لحم الماعز، وأميره لحم البقر، وحاجبه اللحم السميط، وله خواص هي لحوم الدجاج، والمعسكر الثاني حواضر السوق وملكه العسل، ووزيره الأكبر السكر، بالإضافة إلى ذلك يحوي حواضر السوق العديد من ضروب الألبان، وأنواعا مختلفة من الجبن، وصنوفا من المخللات والحوامض، وأنواعا من العسل الفيومي، والرومي، والفرنجي، والبرقي.
الأطعمة القاهرية: التكوين والتأثر
كقاعدة عامة فثقافة الطعام في أي مجتمع يحكمها الموارد الطبيعية المتاحة لها، بالإضافة إلى الموروث المحلي، ويمكن التعرف على الموارد والسلع الغذائية في قاهرة العصور الوسطى من الحوليات التاريخية التي تشير دائما إلى أسباب التغير في أسعار المواد الغذائية، ويكون عادة بسبب انخفاض مستوى فيضان النيل، أو حدوث الأمراض والأوبئة، ومن المؤرخين الذين عنوا بتسجيل أسعار السلع الغذائية المقريزي، وابن إياس، ويتضح من هذه التقلبات أن أكثر الأطعمة والسلع التي يكثر عليها الطلب هي لحم الضأن والبقر، والدواجن، والبيض، والقمح، والأرز، والفول الأخضر، والسكر، والجبن، والزيت خاصة زيت السمسم.
أما الأطعمة الوافدة على القاهرة فتذكر المؤلفة أن بعضها مثل الدجاج، والجاموس المائي، والأرز، والسكر ظهرت في مصر مع الفتح الإسلامي، ومع الوقت عُرفت أطعمة جديدة مثل الثريد، والعصيدة أو الحيص، جاءت عن طريق بغداد، ووصلت إلى الفسطاط، وبما أن القاهرة كانت محطة للتجارة بين الشرق والغرب، فعن طريق المحيط الهندي عُرفت العديد من المحاصيل الزراعية الجديدة خاصة التي تناسب التربة المصرية، فظهر قصب السكر، والقمح الصلب، والليمون، والقلقاس، وعُرفت أطعمة مثل الجبن الصقلي، والسوري والفلسطيني، والزيت التونسي، وأنواع كثيرة من الجوز من بوليا الإيطالية وكريت اليونانية. لكن لم يتقبل البعض الأطعمة المملوكية مثل لحم الخيل، ومشروب الكوميس، الذائع الآن في آسيا الوسطى حيث الموطن الأصلي للمماليك.
وكانت العادة في المجتمع القاهري الوسيط عدم الطّبخ بالمنزل، وعوضا عن ذلك يستخدمون خدمة الطّبخ المنتشرة بشوارع المدينة، ومن خلال يوميات الرحالة الذين زاروا القاهرة يشيرون دائما أن أغلبهم لا يُعدون أطعمة بالمنزل، ولا يوقدون نارا بالمنازل؛ ليس فحسب للتكلفة العالية لعمل مطبخ بالمنزل، ولكن أيضا للخطورة التي قد تنجم عن حدوث حريق، لعدم توافر وسائل الوقاية في ذلك الوقت، فيذكر المقريزي في حوادث سنة (715هـ/1350م) أن السلطان الناصر محمد بن قلاوون أمر بأن تكون عقود المطبخ السلطاني بالقلعة من الحجر خوفا من الحريق.
ثم تأتي مراقبة الأسواق من المحتسب، وبالطبع تشمل بائعي الطعام بشوارع المدينة، وكتب الحسبة بها مجموعة من الإرشادات التي تساعد المحتسب على كشف فساد وعيوب السلع والصناعات، منها ما يقرب من عشرين مهنة تتصل بالأطعمة، مثل: الحُبوبيّين، والدَّقاقين، والطحانين، والخبَّازين، والفرَّانين (صاحبي المخابز العامة)، وصُناع الزَّلابية (نوع من الكعك المقلي بالعسل واللوز)، والجزَّارين ( هو الذي يذبح الماشية للبيع)، والقصَّابين (هو الذي يبيع اللحم للناس)، والكُبُوديين (بائعي الكبد المطهي)، والبَوَارديين (بائعي الوجبات الخفيفة الباردة)، والشُّرائحيِّين (بائعي اللحم المسلوق)، والشَّواؤين (بائعي اللحم المشوي)، والروَّاسين (بائعي رؤوس المعز والضأن)، وقلائي السمك، والطبَّاخين، والهرَّائسيين، والنَّقانقيين (تُعمل من اللحم السمين والبهارات والبصل)، والحَلوانُّيين، والشَّرابيين (صانع الأشربة)، والسمَّانين (بائعي السمن والزُبدة)، واللبَّانين، ومعاصر الشَّيرج والزيت الحَار، ومطبوخ العدس، والفوالون.
