تطبيـع الإبل
العدد 8 - حرف وصناعات
حثّ الله سبحانه وتعالى على النظر إلى الإبل، وتأمّل خَلْقِها، وقدّمها على السماء وما فيها من أسرار عجيبة، وعلى الجبال المنيفة، والأرض المنبسطة، فقال تعالى في سورة الغاشية: (أفلا ينظرون إلى الإبلِ كيف خُلِقت، وإلى السماء كيف رفعت. وإلى الجبال كيف نُصبت، وإلى الأرض كيف سُطحت) فهي دعوة صريحة للناس لتأمّل خلقة هذا الحيوان العجيب، لما فيها من إعجاز بليغ، ينبئ عن عظمة الخالق عزّ وجلّ، وكان السلف الصالح يذهبون إلى مراتع الإبل وأماكن تواجدها لتأمّلها والاتعاظ بخلقها وسلوكها وطباعها؛ لما فيها من أسرار جديرة بالتأمّل، ونستعرض في بحثنا هذا تطبيع الإبل وترويضها، ووصف كيفيّته وأطواره وأهميّته، لأنّ هذا الأمر لم يتطرّق إليه الكتّاب وأرباب اللغة من قبل، بل اكتفى الباحثون بذكر كلمة «الترويض» فقط دون أن يوردوا تفاصيل عمليّة الترويض التي ترادف كلمة التطبيع الشائعة عند مربّي الإبل إلى الآن، وسنتحدّث عن التطبيع قديماً وحديثاً، في البادية والريف حتّى أيّامنا الراهنة.
قالَ اللهُ تعالى: }فمنها ركوبُهم{ أي فمنها ما يركبون، وقال تعالى أيضاً: }ومن الأنعامِ حمولةً وفُرشاً{ (الأنعام: 142) فالحمولةُ ما حملَ الأثقالَ من كبار الإبلِ، والفرشُ صغارُها.
وفي وصية قيس بن عاصم لولده: لا تَسُبّوا الإبلَ فإنَّ فيها رَقوءُ الدَّمِ ومهر الكريمة. أي أنّها تُعْطى في الدّيَاتِ فتُحْقَنُ بها الدِّماءُ. وقيلَ: ما خلقَ اللهُ خيراً من الإبلِ؛ إن حَمَلَتْ أثْقلَتْ، وإن سارَتْ أبعدَتْ، وإن حَلَبَتْ أَرْوتْ، وإن نُحِرَتْ أَشْبَعَتْ، وقالت هند بنت الخسّ عندما سُئلت عن الإبل: هي أذكار الرجال وأرقاء الدماء ومهور النساء. وقالَ الأصمعيُّ: بينا عمرُ بنُ الخطّابِ رحمَهُ اللهُ في بعضِ أسفارِهِ، على ناقةٍ صعبةٍ قد أتعبتْهُ، إذ جاءَهُ رجلٌ بناقةٍ قد رِيْضَتْ وذُلِّلَتْ، فركبَها، فمشت بهِ مشياً حسناً، فأنشدَ هذا البيتَ:
كأنَّ راكبَها غُصْنٌ بمِرْوَحَةٍ
إذا تدلَّتْ بهِ أو شاربٌ ثَمِلُ
ثمَّ قالَ: أستغفِرُ اللهَ. قال الأصمعيّ: فلا أدري أتمثّلَ بهِ أم قالَهُ.(1)
يقالُ: بعيرٌ ذَلولٌ، وناقةٌ تَرَبوتٌ(2)، وجملٌ ذَلولٌ وتَربوتٌ، وناقةٌ ذَلولٌ وتَرَبوتٌ، الذّكرُ والأنثى فيهما سواءٌ.(3)
فقرْتُ أنفَ البعيرِ: إذا حززْتَهُ بحديدةٍ أو مَرْوَةٍ، ثمّ وضعْتَ على موضعِ الحزِّ الجريرَ، وعليهِ وترٌ مَلْويٌّ لتُذِلَّهُ بهِ وتَرَوضَهُ، ومنهُ قيلَ: عَمِلَ بهِ الفاقِرَة.(4)
