فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
7

الكونفوشيوسية في أندونغ

العدد 7 - شهادات
الكونفوشيوسية في أندونغ
كاتب من كوريا الجنوبية

1 - غذتها الثقافة الشرقية الآسيوية، وعلى الأخص الثقافة الكونفوشيوسية :

بُغية تحقيق ثقافةٍ مزدهرةٍ وصحية، لا بُد من الاستيعاب التدريجي للثقـافــات المتـنــوعة وتشريبها فــي ثقـــافة الـذات. عــرفت أندونغ البوذية والكونفوشيوسية في ذروتهما، وأذابت أثر هاتين الثقافتين في أصل تكوينها الثقافي. كما أن الاعتقادات الشعبية الآسيوية حملت تأثيراتها هي الأخرى إلى أندونغ مُعززةً أصالة ذلك التكوين.

بلغت الكنفوشيوسية -كبرى ثقافات شرق آسيا- ذروتها في أندونغ، وما كان لها أن تُمحى. يوجد في هذه المدينة اليوم معمار كنفوشيوسي فريد لا يوجد له مثيل في الكم والنوع في أي مكان آخر. ناهيك عن الكتب والآثار والطقوس والتقاليد المتجذرة في واقع وروتينيات المدينة.

2 - طاعة الآباء صُلب الاعتقادات الكنفوشيوسية في أندونغ :

للكنفوشيوسية في أندونغ نفوذ أبلغ تأثيراً وأعظم قوة منه في الصين، منشأ تلك الثقافة. فهي تُعزز أيديولوجيا »طاعة الآباء والأجداد» مُفضلةً أياه على مبدأ »حب الوطن». هذه الأيديولوجية الأسرية هي جوهر الفارق بين أندونغ وبين الصين واليابان، فهي تكرّس للعفوية الثقافية على المستوى الفردي، مؤديةً بهذه التلقائية والإبداعية المشحونة بالسياق البوذي إلى تحفيز كل فرد على ممارسة التقشف في الطبيعة وفي النفس، ومؤاتاة العُزلة والاكتفاء الذاتي.

3 - أفضل المبادئ الفلسفية في العالم تعبق بالتلقائية :

مكّنت ثقافة أندونغ الكنفوشيوسية الداعية إلى طاعة الوالدين من تطوير ثقافةٍ شعبيةٍ متمحورةٍ حول البُنى الأسرية، لا حول ثقافةٍ وطنيةٍ مبعثها السلطة.

في حين بُنيت أغلب الثقافات العالمية البارزة واستمرت مُستندةً إلى شحذ السلطات الوطنية ودعمها، تشكلت ثقافة أندونغ من قالبٍ تاريخيٍ وثقافي قائمٍ على الاكتفاء الذاتي واحترام القِيَم الفردية. تُعرف أندونغ اليوم باسم »منطقة أندونغ الثقافية»، وهو مصطلح أكاديمي شائع الاستخدام.

تُعبّر المطبوعات الفلسفية المنشورة في منطقة أندونغ بصورة جيّدة عن طبيعة هذه المنطقة، فهي تدرس القيم الفلسفية العالمية الكبرى مثل البوذية والمسيحية والكنفوشيوسية. طُوّرت من بينها الكنفوشيوسية على يد جو-جا، العالم الصيني من القرن الثاني عشر، ثم بلغت ذروة ينعها على يد تي-أويجيه الأندونغي في القرن السادس عشر. تابع تلامذة تي-أويجيه تطوير المبادئ الكنفوشيوسية التي جاء بها معلمهم، إضافةً إلى مئات الأفراد والقبائل التي عملت على كتابة ومناقشة النظريات طوال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، مما يعني أن مئات من أفضل المطبوعات الفلسفية في العالم تم نشرها في منطقة أندونغ، حيث نُظرت ونوقشت في كلّ نواحيها. لم يكن هذا بطبيعة الحال نتاجاً لجهود السلطة الوطنية، حتى أن المدينة في ذلك الوقت لم تكن ضمن نطاق السُلطة الكورية، لذا فقد نمت ثقافة أندونغ وازدهرت بعفوية من خلال تشرّبها الطبيعة وتطويرها لمبادئها الفلسفية الذاتية.

4 -  عالَم فلسفي طبيعي مُجسّد بمختلف ظروف الحياة :

سمة الثقافة الأندونغية تكمن في إحلال العالم الفلسفي محل الظروف الطبيعية، لذا غدت الأماكن الطبيعية مثل الأنهار والجبال محال تدريبٍ ودراسة وسكنى. أتّخذت مسكناً من أجل التوصل لفهم طبيعة عفويتها، مما يعني تمحور اهتمام هؤلاء حول الاكتفاء الذاتي عوضا عن الشهرة الاجتماعية والثروة المادية. لذا فالذات والطبيعة ليسا بالضرورة متطابقين، لكنهما في اعتقاد الاندونغيين جزءان لا يتجزءان ولا ينفصلان عن بعضهما.

