الطعام التقليدي والعولمة
العدد 9 - عادات وتقاليد
هل الطعام هو فقط «طعام»؟ أم أن هناك أكثر من العملية «العفوية» والحاجة الطبيعية لاستهلاك الطعام التي تُنفذ بدون كثير اهتمام؟ مهما يكن، بقليل من البحث لا يمكن إنكار علاقة الطعام بثقافة مجتمع وبموارده الطبيعية والتغيرات مع المراحل التاريخية التي تطرأ على المجتمع
وذلك بالتأثيرات الخارجية من ثقافات أخرى. قد يكون الريف - لكبره وغنى وتنوع ثقافاته وكونه الموطن الأساسي لإنتاج مواد الغذاء الأساسية- المكان الهام الذي تُلاحظ فيه التغيرات والتأثيرات الخارجية بسهولة وسرعة. لذا يتم التركيز هنا على المطبخ الريفي وإن كان الكثير مما يُذكر يمكن تعميمه.
الطعام التقليدي و الإنتاج المحلي:
المطبخ جزء لا يتجزأ من ثقافة مجتمع كما أنه انعكاس لها. تختلف أنواع ونكهات الطعام تبعاً للثقافة التي بدورها تأثرت بالجماعة وبيئتها الاجتماعية والجغرافية والتاريخية...الخ. رغم الإطار العام الواحد للثقافات المحلية فإنها تبقى متنوعة و متميزة ولكلٍ صفاته الخاصة.
إن الطعام هو جانب هام جداً لقياس مستوى المعيشة والقيم الجمالية لمجتمع معين ذلك لأنه يعكس بأدواته وأنواعه الثراء النفسي والاجتماعي لهذا المجتمع. يبيّن الأخصائيون أن نظام الأكل وعاداته تستند إلى جذور عميقة بالنفس البشرية ومطبخنا التقليدي وأطباقه وعاداته أشهر من أن تُشرح بغناها ومدلولاتها الاجتماعية فمثلاً إكرام الضيف يكون بتقديم شتى أنواع الطعام الموجود، وطعام العائلة لا يكون فرادى بل يتم الانتظار لتجتمع العائلة كاملة، كما يوجد تنوع غني وتخصيص لأنواع الطعام حسب المناسبات (أي هناك طعام محدد للأعراس والمآتم والأعياد ...الخ)، وتشبيه الناس بأنواع الطعام «مثل السمن و العسل»، و كذلك توطيد أواصر الصداقة والتعاضد تكون بتشارك الطعام «الممالحة»، إضافة إلى الكم الهائل من الأمثال الشعبية التي تتعلق بالطعام...الخ.
لا يمكن تجاهل أن النساء في كل بلد وفي كل قارة هنّ من يحملن المسؤولية الأولى في «صناعة» الطعام وخاصة المرأة الريفية. والأصح أن النساء لا يسهمن فقط بتحضير الطعام وإنما بكثير من مراحل إنتاجه أي إنتاج مواده، فالمرأة الريفية خاصةً تؤمن يدا عاملة «غير مأجورة» للفلاحين العاملين بالزراعة. لقد حرصت المرأة على تأمين الطعام الصحي الاقتصادي للعائلة إضافة إلى المجهود الخاص لتأمين المخزون الشتوي أو «المونة» حيث تدخر منتوجات الصيف وتحفظها لتستخدمها في الشتاء إذ كان انتاج مواد الطعام فصليا ولا يمكن الحصول على الكثير منه في فصل الشتاء. ففي أواخر الصيف تقوم المرأة بتحضير وتخزين ما يلزم للإفطار من جبن ولبنة وزعتر وزيتون ومكدوس ومربيات ...الخ، وما يلزم لإعداد الأطباق من برغل وكشك والخضار المجففة مثل الفاصولياء والبامياء واللوبياء ...الخ إضافة إلى الزيت والطحين...الخ.
