فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
7

إِطلالة علَى الأَمْثال الشّعبيّة الأندلسيّة

العدد 7 - أدب شعبي
إِطلالة  علَى الأَمْثال الشّعبيّة الأندلسيّة
كاتب من المغرب

الأدب الشّعبي هو -في أبسط تعريف- كُلّ أدب بلُغة عاميّة. وخِلافاً لما يعتقده الكثير من الناس فإنه ليس هو “الأدب الرخيص أو الوضيع المبتذل، ولكنه الأدب الذي يستوحي من الشعب في مختلف طبقاته، ويفيض بِرُوحِه، ويُعبِّر عن ذوقه ومشاعره، ويُصوِّر عقليته ومُستوى حياته، ويُميِّز شخصيته وثقافته، لا فَرْق أن يكون مُسجَّلا بالكتابة أو مَرْوِيا بالشِّفاه”1.

وقد كان القُدماء يَرَوْنَ أن الآداب العامية ضربٌ من الهزْل، فعلى سبيل المثال كان الأندلسيون ينعتون الأزجال بأنها نظم هزلي. ولكن أهل العلم –خاصّة بالمدن- كانوا يزهدون في روايتها ويستنكفون تدوينَها لأنها -في نظرهم- تمجّ الذوق إذا أُنشدت، ويذكر ابن خلدون أنّ من أسباب استهجانهم لها فُقدانها من الإعراب2 .

ولا شكّ أن هذا الموقف كان سبباً في ضياع كثيرٍ من الآداب العامية والآثار الشعبية، وبسبب هذه النظرة المتزمِّتة فُقدت نُصوص أصيلة وضاع كَلام نفيس صدر عن العوام خلال العصور الخوالي.

غير أن ثمة من كان يتمتّع برحابة الأُفق، شذّ عن تلك “القاعدة”، فلم يستهجن تدوين آداب العامة وإنما حَرِص على رِوَايتها عن الشيوخ، وتصدى لِتَرْوِيَتِهَا لطُلاّب عِلْمِه وتلاميذ مجلسه، وهؤلاء هُم الذين حفظوا لنا شواهد بديعة من فُنون القول وطرائف الحِكَم التي صدرت عن العامة.

والأهمّ ما في هذه الشواهد هو أنّ كثيرا منها يُرَدِّدُ أصداء الحياة العامية ويُلامس قضايا الناس، كما إنها تُبرز طريقة تفكيرهم وفَهْمِهِم للأشياء، ومن هُنا صارت تلك الأمثال والأزجال مرتعاً خِصباً وأرشيفاً غنياً لدَارِسِ الحياة الاجتماعية والاقتصادية للشعوب، بل إنَّ “الأمثالَ –كوثيقة اجتماعية- أقرب إلى الصِّدق وأدنى إلى الأصالة من غيرها في تمثيل رُوح المجتمع وتصوير طبيعته العامّة لأنها نابعة من الشعب ومُعبِّرة عن آرائه وتجاربه واتجاهاته”3.

وقد حظيت الأندلس بعددٍ مِن نُصوص الأمثال والأزجال، لايزال لبعضها بَقِيّة في كلام أهل المغرب الذين تتحدّر نسبة كبيرة منهم من أصول أندلسية، وقد رأينا من المفيد أن ننتزع من تلك النصوص طائفة من الأمثال الشعبية، ونعمل على شرحها وتفسير ما ورد فيها من ألفاظ عامية، ثم نُضيف إليها ما يُناسبها مِن نُصوص نثرية أو أبيات شعرية حفظتها لنا بعض المصادر التاريخية والأدبية، وذلك تتميما للفائدة وإغناء للدِّراسة.     

 

المثل الأول :

 

لاَ دِيدِي لاَ حَبّْ المْلُوكْ

 

هذا مثل وارد عند ابن عاصم الغرناطي في “حدائق الأزاهر”4، وهو يقال في شخص كان يرغب في اكتساب شيء رفيع ففقده، ولم ينل لا هو ولا أقلّ منه، أو كان يطمح إلى نيل شيئين مُتباينين في القيمة ففقدهما معاً. وشبيه بهذا المثل قولنا: فُلان أصبح “لا سلّة لا عِنب” .

