فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
7

القلافة وسيرة قلاف

العدد 7 - أدب شعبي
القلافة وسيرة قلاف
كاتب من البحرين

لو لم يتدخل احد وجهاء مدينة المحرق الافاضل هو الشيخ دعيج بن علي آل خليفة(1) رحمه الله لألتحق بجامعة الرياض بالمملكة العربية السعودية لكنت اليوم احد قلاليف المحرق المعدودين على الأصابع لا لشيء إلا لأن والدي كان واحدا منهم وكان يحلم ان يكون ولده الاكبر قلافا مثله.

ولد الحاج سعود بن عبدالعزيز بمدينة المحرق عام 1928م من أبوين فقيرين وكان والده بحارا، وكانت أمه قد عانت كثيرا من الغربة وكانت عند رغبة اهلها بعدم العودة الى الإحساء بالمملكة العربية السعودية وأن تتزوج في البحرين بعد وفاة زوجها الأول.

كان والدي ثاني أولاد جدي عبدالعزيز إذ كان قد فقد البكر وكانت أخته هي الثالثة وتربى في كنف خالة له في بيت كبيرعرف بالجود والكرم رغم الفقر وقلة ذات اليد. دخل المطوّع أي الكتّاب وختم القرآن قراءة وتجويدا، واستطاع ان ينال حظوة عند أستاذه المطوّع فرج اليماني، وكان حسن الصوت، فطلب منه مساعدته في تعليم أقرانه في نفس ذلك الكتّاب.

وفي أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي كانت شهرة مدرسة الهداية الخليفية2 قد بلغت الآفاق، فالتحق والدي للدراسة فيها بعد إقناع أبيه وعمه بصعوبة كبيرة، فقد سمع الكثيرعن مستقبل من كان يدرس فيها. ولقد كان رحمه الله ذكيا في طفولته لذلك بزّهم قبل ذلك في ختم القرآن وتميّز بينهم بحفل ختم القرآن ( الختمة) التقليدية3. وقد أخبرني والدي ذات يوم أنه درس الصف الأول والثاني بمدرسة الهداية فقط، وكان من بين زملاء على مقاعد الدراسة من كان اقل منه حظا، ومع ذلك أصبحوا في قابل الايام من رجالات الدولة في البلد. أما هو فقد أخرجه أبوه وعمه غفرالله لهما من المدرسة لكثرة عيالهما ولصعوبة العيش في تلك الايام ولرغبتهما في أن يعمل ويعينهما على تكاليف الحياة. وقد حزن والدي حزنا شديدا على تضييع الفرصة وكان كثيرا ما يتذكر ذلك الأمر وتكاد عيناه تذرفان.

كان عمه الحاج حسين بن عبدالله مطر أستاذا قلافا أي واحدا من شيوخ القلاليف كما كان يعرف في الحي القديم بالمحرق وقد تعلم القلافة من عمه والد زوجته، وأتقنها أيما إتقان منذ صغره وكان خليفة له في الحرفة. ولعب الدور ذاته مع والدي وتعلمها تارة بالترغيب وتارة بالترهيب حتى أصبح قلافا يشار له بالبنان. فقد والدي أمه وهو طفل صغير وقسا عليه الوالد فضمه العم اليه وجعله ابنا له حتى أنني كنت اسمع منه نداءه له وهو بالمستشفى يعاني من المرض الذي توفي على اثره حين بلغ السبعين من عمره. 

عرفت والدي صبورا قلما ينادي احدا لمساعدته كان يعتمد على نفسه في أغلب الأمور وأصعبها وكان يدبر أمر عيشه وأسرته بأقل القليل فكان حسن التدبير، وكان يحب أن يظهر حسن الهيئة طيب الرائحة، رغم ما يناله من روائح الحرفة والعمل في البنادر في تصليح السفن الكبيرة والصغيرة العاملة في الغوص أو الصيد على أسياف مدينتي المحرق أو الحد، كما عمل بعد ذلك في مدينة دارين بالمملكة العربية السعودية وفي قطر.

وكان للحب والعطف الذي يكنه جدي لأمي لوالدي أن زوجه ابنته الأولى وهو في سن مبكرة وقد توفيت في حظه وهو ما يزال عريسا شابا يافعا، فطيّب عمه خاطره بتزويجه بابنته الثانية من زوجته الثانية وهي امي رحمها الله تعالى، عاشت معه وساندته في السراء والضراء وأنجبت له خمسة من الاولاد وثلاث من البنات فكان مسرورا بهم يدعو لهم على الدوام ويراقب تقدمهم في الدراسة ويحرص على توفير ما يفرحهم ويسليهم وكان كثيرا ما يصنع لعبهم بنفسه وهم صغار فقد كان فنانا بكل معنى الكلمة.

سألته يوما عن القلافة فقال لي يا ولدي هذه المهنة في بدايتها كانت وحيا من السماء ونحن نقرأ كتاب الله ونعرف قصة سيدنا نوح عليه السلام الذي نعتبره ابا للقلاليف جميعا وهو من علّم من جاء بعده على حرفته بعد ان كانت وحيا من الله بواسطة جبريل عليه السلام وكانت البداية سفينة نوح المشهورة التي لولاها لما بقي من البشر احد بحول الله وحكمته.

وقال إن نبي الله نوح عليه السلام بنى سفينته من جذوع الأشجار واتخذ من أغصانها شلامين وعطف أي ضلوعا ليصنع بها الهيكل واستعمل المسامير وغطاها من الداخل بالقار ليمنع دخول الماء إليها. وكانت كبيرة جدا لتتسع لكل من أمره الله ان يحمل فيها من البشر من أولاده والمؤمنين به ومن كل زوجين اثنين من المخلوقات.

وأقول هنا إنه شاع بين الناس أن أصل كلمة القلافة هو الغلافة بالغين ولعلها جاءت من فكرة تغليف خشب السفينة بمادة القار من الداخل أو الخارج، أو عملية تغليف هيكل السفينة بالألواح الخشبية الطويلة التي تمتد من مقدمتها إلى مؤخرتها.

