قراءة الجسد في متحوّلاته الوشمية
العدد 7 - عادات وتقاليد
للجسد موقع متقدم في الدراسات الانتروبولوجية، تلك التي تهتم بما هو إنساني عموماً، والاثنوغرافية بالمقابل، تلك التي تعني ما هو إنساني خصوصاً. الجسد في عمومه الإنسي، والجسد في خصوصه الاثني موضوع رهان طويل ومتشعب، انطلاقاً من المعطيات الآتية من جهته وهي تنير تنوع صلات أي منا بجسده، وعندما نقول الجسد فإنما نقصد جسد الإنسان وحده وليس سواه. إنه الجسم وقد بات ماثلاً أمام العين، مدركاً لأبعاده الثقافية والاجتماعية والنفسية، إنه المتن المتخم بالدلالات، أي corps، ما يمور بالمعاني والرموز داخلاً، لكنه ما ينبثق منها على صعيد الرؤية المباشرة خارجاً، وقد تجلَّى في هيئة خطوط وعلامات. إنه الغفل من الاسم بقدر ما يكون المعلوم بصفته البشرية، المدى الجلدي الظاهري الموحّد بين البشر عموماً، وقد انشغل بخلافه حيث تأكَّد فيه وله طابعه البيئي المحلي: الجماعي، القبلي، باعتباره جغرافيا وصَّافة، والمجتمعي العام وقد تمايز فردياً.
بين الجسد كمعطى إلهي محض، والجسد وقد تأمَّم بثقافة محيطية خاصة، والجسد وقد تجلى بيان إشارات في منتهى الفردية، كما هي أشكال المود( الموضة)، يمكن استقصاء متحولات الجسد، وكيف أصبح موضوعاً شديد التمركز في الثقافة، وبصورة رئيسة في الدراسات الحديثة، وكيف انبرى ساح صراع تأويلات كبرى1 .
وإذا كان من أثر فاعل في الجسد ومما يحوطه جلدياً، وكيف انبرى في كل مرة ينظَر إليه حقلاً خصباً يقبل الحراثة أو الفلاحة فيه، وإنبات ما يراد إنباته على سطحه، ليكون المعلَم السطحي خطاب الخارج للداخل، لا بل بعضاً من المدرك والمأخوذ داخلياً، وقد تراءى في الممتد تضاريسياً على الجلد في أمكنة مختلفة منه، فإن الوشم كأثر مستحدث مقاوم للنسيان، يتحكم بصاحبه باعتباره فرداً منتمياً إلى جماعة، أو منتمياً إلى منظومة ثقافية تعنيه بالذات، جدير بالمطالعة المتعددة الأوجه. إنه السطح الموجي المتلاطم رغم هدوئه الظاهري، وفي أكثر دلالاته ارتباطاً بالثقافة العالمة وتلك الشعبية والتي تمثّل ذاكرة نشطة تعد بالكثير مما هو قارٍّ في الأعماق..
تبدو مفردة الوشم Tatouage مقلقة في جانبها التصويتي كما هو تاريخها الشديد التعقيد والآسر معاً، حيث علينا تحرّي هذا التاريخ، وكيف يمثّل الوشم تجسيداً لثقافة مختلَف عليها، تتراوح بين ما يبقي الجسد بظاهره مِلكية مجتمع مؤمَّمة، لا بل ومقدَّسة، يكمن دور الفرد الحامل له، في الحفاظ عليه، وكأنه مؤمَّن عليه ومراقَب جرَّاء ذلك، وما يجعله أداة تعبير مرئية في أكثر تجليات الجسد فردانية وخروجاً عن ربقة المجتمع، وهو ما لا يمكن القيام به بسهولة، على الأقل في هذا المبحث الوشمي الطابع، إنما يمكن مكاشفة بعض مما يجلو الوشم، وما الذي يسرده بصرياً قبل كل شيء لنا، فأن نعاين الوشم وما يكونه دلالياً( سيميائياً)، هو أن ننعطف ونحاول التمعن في جسدنا القرطاسي خارجاً، أن نصغي إلى( صوت) الوشم في تعددية إيقاعاته باعتباره حقيقة تاريخية.
وأن يكون هناك حديث عن متحولات الوشم، فلأن الوشم هذا لم يكن في يوم ما:
- حقيقة ثابتة يكون الجسد بمرئيته مشغولاً بها، لأن التاريخ شاهد على ذلك كونه هو ذاته متحول في هذا المقام.
- ولا واحداً في مفهومه، أو ما يمكن أن يشكّل تعريفاً جامعاً مانعاً عنه، بقدر ما يكون مختلفاً مكاناً وزماناً.
- ولا كان معتنىً به بالحماس أو الموقف الواحد ذاته، بقدر ما تكون خطوط الاتصال به متقطعة ومتغايرة..