وحبّ الملوك هو إسم لثمرة الكرز، وهو من الفواكه اللذيذة، أمّا الدادي -والأندلسيون بإمالتهم يلفظونه الديدي- فهو زَهْر من فصيلة الخرّوب له لون شبيه بحبّ الملوك. وكلمة “دادي”: لفظة رومية، يونانية الأصل، أما التسمية العربية فهي شجرة الأرجوان، وفي تعريف الدادي يقول أبو جعفر أحمد بن محمد الغافقي الأندلسي :

“ويُقال دادي. وهو شجر معروف عندنا بهذا الإسم، وهو شجر عظيم له ورق مُستدير كورق الخبازَى إلا أنه أمتن وأصلب وأشدّ ملاسة، وله زهر أحمر علكيّ اللون، يظهر في الربيع قبل خروج الورق، يتكاثف على الأغصان حتى لا يكاد يبدو منها شيء، وله خرّوب صغير في قدر إصبع فيها حبّ عدسيّ الشكل خمري اللون”5.

وذكر أبو القاسم الغساني الأندلسي (توفي عام 1019هـ) مثل ما ذكره الغافقي أعلاه، وزاد ما يلي: “وهذا الزهر (يعني: زهر الدادي) إذا جُعِل في الشراب قَوّى سكره وشدّ قوته. وهو كثير بأرض الأندلس بغرناطة وغيرها، وقد ذكره الفقيه عمر [الزّجال] كثيرا في أزجاله وغنّى عليه وتغزّل فيه بأشعاره لجمال منظره وغرابة شكله وملاحة نَوْرِه، ولأجل هذا يُتّخذ في البساتين، ويُعرف عندنا بفاس وبأرض الأندلس بدِيدِي، فمِنْ ذلك قول الفقيه عُمر في زجل مِنْ رَمْلِ الماية، بديع الصّنعة والحِلية:

 

غرناطة فتنة للبشر

                           آخر النهار، وزهرها بيدي

قرّب وصّل وعدّي 

والحمْرَا واجب تنذكّر

                           مع الدّشر، معانيهـا تبدي

زينـــت بخلـدي

وأطراف الثمار

                           قــد زخرفــت بالجلنــار

صفر وآخر دِيدِي

                           خلفـــونــــي وعــــدّي

البنفسج حين شدا

                           ما أعـــزّ علـــي كبــدي

ما أنا وحدي

وقد رأيتُ منه شجرة واحدة عندنا بفاس بعرصة يُقال لها عرصة عائشة المرينية برحبة بني يزناسن. وحدثني والدي –رحمه الله- أنه رأى أخرى بعرصة الطَّرِيفِي من البلد المذكور”6.

وكلمة دِيدي الواردة في زجل الفقيه عمر تعني اللون الأحمر لا الزّهر ذاته، ولازال في المغرب استعمال “أحمر ديدي” للتعبير عن الأحمر القاني.

 

المثل الثاني :

 

الفَقِيهْ اللِّي كُنَّا كَنْتْسْنَّاوْ بَرَكَةُ دَخَلْ لِلْجَامَعْ بِبَلْغَةُ

 

هذا المثل لازال جاريا على ألسنة أهل المغرب، وهو مما وصل إلينا من كلام الأندلسيين، ومعناه : الفقيه الذي كُنَّا نَرْجُو (أو ننتظر) بَرَكَتَهُ دخل المسجد الجامع بِبُلْغَتِهِ (أي بنَعْلِهِ).

والمثل يُقال إذا صدر عن أحد الفقهاء أو المدرِّسين فِعلٌ يُزْرِي بالمروءة و لا يليق بالرُّجُولة.

وقد يصدر الفعل نفسه عن كثير من الناس دون أن يُلتفتَ إليهم، ولكن إذا صدر ذلك عن فقيه أو عالم أو أحد المتولِّين للخطط الدينية فإنه يتعرّض لأشدِّ النّقد، ومن المعروف أن طائفة الفقهاء في مجتمعاتنا تُلام لأتفه الأخطاء.

ومن الكلمات العامية الواردة في هذا المثل: البُلغة. وهي ضرب من النِّعال التقليدية المشهورة عند المغاربة والأندلسيين، وتُلبس –عادة- مع الجلباب في الأعياد والمناسبات الدينية. ومما وصل إلينا عن البُلغة أبياتٌ شعرية في مَدْحِهَا، وهي من نظم أبي عبد الله بن عسكر الغساني المالقي (توفي سنة 636هـ)، ذكر ابن عبد الملك المراكشي في ترجمته: “ومن نظمه في صِفة النعل المتخَذة من الحلفاء، وهي التي يُسمّيها أهل الأندلس ومَن صاقبهم مِن أهل العِدْوة بالبلغة، وهي من قصيدة طويلة في مدح المأمون أبي العلاء بن المنصور من بني عبد المؤمن :