أجررتُهُ رسنَهُ: إذا تركْتَهُ يصنعُ ما شاءَ. (5)
والمُسْنَمُ: الجَمَلُ الذي لم يُرْكَبْ، المُعَفّى المُخَلّى، قال الشاعر:
بدأنَ بنا بَوادِنَ مُسْنَماتٍ
فقد لَطُفَ العَرائكُ والثَّميلُ(6)
العرائك: الأسنمة. الثّميل: حجم البطن
ناقةٌ مِذْعانٌ: إذا كانت سهلةَ القيادِ، قالَ امرؤ القيسِ:
على ذاتِ لوْثٍ سَهْوَةِ المشيِ مِذْعانِ(7)
العسيرُ: الناقةُ الّتي تُرْكبُ قبلَ أنْ تُراضَ (8)
ذَرَأتِ النّاقةُ: إذا ساءَ خُلُقُها، والصَّعْبُ من الإبلِ وسائرِ الدّوابّ الّذي لم يُذَلّلْ، والقضيبُ: الّتي لم تمهرِ الريّاضةَ، والقضيبُ: مستحدثةُ الشراءِ ومستحدثةُ الرّكوبِ. قالَ الشاعرُ:
كأنّ ابنَ مرداسٍ عتيبةَ لمْ يُرضْ
قضيباً ولم يمسحْ بِنُقْبَةِ مُجْرِبِ(9)
والعروضُ: إذا قبلت بعضَ الرياضةِ، ولم تستحكم، والعسيرُ من الإبلِ: التّي رُكِبَتْ ولم تُرَضْ أو تُلَيّنْ، واقترحْتُ البعيرَ إذا ركبْتُهُ قبلَ أن يركبَهُ غيري، واختضْتُ البعيرَ إذا أخذتُهُ من الإبلِ وهو صعبٌ، فخطَمْتُهُ ليذِلَّ وركبْتُهُ، ودرسَ النّاقةَ راضَها، قالَ الشّاعرُ:
فكأنَّ رَيّضَها إذا استقْبَلْتَها
كانتْ مُعاوِدَةَ الرِّكابِ ذَلولا(10)
قال بشّار بن برد :
عسر النساء إلى مياسرةٍ
والصعبُ يُركبُ بعدما جَمَحا
وقال امرؤ القيس : . . . . . . . . فذلّت أيّ إذلالِ
والبعير إذا ركب وهو بارك تبدو حركة قيامه عنيفة، وقديما قالت امرأة حين أركبوها على بعير: قودوه وهو بارك. إشفاقاً من حركة قيامه.
قالَ الرّاجزُ: أينَ الشِّظاظانِ وأينَ المِرْبَعَةْ وأينَ وَسَقُ النّاقةِ المُطَبَّعةْ
المِرْبَعةُ: عُصَيَّةٌ يُرْفَعُ بها العِدْلُ على الدّابّةِ، والعِدلُ: نصفُ الحِمْلِ يكونُ على أحدِ جنبي البعيرِ، والشِّظاظُ: العودُ الّذي يُدْخَلُ في العُرْوةِ.(11)
قال الفرزدقُ:
لو أنَّ حَدْرَةَ تجزيني كما زَعَمَتْ
أن سوفَ تفعلُ من بذلٍ وإكرامِ
لكنتُ أطوعَ من ذي حَلْقَةٍ جُعِلَتْ
في الأنفِ ذَلَّ بتَقْوادٍ وتَرْسامِ(12)
وقت التطبيع والسنّ المناسبة:
يتم تطبيع الإبل أوان قدوم طير المُرع المهاجر، وهو يتمّ عادة بعد طلوع الثريّا في آخر شهر أيلول، إذ تطلع الثريّا بعد الحصاد أوان جمع القشّّ، فالثريا تطلع على غمر كبير، وتغيب على غدير، أي أنها تغيب أواخر الشتاء، وتُطبّع البَكْرَهُ إذا دخلت في السنةِ الرابعةِ وأصبحتْ حِقّةً، وكذلكَ الحِقُّ يُطَبّع في هذا الوقتِ، إذ من الصعب رياضة الهرم.