وتعتبر القلافة أو صناعة السفن الخشبية من أعرق الصناعات الشعبية التقليدية المرتبطة بحياة البحر في البحرين ومنطقة الخليج العربي. وعندما سألت بعض القلاليف عن أصل هذه الصناعة أكدوا رواية الوالد رحمه الله بأن سيدنا نوح عليه السلام هو أول قلاف في التاريخ، وقد تلقى الأمر من الله بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام الذي علّمه كيف (يقلف) السفينة .

وفي الأحاديث التي عادة ما تدور بين القلاليف حين يسأل أحدهم الآخر بلهجتهم الخاصة بهم «وين اتخدم هذه الايام ؟» فيجيبه الآخر  «آخدم في جالبوت فلان أو بانوش علان»، وهم يستخدمون لفظة «الخدمة» ليدللوا بها على الحرفة ذاتها. والقلافة عندهم صنفان إما خدمة في البندر اوخدمة في (أوشار أو لوشار)4 أي بناء سفينة جديدة. أما البندر5 فيقصدون به على العموم (الدركال) وهو عمل يقوم به القلاف أو عدد من القلاليف لصيانة السفينة كأن يستبدل لوح (البيص) وهو أساس السفينة و عمودها الفقري، أو (الميل) وهو مقدمة السفينة أو (الرقعة) وهي مؤخرة بعض أنواع السفن، أو (الصور) وهو أحد الألواح الأساسية بوسط السفينة يشد إليه (الدقل) وهـو الصاري، أو أن يقوم بتغيير لوح أو أكثر من ألواح جسد السفينة، أو عمل (اشخاصة) أو أكثر وهي عبارة عن استبدال جزء بسيط من لوح بجسد السفينة. أو يقوم بنزع عدد من المساميرالقديمة الصدئة واستبدالها بأخرى جديدة، أو (شلمان) أو(عطفة) وهي أجزاء هيكل السفينة من الداخل .

وفي الماضي لم تكن تخلو سفينة غوص من قلاف مرافق أو على الأقل أحد البحارة يكون على دراية تامة بالقلافة أو (الكلفة) بكسر الكاف وهي هنا بلفظ كاف الفارسية ch وسكون اللام وكسر الفاء حتى يسعف السفينة في حال تعرضها لأي حادث أو كسر أو ما شابه ذلك أثناء إبحارها في مواسم الغوص بين (هيرات) محار اللؤلؤ وهي أماكن تواجده في قاع البحر.

وسألت يوما احد المثقفين من ابناء القلاليف عن أصل كلمة القلافة فقال لي لا أدري، ثم استطرد ربما هناك علاقة بين القلافة وكلمة (Gulf) الإنجليزية والتي تعني بالعربية الخليج وإن كان كذلك فلا بد وأن تكون القلافة مرتبطة بالخليج ولا يسمى القلاف بهذا الاسم حسب ما بلغني إلا في منطقة الخليج العربي وخليج عمان فقط.

فالقلافة هي كما نعلم صناعة السفن الخشبية في الخليج العربي ولا نعلم من أين جاءت كلمة داو (Dhow) الإنجليزية لتعـني عند الأجانب عموما السفن المحلية بالمنطقة، والبوم بشكل خاص. فلعلها كلمة سواحلية أو كلمة خرجت من احدى سواحل الهند الغربية والتي تنتشر فيها صناعة مثل هذه السفن، ولا علاقة بين هذه الكلمة وصناعة السفن في الخليج (القلافة). والداو عند العرب قديما هي أحدى أنواع السفن التقليدية والتي توجد حتى الآن في بعض مناطق جنوب الجزيرة العربية والساحل الشرقي لأفريقيا.

وربما يكون الأصل في صناعة السفن الخشبية قديما هو تغليف هيكلها أو إن شئت ضلوعها بالألواح أو ربما تغليفها بمادة القار او كلاهما معا، كما فعل ذلك سيدنا نوح عليه السلام، وبهذا ورد النص في (الكتاب المقدس، سفر التكوين، الإصحاح السادس ص11) «اصنع لنفسك فلكا من خشب جفر، تجعل الفلك مساكن وتطليه من داخل وخارج بالقار».

وهكذا جاءت كلمة القلافة أو الغلافة من التغليف. ولذلك نرى اليوم خلافا بين المثقفين من أبناء القلاليف في التسمية فالبعض يصرعلى أنها بالغين لا بالقاف اي (الغلافة)، والبعض الآخر يجزم على أنها بالقاف لا الغين أي (القلافة)، ولعل السبب يعود الى ظاهرة القلب في بعض اللهجات العربية المحلية حين تقلب الغين قافا او العكس.

و ذكرت آنفا أن بعض آبائنا وأجدادنا من قلاليف البحرين كانوا يسمون حرفتهم بـ(الكلفة) بدل القلافة. وربما كانت هي الصدفة أن تسمى القلافة بالكلفة أو لعلهم قصدوا ذلك تبيانا لما يعانونه في هذه الحرفة من مشقة وتعب وتكلف. فالكلفة في العامية هي المشقة فعندما يقول أحدنا بالعامية «ما ودنا انكلّف عليك» أي لا نحب أن نتعبك أو نشق عليك . وهكذا فهم يدللون بهذه اللفظة الجامعة على ما يلحقهم من جراء امتهانهم هذه الحرفة من جهد وتعب ومشقة. والكلفة هي كذلك التكلفة المادية التي تحتاجها هذه الصناعة وخاصة حين يعتمد القلاف في معاشه على بناء الجديد من السفن الـ (اوشار) فيكلفه ذلك رأس مال كبير لشراء المواد الأولية من خشب ومسامير و(فتيل) خيوط القطن السميكة ودهان (الودك والصل) وما تحتاج إليه من أدوات معدنية.

ولقد صدق المثل الشعبي السائد عند القلاليف والذي يقول (لو كل من يه ونير ما تم في الوادي شير) والمعنى أنه لو أن كل شخص جاء ودخل في هذه الحرفة أي أصبح نجارا او قلافا  لنفد ما هو موجود في ذلك المكان من الشجر او الخشب.