ركبتُ إلى لُقياكَ مطية

                       مُبرّأة أن تعرف الأب والنســلا

إذا نسبوها فالتّنوفة أمّها

                       ووالـدها ماء الغمام إذا انهــلا

وما علمت يوما غذاء وإنما

                       أعار لها الأعضاء صانعها فتلا

وقد ضمرت من نسوعها

                 فلو عرضت للشمس ما أسقطت طلا

وما في قِراها قدر مقعدِ راكب

                       ولكنها ساوت مساحتها الرّجلا

لتبليغها المظطر تُدعى ببلغة

                    وإن قِسْت بالتشبيه شبّهتها نعلا

سأشكرها جهدي وأثني بفضلها

                   فقد بلّغتني خير من وطئ الرملا

مليكاً كأن الشمس فوق جبينه

                وليث الشرى في درعه حاميا سبلا7

وللقصيدة بقية، والبيت الأخير هو أول الأبيات التي تمدح الخليفة المأمون بن يعقوب المنصور الموحدي، وهذا ما يجعلها من أغرب القصائد، فالشاعر هنا بدأ بمدح نعله، ولازال يشكرها ويثني عليها حتى إذا انتهى من ذلك شرع في مدح رأس الدولة، فيالها من طرافة بل يا لها من جُرأة.

ويُستفاد من القصيدة المذكورة –كما من كتاب “آداب الحسبة” لأبي عبد الله السقطي- أن المغاربة والأندلسيين في القرن السابع الهجري كانوا يصنعون أو “يفتلون” البلغات من الحلفاء، وهذا لم يَعُدْ موجودا اليوم بالمغرب إلا في نوع نادر هو أقرب إلى الحذاء منه إلى النعل، والشائع أن الصُّناع اليوم يعملون البلغة من الجلد.

ويبدو أن صناعتها من الجلد كانت معروفة في العصر الأندلسي الأخير ( القرن التاسع الهجري)، جاء في “المعيار المعرب” للونشريسي: “وسُئل الحفّار فَقِيل له: سمعتُ فقيها من عندكم قال: حضرتُ في دولة الأستاذ أبي سعيد بن لبّ، رحمه الله، وتكلّم في المسح على الخُفيّن وقال: يُمْسح على البلغات إذا كانت الرُّقعة تستر محلّ الوضوء، وحِبال البلغة مشدودة عليها”8.

وكلمة “الرُّقعة” تُفيد بشكل صريح أن البلغة في ذلك الوقت كانت تُصنع من الجلد.

 

المثل الثالث :

 

وَلَدْ بِلاَ لْقَمْ بْحَالْ خُبز بْلاَ رْشَمْ

 

هذا المثل موجود في كتاب “حدائق الأزاهر”9 لابن عاصم الغرناطي المتوفي عام 829هـ.

وكلمة “لْقَمْ”، بإسكان اللام وفتح القاف، تعني الدّموع، وقد أخطأت الباحثة مَرِينَة مَارُوكَانْ كْوِيمِثْ مُتَرْجِمَةُ أمثال ابن عاصم الغرناطي إلى الإسبانية حين قرأتها بضمّ اللام وإسكان القاف وفتح الميم، وترجمتها كذلك : لُقْمَ = bocado10.

والصحيح أنَّ ضبطَ كلمة “لقم” هو بالشّكل الذي ذكرته أعلاه، والمثل يشير إلى أنه قد يكون للضّرب الخفيف بعض الفوائد في تعليم الأولاد الصغار وتربيتهم، ذكر العبدري في رحلته أن إسماعيل بن عوف الزهري كان يقول: “الضرب للصبيان كالغيث للنبات”11.

ومثل ذلك قول الشاعر ابن خفاجة الأندلسي :

 