كيفيّة التطبيع:
يحضر المطبّع للبَكْرَةِ المراد تطبيعها حبالاً رفيعة، يعدّ منها رسناً وصريمة، يقيس الرسن على رأسها، ثمّ يشعل النار ويضع فيها محوراً من حديد، فحين يحمرّ يتناوله ويخرم به أنف البكرة، ويدخل في هذا الخرم خيطاّ مجدولاً من الشّعَر، فيعقد طرفيه ليستبدله لاحقاً بحلقةٍ من حديد، ليعصم فيها الخزام، وبعد أن يبرأ الكيّ بأيّام يدخل المطبع رأس البكرة في الرسن، ويقودها من رسنها بصعوبة فائقةٍ، إذ لم تكن قد اعتادت على وضع الرسن، وهي تنفضُ رأسَها، تحاولُ جاهدةً أن تتخلًّصَ من هذا الرّسنِ الّذي التفَّ حولَ رأسها للمرّة الأولى، ويأخذها إلى وادٍ خالٍ، فيربط حطبة بطرف الرسن، ويحفر الأرض بيديه إلى أن تغيب مرافقه، ويدسّ الحطبة في الحفرة، ويهيل عليها التراب، وهو ممسك بالرسن، ويدبّك الحفرة برجليه، ويجذب الحبل بعزم إلى أعلى ليتأكّد من متانته، فإن لم يتزحزح من مكانه، أدرك أنّ هذا المربط متين، تعجز البَكْرَةُ عن خلعه، وتسمّى هذه الحطبة المدفونة في أيّامِنا هذهِ شَايَة، وكانوا يطلقونَ عليها اسم الآخيّةِ، وهم يتعمّدون ربطها في أرض ليّنة، إذ لو ربطت البكرة المطبّعة بشجرة قد تكسر أو تجرّح من الاحتكاك بالشجرة أو السياج أو الحجر، فيشدّ أنف البكرة وفمها بحبل الصريمة، ويبدأ المطبّع بشدّ الصريمة على الفم والأنف عدّة لفّات ثمّ يربط طرفي الحبل بإحكام، والصريمة حبل رفيع من ليف يحزم به فكيّ الناقة ليطبقا إطباقاً محكماً، ويمرّ الحبل فوق الأنف، إلى أن يوشك أن يدخل الحبل في الجلد من كثرة الشدّ، ليحول دون تنفس الناقة تنفّساً كاملاً، إذ بالكاد يصل الهواء إلى رئتها، فتتنفّس بصعوبة بالغة، فيتركها ويعود أدراجه مبتعداً عنها، ينظر إليها من فوق البطين المقابل، فيراها ما زالت تنظر إليه، وهي تحاول خلع الشاية، والانعتاق من هذا المربط الجديد عليها، وحنينها لا ينقطع، وكان قد أبعد مربطها عن بيته بحيث لا يسمع لها حنيناً من محيط بيته.