لذا فإنّ صناعة السفن ليست هي بالحرفة المدّعاة وإنما هي حرفة تحتاج إلى الكثير من الصبر والجلد في تعلمها وإلى فن ودراية وفكر سديد لممارستها وكيف لا والقلاف يعتمد في كل صغيرة وكبيرة في عمله على (نظره) أي فكره وحسن تقديره وتدبيره، وكثيرا ما كان زوار البحرين من الأجانب يسألون الوالد رحمه الله وغيره من القلاليف عن خرائط التصميم قبل البناء فيعجبون أيّما عجب حين يعلمون ان الخرائط «هنا» وهو يشير الى  رأسه وليست على الورق6.

أما أدواته أو (عدّته) كما تعارفوا هم على تسميتها، وهو في نفس الوقت اسم خاص بالجفير او الزنبيل الطويل الذي يحفظ فيه القلاف أدواته، ومنها الـ (قلم) وهو جزء من جريدة خضراء طرية (من جريد النخل) لا يتجاوز طوله القدم أو نصفه مشقوق من أحد طرفيه إلى النصف حيث يربط بخيط قوي يسمى (القيد) ومدبب من الطرف الآخر، يستعمل كسرة صغيرة من الخشب تحرك في وسطه تسمى (الحمار) وذلك لتوسعة أو تضييق القلم حسب الحاجة. ويغمس في (الدواة) وهو (المغرّ) الذي هو عبارة عن رمل أحمر اللون (أميل الى اللون الماروني) يبلل بالماء ، يجلب فيما مضى من جزيرة أبي موسى ( وهي من جزر الامارات العربية المتحدة) ويعتقد أنه أحد خامات الحديد الأولية المنتشرة في تلك الجزيرة. ويستخدم القلم في التحديد على الخشب قبل شقه أو كشطه بـ(الجدوم) هكذا بالجيم وهو الفأس . 

وهناك (البلد) بالباء المكسورة وسكون اللام والدال وهو عبارة عن مخروط صغير من النحاس أو الحديد ثقيل الوزن مربوط به خيط طويل، ويستخدم لموازنة واستقامة أميال السفينة ودقة عاموديتها على(البيص). ثم هناك قبان الماء (الجوني) بالجيم المصرية أو (الزاوية)، و(الصيخ) ويتخذ عادة مـن قضيب حديد دقيق وطري اولين قد يصل طوله الى المتر أحيانا، ويستعمله القلاف عادة لتحديد انحناءات (الأميال) و(الشلامين والعطف) وهي ضلوع هيـكل السفينة من الداخل او هيكلها العظمي.

ويستعمل من المناشير ثلاثة أنواع هي (الدستيه) لقطع الأحجام الكبيرة من الخشب وهناك (الخجاج) لعملية (اليرار) وهي قطع ما بين كل لوحين متجاورين ليلتصقا معاً.  والنوع الثالث هو منشار (الصحاح).  ويستخدم من (المجادح) أربعة انواع والمجدح يعتمد على (القوس) و(النصل) ويقوم بثقب الألواح بالتدريج من الأسمك إلى الأدق حجماً، لإدخال المسمار فيها بشكل جيد.  أما النوع الأول فيسمى مجدح (التفشيت) ثم مجدح (التبليط) ثم مجدح (التيسيير) ثم مجدح (الكوبار) وهو الذي يقوم بحفر ما يسمح بدخول (فلس) المسمار أو رأسه العريض. ويستخدم القلاف نوعين من (الجدوم) أي (الفأس) صغير وآخر كبير ولكل واحد منهما وظيفة خاصة به.  ومن (المناقر) أو الأزاميل أنواع و تتدرج حجماً حسب الحاجة من العريض إلى (الجبيب) أي الدقيق.  ومن المطارق أحجاماً منها المطرقة الكبيرة والمطرقة العادية والمطرقة (المشلوخة) أي ذات القرنين التي تستخدم لخلع المسامير.  ومن الأدوات الأخرى التي يستعملها القلاليف المبرد والبارية والمفراص والقوبـــار والسكنية والخـــلاف والمِسَن وغيرها.     

لقد كانت هذه الحرفة مصدر رزق لنا وللكثيرين من أبناء البحرين اعتمدنا عليها في معاشنا ردحاً من الزمن، وعاش بها معنا رجل ممن بنوا أجيالاً من سفن السندباد ورحل عنا من قريب في يوم الحمعة العاشر من شهر يونيو من عام 1995م. 

وساقتصر هنا على ذكر ما تعلمته من والدي فيما يتعلق بالـ (اوشار) وهي السفينة التي يتم صناعتها بالكامل من الألف إلى الياء كما يقولون. والأوشار لفظة شعبية يطلقها القلاليف على كل سفينة جديدة الصنع.والضد عندهم هو الـ (عشار) بفتح العين والشين اي السفينة المستعملة القديمة التي يتم إصلاحها وتجديدها لاستخدامها مرة أخرى. وقد كانت للوالد رحمه الله تجارب عدة في هذا الموضوع وقد بدأ (يوشر) اي يصنع الأوشار تحت إشراف معلمه وأستاذه عمه وهو جدي لأمي في بيتنا الكبير. وعندما يتم الانتهاء من الأوشار كان يضطر إلى هدم حائط البيت الملاصق للزقاق ليخرج البانوش أو الجالبوت، وهما من انواع السفن التقليدية في البحرين والخليج العربي ثم يقوم رجال الحي وشبابه بمساعدته في سحبه إلى البحر وكان ذلك يوما مشهودا في الحي ظل يذكره الكثيرون من أبنائه حتى يومنا هذا.

ويبدأ الأوشار عادة بالإتفاق المبدئي بين صاحب الطلب او النوخذة والأستاذ القلاف على تفاصيل السفينة المطلوبة ومواصفاتها الخاصة، ثم يوثّق ذلك كتابة. ثم يبدأ عمل القلاف على الفور.