نَبِّهْ وَلِيدَكَ مِنْ صِبَاهُ بِزَجْرَةٍ

                       فَلَرُبَّمَا أَغْفَى هُنَــاكَ ذَكَــاؤُهُ

وَانْهَرْهُ حَتَّى تَسْتَهِلَّ دُمُوعُهُ

                       فِي وَجْنَتَيْهِ وَتَلْتَظِي أَحْشَاؤُهُ

فَالسَّيْفُ لاَ تَذْكُو بِكَفِّكَ نَارُهُ

                       حَتَّى يَسِيلَ بِصَفْحَتَيْهِ مَاؤُهُ12

وقد جاء في المثل أن الولد بلا لقم (= دُموع) أي بلا ضرب مثل خُبز بلا رَشْم ، وابن عاصم هُنا يُشير إلى شيء كان يعمله الأندلسيون ولازال يعمله المغاربة إلى اليوم، وهو عملية رشم الخبز أي وَسْمه بعلامة أو طابع مميّز حتى لا يختلط مع خبز الآخرين في الفرن، فالمرشم هو بمثابة الخاتم الذي يُعلن عن الجهة التي أصدرت الخبز، ولكل مرشم شكل أو رسم يُميِّزُه عن المراشم الأخرى، حتى إن الفرّان (صاحب الفرن) في الأحياء الشعبية المغربية يُمكنه أن يتعرّف على أصحاب الخبز من خلال الرّشم الذي عليه. ولازالت العديد من الأسر المغربية ذات الأصل الأندلسي تستعمل المرشم في تمييز خبزها، والطريف أني أعرف عائلات تستعمله وهي تمتلك الأفران المنزلية. والمراشم نجدها معروضة للبيع في جُلّ أسواق الحواضر المغربية العريقة، وهي تُصنع من الخشب الجيّد، وشكلها شبيه بالخاتم الإداري أمّا رسمه المميِّز فيختلف من مرشمٍ إلى آخر.

ورشم الخبز تقليدٌ قديم في البيوتات المغربية والأندلسية، عثرنا له على ذكر في أزجال ابن قزمان، قال:

وأنَا وشَّـاحْ ونَعْمَلْ الأشْعَـارْ

وهُوْ خَطِّي قَوى بْحَلْ خُبْزْ دَرْ

نَعْمَل الصَّادْ مَليحْ بْحَال فُلاَّرْ

وتَرى الشُّكْل فيه بْحَالْ الرَّشْمْ13

و يقول في زجل آخر ، في غرض التشبيه:

 

منديل الخبز صـار علـيّ قصيـر

زدت فيه مقطعا جديد من حصير

وبقــي لــي عــن العوانق كثير

وحرزت الرّشم وجَا في الشمـال14

أما أصحاب كُتب التصويب اللغوي، الذين رصدوا التغييرات التي طرأت على الكلمات الفصيحة الجارية على لسان العوام، فإنهم يرون أن «الرَّشْمْ» عبارة غير صائبة، ومن هؤلاء محمد بن أحمد بن هشام اللّخمي الإشبيلي المتوفي عام 570هـ، قال في كتابه «تقويم اللسان» :

«ويقولون للَّذِي يُرْشَمُ بِهِ الخُبز : الرَّشْمْ . والصواب : الرَّوْشَمْ»15.

ومنهم من عبّر عن الرّشم بالطّابع، مثل أبي عبد الله السقطي الذي قرّر في كتابه «آداب الحسبة» أنَّ من مهام المحتسب أنْ «يأمر عَمَلَة الخبز أن يَصنع كل واحد منهم طابعا ينقش فيه إسمه ويطبع على خبزه ليتميز خبز كل واحد بطابعه وتقوم الحُجّة به على صاحبه»16.

والاستعمال الجاري اليوم على ألسنة أهل المغرب: الرّشَم أو الْمَرْشَمْ، وفي ديوان عبد الكريم القيسي البسطي الأندلسي (كان بقيد الحياة سنة 836هـ) نعثر على أبيات شعرية مهّد لها بما يلي:

وقُلتُ مما يُرْسَمُ في مَرْشَمِ الخبز :

 

مَنْ يُرِد تحسين خُبز

                             مِنْ أُولي الفَضْــلِ لِأَكْلِ

فليحَسِّنْ خُبْزَهُ بي

                             مَا لَهُ –واللـه- مِثْلِـي17 

 

المثل الرابع :

 

خْطْبْتِ الْمْرَا وَالمْرَمَّة

 

هذا المثل من كلام أهل الأندلس الجاري على لسان المغاربة في شمال بلادهم، وهو يُقال في الرجل الذي ابتسم له الحظ وخَطَبَ امرأة من مميزاتها أنها تُجِيد الحياكة، وشبيه بهذا يقال في الرجل الذي خطب امرأة تجيد الطبخ: المرا مرّاقة زيدا في صداقا، ومعناه أن الرجل إذا اقترن بامرأة ماهرة في الطهي فينبغي عليه أن يزيدها في الصّداق.

والْمَرَمَّة الواردة في المثل السابق: هي آلة الحياكة التقليدية بالمغرب، ولازالت معروفة بهذا الإسم إلى اليوم، وتُستعمل في نسج المناديل والجلابيب، وهي الآلة الرئيسية للنسج في القرى المغربية والأندلسية، حتى إنّ مِنْ بين العناصر الْمُكَوِّنة للمنزل القروي في المغرب : «بيتُ الْمَرَمَّة».