أما عن الطّباخين في القاهرة، سواء في حوانيت الطعام أم القصور والدور الخاصة، فلم ترد سوى إشارات قليلة ومتفرقة في المصادر عن أخبارهم، لا نستطيع من خلالها رسم صورة عن شخصيتهم أو كيفية إتقانهم هذه المهنة، هذه الإشارات تُظهر أن الطّباخين المصريين كانوا بارعين في مهنتهم، فيذكر ابن الأثير في «الكامل» أن نصر الدولة أحمد بن مروان الكردي حاكم ديار بكر (ت453هـ/1061م) أرسل طباخين إلى الديار المصرية وغرم على إرسالهم جملة وافرة حتى تعلموا الطبخ من هناك. وعند الإشارة إلى إجادة المصريين لمهنة الطبخ تُذكر دائما المرأة، فلم تكن بعيدة عن مهنة الطّباخة كليا، أو ما يتصل بالأطعمة عموما، وقد ذكر ابن سعيد المغربي جواري كن يعملن في قصور الفاطميين واستمروا في العصر الأيوبي بالعمل بمهنة الطّباخة». فيقول: وفيها جوارٍ طباخات، أصل تعليمهن من قصور الخلفاء الفاطميين، لهن في الطبخ صناعة عجيبة، ورياسة متقدمة». إشارة أخرى وردت في كتاب «الاعتبار» لأسامة بن منقذ عند ذكره قصة فارس متقاعد من الفرنجة يعيش بأنطاكية، فعند زيارة أسامه له أحضر مائدة حسنة وطعاماً في غاية النظافة والجودة، ورأى أسامة متوقفاً عن الأكل، فقال له: كُل طيب النفس، فأنا ما آكل من طعام الافرنج. ولي طباخات مصريات ما آكل إلا من طبيخهن». ويذكر المقريزي في حوادث سنة 762هـ أيام الناصر محمد بن قلاوون عن الوزير الصاحب فخر الدين ماجد بن خصيب أنه كان في داره جاريتين، تُحسن كل واحدة منهما ثمانين لوناً من التقالي سوى بقية ألوان الطعام.
ورواد حوانيت الطعام كان أغلبهم من الطبقات الوسطى، التي لا تستطيع تحمل نفقات عمل مطبخ بالمنزل، فلا يوجد سبب يدعو الطبقات الميسورة لشراء أطعمة الشوارع، فكان يقوم بمهمة الطبخ الجواري والخدم، لكن هذا لا يمنع بعض الأمراء في طلب أطعمة من حوانيت الطباخين، فيذكر المقريزي أن الوزير الصاحب فخر الدين ماجد بن خصيب كان يبعث كل ليلة بعد عشائه إلى بين القصرين من القاهرة فيشترى له بمبلغ مائتين وخمسين درهما فضة ما بين سمان وفراخ وحمام وعصافير مقلوة.
صنوف الطعام: قوامها وإعدادها
ترى المؤلفة أن أفضل طريقة لترتيب أصناف الطعام القاهري حسب الأطعمة الرئيسة، وهذا النسق يُظهر بالفعل أطعمة الطبقات الوسطى والفقيرة، مع إبراز بعض الجوانب التاريخية والاقتصادية لألوان الأطعمة.
1 - الحُبوب:
1 - الدُّخن:
وكان يصنع منه الخبز، وطبقا لرواية الرحالة عبد اللطيف البغدادي فإن الدُّخن لم يكن معروفاً في مصر باستثناء زراعته في بعض مناطق الصعيد، ولكن ابن فضل الله العُمري يقول عند ذكر خصائص مصر: وهي كثيرة الحبوب من القمح، والشِّعير، والفُول، والحُمُّص، والعَدَس، والبِسلَّة واللُّوبيا، والدُّخن، والأرز». والبغدادي يسبق العُمري بما يقرب من مائة عام، إذاً خلال هذه الفترة بدأ الدُّخن يُجلب من الصعيد والدلتا إلى القاهرة، ويذكر ابن إياس في حوادث سنة (875هـ/1740م)، أن الغلاء حدث في جميع أصناف المأكولات من الحبوب وغيرها، وعزّ وجود الأوز والدجاج من مصر جداً، وتشحط الخبز من الأسواق وصار الناس يستعملون خبز الذرة والدُّخن، وهذا قط لم يحدث حتى في الغلاء في زمن الملك الظاهر جقمق لم يأكل الناس الذرة والدُّخن في تلك الأيام.
2 - الذرة:
كانت أيضا من الحُبوب الغير مألوفة في القاهرة مثل الدُّخن، ومن المحاصيل المقتصرة على صعيد مصر، وكانت الذرة هي المفضلة دون سائر الحبوب في عمل الخبز أوقات المجاعة والأزمات الاقتصادية، ففي حوادث سنة (892هـ/1486م) يذكر ابن إياس: واشتد أمر الغلاء جدا حتى بيع القمح كل أردب بستة دنانير وبيع خبز الذرة، ولم يظهر خبز الذرة فيما تقدم من أوقات الغلاء المشهورة، حتى صنف العوام رقصة وهم يقولون:
زويجي ذي الـمـسـخــــرة....
يطعمنــــي خبـــز الدرة
3 - الأرز:
وكان يُعد من الأطعمة الفاخرة، ويميز موائد الطبقة الأرستقراطية، وتشير المصادر التاريخية أن الأزر عرف بمصر مع الفتح الإسلامي، وفي القرن (4هـ/10م) كان يُزرع في الفيوم والصعيد، ويذكر ابن ظهيرة في «الفضائل الباهرة» القرن (9هـ/15م): وأما أقواتها فعظيمة جدا، ولا تمار، وهي اختلاف أصنافها من قمح وشعير وأرز وفول وغير ذلك ألذ من أقوات ما سواها وأطيبها». وأكثر التفاصيل عن زراعة الأرز في مصر ذكرها ليون الإفريقي في رحلته القرن (10هـ/16م)، فيذكر أن الأرز يزرع بكثرة في مدن الدلتا، وأن باديتها غنية جداً بالأرز والقمح، ومن عادات أهلها أن يحملوا الأرز إلى القاهرة ويحصلوا على أرباح طائلة. ويرد ذكر الأرز في العصر الفاطمي في كتاب «نهاية الرتبة» للشيزري عند ذكر غش الخبازين: فمنهم من يغشه بدقيق الحمص ودقيق الأرز لأنهم يُثقلانه، وفي غش الطّباخين يقول: فإنهم يغشون المَضيرة بالدقيق، فيزيد في وزنها، ويعقِدها؛ ومنهم من يعقِدها بدقيق الأَرز والسَّميذ الناعم». ثم يذكر ألوان الطعام التي يدخل في عملها الأرز، ومنها اللَّبنيَّة، وتعمل من اللحم والكراث أو البصل واللبن والأرز المسحوق، ويقول: ومنهم من يعقِد اللبنيَّة بالنَّشا. ومنها أيضا البهطَّة أو المُهلبية، وتصنع كما ورد في كتاب «الطبيخ» للبغدادي و»كنز للفوائد» من الأرز واللحم المسلوق السمين والكسفرة (الكُزبرة) اليابسة، والمصطكي، وأعواد من القِرفة والسكر، لكن أشهر الأطعمة التي تُعمل من الأرز هو الأرز المفلفل، وقد ذكرته معظم كتب الطبيخ، والعديد من النصوص الأدبية، ويتكون من لحم ودُهن كثير، وأرز ومصطكي وقِرفة وحمص، ومن الناس من يصبغه بالزعفران، ومن يعمله سادة غير مصبوغ.