لا بد أن لخصب أراضينا وغنى مواردها علاقة مباشرة وأساسية لأهمية وتنوع المطبخ المحلي فقد كانت خزينة المطبخ المحلي القروي تزخر بما تجود به الأراضي من عطاء. فالإنتاج المحلي للمواد الغذائية الأساسية المتوفرة في أراضي القرية أو محيطها كان أساس غذاء العائلة وأفرادها وقد استهلك الفلاح وعائلته ما توفر من إنتاجه ونادراً ما اشترى أو بادل للحصول على مواد غير متوفرة بمحيطه - والتي غالباً ما كانت المواد المصنّعة مثل القماش وأدوات المطبخ وأدوات الزراعة - ضمت الأراضي دائماً محاصيل الحبوب التي شكلت العصب الأساسي للطعام وأطباقه (قمح و كمون و ذرة و...الخ) وحديقة المنزل فيها الخضار (البندورة و البقدونس والفليفلة ....الخ) وبعض أشجار مثمرة (زيتون وتفاح وعنب...الخ) أما الحظيرة فقد آوت المواشي والطيور (الماعز والأبقار والدجاج والحمام ...الخ) وبالتالي كل مواد الغذاء الأساسية كانت في متناول اليد – بقليل أو كثير- إضافة إلى القناعة والرغبة ببذل الجهد للحصول عليها. فقد كان الاكتفاء الذاتي لإنتاج الطعام هو الهدف الرئيسي ثم أتى الهدف الاقتصادي.
العولمة و الاستهلاك:
العولمة هي حركة التمويل والمعلومات والعلم والصّادر والوارد بشكل سريع جداً عبر الحدود الجغرافية، فهي تقليص للعالم ليصبح بدون مسافات طويلة وليصبح كل مكان من العالم جزءاً من السوق العالمية التي تسعى الشركات المتنافسة لكسبها إلى قائمة مستهلكيها. إن أساس العولمة هو العملية التجارية بغض النظر عن المواد المتاجر بها حيث يتم فيها السعي والتنافس بين الشركات لإيجاد مستهلكين جُدد وبشكل دائم وكنتيجة فإن العولمة هي «ثقافة الاستهلاك». وهكذا لا تقوم العولمة فقط على المتاجرة بالبضائع و إنما بالثقافة و الطبيعة و كل ما يمكن أن يؤمّنَ الرّبح.
العولمة الاقتصادية التي فتحت السوق المحلية على السوق العالمية أثّرت بشكل مباشر على الإنتاج الزراعي الذي تحوّل من إنتاج «عائلي محلي» إلى إنتاج « صناعي هائل» أو ما تميز
بـ(agribusinesses). فالدول المنتجة زراعياً بشكل هائل - التي هي الدول الصناعية الغنية التي تعمل بتقنيات حديثة و دائمة التطوير- تعمل على بيع فائض إنتاجها «الزراعي المصنّع» بأسعار أرخص في الدول الفقيرة حيث الأسعار تنافس الأسعار المحلية وبالتالي فإنها تضرب الأسواق والمنتجين المحليين وتؤمن الربح. بما أن الريف هو الموطن الرئيسي للإنتاج الزراعي المحلي في الدول الفقيرة والذي يعتمد بشكل رئيسي على السوق المحلية فإن تأثير التنافس فيه أقوى.
إن العلاقة متبادلة و نفعية بين العولمة وثورة الاتصالات الحديثة التي سهلت التعرف والإطلاع الآني على كل ما يحدث وما يتم إنتاجه. ونتيجة لما ذكر حدثت زيادة البضائع في السوق المحلية وسرعة تبني ما كان بالأمس كماليات ليصبح ضرورات دفع أيضاً عجلة التحوّل في الزراعة من الإنتاج «الذاتي»/ المحلي إلى الإنتاج «التجاري» الذي يؤمن مقابلاً مادياً. هكذا بات المزارع يُنتج ليحصل على المال اللازم لشراء حاجاته الأساسية (التعليم, الصحة, الغذاء,...الخ) و الكماليات التي باتت «ضرورية» (ستالايت التلفزيون, اللباس, موبايل, سيارة, .......الخ).
بالتالي تم الانزلاق بسرعة وسهولة من الإنتاج والاكتفاء الذاتي إلى الاستهلاك المتزايد. ولمقاربة ما تقدم أعلاه مع الواقع فنرى التغيّر في أنواع المحاصيل الزراعية. ففي الماضي كان إنتاج الحبوب أو الأشجار المثمرة حسب طبيعة المنطقة أما الآن و بفضل «الثورة الخضراء أو التهجين الزراعي» فقد تم زراعة ما يلزم للسوق في أي مكان فنرى زيادة زراعة أشجار الزيتون أو اللوز أو التفاح ...الخ. و بمقارنة بسيطة لما نراه ونعيشه اليوم نستطيع لمس الفارق الرهيب في التحوّل من الإنتاج الكامل إلى الاستهلاك الكامل تقريباً و من المنتجات الطّبيعية والصحية والرفيقة بالبيئة إلى المنتجات «الصناعية» أي المهجنة والمُنتجة بإضافة المواد الكيماوية وضمن البيوت البلاستيكية!