لذلك فقد بُنيت المعماريات المختلفة التي تُمارس فيها الطقوس الكنفوشيوسية كالأبراج والسرادقات في مواقع طبيعية ومساحات معزولة. وفقاً للسجلات، يوجد أكثر من أربعمائة سرادقة في أندونغ، حيث يبلغ عدد الموجود منها في المنطقة حوالي مائتين وخمسين.

5 - «عالِم» وحياة العُزلة :

وفقاً للمنظور الكنفوشيوسي، يُعد فهم الطبيعة فهماً لفلسفة الحياة. مثل دفق الماء، يجب أن يعزل المرء الحياة عن نفسه وعن الإنغماس في الرغبات الاجتماعية. لذلك بلغ الزاهدون في أندونغ عُلوّاً لم يبلغه أصحاب المال والجاه. يُمثّل »سيونبي» العالم الكوري الزاهد صورة الإنسان المثالي الناشئ على الثقافة الأندونغية.

حارب السيونبسيون ضد الاضطهاد الاجتماعي والظلم أبّان الأزمة الكورية حين كانت قابعةً تحت الاحتلال الياباني، فقد شكلوا كُبرى المقاومات، إلا أنهم عادوا لحياة التأمل في الطبيعة بعدما ساد السلام وطنهم. هؤلاء جماعة تُكرّس جهودها لتبادل القيم الصديقة مع الجبال والأنهار من حولها، ومع أسرها وأوطانها.

6 - طقوس كنفوشيوسية دينية حية، وممارسات تكريمية لقُدامى الحُكماء :

تؤدى الممارسات الدينية الكنفوشيوسية اليوم في أماكن عديدة في مدينة أندونغ، حتى باتت هذه الكثرة سبباً في تعذر إحصاء عددها. يتجمع مئات الأشخاص في بعض تلك الأماكن مُرتدين الزيّ الكوريّ التقليدي بُغية أداء طقوس تكريم الأجداد.

بُني الاعتقاد الكنفوشيوسي على الإنسان، لذا فكل امرئٍ مُطالبٍ بتبني الاعتقاد وتأطير حياته كلها على أسسه ومفاهيمه. هذا هو السبب الرئيسي في كون الممارسة الدينية في الديانة الكنفوشيوسية ثاني أهم القيم التي تقوم عليها تعاليم هذه الديانة.

إن كثــرة الطـقـوس والـمـمـارسـات الـدينيـة الكنفوشيوسية التي تقام في أندونغ اليوم لهي دليل على أن هذه المدينة ما تزال تتبنى نمط الحياة الكنفوشيوسي في ممارساتها اليومية وتحفظ صحته وظروف بقائه.

7 - مركز التعلم حيث للدراسة والنقاشات أُلفة مع الحياة اليومية :

تؤكد الكنفوشيوسية على التعلم من أجل الإبقاء على جمالية الوجود البشري. لذا نجد مدينة أندونغ تضم العديد من المؤسسات التعليمية الـ»سيو-ون»، وقاعات محاضرات السيو-ون. والسيو-ون مؤسسات تعليمية خاصة تُنشأ بدعمٍ مادي من الهيئات المعنية في المنطقة صاحبة الشأن. كانت السيو-ون الاندونغية ولا تزال تلعب دوراً رئيساً كمؤسسات تعليمية فعالة، على الرغم من تقلص عددها لما جاء عليها من تدمير في الفترة الاستعمارية قبل الحداثية، إلا أن ثلاثين منها لا تزال قائمة بدورها اليوم في أندونغ. كما توجد مؤسسات تعليمية أخرى عاملة في أندونغ من مثل المعابد الكنفوشيوسية »هيانغ-غيو»، وبيوت التعليم القروية »سيودانغ» والـ »مان-هوي». حتى أن مدينة أندونغ سُجلت في الكثير من المطبوعات الكورية التاريخية باسم »المكان الذي لا يفتأ صوت التعليم ينبعث منه»

8 - مركز الموروث الثقافي :

لقد أنتجت ثقافة أندونغ المبنية على هكذا رؤية كنفوشيوسية فلسفية للعالم عناصر تغذوية ثقافية ملموسة وغير ملموسة من حيث المنطلق الأكاديمي والبنائية الذاتية. لذلك فالمدينة تحفظ أكثر الموروثات الثقافية في كوريا، من بينها أكثر من مئة ألف قطعة صخرية تحمل حفراً تتعلق بالثقافة الكنفوشيوسية إضافةً إلى حفظها للكثير من الموروثات الثقافية الأخرى الحاملة لمعانٍ ثقافية: كُتب ومعماريات أثرية وشواهد قبورٍ ولوحاتٍ فنيةٍ ومُعلّقات ومواد عادية ورسائل والكثير الكثير.