وفي المصادر المملوكية يذكر خليل الظاهري في «زُبدة كشف الممالك» أسماء الأطعمة التي تُعمل في المطبخ السلطاني، ومن الأطعمة التي يدخل الأرز في إعدادها، المأمونية، وتنسب إلى الخليفة العباسي المأمون، والخيطية وتعرف كذلك بهريسة الأرز، والنرجسية، والفقّاعيّة، والسمّاقيّة، أما أطباق الحلوى التي يدخل في عملها الأرز فكانت بسيطة للغاية، وتصنع عادة من الأرز المسلوق ويُخلط أو يُغطى بالسكر أو العسل، ومنها الأرز باللبن.
4 - القمح:
وبالطبع هو أهم الحبوب بمصر؛ لارتباطه بعمل الخبز، واحتل في الثقافة الشعبية المصرية مكانة خاصة، لدرجة دفعت بالمصريين إلى اختيار اسم له يقترن بالحياة والوجود هو « العيش» وقد احتفظ العيش بهذه المكانة على مر العصور التاريخية، وكان القمح يزرع في سائر أنحاء البلاد، ويذكر ابن الكندي أن مصر تشتهر بالقمح اليوسفي الذي لا نظير له. وفي القاهرة عُرفت عدة أنواع من الخبز تبعاً للمواد التي تدخل في تكوينه، ومن هذه الأنواع «الحواري» ويُعمل من الدقيق الأبيض الصافي الغير مخلوط بحبوب أخرى، وقد ذكره الرحالة المقدسي عند حديثه عن أسواق الفسطاط فيقول: واشتريت به الخبز الحواري ولا يخبزون غيره» أما الخبز الرديء فكان الخبز الخشكار وكان يُعمل من الدقيق الغير المنخول، وأشهر أنواع الخبز الشائعة ما يعرف بالسَّميذ، وكان يُعمل بالمخابز المُلحقة بقصور الخلافة الفاطمية، عُرف نوع آخر من الخبز الجاف هو الكعك، ويُعمل من الدقيق والسكر والزُبد أو الزيت ويُسوّى مستديرا، وقد يكون ساذجاً أو محشواً، ويقول المقريزي عن الخلفاء الفاطميين: وكان أكثر أكلهم على طول العام من هذا الخبز». وتذكر المصادر أيضا الخبز الأسود ويبدو أنه كان يُؤكل فقط في أوقات الأزمات، ويُعمل من الشعير أو الفول أو الذرة أو النخالة، فيذكر المقريزي في حوادث سنة 776هـ اشتداد الغلاء فأكل أكثر الناس خبز الفول والنخال، عجزاً عن خبز القمح، وبلغ الخبز الأسود كل رطل ونصف بدرهم.
وتتعدد استخدامات الخبز عندما يدخل في مكونات الطعام، فكان يُقطع على هيئة مثلاث ويُحشى باللحم ويُقلى ويُعرف بالسنبوسك الحامض، أو عوضاً عن اللحم يُحشى بالسكر واللوز المدقوقين والمعجونين بماء الورد ويُقلى ويُعرف بالسنبوسك الحلو أو المكلّل، ويدخل القمح في إعداد الطعام الشهير «الهريسة» وكان لها مكانتها بين العامة ببغداد في العصر العباسي، واشتهرت بين سكان الفسطاط في العصر الفاطمي، بل كانت تُطبخ في قصور الخلافة، وتُعد من لحم الضأن أو البقر، ولم تكن تتطلب مكونات فاخرة أو بهارات. وهناك أطعمة اختصت بها مصر مثل «النَّيدة» فيذكر البغدادي في وصف غرائب أطعمة مصر: فمن ذلك النَّيدة وهي بمنزلة الخبيص حمراء إلى السواد وهي حلوة لا في الغاية وتتخذ من القمح». ويقول ابن سعيد المغربي: ولا تصنع النَّيدة- وهي حلاوة القمح- إلا بالقاهرة والديار المصرية. واستمرت «النَّيدة» كذلك في العصر المملوكي، ومما يثير الغرابة كما تذكر المؤلفة أن النَّيدة لم ترد في أي من كتب الطبيخ المعروفة، واختفاءها ربما يرجع لطبيعة هذا الصنف من الطعام وارتباطه بالطبقات الفقيرة والمزارعين.