وفي الحالة هذه ما علينا إلا أن نمارس مقاربة دلالية حذرة له، حيث يكون أي موقف منه، منطلقاً من خاصية تاريخية وثقافية، حتى لو أننا أخذنا بعين الاعتبار ما يشار إلى ما هو تعميمي في هذا السياق، عندما يقال عن أن الوشم كان مأخوذاً به في هذا المجتمع أو ذاك على أعلى مستوى، كما لو أنه يشكل علامة فارقة للمجتمع في عمومه دون أي استثناء، وفي الوقت ذاته يعلمنا التاريخ بالجانب التحولي فيه، والتحول في مفهوم ما ليس أكثر من انقسام مواقف، من مواجهة ضمنية أو علنية بين طرفين على الأقل، يضمَنان تغييراً فيه مع الزمن.
وقد يسعفنا بعض الالتزام بالمنهج الظاهري(الفينومينولوجي)، في محاولة التعرف على خطوط عريضة للوشم في متحولاته المختلفة، ولهذا يسهل التحرك في هذا المضمار، على صعيد المادة الموجودة وما يمكن قوله عنها تحليلاً، لا يمكن الادعاء أن الوارد فيه مغاير لما قيل فيه أو عنه سابقاً، إنما سعي إلى المختلف بغية اكتشافه أكثر!
منعطفات متفاوتة :
لأن الوشم معايَنٌ في طريقة تكوينه جسمياً، لهذا نغض النظر عن هذا الجانب( التقني)، ماضين إلى بهو تاريخه الواسع، ولكنه المتفاوت في جهاته، حيث إن أي إشارة إليه دون تحديد، قد تخرجه من إطاره العملي أو الوظيفي.
لعل يـوليـوس ليـبس يمتعــنا فــي حديثه عما سلـف، ولكنـه حـديث ينبغــي ضبطه بأكثر من معنى، عندما يعنون فصلاً من فصول كتابه(بدايات الثقافة الإنسانية» في أصل الأشياء»)، بنوع من التعميم(صالون التجميل عند البدائيين)، وليأتي التوضيح المفصل: فن الزينة البدائي- الألوان، مفاهيمها ورموزها- مفاهيم الجمال عند الشعوب- الوشم-..
ربما كان ثمة استعراض للموضوع، ولكن قد يساء فهم مكوناته في سياق العنوان العام، وبشكل خاص عندما يتعلق الأمر بمفهوم( التجميل)، وعندما يخضع التجميل لجملة خاصيات اجتماعية لا يعود ممكناً تناوله باعتباره محط اهتمام البعض دون الآخر، كون التجميل يقوم على التنوع والمختلف على رغبات دون أخرى، وأنه عندما يكون مندرجاً في إهاب معتقد جمعي، أو ممارسة غالباً ما تكون شعائرية أو إلزاماً مجتمعياً، يتراجع مفهوم التجميل إلى الوراء تحت وطأة التقليد والعرف وربما الواجب الديني أحياناً، وهذا ما يتعرض له عبر أمثلة مختلفة في كتابه ذاك، حيث إن ما يلوّن الجسم وفي العمق، قليلاً أو كثيراً، يتبع تصورات مرعية بشكل ما أو بآخر2.
فالذين يتلمسون قيمة لافتة في معايشة وشمية لأجسادهم، إنما ينمّون عن وعي مجتمعي متفاوت، وعي تاريخي، يصـعــب التـحـكـم بالمؤثــرات الفـعلـيـة التـــــــي تشكـّلـه، لأن ثـمـة نظاماً آخر يظهـر كيـفيــة تجلّـــي الـجســد فـــي وضعيات مختلفــة، يبـدو الوشم وكـــأنه حالــــة طارئـة هنا وهو في متن الجسد، أعني به يمرئـــي الجســد الثــقـــــافــــي مــن الخارج.
إن كتاباً قيّماً هو(انتروبولوجيا الجسد والحداثة) لدافيد بروتون، يتعرض لأهم شمائل الجسد، لخفاياه، لكيفية محورة التاريخ حوله على أكثر من صعيد: طبياً وفلسفياً وسيموغرافياً وسيميائياً....الخ3، ولكن ما لا يذكَر كما هو ممكن هو مدى صلة الجسد في طبيعته الحية، طبيعته الإلهية، بما يمنحه أبعاداً محلية، أو إقليمية، أو لعلها أتاواتية تعني أشخاصاً معينين في حالات معينة دون أخرى، في الموقف من القانون أو السلطة، أو بصدد أبعاد معولمة من ناحية مظاهر وشمية عابرة للحدود، يعرفها نجوم التمثيل والرياضة( المصارعة، مثلاً) وغيرهم...
وربما كان ذلك ينطبق على كتاب آخر، وأعني به(فخ الجسد: تجليات- نزوات وأسرار) لمنى فياض، إذ إن فيضاً من العناوين يعلَم ببنية الكتاب، إنما دون وجود أي أثر لهذا الفاعل الجسدي- اللحمي، حيث إن قراءة العناوين توحي بوجود هذا الأثر مسبقاً عندما نقرأ بعضاً مما يخص( الجسد العاري) أو( الجسد المركَّب)4 مثلاً. إن أي إشارة إلى الجسد في معلَمه الخارجي تعدُ ضمنياً بما هو معلوم به عما يشغله الوشم دلالياً، ما يستشرف بنا هذا الشاغر ولو من باب التقدير، في جانب من الجسم عبر إيلائه أهمية، وكيف يعتنى به وكيف يجري استثماره، كيف يفوَّض الرمز البصري ليكون قيّماً عليه من قبل ثقافة معينة أو يقوَّض هذا الرمز الملوَّن، الصاخب إيحاءً.