فيباشربمدّ (البيص) وهو لوح الأساس بالسفينة و قاعدتها وهو بمثابة العمود الفقري للسفينة، وعادة ما  يتفق على طوله إذ أنه كثيرا ما يعتمد حجم السفينة على طول البيص. ويستخدم القلاف (البلْد) و(الخيط) و(القلم) و(الدواة) وذلك لموازنة رفع وتثبيت (الميلين) وهما مقدمة السفينة ومؤخرتها. 

ثم يشرع في صف ألواح جسد السفينة مبتدئاً بـ (الموالج) وهما اللوحان الأولان المتقابلان، أحدهما على اليمين والآخرعلى اليسار ويكونان بأسفل جسد السفينة ويكونان مثبتين من الجانبين بالبيص وبالميلين في الطرفين.

ثم تأتي بعد ذلك  (الشلاحات، والخدود، والجبلات، والثوالث، والدورات، والجتلة) وجميعها ألواح طويلة ينتهي رأساها عند الميلين، وإنما تعرض بالوسط وتضيق باتجاه الميلين، وهي تشكل نصف ألواح جسد السفينة تقريباً.  ثم تلحق بها ألواح (التدويرة، والفرمات، والسكة)، ثم يبدأ القلاف في تشكيل وإعداد أضلاع السفينة من الداخل وهي ما يسمى بـ (الشلامين) و(العطف)، ثم هناك (التناكيس). وبعد ذلك يثبت (الترِّييج) وهو أعلى لوح بجسد السفينة من الجانبين ثم (الدراميت)، وتركب الـ (صوارة) وهي ألواح سميكة تصل بين جانبي (خن) أو بطن السفينة وفي زواياها تثبت (الكروات) التي تزيد في تثبيت الـ( صوارة) ثم هناك الـ (زنود) الموصلة بين الكروات فـ (المشايات) و(الماندات) ثم تسطح السفينة بعمل (السطحة) ثــم (فنة تُفر) أي الخلف و(فنة صدر) أي الأمام  ويبدأ القلاف فيها من الوسط بما يعرف بـ (الفتن) ثم تبدأ عملية الرقعة ووضع (الماندات) و(الزبادر) الخاصة بـ (الريش)، وكذلك تثبيت رؤوس (الربوش) و(العنك) ثم تشكل (الركم) و(العبيد) و(الجلاب) و(الطبلة) ثم يتم قطع الـ (صاطورة) أي تضبيطها لأنها المقدمة التي تميز هذه السفينة عن غيرها على النحو الذي اتفق عليه منذ البداية.

ثم تصنع (الجوالي) وهي الألواح التي تغطي (خن) السفينة بالوسط، وقد تكون ثلاثة أو أربعة في العدد ثم يصنع صندوق بمؤخرة الفنَّة الكبيرة بالقرب من المؤخرة أو(الرقعة) ثم البرميل والمشايات واللعيبات الخاصة بالريل. وبعد ذلك تبدأ عملية (التلقيط) بالمسامير وهي ضرب مسامير بتنظيم وترتيب دقيق بحيث يشمل كل لوح بجسد السفينة من الأعلى إلى الأسفل،  جنباً إلى جنب مع عملية أخرى تسمى (لسجاج) وهي عملية سد ثقوب المساميرالتي يخلفها نزع (الطواري) وهي الألواح المساعدة على صف وتثبيت ألواح الجسد قبل تركيب الأضلاع الداخلية من جسد السفينة.  وبعد ذلك تبدأ عملية (الدركال) باستخدام الجدوم أو الفأس فقط. 

ويحتاج الدركال إلى قلاف حاذق بحيث يقشر ألواح جسد السفينة بمقدار قشرة البصل ليبدو جسدها بعد ذلك يلمع وكأنه قد تم تمليسه أو تلميعه بالدهان. وبعد أن تنتهي كل تلك العمليات تأتي مرحلة (الكلفات) وقديماً كانت هناك (الفزعة) وهي كلمة تعني التكاتف والتعاون والمشاركة ويجتمع القلاليف في يوم الفزعة أو يوم الكلفات من كل صوب وحدب يقدمون يد المساعدة لأخيهم في عملية الكلفات.

ويعتقد بعض القلاليف ان الكلمة يبدو معناها جلياً بمقطعيها المكونان لها وهما (الكل) و(فات) أي أن كل شئ قد فات وأُنجِز وانتهى أمره وإن ما بقى هو شئ يسير يتلخص في وضع (الفتيل) أو خيوط القطن السميكة في الشقوق بين الألواح  وما هي إلا ساعات من نهار ويكون القلاليف قد أتموا عملهم على خير وجه بفضل تعاونهم وحماسهم ومرحهم المعهود في مثل تلك المناسبات، ويحتفل النوخذة او صاحب الملك في هذا اليوم بذبح الذبائح وإعداد وليمة كبيرة للمشاركين في يوم الكلفات وقد يعطي كل مشارك منهم كسوة هي عبارة عن إزار وقميص.

وبعد ذلك تدهن سفينة الأوشار بـ (الصل) وهو صبغ زيتي يستخلص من أكباد سمك الدلفين ويسمى محلياً (الدغس) ، وأحياناً يخلط بالوِدَك (الودج). ويقوم عدد من البحارة من أعوان النوخذة او صاحب السفينة الجديدة بصب الصل في الداخل ويدهن ايضا من الخارج حتى تتشرب الألواح بتلك المادة، ثم تترك بضعة أيام لتجف، ثم تُنَزَل في البحر في احتفال كبير يسمى يوم (اليرار) أي الجرار وهو جرّ او سحب السفينة من الساحل حيث موقع بنائها باتجاه ماء البحر حتى تطفو على سطحه.