وهذه الآلة مذكورة في الكتب القديمة، فقد أشار إليها ابن بطوطة في رحلته: ذكر أنه شاهد في الطريق بين وَلاَّتَة ومَالِي شجرة في داخلها حائكاً «قد نَصَبَ مَرَمّته وهو ينسج». وقد أثار هذا المشهد استغراب الرحالة الطنجي، أما ابن جزي الغرناطي فزاد ما يلي: «وببلاد الأندلس شجرتان من شجر القسطل في جوف كل واحدة منهما حائك ينسج الثياب، إحداهما بوادي آش والأخرى بِبُشَارّة غرناطة»18.

كما وردت «المرمة» في شعر لابن الخطيب الغرناطي، قال:

وَاغْنَ بِقُطْنِ الثَّلْجِ عَنْ مَتْجَرٍ

                   يُغْنِيكَ عَنْ جَمْعٍ وعَنْ حَلْجِ

وَاغْزِلْهُ بالرِّيح وهَيِّءْ لَهُ

                   مَرَمَّةَ المَصْقُولِ والكَنْجِ 19

ومن المعروف أن آلة المرمّة، التي تُتّخذ في نسج المناديل والجلابيب، يَتِمُّ تشغيلها باستعمال اليدين والرِّجلين في آن واحد، مما يجعل منظر الحائك كصيْدٍ وقع في شباك وصار يخبط ويضرب بأطرافه، وفي وصف هذا المنظر يقول الشاعر الأندلسي أبو عبد الله الرفاء الرصافي البلنسي :

 

غزيّل لم تزل في الغـزل جائلــة

                   بنانه جولان الفكر فــي الغـزل

جـذلان تلعـب بالمحـواك أنملـه

                   على السدى لعب الأيام بالـدول

ما إن يني تعب الأطراف مشتغلا

                   أفديه من تعب الأطراف مشتغل

جذبا بكفيه أو فحصـا بأرجلـه

                    تخبط الظبي في أشراك محتبل20

ونشير -في الأخير- إلى أن «المرمة» كانت آلة رئيسية في طبع الكتب بالمطابع المغربية العتيقة 21.

 

المثل الخامس :

 

إِذَا كُنْتِ فْضُولِي كُنْ فِي جِيهَةْ الْمَخْزَنْ

 

هذا المثل واردٌ عند ابن عاصم الغرناطي في حدائق الأزاهر»22. وكلمة «المخزن» في كلام أهل الأندلس والمغرب تعني الحكومة أو رجال السلطة.

ومعنى المثل أنه من كان طَبْعه التدخل في شؤون غيره فمن الأفضل له أن ينضم إلى صفِّ الحكومة أو السلطة. والمثل وارد أيضا في أمثال الموريسكي ألونسو القشتيلي :»حين تنبلى بفُضول فَقُم في جيهة المخزن» 23.

وفي كلام المغاربة نجد هذا المثل: المخزن هْرَبْ لِيلُو لا تهرب مْنُّو (أي: السّلطة أهرب إليها ولا تهرب منها). وهذا معناه قد يكون نقيضَ المثل الغرناطي لأنه يُظهر أن الأمان يكون في جانب السلطة، وهذا قد يكون صحيحا ولكن المثل الغرناطي يصف عمل السلطة بأنه فُضول.

وثمة مثل مغربي يقول: ( ثلاثة ما معهم مْلاغَة: البحر والعافية والمخزن).

ومعناه : ثلاثة ليس معهم مزاح أو هزل: البحر والنار والسّلطة» .

وهذا المثل يُحذّر من استعمال المزاح مع رجال السلطة، فالمخزن هُنا طرف لا يأمن جانبه، ولكن البعض قد يرى فيه تهويلا لقوة السلطة وتقلّبها، وأن المراد منه هو إشاعة الخوف وبث الهيبة في نفوس الناس.

وثمة مثل يظهر تقلب بعض أعوان السلطة، وينصح بعدم التعامل معهم ومشاركتهم شؤون الحياة، كقولهم: «بحال الشرطي يَاكُل معك ويكسّر الصحفا في راسك»24. وثمة أمثال مغربية وأندلسية كثيرة تُظهر تبرّم الناس من رجال السلطة.

 

 المثل السادس :

 

القْرِيبْ وَلاَ الْبَرَّانِي الغْرِيب

 

وهذا مثلٌ مسموع في كلام أهل المغرب والأندلس، ومعناه قد يكون واضحا وهو أن الأولوية ينبغي أن تُعطى للقريب. لكن الذي كان شائعا في اعتقاد الناس بالأندلس أن البلد لا يمنح الاعتبار إلا للبرّاني. والبرّاني : كلمة عامية تعني الغريب أو كُلّ ما يأتي من الخارج. وفي «حدائق الأزاهر» لابن عاصم الغرناطي نقرأ ما يلي :

«ودخل رجل بِجَّانَة25 فقال: ما أكثر هذه البلاد بكلاب، فأخرجت امرأة رأسها من طاق، وقالت: أكثرهم برّانيون»26 .