طعامنا التقليدي و العولمة:
إن التغيرات والتأثيرات السريعة التي أحدثتها ثورة الاتصالات طالت كل مكان وجعلت العالم قرية كونية صغيرة. وبما أن العولمة ليست فقط تجارة مواد ورؤوس أموال وإنما أيضا تجارة أفكار وأّذواق فإنها التهديد الأساسي للثقافات المحلية لأنها تعمل على خلق «ثقافة كونية موحّدة». إضافة الى تهديد العولمة للثقافات المحلية لا يمكن التغاضي عن الدور السلبي غالباً الذي يلعبه أصحاب الثقافة المحلية من تجاهل وعدم حفظ و تبنٍّ سريع غير مدروس لكل ما هو جديد و»حديث». كذلك أيضاً الفهم الخاطىء لما يعنيه التراث ومواده، فغالباً ما يُعنى به ما هو مغرق بالقِدم و شديد الأهمية التاريخية (مثلاً المباني الأثرية) أو يُؤول فقط ليكون قديماً وغير هام ولا يتناسب مع ما وصلنا إليه من «حداثة».
قد لا يكون تأثير العولمة مباشراً على المطبخ التقليدي ولكن نتيجة الانفتاح و التحول نرى المواد الأساسية (الزراعية والاستهلاكية) في مطبخنا التقليدي قد تغيرت وتبعها بالتالي تحول أصناف الطعام أيضاً. ففي المنزل حيث ما زالت تحفظ بقايا أطباق محلية من وقت لآخر بدأت الأطباق المستوردة تحل محلها أما في المطاعم فنادراً ما توجد قائمة طعام أطباقها محلية صرف. ولابد هنا من ذكر مثال «البيتزا» التي تُعتبر من المطبخ الإيطالي التقليدي بامتياز ولها عدة أنواع. أما الطبق التقليدي الأساسي منها وهو «بيتزا نابولي» فله قانون خاص لحماية «أصل المنشأ» لهذا الطبق، ومع العولمة و شركات الطعام الأمريكية وإعلاناتها أصبحت البيتزا من أطعمة العولمة بامتياز، التي يتهافت عليها الشباب في كلِّ الأماكن كنوع من « طعام موضة» الذي يجعل متناوله يواكب كلّ «الحداثة»!! فباتت تُحضّر في كل بيت إضافة إلى الكثير من الوجبات السريعة الأخرى ولا ننسى المشروبات أيضاً مثل الكولا. كذلك اندثرت تقريباً المؤونة المنزلية والقروية خاصةً وباتت تعتمد على السوق بشكل رئيسي حيث يتم شراء الخضار والحبوب والبرغل الجاهز وما إليه إضافة إلى المنتجات الاستهلاكية الجديدة المتوفرة غالباً في أي وقت. وهكذا فقد بات مطبخنا يعج بالمأكولات السريعة والمستوردة التي لا تتلاءم مع مناخنا وطبيعتنا وثقافتنا ...الخ والأهم أننا لا ندرك أصلها أوأي معلومات عن مصدرها. ولا ننسى التشابه الكبير الذي حصل في مطابخنا رغم اختلاف الأماكن والثقافات فالمواد واحدة أو متشابهة وكذلك الأطباق ويبقى الفرق بقايا أطباق تقليدية محلية إن وُجدت تضفي نكهة خاصة للمكان.
بكل تأكيد هذا لا يعني أبداً أن نكون مُنغلقين على أنفسنا كي لا نتأثر بما يحدث ونُحافظ على تقاليدنا ولكن من الضروري أن نعي ما نتأثر به ونحن ثابتون على أساسنا المحلي الصلب الذي يحفظ لنا «هويتنا» لا أن نتبنى أي شيء فقط لمواكبة «الحداثة». للأسف ومع كل ما تقدم فإنه لا يوجد حسّ مسؤول عما يضيع من تراثنا المحلي مع سرعة التغيرات مهما كان بسيطاً ومنه أطباقنا التقليدية ، لأن مجموع ما يضيع وما يُهمل هو ما يُشكّل كمَال صورتنا و هويتنا.
خـــاتمــة و رؤى:
إن حفظ التراث المحلي هو حفظ لغنى وتنوع يعطي الثقافة هويتها ومقوماتها. ومع التغيرات السريعة هناك حاجة ماسة لرفع الوعي وإبراز أهمية التراث المحلي بكل عناصره مهما كانت بسيطة وكذلك ضرورة حفظه بطريقة مناسبة للاستفادة من الفوائد الكامنة من حفظ هذا التراث.