إن مجرد الحديث عما هو تجميلي في وسطنا، وما أكثر الإشارة إلى مفهوم( التجميل) باعتباره ظاهرة مألوفة راهناً خصوصاً، يلفي على هذا البعد الذي يتصدى لنا بحقيقته المرئية، فما يندرج في إطار العمليات الجلدية، أو حتى إجراء تغيير في مقاييس ظاهرة: وجهية وبطنية وغيرها، لتأبيد شبوبية ما، كما يُزعَم، يكون الوشم ذاته إجراء عملياتياً ولو بعمق أقل، ولكنه التغيير الفاعل في الجلد إلى حيث قراءته البصرية لا تتطلب جهداً لاكتناهه.
من الممكن معاينة الوشم باعتباره مركَّب المفهوم، عندما يحمَّل بما هو فئوي أو جماعي، أو عقائدي ديني، أو حتى قومي وسياسي، أو تربوي..
فهذا المضروب باسمه في عمق التاريخ، كما يعلمنا بذلك السلتيون قبل خمسة آلاف عام، والمصريون قبل أربعة آلاف عام، وهذا ينطبق على التاهيتيين، وكذلك الإغريق وهم يشِمون جواسيسهم وشماً سرياً، والرومان بالنسبة لعبيدهم وحيواناتهم، وفي انكلترا واليابان في فترات متقطعة، ولدى بعض القبائل الإفريقية حفاظاً على سلامة الجسد من أذى سحري، ولدى جماعات من البدو من العرب، بداعي الزينة وإبعاد خطر الحسد... الخ5.
على الأقل، حين يواجهنا الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد بمستهل معلقته: داليته المعروفة:
لخولة أطـلال ببرقـة ثهمـد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
إن الإحالة إلى اليد لسان حال ثقافة لا تخفي جنسانيتها من ناحية التركيز على ما هو نسوي، إنما في المنحى التعبيري ذاته، يأتي الوشم استجابة بلاغية جامعة بين المكاني أثراً مشخصاً، والجسدي علامة لها قيمتها، عندما يتم التقدم باليد، واليد عضو حركي، مثلما هي فاعل مؤثر في الحركة وتنويعها، مثلما أن الوشم المرئي ينفتح بنا على ما هو شعائري قديم، وما يعنيه اللفظ الواحد في تكثيفه للمعنى، ورؤية المقرَّر شعرياً بإيقاع أكثر نفاذاً.
إن أهم ما يمكن قوله هو ما يحفّز على نشر أو انتشار الوشم، على المحبَّب فيه، وليس محاولة تبيان أهميته الفعلية أو الصحّية، فما ينتشر على سطح الجلد، ما يعوم عليه ويثبت فيه، يستوجب النظر في بنية موقعه وما يُراد منه..
فإذا كان الجسد في كليته معنياً بأداء الشعائر أو الطقوس ذات الصبغة الجماعية، عبر القيام بحركات معينة، فإن ما يظهره الجسد يتوافق وبنية الحركات تلك، بقدر ما يكون المرئي على السطح وله أصوله الغائرة في الجسد الاجتماعي الطابع، شاهد عيان على أن كل شيء على ما يرام، ولزمن طويل يغطي تاريخ حياة المرء وينتقل معه إلى القبر، بقدر ما يكون المختلف وشمياً حالة من حالات العصيان المثابَر عليها، أو صيغة من صيغ التمرد الصريحة في مجتمع مفتوح، كما لو أن اللغة ذاتها محكومة بالرفض، بما أن الوشم صوت له صداه المحيطي!
في معمعان الوشم :
ثمة مجال مؤالفة أكثر للوشم في مهاده المجتمعي، ومكاشفة ركائزه التي تبقيه وتستبقيه تاريخياً، عندما تجد جماعة ما نفسها، وهي في وحدة مصيرها، في بيئة معيَّنة مهددة في كينونتها، وتبتغي حماية ذاتها، بقدر ما تروم أمناً يسمّيها حدودياً، وهي تعتمد وسائل نافذة المفعول، وكأن الذين ينتمون إليها يشكلون جسداً واحداً بامتياز.
إنه الجسد وقد انتقل من صيغة المجهول والمعمَّم، إلى صيغة المعلوم والمخصَّص، إنه نعمة ونقمة في آن، لأن الجسد الذي بات محكوماً بعلامته الوشمية وفي أمان معتبر، عليه واجب اليقظة الدائمة لأن أي نسيان لموقع الذاكرة الذي يمكن تبصره خارجاً، قد يودي به، إذا خرج حامله من محيطه. على الجسد ألا ينام، ألا يسهو حفاظاً عليه.