ومعنى الحكاية أن المتكلم الأول أراد أن ينتقص من قدر البلد وأهلها فلاحظ عليها أنها كثيرة الكلاب، فتلقى الجواب بأن الكلاب ليست من «الساكنة» الأصلية وإنما هي آتية من خارج البلد. وقد يُوحي الجواب بأن المرأة فهمت أن القصد بِـ»الكلاب» في كلام الرجل إنما هو إلى بعض بني البشر، كما يفهم من كلام المرأة أن الوافد إلى بجّانة لم يكن مُرَحَّبا به من طرف أهالي البلدة المذكورة.

ولا زالت كلمة «البرّاني» مسموعة في عدد من المدن المغربية، فعلى سبيل المثال يوجد بمدينة طنجة المغربية سوق مشهورة تُعرف بالسوق البرّاني أي السوق الخارجي، دُعِيَت بذلك لأنها تقع خارج أسوار المدينة القديمة.

وهذا شاعر أندلسي يُعبِّر عن تذمّره من تسلّط الغُرباء على الخطط والمناصب في بلده، يقول عبد الكريم القيسي البسطي (الديوان ، ص.279) :

 

قالوا غدا البَرَّاني في غُلَّيْرةٍ

                    في الوقت صَدْرَ صَدُورِهَا الأَعْيَان

فأَجَبْتُهُم لا تُنْكِرُوا فبِبَسْطَة

                    مـا زال صَـدْرَ صُدُورهـا البَرَّانِي  

بَسْطَة مدينة أندلسية مشهورة، وهي بلدة الشاعر القيسي، وغُلَّيْرَة قرية مِن أحوازها. وقد فهم البعض من البيتين أن أهل مدينة بسطة كانوا يؤثرون الغريب على القريب27 ، غير أني لا أذهب مذهبه، فالشكوى من الغرباء أو البرّانيين إنما هي احتجاج على السلطة الحاكمة التي تُسند مُهمة تسيير شؤون الحواضر إلى غير أهلها.

 

المثل السابع :

 

قُلْ لِلْحِمَارْ سِيدِي حَتَّى تْجُوزْ الْوَادْ

 

هذا المثل وارد في أمثال ابن عاصم الغرناطي28. وهو مثل يقال في الرجل الذي يضطر إلى مجاملة أو مداراة أحد للوصول إلى هدفه. وليس في الأمر وُصولية أو انتهازية، ولكن المثل يُصوّر بعض الظروف التي فُرض فيها أن تكون الواسطة فاسدة لا تستحق إلا القسوة والزجر، ومع ذلك ما من مجاملتها ومُغازلتها بُدّ لأنها المطية التي تُوصل إلى تحقيق الهدف.

والمثل لا زال مسموعا بالمغرب، وثمة صيغة أخرى للمثل يُستبدل فيها الكلب بالحمار.

وقريبا من هذا المثل : «وقّر الجرو على مولاه»، أي احترم الكلب مُراعاة لِمَنْزِلَةِ صاحبه.

 

المثل الثامن :

 

وَصِّلْ الْكَذَّابْ إِلى بَابْ الدَّارْ وَطْلْقُ

 

هذا المثل وارد عند ابن عاصم الغرناطي29 . وهو مثلٌ لازال مسموعا في عامية أهل المغرب، ومعناه مفهوم : أَوْصِل الكذّاب إلى نهاية كذبه واطلقه، وهو يقال في شخص انكشف أمر كذبه من بداية الكلام، وأنه كان بالإمكان أن يُفتضح في حينه، ولكننا نتجاهل ذلك ونتساهل في تتبع الأمور حتى النهاية. فقد لا نخسر شيئا إذا سايرنا الكذّاب إلى آخر الحكاية.

 

المثل التاسع :

 

اخْدْمْ بَاطَلْ وَلاَ تَبْقَ عَطَلْ

 

هذا المثل وارد في أمثال الموريسكي الغرناطي أَلُونْصُو القَشْتِيلِّي30 . ومعناه مفهوم وهو من الأمثال التي تذم العطالة وتحرض على العمل ولو بالمجّان.

وقد ورد في بعض كتب الفقه أن بعض العلماء لم يُجَوِّز للمسلم أن يخدم غير المسلم، ومع هذا ففي الأمثال نجد من يقول:  الخدمة مع النصارى ولا الجلاس خسارة .

وهذا أيضا –كما قلنا- من الأمثال التي تُرَغِّب الناس في العمل. وصُورته في مجموع أمثال مغربية لمؤلف مجهول : «الخدم مع النصار ولا الكلوس خصار»31 .