ويحضر هذا الاحتفال خلق كثير ويحييه النهامون والبحارة وأهل دور الطرب الشعبي بأغانيهم وأهازيجهم في مثل هذه المناسبات.  ويستعمل في جرّ السفينة أنواع قوية من الحبال وتوضع تحتها قطع خشبية كبيرة وقوية تدهن بالودك كما يوضع تحت جوانبها ألواح أخرى تسمى (الطعوم) ومفردها طعم بكسر الطاء والعين. وتسحب شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى ماء البحر وتطفو على سطحه. وفي يوم (اليرار) تعتلي عادة صبايا الحي الفَنِّة وهي سطح السفينة الخلفي وهن يغنين:

 

أوشـار الزين بـارك لـه

حصتين بالفين بـارك لـه

ياليتني على الدقل حمامـة

وأبشر الغواص بالسلامـة

ياليتني على الدقل عصفورة

وأبشر الغواص بمحصـوله

أوشار الـزين بـارك لـه

حصتين بالفين بـارك لـه

حـصـــتين اصـديفـــية

ورابيـــة  فــي الغـــبة

حـوّل لها الغواص من أول تبه

حـوّل لهـا وسلمـت يمينـه

يـاوشـار الزين بـارك لــه

قلافهـا صـقر علـى حصيره

وشـرايها عبدالله على سريره

يـا وشـار الزين بـارك لـه

 

بينما تغني إحدى الفرق الشعبية بهذه المناسبة الخاصة جدا ألواناً من الفن البحري المحبب. ويحتفي النوخذة بالجميع بإعداد وليمة كبيرة في مكان الاحتفال أو في بيته.  وبعد أن ترسو السفينة على سطح البحر وتترك لفترة من الزمن يباشر أحد بحارة النوخذة بعمل (الشونة) وهو خط عريض يكون عادة مقدرا في الحدّ الذي يصل إليه الماء من جسد السفينة.  ثم يبدأ بحارته في عملية دهن السفينة من الأسفل بـ(الودك) وهو الشحم ويكون عادة (معبوطاً) أي مخلوطاً بالعجن جيدا أو مطبوخاً، ويفضل المطبوخ وهو الذي تضاف اليه مادة النورة أي (الجبس الأبيض) فيكون بذلك أقوى وأكثر فاعلية وأطول عمراً للفتيل، وإذا ما جفّ كان بمثابة طبقة سميكة قوية تحمي ألواح جسد السفينة السفلى وتطيل عمرها.

ويستغرق بناء السفينة الكبيرة في الماضي ما بين 5 إلى 6 أشهر. وقد يعمل الأستاد مع أربعة إلى ستة قلاليف ويعتمدون في بنائها على خشب (الساج) المستورد من النيبار بالهند. وقد يستخدم خشب (المنتيج) الذي يعتبر من الأخشاب القوية المتينة، وهناك نوع آخر من الأخشاب الهندية يسمى (الفيني) كان يستخدم بكثرة قديما في صناعة السفن أو بعض أجزائها. وفي العقود الأخيرة استخدم القلاليف في البحرين بعض أنواع الأشجار الموجودة في البيئة المحلية كالسدر والصبار والجنكلي، وذلك لعمل أضلاع السفينة (الشلامين والعطف). ويعمل القلاف عادة بيديه ويقوم بصنع عدد كبير من أدواته بنفسه أويستعين بالحدادين المحليين.

لقد علمتني التجربة إن التعامل مع رواة الموروث الشعبي يحتاج قبل كل شيء إلى معرفة جيدة بالموضوع الذي نجمعه منهم، وكثيراً ما يملّ الرواة من أناس هواة متطفلين على الموضوع الذي يكنزون أسراره في صدورهم، ويعتقدون أن هؤلاء سيضيعون بعكس زعمهم بأنهم سيحفظون وسيوثقون التراث للأجيال القادمة. ولقد استفدت كثيراً من والدي رحمة الله عليه حيث تكونت لدي حصيلة ازدادت مع الأيام والشهور والأعوام رسوخاً فقد كان يسقي لنا (القلاقة) سقياً ويطعمها لنا إطعاماً، فكان جلّ حديثه عنها ، حتى في حِكَمه وأمثاله وقصصه. 

لقد ارتبطت حرفة (القلافة) بعدد من العادات والتقاليد والمعتقدات المتوارثة في المنطقة وفي البحرين بشكل خاص، أهمها ما يتعلق منها بأصل الحرفة وأنها قد انحدرت اليهم من نبي الله نوح عليه السلام فهو (أبو القلاليف) جميعاً.  وقد تعلم عليه السلام الحرفة على يد جبريل الأمين عليه السلام، لذلك نرى بعضهم يعتقد إن حرفته فيها الشيء الكثير من البركة والتقديس وبالتالي الأجر من الله عزّ وجلّ، لأن فيها أحياء لقصة نوح عليه السلام وحرفته ، وكيف إنه بنى السفينة ليحفظ بها بذرة الانسان والحيوان لإعمار الأرض بعد انحسار الطوفان العظيم قال الله عزّ وجلّ في كتابه العزيز في سورة هود - الآيات 35 36:

«وأوحى إلى نوح إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون وأصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون» .

 وكما هو معروف لدى الجميع، فإن الهدف الأساسي لإنشاء سفينة نوح المباركة هو حمل من آمن من قومه ومعهم من كل زوجين اثنين من الحيوان والطير وذلك لتبدأ بهم الحياة من جديد بعد زوال كل شيء بسبب الطوفان الذي أرسله الله عزّ وجلّ لتطهير الارض من المفسدين. 

ومن العادات المتوارثة أن يضع القلاف (البيص) اللوح الأول وهو أساس السفينة وقاعدتها على قوائم مرتفعة عن الأرض بعض الشيء. وان يوجهه ناحية شمال - جنوب أو غرب - شرق، أي إنه اما أن يأخذ وضعية الميت عند المسلمين حين الدفن، فكما هو معروف يكون رأسه إلى جهة الشمال ورجليه إلى جهة الجنوب ويكون على شقه الأيمن ووجه باتجاه  (القبلة) الكعبة المشرفة. أو أن يضعه في وضعية وقوف المسلم للصلاة، حيث يتوجه بمقدمته نحو (القبلة) غربا في البحرين، ويكون الخلف باتجاه الشرق. وكان القلاف يتفاءل بذلك كثيراً وخاصة إذا ما كان موقع الاوشار قريبا جدا من سيف البحر.  فإن ذلك دون شك سيسهل عليه عدة أمور من بينها الإفادة من ماء البحر القريب منه (لتنقيع) بعض الأخشاب قبل نجارتها أو تشكيلها وخاصة (البدن) ومفردها (إبدنه) وهي عبارة عن جذع شجر الساج مقطع إلى ألواح طويلة ورقيقة وعريضة أو (العطف) و(الشلامين) وهما عنصرا هيكل السفينة من الداخل كما إن ذلك سيسهل عليه أمر إنزالها إلى البحر بعد الانتهاء من بنائها. 