في سياق عنوان لافت، هو(مجتمع اللادولة) لبيار كلاستر، يأخذنا معه إلى عالم الوشم المراهَن عليه، في مجتمع قبلي، يُتوقََع منه أنه ينذر أبناءه باستمرار بالخطر المحدق بهم من الجهات كلها، والوشم هو الذي يعلّمهم بذلك.
العنوان الفرعي في الكتاب( التعذيب الذاكرة) صارخ بمضمونه، فما يعذّب يذكّر أكثر إذ يبصّر بخطر الخارج !
ثمة حديث عما هو تلقيني بالنسبة للشباب الذين يبلغون سن الرشد، والتلقين يعتمد على ما هو مفصلي، أي الوشم، حيث يرتقي الوشم هذا إلى مستوى العلامة الفارقة في البطاقة الشخصية، بقدر ما يخلق فاصلاً لا يمكن تجاوزه بين الجاري تلقينه والعالم الخارجي. الوشم مفهوم سُوري» منطقياً» لأن ثمة ضبطاً أو انضباطاً للجسد، أقرب إلى مفهوم المشتمل، بالمعنى الفوكوي الردعي، إنما دون وضع علامة على الجسد وكيفية توجيهه بعنف مباشر، لأن الذي يكون باسم قانون مجتمعي، لا يعود الاعتراض عليه وارداً كون الجميع خاضعين له، أي الجميع يكونون ممثّلي القانون الضبطي الجسدي مطواعين ومحكومين به، إنه التكوين الدنيوي الخاص لجسد محتفيً به وقائياً.
يتناسب التلقين الأكثر تركيزاً مع العذاب الذي ينفذ إلى داخل الجسم الملقَّن، وكأن نفاذ الألم صورة معبّرة عن نفاذ الأثر، وتأكيد القدرة على الذي جرى توخّيه وقد أثبت فاعليته. ثمة طبيب يقوم بهذه المهمة( إن الطبيب الأول يسلخ بسكينه 2 سم من لحم ما بين الأصابع التي تثقب لهذه الغاية من الجهتين، ولكي تصبح العملية أكثر إيلاماً فإنه يشرم هذه الأصابع بهدوء وتأنٍّ)6.
إن الظاهري أكثر هو الذي يشغل موقعاً قيادياً بالنسبة لعموم الجسم: الجسد، وما هو مرئي، يكون تنبيهاً قيمومياً للشخص لئلا يخرج عن جادة الصواب، أعني بذلك ما تم حفره بين الأصابع، باعتبار اليد أداة اتصال الإنسان العملية بالعالم الخارجي، وما ينجز عملياً يكون من جهة اليد، فتكون اليد ذاكرة مفتوحة وجرس إنذار توجيهياً.
ضمناً يأتي الجسد وقد وشمه في أمكنة معينة فيه، فلا يعود ينظَر إلى الجلد إلا على أنه واقعة تاريخية وحدثاً يحيل الجسد من حالة إلى أخرى مغايرة، وقد امتلأ بالآثار والخدوش والأوشام( إن الوشم عائق أمام النسيان، إن الجسد نفسه يحمل آثار الذكرى، إن الجسد هو الذاكرة)7.
لا يمكن للشخص الملقَّن طقوسياً ومن خلال الأثر الذي يستحيل عليه التخلص منه، أن يتجاهل ما أعِد له، طبعاً ليس هو الذي يتوجب عليه أن يعيش في ظل ذاكرة اتخذت من الجلد خارجاً مقارَّاً أمنية جسدية لها كما لو أنها منحوتة لا تخطيء العين قراءة المحفور فيها، بقدر ما يشدد الآخر: لعله العدو المتربص به أكثر من غيره، على ضرورة تنشيط الذاكرة هذه، لأن الخارج يحيل على الخطر الوشيك: المداهم في أية لحظة، والوسط البيئي متنازَع عليه في معركة البقاء، وأن يكون الجسد الذاكرة، يعني في السياق أن تمارَس زحزحة في وظيفة الذاكرة، أن ما يهم فيها ومنها ليس ما تردده إنما ما تؤكّده عياناً، ما لا يمكن التشكيك في وظيفتها لأنها مرئية تماماً.
وهذه القراءة الوشمية تضعنا في مواجهة تاريخية مع فسحة زمنية، ومع ثقافة متموضعة في مكان له خصوصيته الفعلية، لأن ما يتحدد قيمياً في هذه الوثيقة اللحمية، غير قابل للتصدير أو التعميم إذ تكون البيئة مغايرة..
في الوقت ذاته، فإن ما يقدمه كلاستر من تقرير حالة، لا يعلمنا بطبيعة الوشم الحقيقية، أي ما إذا كان الوشم يجسّد فعلاً كتابياً أو تصويرياً، بقدر ما يمكن الاستنتاج وهو أن المستخلَص يعني ضياع الأمرين، إذ الجماعة التي تلقّن أبناءها تتقدم بإيماءات جسدية تزيح الكتابة جانباً، مثلما تقلّل كثيراً من أمر الكلام بالذات، بما أن الذي يتصدر الجسد وفي أكثر أماكنه خطورة، يبز كل صياغة كلامية أو أثر كتابي.