 

المثل العاشر :

 

مِنْ طَقْ طَقْ لِعَلَيْكَ السَّلامْ 

 

  ورد هذا المثل في كتاب «ريّ الأوام ومرعى السّوام»32 لأبي يحيى عبيد الله بن أحمد الزجالي القرطبي المتوفي عام 694هـ.

والمثل لازال مسموعا في المغرب والمشرق، ومعناه أنه ينبغي أن تروى الحكاية من أولها إلى نهايتها.

وعبارة «طق طق» هو الصوت الذي يُحدثه طرق الباب .

ولكن المعنى يتغير في أمثال ابن عاصم الغرناطي فقد يعني أن البداية تكون أفضل من النهاية، أو أن اللقاء أفضل من الوداع، وثمة معنى آخر وهو أن طرق الباب أفضل من الاقتحام فجأة، جاء في المثل: طاق طاق أحسن من سَلام عليك33 . وثمة مُبالغة في مثل فاسي وَرَدَ فيه أنّ : ميات (مائة) طاق طاق ولا واحد سلام عليكم.

ويبدو من هذا النموذج أن المثل قد يظهر في مكان مَا بصيغة مُعيَّنة ثم نجده يُقال في بيئة أخرى بصيغة مُغايرة بعض الشيء أو مُناقضة تماما لمعنى الصيغة الأولى، وهُنا نقطة نودّ أن نتوقف عندها ونُنبِّه عليها، فقد كانت لبعض الخلافات التي تعتور العلاقات الإنسانية تأثير سلبي على أخلاق الناس وتقاليدهم حتى رسخ في الاعتقاد لدى الكثيرين بأن الأشياء لا تأتي إلا بنتائج عكسية، وهكذا صار –في نظرهم- الحلو مُراًّ، والمعروف مُنكراً، والحسن قبيحاً، والخير شراًّ، ونجد لذلك تمثلات في كلامهم، فقد قالوا: «لا تعمل خير لا يحصل بأس» ، وهذا مثل ينهى الناس عن فعل الخيرات لأن المبادرة إلى فعلها قد يعود بالشر على صاحبها، وهذا وإن سلّمنا بصحته في حالة من الحالات فإنه لا ينبغي أن يكون مقياسا يُعمّم على جميع المعاملات، فالإنسان ملزم بفعل الخير غير مأمور بانتظار الأجر.     

ومِثل هذا يُقال في المثل الأخير الذي يُقلّل من القيمة المعنوية للسلام، بينما الصحيح هو أنّ إفشاء السلام من الأمور الجالبة للمحبة بين الناس كما جاء في الحديث النبوي الشريف.

ولعل الرجوع إلى هذه الأمثال وغيرها للتدقيق في معانيها وتحليل مضامينها ووضعها في سياق الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أنتجتها قد يكون مفيدا لملامسة جوانب من علاقة الناس ببعضهم البعض، ويبدو أن المجال لا يسع لذلك الآن، وبالتالي فإننا نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ أمثال العوام بالمغرب والأندلس ما هي إلا أصداء لوقائع من صميم حياة الناس وعيشهم.    

خاتمة :

هذه قراءة سريعة في نماذج قليلة من الأمثال الشعبية الأندلسية، والملاحظ أنها تطفح بالتعابير العفوية والمعاني العميقة، وهي ربما تفوق –من حيث القيمة التاريخية- الأمثالَ التي وصلت إلينا بلغة عربية فصيحة لا نرى فيها عوجا ولا أمتا، وذلك لأن كلام العامة هو نابع من صميم الواقع أما ما نجده في نصوص الشعر والنثر فقد يغلب عليه الخيال والمجاز، ولعل أصدق مثال على هذا أن العديد من الدواوين الشعرية التي وصلت إلى أيدينا لم نستطع أن نقبض فيها على حقيقة واحدة تخصّ أصحابها حتى ليُظنّ أن الشاعر فيها كان مجردا عن الزمان والمكان، فما علق شعره بشيء من وقائع حياته. 