2 - اللحوم:
وكانت لها مكانة كبيرة بين الأطعمة العربية، ويروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم «سيد طعام أهل الدنيا والآخرة اللحم» ووردت العديد من الإشارات في المصادر التاريخية عن أهمية اللحوم بين الأطعمة القاهرية، وأفضل اللحوم التي كانت متاحة في حوانيت الطعام يأتي في مقدمتها لحم الضأن، ولحم البقر، ولحم الماعز، ولم يقف الاختيار على هذه الأنواع فحسب، بل كان اختيار البعض للحم الجمال، والجاموس، وتذكر المؤلفة أن كتب الطبيخ لم تذكر أي أنواع اللحوم يجب أن تدخل في إعداد الأطعمة؛ حيث أن لحم الضأن كان هو الشائع فلا داع لذكر نوعية اللحم، لكن في حالات قليلة يُذكر نوع اللحم مثل طبق «التنورية» حيث يُفضل لحم العجل في عمله، وفي «كنز الفوائد» يرد خمسة أطباق تتطلب نوعاً معيناً من اللحم، مثل «الهريسة» فيُفضل لحم البقر، و»القمحية» لحم البقر في عدم وجود لحم الضأن. أما إعداد اللحوم فيتم بعدة طرق منها: السلق، والقلي، والشوي. وأغلب الأطباق في كتب الطبيخ ترتكز في إعدادها على اللحم المسلوق، ومنها نوعان: الحوامض، والسواذج. فكان اللحم يُقطع إلى أجزاء متوسطة أو صغيرة، ويوضع في القِدر ويُغمر بالماء ويضاف إليه عادة الملح والأشياء الأخرى التي تُسلق معه، ومن أشهر أطباق اللحوم الزيرباج، والمضيرة، والنارنجية، والمتوكلية، والرخامية، والعدسية.
3 - الطيور والبيض:
كان القاهريون بمختلف طوائفهم وطبقاتهم يفضلون لحوم الطيور، ولها مكان دائم على موائد الخلفاء والسلاطين، ففي احتفال الخلفاء الفاطميين يذكر ابن الطُوير في وصف سماط رمضان: ويُعمّر داخل ذلك السماط- على طوله- بأحد وعشرين طبقاً في كل طبق أحد وعشرون خروفا ثنيا سميناً مشوياً، ومن كل الدجاج والفراريج وفراخ الحمام ثلاث مائة وخمسون طائراً». ويبدو هذا متواضعاً بجانب سماط السلطان الظاهر برقوق فيذكر المقريزي: وكان فيه من اللحم عشرون ألف رطل، ومائتا زوج أوز، وألف طائر من الدجاج». أما البيض في كتب الأطعمة فكان يُعد بطرق منها: القلي، والسلق، أو يدخل في إعداد أطباق اللحم والدجاج كتزيين فوق الطعام، وأشهر أطباق البيض كانت بلا شك العجّة، والمبعثرات ومنها أنواع مثل مبعثرة باللحم، ومبعثرة حامضة، ومبعثرة بالبصل، ومبعثرة صفراء، ومبعثرة ساذجة، وكان إعداد البيض يُعرف بطريقة عمله مثل البيض المقلي، والبيض المطجّن، والبيض المخلل، والبيض المصوص.
4 - الأسماك:
لم يكن لأطباق السمك مكانة كبيرة بين الأطعمة العربية في العصور الوسطى، فمن بين المصادر لم يرد ذكر الأسماك بين أطعمة الطبقات الحاكمة في القاهرة، فكل ما نعرفه أن من رسوم الدولة الفاطمية في الأعياد توزيع الجامات المملؤة من الحلاوت القاهرية والمَتَارِد التي فيها السمك، والبوري، ومعظم أنواع الأسماك الصالحة للأكل وردت في «الحرب المعشوق» فيذكر المؤلف حوالي 30 نوعاً كانت تُؤكل في القاهرة. من هذه الأنواع: الراي السنباطي، والمقصب، واللبيس، والتون، والبوري الطري والمنقور، والبُلطِي، والحوت، والقرموط، والقشر البياض، والابسارية، ومن تِنّيس ودمياط البني، والرعاد والطوبار المشوق، والفسيخ، والطريخ، والقونس، وتذكر المصادر نوعا آخر من السمك المملح يُعرف بالطريخ، فمؤلف الحرب المعشوقة يذكر أنه يشبه الفسيخ ويأتي إلى القاهرة من تِنّيس أو دمياط، ويفرد البغدادي فصلا في الطريخ وما يُعمل منه، هناك أيضا نوعان من السمك المملح كانا شائعين في القاهرة، هما الدلّينس (أم الحلول) ، والبطارخ، والدلّينس كان من المأكولات التي شملها المنع من الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله. وطرق إعداد السمك سواء المملح أو الطري أن يُقلى في مِقلة حديد، أو طاجن وهو أعمق من المِقلة، أو يشوى في تنور أو فرن، ولم تستخدم عادة بهارات كثيرة.