وعليه أن يراقبها عن بعد كي لا تلوي أو تقطع الحبل أو تُكسر إحدى قوائمها، وتبقى الصريمة مشدودة ليوم كامل، فيعود المطبّع إلى البكرة في صباح اليوم الثاني، فهو الوحيد الذي يباشرها وقت التطبيع، لتعتاد على تنفيذ تعليماته، فيجدها ما زالت واقفة تدور حول مدورها، تنفض رأسها للتخلّص من هذا الحبل الذي يعصمها إلى الأرض للمرّة الأولى، إذ كانت من قبل حرّة طليقة، ولكنّه قد يشاهد على الأرض أثر مبركها، فيقول: لا بدّ أنّها هجعت في اللّيل. يفكّ الصريمة فيرى أثر الحبل حول فكّيها، وقد حزّ جلد أنفها من أعلى، وأصبحت عيناها مرهقتين رمدتين جاحظتين، تستأنس بقدومه، ولم تنفر منه، وتمكث الناقة المطبّعة أسبوعا كاملاً لا تذوق شيئاً، ويعمد المطبّع إلى فكّ الصريمة لبعض الوقت كي تتنفّس بسهولة، وبعد الأسبوع الأول يقودها المطبع من الصريمة، وهي جائعة هزيلة، ويدع مساعده يسوقها بعصا من الخلف، إن تمنّعت من الانقياد، ويسوّي لها قيداً من ليف، ويشدّ عليها حويّة ببطان وحقب، ثمّ يقدّ كيساً من منتصفه على هيئة خُرجٍ، ويثبّت في الحفّة العليا لكلّ عين عروتين بواسطة حجرين صغيرين، يلفهما بطرف الكيس، ويحزمهما بحبل العروة، فما عليه الآن إلاّ أن يضع عينيّ الخرج فوق الحويّة على ظهر البكرة، والحويّة كساء يلفّ حول السنام، ويربط به البطان والثـفر، يدخل العروة في أٌختها المقابلة، ويضع في حلقتها شظاظاً، وإذا ما أراد أن يُنْزل الخرج عن ظهر البعير فما عليه إلاّ أن يسحب الشظاظين من العروتين، فيسقط الخرج إلى أسفل.
ومع بداية الأسبوع الثاني يفكّ المطبّع الصريمة، ويقدّم للبكرة حفنة من الشعير في وعاء صغير، تُبعثرُ بعضَه وهي تحاول أن تلتهمه بسرعة، وتحمل الصحن بفمها، وترفعه إلى أعلى وكأنّها تريد أن تأكل المعدن، يمسكه ويصبّ فيه ماء فتمصّه، فيملؤه لها ثانية فتكرعه، وما زالت تطلب المزيد، ولم يرو هذا الماء غليلها، فيشدّ الصريمة حول أنفها وشدقيها من جديد، فتحنّ بحشرجة وبحّة حين يدير ظهره مغادراً، كان قدومه في الصباح قد أثار شجوها، يلتفت إليها وما زالت تلفّ وتدور في محاولة منها لخلع المربط، يختبئ خلف شجرة على البطين، فيراها تصوّب نظرها نحوه، ويجنّ جنونها حين تبصر عن بعد قافلة من الإبل تسير على مرأى منها، ولسان حالها يقول:
مثل الحوار الموالف واندحر مشوار
يذكر عليه اللبن لن شاف زول أبكار
(شبّه الشاعر نفسه بالحوار الذي اعتاد رضاعة لبن أمّه كلّ حين، ففُصِل عنها ذات مرّة كرهاً، فكلّما شاهد إبلاً عن بعد يتذكّر حلاوة لبن أمّه)