هوامش و مراجع

1ـ عباس الجراري، في الإبداع الشعبي، مطبعة المعارف الجديدة . الرباط . 1988 ، ص.12

2ـ ابن خلدون، المقدمة، المطبعة الأميرية، القاهرة.1321هـ ، ص.578 . ويذكر صفي الدين الحلي أن الزجل من «الفنون التي إعرابها لَحَن، وفصاحتها لكن، وقوة لفظها وهن، حلالُ الإعراب بها حرام، وصحة اللفظ بها سقام، يتجدد حسنها إذا زادت خلاعة، وتضعف صنعتها إذا أودعت من النحو صناعة». (العاطل الحالي والمرخص الغالي، ص.1)

3ـ محمد بنشريفة، تاريخ الأمثال والأزجال في الأندلس والمغرب، منشورات وزارة الثقافة المغربية.2006 ، ج.1 ، ص.243

4ـ ابن عاصم الغرناطي، حدائق الأزاهر، تحقيق عبد اللطيف عبد الحليم، المكتبة العصرية، بيروت.1992، ص.352

5ـ ابن العبري، منتخب كتاب جامع المفردات للغافقي، تحقيق: ماكس مايرهوف وجورجي صبحي بك، القاهرة.1940 . ص. 111 

6ـ أبو القاسم بن محمد الغساني الوزير، حديقة الأزهار في ماهية العشب والعقار، تحقيق: محمد العربي الخطابي، دار الغرب الإسلامي. 1990م ، ص. 84-85

7ـ ابن عبد الملك المراكشي، الذيل والتكملة، تحقيق: إحسان عباس، دار الثقافة. بيروت – لبنان . 1973 ، ج.6 ص.451

8ـ أحمد الونشريسي، المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوي أهل إفريقية والأندلس والمغرب، دار الغرب الإسلامي. بيروت. 1981م. ج.1 ص.13

9ـ ابن عاصم الغرناطي، حدائق الأزاهر، ص.351  المثل رقم 803

10ـ  Marina Marugan Guemez, El Refranero Andalusi de Ibn Asim Al Garnati, ed. Hiperion, Madrid.1994 , p.164 

11ـ رحلة العبدري . تحقيق : علي ابراهيم كردي، دار سعد الدين . دمشق 1999 ، ص.226

12ـ ديوان ابن خفاجة ، تحقيق : السيد مصطفي غازي ، منشأة المعارف – الإسكندرية . 1960 ، ص.101

13ـ ديوان ابن قزمان ، نشر : ف. كورينطي . المعهد الإسباني العربي للثقافة.  مدريد. 1980  ، ص.70

14ـ ديوان ابن قزمان ، ص.271

15ـ ابن هشام الإشبيلي، المدخل إلى تقويم اللسان وتعليم البيان ، تحقيق: خوسيه بيريث لاثارو ، مدريد. 1990. ص.208

16ـ محمد بن أبي محمد السقطي المالقي، كتاب في آداب الحسبة، نشر: جورج كولان و ليفي بروفنصال، باريس. 1931 ، ص. 47

17ـ ديوان عبد الكريم القيسي الأندلسي ، تحقيق : جمعة شيخة ومحمد الهادي الطرابلسي، بيت الحكمة – قرطاج . 1988  ، ص.278

18ـ ابن بطوطة ، تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، تعليق : طلال حرب. دار الكتب العلمية. 1992 . ص.688-689

19ـ ديوان ابن الخطيب، تحقيق: محمد مفتاح. دار الثقافة – الدار البيضاء. 1989م ، ج.1 ص.211 

20ـ ابن الأبار ، تحفة القادم  ، تحقيق إحسان عباس، دار الغرب الإسلامي 1986 ،  ص.77

21ـ المنوني، مظاهر يقظة المغرب الحديث، دار الغرب الإسلامي، بيروت. 1985 ، ج.1 ص.309

22ـ ابن عاصم الغرناطي، حدائق الأزاهر، ص.296  مثل رقم 54

23ـ تاريخ الأمثال والأزجال بالأندلس والمغرب، ج.3 ص.267  مثل رقم 849

24ـ ابن عاصم الغرناطي، حدائق الأزاهر، ص.313  مثل رقم 286 

25ـ بجانة: بلدة أندلسية صغيرة قريبة من مدينة المرية المشهورة

26ـ ابن عاصم الغرناطي، حدائق الأزاهر، ص.76

27ـ محمد بنشريفة، البسطي آخر شعراء الأندلس، دار الغرب الإسلامي، بيروت.1985 ، ص.70

28ـ ابن عاصم، حدائق الأزاهر، ص.346  مثل رقم 566

29ـ ابن عاصم الغرناطي، حدائق الأزاهر، ص.351

30ـ تاريخ الأمثال والأزجال بالأندلس والمغرب، ج.3 ص.179  مثل رقم 8

31ـ تاريخ الأمثال والأزجال بالأندلس والمغرب، ج.3 ص.388  مثل رقم 16

32ـ تاريخ الأمثال والأزجال بالأندلس والمغرب، ج.2 ص.397  مثل رقم 1541

33ـ ابن عاصم ، حدائق الأزاهر، ص.324  مثل رقم 488الآداب المختلفة. انظر:ص28 .

أعداد المجلة