5 - الألبان ومنتجاتها:
من الملاحظات الأولية للرحالة ليون الأفريقي عن طباع المصريين أنهم يستعملون في غذائهم كثيراً من اللبن والجبن الطري، ويستهلكون كثيراً من اللبن الحامض أو من اللبن الذي يخثّرونه بوسائلهم الخاصة، ويملّحون جبنهم كثيراً فلا يستطيع الغريب الذي لم يتعوّد ذلك ما يستلذّونه من طعام. تقول الأستاذة الباحثة أن ملاحظته يمكن أن تسري أكثر على سكان الريف، لكن يشاركهم أهل الحضر في إضافة اللبن الحامض إلى الأطعمة، ومن أشهر هذه الأطباق «الكشك» ويُعمل من القمح المسحوق، واللبن الحامض، أما أشهر منتجات الألبان فهي الجبن فيذكر أحمد الحجار في «الحرب المعشوق» ما يقرب من ثلاثين نوعاً منها: الجبن المقدسي، والعشبي، والجاموسي، وجبن الريف والغنمي، والمقلي والمشوي، والصقلي، وهذه الأنواع إما أنها منتجات منزلية، أو مجلوبة من خارج البلاد، والجبن الشامي كان الأكثر ذيوعاً بالقاهرة، أما الجبن المصري فكان أشهره الجاموسي أو الخيش، يقول ابن الكندي: وبها البقرة الخيسية مؤبدة للحلاب، ولا تعرف الحرث، ويعمل من حلابها جبن الخيش والأقراص والمعلب تحمل إلى الآفاق». انتشر أيضا بحوانيت الطعام القاهرية ما يُعرف بالجبن المقلي، ولم يكن طعام الطبقة الوسطى أو الفقيرة فحسب، بل كان مفضلا من الطبقات الحاكمة، فالسلطان الناصر محمد بن قلاوون كان مُغرما به، ويطلبه كل ليلة مع الوجبات الخفيفة الأخرى، يقول العُمري في مسالك الأبصار: «ومن عادة هذا السلطان أن يبيت قريب مبيته في كل ليلة أطباق فيها أنواع من المطَجِّنات والبوارد والفطر والقِشطة والجبن المقلي والموز والكيمياخ». وكان يأخذه في رحلته إلى الحج، ويفعل ذلك مع زوجته طغاي خاتون، فعندما ذهبت إلى الحج جهر لها مطبخاً متنقلاً يقول عنه المقريزي: وحج بها القاضي كريم الدين الكبير واحتفل بأمرها، وحمل لها البُقُول في محاير طين على ظهور الجمال، وأخذ لها الأبقار الحلًّابة، فسارت معها طول الطريق لأجل اللبن الطري وعمل الجُبن، وكان يُقلى لها الجُبن في الغذاء والعشاء». ويتضح أن الجبن المقلي كان أحد مميزات الأطعمة القاهرية في العصر المملوكي.
6 - الخضروات والبقول والفاكهة:
من أنواع الخضروات بمصر التي يذكرها ابن الكندي في فضائل مصر، الخص، والترمس، والجُلبان، ويضيف علي بن رضوان الطبيب الشهير نباتات أخرى تزرع بمصر مثل: الخِيار، والقثاء على أنواع، والقرع، والسِلق والجَزر، واللِّفت، والكرفس، والكراث، والفجل، والقُلقاس، والباقلاء، والثوم، والبصل، ويمكن إضافة إلى قائمة ابن رضوان الزيتون، والبذنجان، واللُّوبيا، وقد شاهدها ناصر خسرو في أسواق الفسطاط سنة (430هـ/1404م)، أيضا الكرنب، والقُنَّبيط، بعض هذه النباتات ذكرها الطبيب عبد اللطيف البغدادي وأضاف إليها الملوخية، والجرجير، والبامية، وزراعة هذه الخضروات في مصر أكدها أيضا المؤرخان ابن فضل الله العُمري والمقريزي، ويضيف العُمري الحُمُّص، والبِسلَّة، والزيتون، أما الملوخية وهي الطعام المميز الآن في مصر فهي تأكل في مصر منذ القِدم، وكانت لها شهرة في الفسطاط في القرن (5هـ/11م)، وتسمى أيضا ملوكية، وكانت من الأطعمة التي منعها الخليفة الحاكم بأمر الله، لأنها كانت الطعام المُفضل إلى معاوية بن أبي سفيان. ومعظم هذه الخضروات كانت تُزرع في مصر زمن المصريين القدماء، وبعضها مثل القُلقاس والباذنجان والسِلق ظهر بعد الفتح الإسلامي.
أما الفاكهة في أسواق القاهرة فكانت متنوعة ومنها: التفاح والكمثرى وأنواع مختلفة من البطيخ، والتين، والجميز وكان المفضل لدى المصريين، يقول عبد اللطيف البغدادي: وهو بمصر كثير جدا، وقد يوجد منه شيء شديد الحلاوة أحلى من التين، لكنه لا ينفك في أواخر مضغه من طعم خشبية ما». عُرف أيضا السفرجل والبرقوق والإجاص، والتوت والرمان والخوخ والعنب والمشمش والبلح، والموز والنبق، أما المحمضات فكانت كثيرة ومتنوعة ومنها الكُبَّاد أو الأترج، والليمون، وكانت الفاكهة تدخل ضمن مكونات مجموعة من الأطباق، مثل التمرية، والليمونية، والتمرهندية، والزبيبية، والموزية، والعُنابية، والرُطبية، والنارنجية، والمشمشية، والسفرجلية، والتفاحية، والخوخية، ومما يثير الغرابة كما تذكر المؤلفة أن هذه الأطباق التي عُرفت بأسماء الفاكهة لم تشر كتب الطبيخ إلى كيفية دخول الفاكهة في إعداد هذه الأطباق، فأغلبها تحتوي على كميات كثيرة من اللحوم أو الدجاج المسلوق، فوظيفة الفاكهة كانت محدودة في استخدامها كإضافات، وفي بعض الحالات كان الاسم يطلق على لون الطبق، مثل المشمشية فكانت تُعد من غير المشمش، ولكن إضافة الزعفران إليها بكثرة كاف للتذكير بلون المشمش.