9 - المكان الأوحد في العالم الذي تُقام فيه مراسم كنفوشيوية حية :

فــي عـام ٢٠٠٤ زار الـمـزار الكنفوشيــوسـي الصيني في غوبكو - مؤسس الكنفوشيوسية- علماء مقاطعة اندونغ. كان الغرض من الزيارة وراثة المراسم الكنفوشيوسية حيث أنها كانت محظورة في المزار الكنفوشيوسي. لا تزال مجموعة ممارسات كنفوشيوسية تُقام في أندونغ من مثل مراسم تقديم النبيذ للضيوف الـ»هيانغ-إيوم-جو-راي»، ومراسم البلوغ للرجال والنساء  الـ»كوان راي» والـ»غاي راي»، ومراسم تحسين الصحة الذهنية عن طريق رسم الأقواس الـ»هيانغ سا راي»، والـ»هيانغ راي» التي تُقام في جميع قاعات المحاضرات، بالإضافة إلى احتفالية ذكرى أفاضل الحُكماء الـ»دا راي».

10 - لهجة محلّية مُحمّلة بقِيَم روحانية أكثر منها بالماديات :

للهجة أندونغ الدارجة سمات ثقافية فريدة تُبرز القِيَم التي تضعها هذه الثقافة على كل ما هو روحاني، فضلاً عن الماديات المحسوسة. لذلك فقد سُميت المدينة بـ»المركز الروحي للثقافة الكورية.» على الرغم من كونها مدينة صغيرة لا يتعدى عدد السكان فيها المائة والسبعين ألف، تمكنت أندونغ من قيادة القِيَم الروحية لكوريا ومن أداء دور المركز العالمي للثقافة الكنفوشيوسية. إضافةً إلى الثقافة الروحية، تُتوارث الألعاب التالية الحاملة لجماليات الطبيعة البشرية من جيلٍ إلى جيل: لعبة الـ»شاجيون» للرجال، وهي لعبة عالمية تُقام في مراسم افتتاح معرض هانوفر، ولعبة الدوس على السيقان النحاسية، وهي لعبة خاصة بالنساء تُظهر أناقتهن وشراستهن في الوقت ذاته، ولعبة قناع الـ»ماهو» وهي رقصة فريدة غرضها السخرية من المجتمع، وألعاب »سيونيو-جولبُل» النارية التي ترسم صور الشرق الأنيقة، وما إلى ذلك.

11 - جهود شعب أندونغ للحفاظ على إرثه الثقافي وروحه القِيَمية :

تُعدّ زيارة الملكة إليزابيث الثانية لمدينة أندونغ الصغيرة ذات المائة والسبعين ألف نسمة من نتائج جهود سكان المدينة للحفاظ على إرثهم الثقافي. ما تزال أندونغ تحفّز سكانها على بذل الجهد للحفاظ عليها عن طريق صُنع لوائح الحكم الذاتي.  كما أن المدينة تُعيد صياغة القيَِم المعاصرة للكنفوشيوسية من خلال أكثر من عشرة معاهد بحث علمي من مثل المركز الكوري للدراسات الحديثة ومعهد اندونغ للثقافة. إضافةً إلى ذلك، تُساهم أكثر من عشر جمعياتٍ أهلية في تنشيط حركة الحفاظ على ثقافة أندونغ، من بينها جمعية أندونغ زيكيمي ومجموعة الشبيبة ومعهد أندونغ للدراسات الثقافية وجمعية سارانغ-بانغ أندونغ، وهي جهود لا تقتصر على محاولة الحفاظ على الخصائص الوطنية فحسب، بل تتعداها لتحقيق مساعي اليونسكو الهادفة لتوليد تنوّع واستدامةٍ ثقافيين.

يكمن أمل الشعب الأندونغي في الحفاظ على المركز الثقافي الكنفوشيوسي الوحيد في العالم، فضلاً عن تقديم المعنى الفلسفي للقيَم الحياتية اليومية في القرن الحادي والعشرين. في الوقت ذاته، يبقى هناك أمل في أن تثير ردود الأفعال الجماهيرية في العالم حفيظة الأندونغيين وتمنحهم الشجاعة الكافية حتى يحفظوا موروثاتهم الثقافية ويُبقوا عليها.

ترجمة : فاطمة الحلواجي- البحرين

أعداد المجلة