إن الهجوم على العولمة لا يعني أبداً صمّ الأذان ومنع التغيير وإنما التمسك بالهوية والتميُّز مع الاطلاع والاستفادة من التجارب العالمية وتطبيقها بما يتناسب والذوق المحلي وكذلك الاستفادة من التقنيات الحديثة للاتصالات لإيصال إنتاجنا وتراثنا و تجاربنا أيضاً. إن تراثنا بكل غناه ليس فقط «ماضيا» نتذكره ونفخر به فقط و إنما يجب أن يكون منجم فوائد معنوية و مادية معاً في وقت واحد.
يقول الناشطون بيئياً «فكّر عالمياً وتصرف محلياً « ويقول الناشطون ثقافياً « فكّر محلياً وتصرف عالمياً» و بالتالي لا بد من الإسراع بخلق مبادرات محلية وتنميتها لتنتشر وتنشُر ثقافتنا وقد يكون مطبخنا عنصرا أساسيا للبدء. يمكن القول إن أول ما يجب القيام به كخطوة عاجلة هو التوثيق الكامل لكل أطباقنا المحلية ومناسباتها وما يترافق معها من عادات اجتماعية وهذه مهمة تقع على عاتق كل مهتم ومثقف. إذا ما ملكنا أرشيفا لمطبخنا التقليدي في كل مكان فإن أي خطوة تالية يمكن القيام بها بسهولة نوعاً ما لأن المرجع سيكون موجودا. و هنا يمكن اقتراح أن يتم تشجيع برامج تعنى بالأطباق المحلية أو تنشيط دور المعاهد الفندقية و الشباب فيها و ذلك مثلاً لإنتاج أطباق جديدة أساسها الأطباق المحلية أو المبادرة بمهرجانات طعام تقليدي منوّع ومتجدد في أمكنة متنوعة من بلدنا تبين التميز والتفرد لكل منطقة أو إيجاد مسابقات لطبخ الاطباق المحلية و تسويقها أو إنتاج مطبوعات ومنشورات بشكل علمي وبعدة لغات تُعنى بمطبخنا التقليدي وتصل لأكثر من عدد «محدود» من القراء .... إلخ. مهما تكن هذه المبادرة - ولا بد من أن الكثيرين لديهم أفكار أكثر يجب أن تُعطى الفرصة - لتجد هدفاً على الأقل بلفت الانتباه لأهمية هذا العنصر الرئيسي من تراثنا و التأكيد على غناه وضرورة حفظه علماً أنه توجد في بلدنا حالياً جمعية أهلية تعرف بـ «الجمعية السورية لذواقي الطعام» التي تعنى بالطعام التقليدي و ضرورة التعريف به ولكن الغالبية العظمى من الناس لا تعلم بجمعية كهذه ولا يُذكر أي نشاط شعبي قامت به الجمعية حتى الآن. وبالتالي يمكن التفاؤل والقول إننا نملك كل المقومات اللازمة لإطلاق مبادرة محلية لتصل العالمية، فلدينا الموارد الغنية في تراثنا ولدينا العقول المبدعة والسواعد العاملة فلم لا نستفيد من أطباقنا التقليدية باختراع أطباق جديدة ومتجدّدة تنتمي لنا وتكون رسالتنا حفاظاً على هوية وتميّز مطبخنا في وجه العولمة أو «الثقافة الموحدة».
المراجع
حجاب، نمر حسن. 1975
الأكل الشعبي، مجلة الفنون الشعبية، ص: 47- 60 ، العدد السادس، عمان – الأردن.
1- Hadge, Sh.; 2000
Global Smarts. The Art of Communicating and Deal Making anywhere in the world, p:1-8, New York,
2- Redner, Harry. 2004
Conserving Cultures, Technology, Globalization, and the Future of Local Cultures. Maryland, Rowman & Littlefield Publication, Inc.
3- Palmr, C.; 2002
Milk and Cereals: Identifying Food and Food Identity among Fallahin and Bedouin in Jordan, Levant, Vol. 34. P: 173-195.
4- Vepa, S. S.;
Impact of globalization on the food consumption of urban India
ftp://ftp.fao.org/docrep/fao/007/y5736e/y5736e02.pdf 19-6-2009
5- Globalization and the traditional role of agriculture
http://www.fao.org/docrep/005/Y4671E/y4671e0c.htm#TopOfPage 19-6-09
6 - Globalization & Food
http://www.unpac.ca/economy/g_food.html 19-6-09
7- en.wikipedia.org
http://en.wikipedia.org/wiki/Pizza 17-8-09
8- gastrosyr.com
http://www.gastrosyr.com/arabic/aboutus.htm13-9-09