نحن إذاً، وبشكل ما إزاء نوع من الاقتصاد الذاتي في العيش بمعيَّة الجسد: شعب يعلّمه جسده بما يعلَّم به، مثلما أنه يهتدي به ويكون منقاداً إليه، وفي الآن عينه نكون في مواجهة ما اعتبره جاك دريدا بـ( المكمّل supplément (، وهو الذي يبقي فراغاً لا يمكن ملؤه ، من ناحية قابلية هذا المفهوم اللحمي النَّسب للتأويل، كون المكمّل في واقعه مستقى من حقل السيمياء، ويجري تحديده ثقافياً دون جزم( إن المكّمل ينتهك الممنوع ويحترمه في آن)8، فما يشكل وازع تلقين ومظهراً له، يطمئن أولي الأمر على أن كل شيء هو على ما يرام، ولكن في الجانب الموازي يكون التفكير في النقيض، ولو بفعل انتحاري، من جهة التمرد على الوشم بتصفيته ذاتياً.
حتى بالنسبة لدريدا التفكيكي، يظل السؤال المقلق طارحاً نفسه، وهو: وفق أي نسَب يكون حراك المكمّل هذا؟ بما أن دريدا يدخل في مواجهة مع الأقرب إلى الطبيعة، وكيفية معاينته من داخل ثقافة لها تاريخ، ولأن دريدا ذاته، يعاين حالة وشمية يريد صفة الثبات وحتى القدسية فيها، وكأن ما لا يقبل التنوع لا يستحق دخول التاريخ، وأن الذي أثاره في كتابه، لا يخرج في بعض منه، كما سنرى، عن قراءة فرويدية بخصوص ازدواجية المعنى في الكلمة الواحدة، وهي تتمثل في المتحول التاريخي عنها، أي تجلو وجهي الصراع الذي بد منه في التغيير..
ولعل ما يثيره البريطاني ديكسون، في كتابه(عرب الصحراء)، ومنذ أكثر من ثلثي قرن، ينطوي على جانب كبير من الطرافة والمتعة، دون إغفال البعد الثقافي العائد إليه كون الذي يرد باسمه يقبل المناقشة والمساءلة.
إن كتابه الموسوم والذي يشكل وصفاً معيناً لحياة البدو في شمال وشرق شبه الجزيرة العربية، كما جاء في كلمة دار النشر، يحمل معلومات اثنوغرافية تنفتح على محيطها الجغرافي، فهو إذ يقول عن وشم النساء( ينتشر الوشم بشكل واسع بين نساء القبائل العراقية بشكل خاص. إلا أنه أقل انتشاراً بين القبائل البدوية، ويندر لدى القبائل التي تقع تحت تأثير الوهابيين. والقبيلة الوحيدة التي لا تشم نساءها في الجزيرة العربية هي عجمان، إذ تعتبر الوشم عادة مخزية وغير شريفة. بينما تمارسها مطير)9، فإنما يضعنا في مواجهة مجموعة من الحقائق ذات الصلة بالمكان وقد انقسم على نفسه، أو بالنسبة لجماعات بشرية، تتميز كل منها بعادات وتقاليد مائزة ومسماة، في الوقت الذي لا يمكن تجاهل دور المؤثّر الديني أو المذهبي في توجيهها، وكيف أن الوشم يتحدد بخاصية معيارية، تضع الجسد ذاته في عالم انقسامي، ليس الجمال هو الراعي الذوقي الوحيد له، ولا الذاكرة بمفهومها الجمعي هي الوصية عليه، ولا المعتقد هو الناطق بلسان حاله، إنما مجموعة عناصر تتقاسم حقيقته بنسب مختلفة.
ديكسون يقدم إشارات مفيدة حول الموقف من الوشم المميّز للنساء في مناطق مختلفة، كما لو أن النساء مِلكيات يجري تمثيلها من قبل أولي أمورهن، رغم أنه يؤكد أهمية الوشم ويعد بأنه سيقدم دراسة كاملة حوله( ولا ندري هل أنجزها أم لا؟!)، إنما يبقى المقدَّم باسمه في عمله الميداني لافتاً في قيمته، وما يمكن استقصاؤه في جملة الوارد هنا، حيث إن زوجته ذاتها آزرته في مسعاه البحثي هذا، وقد نشر صوراً توضيحية عائدة إليها حول ذلك، تظهر أوشاماً موزعة بانتظام، على الأيدي والأقدام (وهي تخص قبائل معدان على الفرات وقبائل الرعاة في المنتفك)، ولاحقاً يقول دون تأكيد( يبدو أن قبائل عرب المعدان يذهبون بعيداً أكثر من أي قبائل البدو الأخرى – في الوشم- بالإضافة إلى كونهم يكشفون وجوه نسائهم)، ولعله من هذا المنطلق يتحمس إذ يقول لاحقاً ( إنني شخصياً أميل إلى الفكرة القائلة إن عرب معدان هم أحفاد السومريين القدامى وقد ورثوا عنهم علامات الوشم المدهشة. ودراسة هذا الموضوع ستكون أثرية بالنسبة لمن يريد التوسع فيها)10.