ومن الأشياء المتعارف عليها بين آبائنا القلاليف أن يسمى الواحد منهم الله في البداية، وفي كل خطوة جديدة، من خطوات عمله كأن يقول (بسم الله وعلى بركة الله توكلت على الله)، فإذا ما فعل ذلك فإنه ينال الرشاد والإلهام من الله عزّ وجلّ ويوفقه في عمله فيبلغ مراده بإذنه. 

وما دام الحديث عن وضع البيص و(المالك) وهو أول لوح في جسد السفينة ويكون على جانبي البيص وهو ينزل عادة في حفرة يقوم القلاف بحفرها على طول البيص من الجانبين، فإن هناك معتقداً ساد بين الناس في مجتمع الغوص في الماضي، وهو إن المرأة العاقر التي لا تلد كان عليها أن تتحين الفرصة عند غياب القلاف عن موقع عمله وخاصة بعد تثبيت البيص ووضع (الميلين) المقدمة والمؤخرة وتركيب المالك، فتقوم (بشكحها) أي القفز عليها أو تخطيها ولا بد أن تذكر أسم الله وحاجتها إلى الولد وكانت تقوم بذلك حتى لا يطلقها زوجها أو يتزوج عليها بأخرى طلباً للولد.

أما القلاف فكان يدرك ذلك تماماً وكان يعتقد إن المرأة العاقر إذا ما فعلت ذلك فإنها ستلد غلاماً ولكن بعد أن (تقصبه) أي تقصف عمره وتسلبه روحه، لذلك كان يتعمد رفع البيص عن الأرض بحيث لا يدع مجالاً لمثل هذه المرأة أن تصل إلى ما تريد فيؤدي ذلك إلى فقد حياته. 

أما ما يتبع ذلك من تقاليد عند وضع البيص والمالك فهو إعداد طبخة (الخبيصة) الحلوة وهي عبارة عن دقيق القمح المحمص المطبوخ بالسمن العربي (البلدي – الدهن العداني)، والخبيص والخبيصة هي الحلوى المخبوصة او المخلوطة وهي معروفة عند العرب منذ زمن بعيد.  وكان مالك السفينة الاوشار عادة ما يأمر بصنعها عند وضع البيص والمالك لتكريم القلاف ومن يساعده ومن يحضر ذلك اليوم بالموقع، لذلك وردت بين القلاليف خاصة وبين عامة الناس في الماضي أغنية شعبية قديمة تتعلق بهذه المناسبة تقول بعض أبياتها:

 

يوم مدوا موالكـه وبيصه

ويا ما كلـوا مـن خبيصة

دنياك بإذن  الله رخيصة………  الخ

 

أما بعد أن يرتفع البناء ويعلو وينتهي عند (السطحة) و(الفنة) سطح السفينة والفنة هي سطحها الملتصق بأحد الميلين المقدمة (فنة سدر) المؤخرة (فنة تفر) فكان صاحب السفينة يأتي بالبلاليط (المعكرونة الشعيرية) يعلوه البيض المقلي ليشجع ذلك القلاف ومعاونيه على إنجاز ما تبقى من خطوات أخيرة لإتمام العمل في سفينته . وعند (الكلفات) وهو وضع (الفتيل) أي خيوط القطن السميكة في الشقوق الدقيقة جدا التي تكون عادة بين ألواح جسد السفينة (والدركال) وهو تمليس سطح الجسد باستخدام أداة (الجدوم)  الفأس فإن ذلك يكون عملاً مشهوداً حقاً عند القلاليف.

 يجتمع القلاليف إلى زميلهم باني تلك السفينة، ليساعدوه دون مقابل في (فزعة) أي عمل جماعي للانتهاء من ذلك العمل في يوم أو يومين على الأكثر، وعندها يرتفع صوت طرقات المطارق المنغّمة وكأن القلاف منهم يحاور زميلاً له بالنغمة، وتبدو طرقات مطارقهم وكأنها سيمفونية منتظمة رائعة، لا تسمع فيها إلا صوت المطارق وهي ترتفع وتهبط على (المناقر) ومفردها (منقر) ونعني هنا (منقر الكلفات) ويكون عادة أزميلاً خاصاً عريض الحد غير مشحوذ حتى لا يقطع الفتيل ويكون أكثر ملاءمة لإدخال الفتيل في الشقوق، ورفيقا بإصبع الشاهد من يد القلاف اليسرى الممسكة عادة بالمنقر وينتهي مقبضه بقطع حديدية لتتحمل ضربات المطرقة المتلاحقة.

أما صاحب السفينة او النوخذة فيكون من حولهم يشجعهم ويحثهم على العمل وهو يردد (قواهم الله .. قواهم الله) وفي وقت الظهيرة يأتي بوجبة الغداء الدسمة من بيته وعادة ما تكون محمّر أي رز محلّى بدبس التمر والسمك المشوي أو رز الكبسة بسمك الهامور الشهير. 