ويظلّ يتردّد عليها وهي في مربطها أيّاماً، يُقنّن لها الهواء والماء والشعير، إلى أن يعسفها فتهزل، وتغدو كقوس الربابة من الهزال، يأتيها في اللّيل والنهار، أحياناً يلبد بقربها وهو متلفّع بعباءته، ويخرج أصواتاً لإخافتها، وتارة يأتيها يحبو على يديه ورجليه، ويلفّ رأسه بغطاء أسود، وهي الآن لا تقوى على الجري من النحول والضعف حتّى لو فكّ رباطها، فيضع في الخرج صرّتين من الرمل؛ لتعتاد على الحمل، والرمل أفضل من الأشياء الصلبة التي قد تؤثّر على جنبيها إن هي جفلت، ويثبّت الخرج بالبطان فوق الحويّة، ويقودها وهي تتهادى خلفه كالظليم، ويباريها ويمسك بالفليلة وهو الوبر الذي يعلو سنامها، ويقفز عليها وهي واقفة، وقد يقودها به رجل آخر يساعده لأمتار ثمّ يفرق الصريمة على الجالين بسرعة ويناولها للمطبّع ويهرب من أمامها، فيدرّجها رويداً رويداً ما يقارب نصف كيلو متر، ثمّ يقفز عنها المطبّع، وهي تسير ببطء، وإذا صعب عليه ذلك لكبر سنّه، فعليه أن يصنع لها ركاباً كركاب الخيل، يعقده في الحويّة، ليساعده في الصعود على ظهرها والنّزول، ثمّ يقودها ويسير بها قليلاً، ثمّ يثب عليها مرّة ثانية، ويحاول أن يعيدها نحو أثرها أو يشدّ رأسها بالصريمة إلى اتجاه آخر أو يطلق لها العنان، ويتركها أنّى اتّجهت، ومن الأنسب أن يعلّق عليها خرقاً وشرائط تتدلى على عرقوبيها مثبّتة في الحويّة، كي تعتاد على الأحمال فلا تخاف ولا تجفل مستقبلاً، ويظلّ يركب عليها وينزل وهي واقفة أو سائرة دون تبريك لمدّة شهر كامل، وفي غضون هذا الشهر قد يعلّق عليها أغراضاً أو خرجاً ويضع عليها الشّداد، وبعد الشهر يبرّكها ويركبها وهي باركة، ويعوّدها على أن لا تقوم بسرعة، فيشدّ رأسها عنده ويلفّه على الغارب إلى أن يتمكّن من الاستواء على الحوية ثمّ يطلق رأسها لتقوم، وإذا خانت (أي لم تقم إذا بركت) تداوى بأن يضع لها حلقة من سبيب الذيل بالمسلّة في المبعر(المروث) ويصلها بحبل يمسكه بيده، فإن لم تستجب يشدّ الراكب الحبل المعصوم بالحلقة المثبتة في المروث فتقفز أو تحطم وتترك الخونة أو الحرنة، وإذا لم تحكمها الصريمة يستخدم حلقة الخزام فيشدّها من أنفها لتستجيب، ويسير بها المطبّع مع الطرقات السهلة والوعرة، الخالية والمكتظة، يأمرها بالبروك هازّاً لها الخطام، وإن لم تستجب للأمر يجلدها على رقبتها بعصا رفيعة، وينهرها إلى أن غدت تبرك وتقوم لأدنى إشارة، وبدأ يزيد لها كميّة الشعير والماء، ويخفّف من شدّ الصريمة، ويربطها من ساقها في المدور، وأحياناً يقيّدها فقط بقيد من ليف، وتارةً يعقل رجلها اليسرى بالعقال، ويربطها ويدحرج حولها برميلاً فارغاً بقعقعته، ولم تهدأ إلاّ حين تسمع صوته، فيهدأ روعها وتمدّ شفتها لتعبث بعمامته، فيضع لها الشعير في حجره، ويمسح رأسها ورقبتها بيده، ويُخرج لها الحلم والقردان الملتصقة بجلدها، ويضعها في صرّة ليلقي بها بعيداً عن محاسها، فإن أحسّ بأنّ قوّتها قد عادت إليها ينيخها ويركبها، ويأمرها بالتوقّف والسير، فتمشي به بتثاقل، ويسير بها على طريق يسلكه الناس، ثمّ ينحرف عن الطريق، ويسير عبر مناطق وعرة، ويشرع في تنويع الطعام لها، سواء في العلف أو التبن، ويطعمها العشب، ويحشّ لها الحشيش، ويدشّ لها الشعير