أماكن الأكل
كلمة المطاعم التي تستخدم حديثاً لتناول الأطعمة في الأماكن العامة لم تعرفها المدن الإسلامية القديمة بهذا المعنى، وكانت أسهل طريقة بالقاهرة إن لم تكن الوحيدة لتناول أطعمة ساخنة هي شراؤها جاهزة من حوانيت الطعام المنتشرة بالمدينة، وقد لاحظ الرحالة كثرة هذه الحوانيت، وأحصى بعضهم عددها في يومياته، وكانت تُعد الطعام وترسله للمنازل عن طريق صبيان الحوانيت أو الخدم. ومن الطبيعي أن الطبقات الميسورة كانت تأكل في دورها وقصورها، والطبقات الوسطى والحرفيين يأكلون في أماكن عملهم أو في منازلهم، أما الفقراء وعديمو المأوى فلا خيار أمامهم إلا الأكل بقارعة الطريق، أو جوار حانوت الطعام، وتذكر المؤلفة أن الإشارة الوحيدة التي تجعلنا نفترض وجود أماكن عامة للطعام بالقاهرة جاءت في مذكرات دومينكو تريفيزانو سفير البندقية الذي زار القاهرة سنة (923هـ/1512م) لمقابلة السلطان قانصوه الغوري نهاية العصر المملوكي، أي قبل معرفة المطاعم لأول مرة في فرنسا بأكثر من قرنين ونصف، فقد لاحظ دومينكو أن سكان القاهرة لا يأكلون بالمنازل، لكن يدخل الشخص منهم إلى حوانيت ويأكلون، وعندما يمر الشخص بجوار الحانوت يتنفس رائحة الطعام النفاذة، وهذه الحوانيت ربما تشبه حوانيت الطباخين التي أشار إليها المقريزي عند ذكر شارع قصبة القاهرة بقوله: يُرمى بمصر في كل يوم ألف دينار ذهبا على الكِيمان والمزابل. مما يستعمله اللبَّانون والجّبانون والطباخون من الشُّقاق الحمر التي يوضع فيها اللبن والجُبن، والتي تأكل فيها الفقراء الطعام بحوانيت الطباخين». ويشير إدوارد لين في بداية زيارته للقاهرة منتصف القرن19 إلى كثرة دكاكين الطباخين بالقاهرة فيقول: ويُعدون الكباب وغيره من الأطباق ويبيعونها، ولا يأكل الناس في هذه الدكاكين إلا في مرات قليلة ويرسلون عادة يطلبون ما يحتاجون إليه منها عندما لا يعدّون الطعام في منازلهم. ويؤمن أصحاب المتاجر طعام فطورهم أو عشائهم من دكاكين هؤلاء الطباخين.
ولم تعرف قاهرة العصور الوسطى وأوربا أيضا مكاناً مخصصاً للأكل، أو غرفة الطعام الآن، فمناخ مدن البحر المتوسطي لم يجعلهم يتقيدون بغرفة خاصة للطعام، ولكن من الممكن الأكل في الهواء الطلق، وفي منازل الطبقات الميسورة كان يتم استقبال الضيوف في «القاعة» أو صالة الاستقبال، ومكانها عادة بالطابق الأول أو الثاني، وربما تكون القاعة هي غرفة الطعام. ويذكر إدوارد لين أن أبناء الطبقات الوسطى أحيانا يتناولون طعام عشائهم أمام أبواب منازلهم فيدعون كل مار مهيب الطلعة إلى مشاركتهم الطعام. وتلك عادة شائعة أيضاً بين الطبقات الدنيا.
المشاركة في الطعام
تنوعت المصادر التي تناولت آداب الطعام والمائدة في الثقافة الإسلامية، وكان أدب الموائد يستقي أصوله الدينية من السنة النبوية، ومنها التسمية على الطعام، والأكل باليمين، وفي موضع واحد، وكان الرسول عليه السلام يأكل بثلاثة أصابع، وقد نهى أن يقام عن الطعام حتى يرفع، وربما كان ذلك حرصاً من الرسول الكريم في عدم إحراج الجالسين واضطرارهم إلى التعجل والقيام عنه ولهم فيه حاجة. ومن أشهر الكتب التي تُعنى بالجانب الديني «آداب الأكل» للإمام أبو حامد الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين، أما الكتب الأدبية فمنها «شرح منظومة آداب الأكل والشُرب والضيافة» لابن العماد الأقفهسي (ت808هـ/1405م) وهو من المصنفات القليلة التي تفردت في موضوعه. ولكن أقدم النصوص الأدبية المعروفة لنا هو الباب الخاص بأدب الموائد في كتاب الطبيخ لابن سيار الوراق، فيفرد في نهاية الكتاب باباً في غسل اليد قبل الطعام وبعده، وآداب الأكل والشرب مع النبلاء. أما المصدر الأهم في العصر المملوكي هو «فوائد الموائد» للشاعر أبي الحسين جمال الدين الجزّار (ت679هـ/ 1280م)، ويفرد أبواباً في آداب المضيّف مع ضيفه، وآداب الضيف مع مضيفه، وذكر ما يستقبح من أفعال الضيف. ويذكر الجزار قواعد عامة للسلوك بين الضيف والمضيف، فيجب على الكريم أن يخدم ضيوفه، ويُظهر لهم الغنى وبسط الوجه، ويقبح بالضيف أن يسأل مضيفه في شيء من داره سوى القِبلة وموضع قضاء الحاجة، ولا يمتنع من غسل يديه، ولا بأس بالمحادثة على الطعام. وفي رسالة «آداب المؤاكلة» لبدر الدين محمد الغُزي (ت984هـ/1577م) يذكر بعض العادات السيئة على المائدة، وأسماء أصحابها مثلا: العائب وهو الذي ينبه على بعض عيوب الطعام، فيقول هذه هريسة جيدة لولا أنها سمراء، وهذا طبيخ كثير الملح، أو قليل الحمض أو الحلو.