ومن التقاليد المتبعة حفل إنزال السفينة إلى البحر حيث يجتمع فيه رجال الحي والبحارة والغواصون وهم يغنون الغناء البحري الذي امتازت به البحرين ومنطقة الخليج العربي والذي يأخذ أشكالاً وألواناً شتى منها الفجري، والعدساني، والحدادي، والحساوي، والسنكني، والدواري وغيرها.  وكان النوخذة  يأتي بالشاة ليزكيها ويذبحها عند مقدمة السفينة شكرا لله مسميا ومكبراً، ثم يأخذها إلى منزله ليتم إعدادها لمن حضر ذلك الحفل البهيج.  وكان على قدر طاقته يضحي بالشاة والشاتين والثلاث، ويشرف بنفسه على عملية إنزال السفينة بعد الانتهاء من أعمال القلافة والصباغة أو الدهان (بالصل) وهو الدهان المستخلص من أكباد بعض أنواع الحيوانات البحرية أو من بعض أنواع الأسماك الصغيرة و بـ (الودك) وهو دهان أيضاً يتخذ من مزج (الهج) بالكاف الفارسية أو (النورة) وهو الجبس ، بـ (الودك) بالكاف الفارسية وهو الشحم الحيواني.

ويبدأ الرجال عملية السحب وهم يهللون ويكبرون ممسكين بالحبال القوية من الأمام ويدفع بعضهم بأيديهم والبعض الآخر بظهورهم من الخلف والوسط.  وعند كل دفعة قوية مشتركة تسمع أحدهم ينادي (هيلي) فيجيبه الجميع وهم يرددون (هيلي يا الله  هيلي يا الله) وتساعد (الطعوم) وهي أخشاب كبيرة بعضها مستطيل الشكل والبعض الآخر أسطواني توضع أسفل بيص السفينة لتنزلق عليها أثناء دفعها وسحبها.  ولا يمضي وقت طويل حتى تكون السفينة مهما كان حجمها تتهادى على مياه البحر بهمة الرجال وحسن تدبيرهم وتصرفهم وطاعتهم لمن هو أكبر منهم سناً وأكثرهم دراية وخبرة وحكمة.  وعادة ما تبحر السفينة، ويعلق في ميلها قطعة كبيرة من الملح لاتقاء شرعيون الحاسدين، وكم كانوا يتفاءلون بوضع الأطفال من الجنسين على سطحها أثناء سحبها إلى البحر.

وعندما تصل إلى مياه البحر تندفع بسرعة إلى المياه العميقة في سلام ثم يتم سحبها بعد ذلك بواسطة سفينة أخرى أو عدد من القوارب وبالسباحين الاشداء إلى المياه الاعمق حيث يقوم الرجال (بتطبيعها) أي إغراقها عنوة.  وكانت عملية الإغراق تتم بفتح ثقب خاص معمول خصيصاً لهذا الغرض يسمى (المقرّ) يكون قرب البيص لا يعرف مكانه الا القلاف والنوخذة، وعندما تمتلئ بالماء تترك في مكانها مربوطة (مشطّنة) أي مثبتة جيدا، حتى لا تجرفها التيارات البحرية عن مكانها الذي هي فيه.  وتبقى على هذه الحال لبضعة أيام ، وكانوا يعتقدون أن هذا الإغراق أو التطبيع يؤدي عادة إلى مزيد من التماسك بين ألواحها وأجزائها ويحميها من الغرق في مستقبل الأيام بحول الله وقوّته، كما كانوا يعتقدون قديما، حيث إنها قد ذاقت مرارته مرة واحدة في حياتها على الأقل.

وبعد مضي أيام التطبيع يأتي إليها البحارة و(ينزفونها) إي يفرغونها من الماء حتى تخف وتستوي على سطح البحر، ويتم إعدادها بعد ذلك وتزويدها بالآلة ويقصد بها (الدقل) الصاري و(الفرمن) حامل الشراع و(الدستور) وهو قطعة خشب تخرج من وسط سطح السفينة لتمتد أمام مقدمة السفينة بمقدار ياردة واحدة او أكثر، ليربط بها حبل (اليوش) الموصول بالشراع، والأدوات الأخرى التي تتطلبها الوظيفة التي من أجلها أنشئت تلك السفينة.

ويصحب القلاف سفينته الجديدة في كل مرحلة من هذه المراحل حتى يطمئن بنفسه على نتيجة عمله.  وبعد انتهاء كل هذه المراسيم يدفع النوخذة إليه بقية ثمنها أو ما تبقى من أجرته. فكنت ترى الفرحة مرسومة على وجهه فينسى كل التعب والجهد اللذين بذلها في بنائها لتسير بعد ذلك فوق مياه البحر (باسم الله مجراها ومرساها).  

لقد كانت حصيلة الوالد رحمه الله أن قضى شطرا من عمره وهو يعمل كقلاف في البنادر يصلح سفن الغوص والصيد على سواحل المحرق ولسنوات طويلة بدأها مع عمه ثم استمر لوحده او مع بعض أقرانه من قلاليف المحرق والنعيم. وكان عدد البوانيش ومفردها بانوش وهي من أنواع السفن المحلية  التي صنعها بنفسه أوشارا يزيد على الإثني عشر بانوشا توزعت بين مناطق البحرين المختلفة وبعض دول الخليج العربي.

كان الكثير من العارفين بالبحر وسفنه وكذلك زملاء المهنة من القلاليف يشهدون له بالحرفنة والجودة في الصناعة، فكان أوشاره متميزا بحملته أي جمال انسيابية بدنه على مياه البحر، وجمال مقدمته وارتفاع مؤخرته.

ولقد أصيب رحمه الله في آخر أيامه في إحدى المرات التي كان يصلح فيها بانوشا لأحد رجالات البحرين من اهل المحرق سقط من على سطح البانوش المرتفع إلى الأرض وأصيب في ساقه واصبح منذ ذلك اليوم قعيد البيت يمسك بعصا تعينه على المشي في حال خروجه إلى المسجد المجاور أو إلى زيارة احد الأقارب أو الأصدقاء القدامى.

وكان الكثير ممن عرفوا له قدره كأستاد قلاف متمكن يتواصلون معه للسؤال عنه، وكانوا كثيرا ما يطلبون مشورته في ما يعتزمون القيام به من صناعة سفينة جديدة أو لإصلاح سفنهم القديمة، رحمه الله رحمة واسعة لقد رحل عنا كما أوشكت حرفة القلافة هي الآخرى أن ترحل عنا بعد انتشار القوارب المصنوعة من الفيبرجلاس وانحسار القوارب الخشبية التقليدية بل اختفائها من سواحل البحرين والخليج العربي أو كادت.