هذا التلميح القريب من التصريح، ينطلق من خاصية مكانية وتاريخية مقارنة، وفي الآن نفسه، يشير إلى ارتحال الرموز وتداولها ولو بأشكال مختلفة، وأعني بذلك ربط ديكسون بين معدان والسومريين اعتماداً على الوشم، إذ يظهر هذا الانفتاح على العلاقة مع المرأة، تعبيراً عن تقدير جلي لها، إذ ليس لدى من سماهم ما يخافون منه، أو يرتابون فيه وهم يكشفون وجوه نسائهم، ليتخذ الوشم مساراً دلالياً آخر، لا تكون الزينة وحدها حاضرة، إنما ما يربط الزينة بقيمة حياتية واجتماعية تبقي علاقة الرجل بالمرأة أكثر حميمية .
إن الوجه المكشوف يقود الناظر فيه إلى ما هو أبعد من حدود النظر الوجهية، إلى تقليص المسافة الفاصلة بين الرجل والمرأة، إلى التعريف بمكانة المرأة وكيف يجري الاهتمام بها، مثلما يعاين فيها جانب الثقة بالذات..
الوشم وانبثاق الدلالات :
في إطار البحث عما يعنيه الاسم في علاقته بالوشم، وما يشده إلى الوسم، أي ما يتشكل من ثالوث اعتباري، يظل الوشم عنصر غواية أكثر ضراماً بالمعاني ولعبة المتخيَّل، كون المقروء الجسدي يستشرف بنا المكبوت بعمق!
وإذا كان لي أن أدفع بالقول إلى نقطة لا تماسية، تصطدم بالعقلية التخومية الصادة لتصور من هذا النوع بداية، ومن خلال مثال أكثر احتواء بالدلالات الحافة، بوسعي أن أتوقف مطولاً، نسبياً، عند الراحل حديثاً عبدالكبير الخطيبي» 1938-2009»، وذلك من خلال أثره الحي بفعله الثقافي( الاسم العربي الجريح)، حيث إن الفصل المعنون بـ( الوشم: كتابة بالنقط) يشكل المبحث الأكثر إثارة ومساحة رؤية وطولاً فعلياً فيه، إلى درجة أن التمعن في فصول الكتاب الأخرى، يري كما لو أن ثمة تحرّياً وشمي الطابع لقائمة موضوعاته، كما هو شأن عنوانه!
في البداية، ربما يبدو مفيداً الإصغاء إليه وهو يحدد منشأ الكلمة الأصل، ولو أن ذلك يأتي لاحقاً في فصله ذاك، عندما يقول( الوشم Tatouage اسم بولينيزي أصلهTatou أوTatahou(وTa معناها رسم). وقد قيده الملاك كوك Cook للمرة الأولى على شكل Tatow( وتحولت في اللغة الانجليزية إلى Tatoo وهي فعل). وهذه الكلمة قليلاً ما تستعمل في الفرنسية خارج معناها الضيق. ولم أنس، في عملي، أن انتقال هذه الكلمة في أحد نصوصي تجعلها بعيدة عن الذين لا يعرفون غير سمة الإهانة ( عند السجناء والمنفيين)...)11.
يبقى السؤال المباشر: لماذا ارتباط الوشم بمصدره اللغوي البولينيزي؟ هل يعني أن الوشم مستقدَم من هناك، أم أن صفة ما منحت الاسم حضوراً إغوائياً ليصبح مهاجراً كمفهوم مختلف خارج منبته اللغوي والمحلي؟
فالوشم، كما رأينا، نشر ظلاله في أمكنة مختلفة، وهو إذ يختلف من جهة الاسم، وهذا بدهي اعتماداً على اللغة وما يشير إلى المنحى الدلالي لها، فإن ما يبقى شاغلاً للذهن هو النسب العائد إلى ما وراء البحار.
لعل هذه الصفة المبولزة( من البولينيزية، إن جاز التعبير)، تخص جانباً اكتشافياً في ظروف معينة في العصر الحديث عن طريق الانتروبولوجي والاثنوغرافي، وقد تسللت إلى مجالات الفكر والأدب لاحقاً، حيث إنها تذكرنا في الوقت ذاتها بكلمة أخرى لها صيتها الدلالي، وأعني بها( الطوطم Totam) كان لفريزر دور كبير في تثبيتها ونشرها في مطلع القرن الفائت، وكلمة (التابوTabu)، إذ ترتبط الأولى بما هو مقدس ومحرم الاقتراب منه ومسه بسوء، والثانية بما هو مبارك، وفي الآن عينه برهيب وخطير، والكلمتان مترابطتان ببعضهما بعضاً، كما هو ممكن التعرف إليه في كتاب فرويد المشهور(الطوطم والتابو)12.