وهذه المختصرات هي جانب أحادي يصعب معه معرفة سلوك الطبقات الوسطى والعامة، فلا يوجد معلومات موثقة عن سلوك القاهريين على الموائد، فأغلب المؤلفين في العصور الوسطى لم يعنوا بتسجيل يومياتهم، وأول مُصنّف يُعتمد عليه في تسجيل الحياة اليومية للمصريين وسلوكهم في الأكل وغيرها من مظاهر الحياة أتى في منتصف القرن التاسع عشر وهو «عادات المصريين المحدثين» لادوارد لين، فملاحظاته لها أهمية لا تُضاهي في نشأة الدراسات الأثنوجرافية الخاصة بالمجتمع القاهري.
أما أوقات الطعام فلم تتطرق إليها المصنفات، باستثناء الأقفهسي فهو الوحيد الذي ذكر أوقات الطعام، فيقول نظماً:
وإن أكلت فنِم بعد الغِداء وقُم...
بعد العِشاء تَمشي ثمَّ نَم وَكُل
وقتُ الغِداء لوَقت الفجرِ أَولُهُ ...
إلى زوال به وقت العِشاء يَلي
فوقت الغداء يدخل بطلوع الفجر، ويمتد إلى الظهر، ويليه وقت العشاء ويمتد إلى نصف الليل، ويليه وقت السُحور إلى الفجر الثاني، وهذه الأوقات للغداء والعشاء لم تقتصر على القاهرة فحسب، بل كانت هي المعتادة في الشرق الإسلامي عموما، وامتد هذا التقليد في القرن التاسع عشر، فاستمرت وجبة العشاء هي الوجبة الأساسية، فيقول لين: إن العشاء هو وجبة الطعام الأساسية، ويتم تحضيره في فترة بعد الظهر، وما يبقى منه يُترك لعشاء اليوم التالي».
أما شكل المائدة، فتشير المصادر الأدبية إلى نوعين من الموائد، الأولى هي السُفرة، وتعرفها معاجم اللغة بأنها غطاء يوضع على الأرض أو السجاد، أو صينية مدورة الشكل مصنوعة من القماش أو الجلد، وهي في الأصل طعام يتخذ للمسافر، وبه سُميت سُفرة الجلد، والسُفرة التي يؤكل عليها سميت بهذا الاسم لأنها تبسط إذا أكل عليها، وكان الرسول عليه السلام يأكل على الأرض في بعض الأحيان وفي بعضها يأكل على سُفرة، أما النوع الثاني هو الخوان فكان يرتفع قليلا عن الأرض، ويأخذ عدة أشكال منها صينية ترتكز على دعامة واحدة مرتفعة، أو صينية ترتكز على ثلاث أو أربع دعامات قصيرة، وكان الخوان عموما يصنع من الخشب أو النحاس، أما في القرن التاسع عشر فيقول لين: أما طاولة الطعام فهي عبارة عن طبق مستدير يعرف بالصينية من النحاس القصديري أو الأصفر، يرتفع قطر هذه الصينية قدمين أو ثلاثة وتُجعل فوق كرسي نحو خمسة عشر بوصة طولاً، وهي مصنوعة من الخشب ومغطاة أحيانا بعرق اللؤلؤ أو العظام. ويشكل الكرسي والصينية (السُفرة).
المراجع
*Book title: Food and Foodways of Medieval Cairenes: Aspects of Life in an Islamic Metropolis of the Eastern Mediterranean
Author: Paulina Lewicka
Publisher: BRILL, 2011
648 pages
1 - ابن الأثير، الكامل في التاريخ. ط1. تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي. بيروت: دار الكتب العلمية. 1987م.
2 - ابن الأخوة، محمد بن محمد القرشي. معالم القُربة في أحكام الحسبة. تحقيق محمد محمود شعبان. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1976م.
3 - ابن الطوير، أبو محمد المرتضى بن الحسن القيسراني. نزهة المقلتين في أخبار الدولتين. تحقيق أيمن فؤاد سيد. بيروت: المعهد الألماني للأبحاث الشرقية. 1992م. (النشرات الإسلامية)
4 - ابن العديم، كمال الدين. الوصلة إلى الحبيب في وصف الطيبات والطيب. تحقيق سليمى محجوب؛ درية الخطيب. حلب: منشورات معهد التراث العلمي العربي.1986م.
5 - ابن الكندي، عمر بن محمد بن يوسف. فضائل مصر المحروسة.ط1. تحقيق علي محمد عمر. القاهرة: مكتبة الخانجي. 1997م.
6 - ابن المأمون، جمال الدين أبو علي موسى البطائحي. نصوص من أخبار مصر. تحقيق أيمن فؤاد سيد. المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة. 1983م.
7 - ابن إياس الحنفي. بدائع الزهور في وقائع الدهور.ط2. تحقيق محمد مصطفى. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1982م.
8 - ابن بطوطة، شمس الدين أبي عبد الله الطنجي. رحلة ابن بطوطة. تحقيق عبد الهادي التازي. الرباط: مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، 1997م.
9 - ابن جبير، أبو الحسين محمد بن أحمد الأندلسي. رحلة ابن جبير. بيروت: دار صادر. 1959م.
10 - ابن زولاق، الحسن بن إبراهيم. فضائل مصر وأخبارها وخواصها. تحقيق علي محمد عمر. القاهرة: مكتبة الخانجي. 2000م.
11 - ابن ظهيرة. الفضائل الباهرة في محاسن مصر والقاهرة. تحقيق مصطفى السقا. دار الكتب المصرية. 1969م.
12 - أسامة بن منقذ، مؤيد الدولة أبو مظفر. كتاب الإعتبار. تحرير فيليب حتى. مركز النشر بجامعة برنستون. 1930م.