بعد أن ينقّيه من الحصى، يجرشه ويبلّه بالماء، وهي تغبُّ منه بمتعة وتلذّذ، ويعوّدها على الاقتراب من السيّارات ويسير بها في المناطق المزدحمة وعلى شوارع المدن، وبمحاذاة سكّة القطار، ويضع عليها جرار الماء والأمتعة، ويدرّبها على الحراثة، والسير في خطٍّ مستقيم، بمحاذاة الخطّ الأّول، والوقوف عند رأس المارس، وينقّط عليها بزر البطّيخ، والذرة في البوق، وإذا حرث بين الأشجار والكروم يضع فمها في الكمّامة المصنوعة من الأسلاك الرفيعة أو حبال اللّيف، كي لا تعتاد نتش الأغصان من الأشجار أثناء الحراثة، فيعوجّ الخطّ وتخرب الأشجار المثمرة، ويدرس بها على القشّ، ويدرّبها على جرّ اللّوح على الجرن، كلّ ذلك وهي تسير بخطى ثابتة متّزنة، فبإمكانه الآن النوم على ظهرها، وهي تعمل، وكلّما رفست برجلها دابّة أو إنساناً ضربها، وأعاد تمريره بقربها، مع تهديدها بالعصا، وعوّدها على ألفاظ الأوامر؛ فإن أرادها أن تقف قال لها: قفي. وإن أراد تهدئتها قال: هيء . هيء . ولإناختها يقول : إخ .. إخ . إخيّ . وإذا أراد أن يسوقها قال: حيت. أمّا إذا رغب في أن تقرّب يديها إلى بعضهما ليقيّدها قال: سِكْ … سِكْ، ويقول لها أحياناً ألفاظاً عاديّة مثل: هاك، تعي، الخطّ، برّي الدرب، وهكذا.
كما تدرّب الهجن على المنافسة في الجري بتجريتها مع أخريات، وإذا ما أحرزت قصب السبق يغدق المطبّع لها الأكل المناسب، ويفضّل أن يكون مدرّب الهجن خفيف الوزن، ماهراً في إرشادها إلى عدم بذل قصارى جهدها في بداية المضمار على أن لا تكون متأخّرة، ثمّ يحثّها على الإسراع في منصف الشوط فما فوق، وعليه ألاّ يبتّ عزمها بل يدعها مسترسلة، وأن يجنّبها المزاحمة أو الا قتراب الكثير من المنافسات كي لا تعيق حركتها.
ويحذر المدرّب في كلّ مراحل التطبيع والتدجين أن يفلت طبع الناقة العسيف، وتعود إلى سابق عهدها، كأن تجفل أو تحرن، أو تقوم قبل أن يستوي على ظهرها الراكب، وهي إن فعلَت ذلكَ فهي المِعجالُ الّتي إذا وضعَ الرّجلُ رجلَهُ في الغَرْزِ وثبت.
لقيَ عمروُ بنُ العلاءِ ذا الرُّمَّةِ، فقالَ: أنشدْني:
ما بــالُ عينِكَ منها الماءُ ينسَكِبُ
فأنشدَهُ حتّى انتهى إلى قولِهِ:
حتّى إذا ما استوى في غِرْزِها تَثِبُ
فقالَ: عمُّكَ الرّاعي أحسنُ منكَ وصفاً حيثُ يقولُ :
وهيَ إذا قـامَ في غـِرْزِها
كَمثلِ السّفينةِ أو أَوقرُ
ولا تعجلُ المرءَ قبلَ الورو كِ
وهيَ برِكْبَتِهِ أَبْصَرُ
فقالَ: وصفَ ذلكَ ناقةَ ملكِ، وأنا أصفُ ناقةَ سُوقةٍ.(13)
وقد يخشى المروّض ألاّ تستجيب الناقة المطبّعة لتنفيذ لأوامر من وقوف وبروك وقيام، لأنّه إن فلت طبعها لا يمكن عسفها وتطبيعها من جديد مباشرة، إذ يقتضي الأمر أن يُؤجل ذلك إلى العام المقبل، حيث حلّ فصل الشتاء، حتّى لو عُسفت وطُبّعت تكون قد اعتادت الفوضى، فقد يفلت طبعها من جديد، لذلك توكل مهمّة تطبيع الإبل للرجل الصارم.