وهذا ما يعيدنا إلى ما انطلق منه دريدا سابقاً، مثلما أن أحد المعنيين باللاوعي الثقافي، من منظور العنف والمقدس، وأعني به رينيه جيرار، يرى مثلاً، وبصورة رئيسة، أن كلمة محورية هي Sacer اللاتينية، (نترجمها أحياناً « بمقدس»، وأحياناً» بملعون» لأنها تتضمن بنفس الوقت معنى الخير والشر)13، وهذا ما ورد عند فرويد في مصدره السالف، وفي أكثر من لغة بالمقابل14.
لكن الذي يمكن المضي به اعتماداً على المثار هو الجائز تضمنُه في الوشم، كيف أنه فيما يظهره يشكل وجهاً يانوسياً مركَّباً: الخير والشر، فما نشأ من أصله هو لحماية المعني به، غير أنه يتهدده للسبب ذاته نظراً لوضوحه.
إن ما حفَّز الخطيبي على الانهمام به، هو ما أثار دريدا كما يذكر في متن كتابه، وهو يقارب حركية الثقافة في كل من الكتابة والكلام، وصراع الاسم بينهما وفيهما، أي مدى أسبقية كل منهما على الآخر، أي إزاء المغيَّب أو المجهول، ولو أن ذلك غير داخل في نطاق المحكَم تاريخياً، وهو يوجّهنا ناحية الوشم باعتباره(كتابة النقط) هذه هي التسمية التي استعملها العرب أحياناً للتدليل على الوشم)، نفترض أنها تخضع لمعرفة، لمعرفة فعل، لرغبة، لانتقال الأدلة المكتوبة مرة على الجسم، والمهاجرة في فضاءات أخرى مرة ثانية، هذه الأدلة هي التي غالباً ما لم نعد نعرف رمزها الأصلي، ولكن كتابتها الموجودة إلى الآن تتحدى نظرياتنا عن التدقيق)15.
يضعنا الخطيبي في مواجهة حقيقة تاريخ الكتابة، وكيف أن البحث فيها يقتضي بذل جهود مضاعفة، وأن من باب الاستحالة الحسم في القول، إنما اللافت هو جانب الصهر بين الكتابة باعتبارها خطاً والكتابة كونها نقطاً، كما لو أن الجسد في أصل من أصوله الكبرى هو اللوح الغاوي والدال على تاريخ نفقي، سرّياني، يجب تحرّي مجهوله.
إنه يوجّه أنظارنا إلى ما يمكن للعين أن تتعرف عليه من خلال المعتبَر وشماً، أي كتابة كان لها موقعها الرمزي ذات يوم، حيث كانت تعيش حالة انتقال مكانية مع المرء، قبل أن يتم الاستقرار، وتنحو الكتابة مقروءة منحى آخر على الأرض، وبين أهلها فيما بعد، وهو تصوُّر ينبني على ما هو مضاد لأي حديث عما يخص الوشم من جهة التقليل من شأنه من ناحية، وما يتعلق بالكتابة ومدى ارتباطها بالوشم شعائرياً من ناحية أخرى.
الخطيبي في منحى المسايرة لدريدا، في غراماتولوجيا تعنيه، يحاول إطلاق سراح المكبوت المرتبط بالوشم، وهو يشدد على أهمية الوشم والبعد الانعطافي فيه، ساعياً إلى الفصل بين ما هو لدني/ دنيوي/ أرضي، وما هو إلهي، إذ يأتي الصوت الإلهي وقد تجسَّد كلاماً إلهياً خارج سياق الجلد، نقضاً للوشم الذي هو مشروع الجسد الإنسي، وفي الوقت نفسه توسيعاً لحدوده: على الجسد أن ينخرط في حِمى الصوت الإلهي بعد الآن، إنه وشم أأبـد هنا!
إنها قراءة إبرية، إن جاز التعبير، تتوسل المسكوت عنه في فضائه الديني، وتنبّه الغافي داخلاً( كأن الكتابة الإلهية أرادت بالتطريس d’un Trait palimseste محو كل الكتابات السابقة عليها، وخاصة الكتابة المسطَّرة على الجسم)16.
ثمة وضع تقابلي للعلاقة مع فارق القيمة المحوَّلة لكل طرف، ومن خلال مفهوم وشمي، بين ما هو زائل يخص الأرضي، وما هو خالد ينتسب إلى الله، ليكون الصوت الإلهي بمثابة الذاكرة الحية والمتخيلة، وتنبيهاً للأرضي بضرورة الالتفاتة الدائمة إلى الذي أوجده، وأن يدخل في نطاق الحمية المعتقدية الإلهية الطابع لأن ما يربطه بالوشم هو منشؤه الدنيوي، وهمُ استمراره17، وما يرومه الخطيبي على الأقل هو توسيع دائرة الحوار الخاص بما هو إشكالي، أي جعل التاريخ أكثر قابلية للنظر فيه، كون الوشم كمثال حي لا يمكن الاستهانة به.
ولعله عندما يذكّرنا بالعهد القديم، وفي( سفر التكوين)، حيث يتعرض للعلامة التي خصَّ الله بها قابيل بعد قتله لأخيه هابيل، فإنه يكاشف جوانب تبدو معتمة، وهو يتحرى حقيقة العلامة تلك، أي ما إذا كانت وشماً، وما صلة العلامة بما هو إلهي، لا بل: ما علاقة قابيل بتلك العلامة التي أريد منها أن تكون إحالة إلى الأعلى وتمييزاً له؟!