وبعد .. لله درّ أؤلئك الرجال القلاليف الذين حباهم الله من الفطنة والفكر الشيء الكثير.. لقد صنع بعضهم سفنا قوية البنيان تحمل الأطنان من البضائع والركاب تطوف الموانيء، وتمخرعباب البحر ذهابا وإيابا، لترسم على صفحة الخليج سطورا من تاريخ هذه المنطقة وهذه الأرض الطيبة.

أين هم الآن .. منهم من قضى نحبه دون أن يترك ذكرا ، ومنهم من كان آخر أيامه نزيلا بدار العجزة ، والبعض منهم شاهدناه آخر أيامه يسعد بلقاء رفاق صباه وشبابه من البحارة والقلاليف في بعض المقاهي الشعبية أو بلقاء ابنائهم بعد رحيل الآباء. وظل بعضهم لحين من الوقت قعيد البيت يئن من وطأة الدهر وكرّ الأيام والسنون، ويطوي بين جوانحه آلام النكران والنسيان .. أفلا يستحق هؤلاء الرجال منا تكريما من أي نوع أو كما فعلت مؤسسة التقدم العلمي بدولة الكويت الشقيقة في بداية الثمانينيات. وإنّ أفضل تكريم في رأينا هو حفظ تراثهم بتسجيل خبراتهم ورواياتهم لحرفة عزّت هذه الأيام ولــن يجود الدهر بمثلها بعد اليوم.

ولله الأمر من قبل ومن بعد ..

 

المراجع

- جاء في المنجد في اللغة والأعلام ص 651 تحت مادة قلف ما يلي : قلّف السفينة أي خرز ألواحها بالليف وجعل خلالها القار ، والاسم القلافة.

1ـ هو الشيخ دعيج بن علي بن عبدالله آل خليفة رحمه الله سمح لوالدي باستخدام الارض المجاورة لمنزله على ساحل البحر بالمحرق لبناء بانوش جديد وكان يتردد عليه لمشاهدة عمله.

2ـ في الماضي كان أهل البحرين يحتفون بخاتم القرآن بحفل خاص يلبسونه أجمل الثياب ويتحزم بالخنجر ويحمل السيف في يده وإن تيسر أركب حصانا ثم يقوم فيه المطوع بالمرور به على بيوت الحي وكأنه يشهر تخرجه لأهل الحي ومعه زملاءه وهم يرددون الختمة وهي قصيدة يقرأها انداهم صوتا بينما يؤمن الباقين على ما فيها من ادعية وتبدأ

بالحمد لله الذي هدانا         آمين

للدين والاسلام واجتبانا      آمين

سبحانه من خالق سبحانه    آمين 

بفضله علمنا القرآنا           آمين

3ـ مدرسة الهداية الخليفية هي اول مدرسة حديثة في تاريخ البحرين افتتحت ابوابها للتعليم في عام 1919م .

4ـ ذا لفظت بمفردها بدون الـ التعريف تقال أوشار واذا عرفت تقال لوشار بحذف الالف، بحثت عنها في قواميس اللغة فلم اجد لها على اصل ويبدو انها كلمة غريبة على العربية.

5ـ البندر كلمة عربية اصلها فارسي ويقصد به المرفأ او الميناء وهي في اصطلاح القلاليف مكان الحرفة أيّا كان حيث يتم ايقاف السفن فيه لغرض للصيانة.

6ـ حضرت هذه الحادثة مع والدي رحمه الله عندما توقف أحد الصحفيين الأجانب عنده وهو يصنع أحد البوانيش على شارع الشيخ سلمان بالمحرق في منتصف الستينيات فطلب منه ان يرى الخرائط ، فأشار الوالد بأن الخرائط موجودة هنا في رأسي .

مفرادات من حرفة القلافة:

القلافة: صناعة السفن الخشبية

اوشار: السفينة الجديدة

عشار: السفينة المستعملة او القديمة

البندر: مكان توقيف السفن للصيانة المعتادة

الدركال: صيانة السفينة

البيص: اللوح السميك الاقوى باسفل السفينة واصل عمودها الفقري الذي تؤسس عليه

الميل: هو اللوح الذي يمثل اصل مقدمة السفينة وهو الذي يميز نوعها ان كانت جالبوت او بانوش او بتيل ... الخ

الرقعة: خلفية السفينة العريضة منها كرقعة الجالبوت والبغلة والكنغية .

الصور: وجمعه  الالواح السميكة المائلة التي تصل بين جانبي جسد السفينة واهمها الصور الذي يثبت به صاري السفينة.

الدقل: هو صاري السفينة

اشخاصه: اللوح مهما كان حجمه اذا ما استخدم لسد فتحة ما بجسد السفينة وعادة ما تكون صغيرة الحجم.

شلمان: ضلع خشبي من اضلاع السفينة ويتخد من خشب الساج او اخشاب الشحر الذي بها انحاء ويتفاوت في الانحاء من الوسط الى الامام او الخلف وعادة يصل الشلمان من البيص بالاسفل الى الاعلى وقد يقصر فيضاف اليه وصلة

عطفه: ضلع من اضلاع السفينة وتتخذ من خشب الساج او اخشاب الشجر الذي بها انحاء ويتفاوت في الانحناء من الوسط الى الامام او الخلف وعادة تكون العطفة متصلة بالبيص ومرتفعة من الجانبين مع انحناءة جسد السفينة.

فتيل: حبل طويل من الفطن عادة ما ينقع بزيت السمسم او بعض انواع الصمغ بالجاوي

ودك: هو الشحم الحيواني

صل: زيت بني غامق غليظ يتخذ من أكباد بعض أنواع السمك او من اكباد سمك الدلفين كما يتخذ من تصبير أنواع من الأسماك الصغيرة كالسردين لمدة طويلة حتى تتحلل وتكون رائحته زنخة قوية جدا.

أعداد المجلة