13 - الإسرائيلي، إسحاق بن سليمان. كتاب الأغذية والأدوية. تحقيق محمد الصباح. بيروت: مؤسسة عز الدين للطباعة والنشر. 1992م.
14 - البغدادي، عبد اللطيف. كتاب الإفادة والاعتبار. ط2. تحقيق عبد الرحمن عبد الله الشيخ. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1998م.
15 - الجزار، أبي الحسين جمال الدين. فوائد الموائد. تحقيق إبراهيم السامرائي. مجلة المجمع العلمي العراقي. المجلد27 و 28. 1976-1977م.
16 - الجميل، محمد بن فارس. الأطعمة والأشربة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم. حوليات كلية الآداب، جامعة الكويت. الحولية 17/الرسالة 114، 1996م.
17 - الجوهري، محمد. موسوعة التراث الشعبي العربي. ط2. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة.2012م.
18 - الشيزري، عبد الرحمن. نهاية الرتبة في طلب الحسبة. تحقيق السيد الباز العريني. القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر. 1946م.
19 - الظاهري، غرس الدين خليل بن شاهين. زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك. تحقيق بولس راويس. باريس: المطبعة الجمهورية. 1893م.
20 - العمري، شهاب الدين أحمد بن يحيى بن فضل الله. مسالك الأبصار في ممالك الأمصار. تحقيق أيمن فؤاد سيد. المعهد الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة. 1985م.
21 - الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد الطوسي. إحياء علوم الدين. مطبعة بولاق. 1853م.
22 - الغزي، بدر الدين محمد. آداب المؤاكلة. تحقيق عمر موسى باشا. دمشق: دار ابن كثير. 1987م.
23 - ألف ليلة وليلة من أصوله العربية الأولى. حققه وقدم له وعلق عليه محسن مهدي. ليدن: بريل للنشر. 1984م.
24 - الكاتب البغدادي، محمد بن الحسن. كتاب الطبيخ، أعاد نشره فخري البارودي. دمشق: دار الكتاب الجديد، 1964م.
25 - المغربي، ابن سعيد. النجوم الزاهرة في حُلى حضرة القاهرة. تحقيق حسين نصار. دار الكتب المصرية. 1970م.
26 - المقدسي، شمس الدين أبو عبد الله. أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم. ط2. ليدن: مطبعة بريل. 1906م.
27 - المقريزي، تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي. السلوك لمعرفة دول الملوك. تحقيق محمد عبد القادر عطا. بيروت: دار الكتب العلمية. 1997م.
28 - المقريزي، تقي الدين أبي العباس أحمد بن علي. المواعظ والاعتبار. تحقيق أيمن فؤاد سيد. لندن: مؤسسة الفرقان. 2003م.
29 - الوراق، ابن سيار. كتاب الطبيخ. تحقيق إحسان ذنون الثامري. بيروت: دار صادر. 2012م.
30 - خسرو، ناصر. سَفر نامة. ط2. ترجمة يحيى الخشاب. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1993م.
31 - شبوح، إبراهيم. المائدة في التراث العربي الإسلامي. لندن. مؤسسة الفرقان. 2004م.
32 - فهيم، حسين محمد. أدب الرحلات. الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1989م. (سلسلة عالم المعرفة 138)
33 - فهيم، حسين محمد. قصة الأنثروبولوجيا. الكويت:المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1986م. (سلسلة عالم المعرفة 98)
34 - لين، إدوارد وليم. المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم. ط2. ترجمة عدلي طاهر نور. القاهرة: دار النشر للجامعات المصرية. 1975م.
35 - ليون الإفريقي، الحسن بن محمد الوزان الفاسي. وصف إفريقيا. ط2. ترجمة محمد حجي. بيروت: دار الغرب الإسلامي. 1983م.
36 - مجهول. كنز الفوائد في تنويع الموائد. تحقيق مانويلا مارين؛ ديفيد واينز. بيروت: المعهد الألماني للأبحاث الشرقية. 1993م. (النشرات الإسلامية)
37 - Levanoni, Amalia. “Food and Cooking during the Mamluk Era”. Mamluk Studies Review, 9/2, 2005.
38 - Tsugitaka, Sato. “Sugar in the Economic Life of Mamluk Egypt”, Mamluk Studies Review. 8/2, 2004.
39 - Lev, Yaacov, “The Regime and the Urban Wheat Market: The Famine of 662/1263–64 in Cairo”, Mamluk Studies Review, 8/2, 2004.
40 - Lewicka, Paulina. “Twelve Thousand Cooks and a Muhtasib. Some Remarks on Food Business in Medieval Cairo”, Studia Arabistyczne i Islamistyczne 10, 2002.
41 - “On Kitchens of Medieval Cairo, or Why Ordinarily the Saracens Did not Cook at Home and What Ensued From It”, Rocznik Orientalistyczny 1/LVII, 2004.
42 - “Restaurants, Inns and Taverns that Never Were. Some Reflections on Public Consumption in Medieval Cairo”, Journal of Economic and Social History of the Orient 48/1, 2005.
43 - “The Delectable War between Mutton and the Refreshments of the Market-place Rereading the Curious Tale of the Mamluk Era,” Studia Arabistyczne i Islamistyczne 13, 2007.
44 - “Food and Foodways of Medieval Cairenes: Aspects of Life in an Islamic Metropolis of the Eastern Mediterranean, Leiden: Brill 2011.
45 - Marina, Manuela, Sobre alimentación y sociedad (el texto árabe de la “La guerra deleitosa” Al-Qantara, Vol. 13/1, 1992