وغالباً ما يثبّتُ المطبّع لرسنِ الناقة قرّاصتينِ من الحديد أسفلَ الحنكِ تضغطان على الفكِّ السفليِّ إذا ما جذب الرّسنَ بقوّةٍ، وبعد أن يكمل المطبّع عمله، وذلك يتمّ في غضون أربعين يوماً، يريد أن يتأكد من المستوى الذي وصلت إليه، فيطلب من رجل أن يختبرها، ويوصيه أن يتعامل معها بصرامة وجدّية، وقال: لا أريد أن تُدلّل فيخرب طبعها، ولا ينبغي إن تركتها لبعض الوقت أن تسير على رسلها، أو تجرّ العنان، وإن ركبها رجل غريب أو قادها تستغربه أو لا تستجيب له، وإن ساقها غلام حقرته.
وأخيراً يخضعها للامتحان الصعب، فيأخذها إلى وادٍ سحيق بعيد عن الناس والرعاة، ويبرّكها، ويعقلها، ويخرج بندقيّة، ويطلق من فوق رقبتها أعيرة ناريّة، وهو يضع رجله على ركبتها، فتخفض رأسها من الخوف، ثمّ يركبها ويسير بها، ويطلق رصاصات من فوق رأسها وهو على ظهرها، فلا تجفل، ولكنّ يَسِحّ بولها مع طول رجليها، وبذلك يكون قد أكمل مرحلة التدريب بنجاح.
المصادر والهوامش
كيفيّة التطبيع: مشاهدات ميدانيّة ومقابلات لرعاة الإبل في النقب وسيناء وشرق الأردن وبادية الشام، أمّا المصادر المؤازرة فهي:
1: ما اختلفت ألفاظُه واتفّقت معانيه للأصمعيّ ت. ماجد حسن الذهبي دار الفكر 1986م
2: إصلاح المنطق لابن السّكّيت ت. أحمد شاكر وعبد السلام هارون دار المعارف 1949م
3: الاشتقاق لابن دريد تحقيق عبد السلام هارون مكتبة المثنّى بغداد 1979م
4: المُخَصّص لابن سِيدِهِ دار الكتب العلميّة بيروت المجلّد الثاني الجزء السّابع
5: كتاب الشوارد للصّاغانيّ ت. مصطفى حجازيّ القاهرة 1983م
6: الفرق بين الحروف الخمسة للبطليوسيّ ت. د. علي زوين مطبعة العاني بغداد.
7: ديوان الفرزدق – ت .علي فاعور دار الكتب العلمية بيروت 1987م.
8: الكنز اللغوي في اللسن العربي د. أُقست هفنر قسم كتاب الإبل لأبي سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي طبعه مصوّرة في بغداد عن طبعة المطبعة الكاثوليكيّة للآباء اليسوعيين في بيروت سنة 1903م.
9: الغريب المصنّف لأبي عبيد القاسم ت. د. محمد المختار العبيدي المجلد الثاني كتاب الإبل ونعوتها دار مصر للطباعة القاهرة 1996م.
الهوامش:
(1) الاشتقاق ص 52
(2) ما اختلفت ألفاظه ص 70
(3)إصلاح المنطق ص 464
(4) نفسه ص 280
(5) نفسه ص 286
(6)الشّوارد ص 128
(7) الفرق بين الحروف ص 194
(8) نفسه ص 386
(9) نفسه ص 215
(10) المًخصّص ص 121/7
(11) الفرق بين الحروف ص 208
(12) ديوان الفرزدق ص 530
(13) المخصّص ص 128/7