إنه يحيل إلى فريزر الذي تابع الموضوع، مثلما أنه يؤكّد ما سبق أن راهن عليه بمعنى ما، حيث جعل العلامة إلهية( لقد اختطف الله الدليل عندما منحه أصلاً. وأسطورة الأصل، ميتافيزيقياً..)18.
لكنه الأصل الذي يدخل في حكم المتشابه، لأن فريزر ذاته ومستفيداً من روبرتسون سميث، تعقّب الأثر المفترض لقابيل، معايناً تلك العلامة، موضّحاً حدودها التفسيرية كاثنوغرافي، وهو يربطها بأكثر من تفسير، له صلة بما هو خاص بالقبيلة، وبالقاتل المعتبر ذاته وبما هو إلهي، مذكّراً وعبر أمثلة موزعة في جهات مختلفة، مدى صلة العلامة بالبشرية تاريخياً، وصعوبة إمكانية البت في حقيقتها، كما هو المستخلَص من مادته القيّمة، وإن كان ثمة إشارة إلى الموت، والمعتقد الخاص به: بشبح القاتل، فتكون العلامة على افتراض أنها وشمٌ حماية ذاتية، تعويذة لدرء خطر شبح القاتل في الحالة هذه، وربما تضليلاً له لئلا يمسه بسوء، وما ينمُّ تصور من هذا النوع عن قلق لا مهرب منه، لأن العلامة السالفة تخص من هو قادر على كل شيء، فلماذا هذا» التعليم19؟ إلا إذا كان ذلك وارداً في قالب حكائي- قصصي، ويشي بما هو جامع لأكثر من قيمة دلالية ورمزية وشعائرية...الخ.
يظهر الوشم عنصر تحريض للخطيبي فيما ينشغل به، ولعله على صواب، خصوصاً وأن للوشم مكانته في المهاد العميق للثقافة الشعبية، ومن الصعب حصر رهاناته، في مضمار ما هو جنساني، أي ما يخص الرجل والمرأة، على صعيد النسبة وأماكن التوزع أو الانتشار في الجسم، وما وراء المرصود في كل موقع، وفي بلده المغرب بالذات، فثمة اهتمام كبير بالوشم، لا بل يشكل الوشم مدخلاً قويماً لمقاربة الكثير مما هو متكتَّم عليه20.
هناك دعوة ما، للاعتراف بالأثر الحصيف للوشم، لأن تاريخاً يجري حجزه أو التعتيم عليه، تاريخ ثقافة مختلف عما هو متداول، يكاد يضاد التاريخ المتداول، كون الوشم يتميز بتلك الطريقة الإحيائية للجسد، بقدر ما يضع مجتمعاً كاملاً على حافة هاوية وهو يواجه حقيقة ما يعنيه، ليكون أكثر تنبهاً إلى العالم المحيط به، كون الوشم يمتلك مقومات فنية وذوقية واعتبارية مؤثرة( هكذا يكتب الوشم على الجسم في حركية معينة للإيماءة والكتابة الأبجدية والكتابة التصويرية)21.
لا ينسى الخطيبي أن يشير إلى حديث نبوي يحرّم التعامل مع الوشم( لعنت الواشمة والمستوشمة)، فثمة تلاعب بالموضوع، خلق فوضى جسدية، عندما يتم اعتماد الوشم وما يؤدي تداوله إلى إثارة نزاعات، وتنبيهه إلى أوجه التفاوت في المجتمع، والخطيبي يشير إلى أن الوشم في وسعه أن يكون عيناً نافذة للوقوف على ما هو مخفي، وبصورة خاصة بالنسبة للمرأة، حيث تظهر الصورة أو الرسوم المنشورة في الكتابة بمثابة تعميق الأثر العائد إلى الوشم، وكيف يؤكد فاعليته على صعيد اللعبة الجنسانية، وبالنسبة لجسد المرأة خصوصاً، عندما تشير الأمكنة الحساسة في الجسم إلى القيمة المعطاة لكل منها، وكأننا إزاء توزيع خرائطي – تضاريسي لإحداثيات الوشم، وهو يجدول مفردات تخص أعضاء الجسم، وكيف يأتي الوشم أو يتحدد، وهو يقول فيما بعد( إن لائحة أسماء الوشم تستمد جدولها من البلاغة العامة( بلاغة الثقافة الشعبية) على شكل نص مزدوج( نص الرسم ونص الاسم) تهاجَر حركته بين مختلف الأنظمة الدلائلية، كالوشم والزرابي( البسط) والحلي...)22.
بين نزوع إلى وحدة المفهوم مع الاعتراف بكامل حقوق التنوع للعناصر المكوّنة للمفهوم هذا: الوشم، وفتح ملفّه المعتَّم عليه، ونزوع آخر يقابله ويوازيه إلى تسمية مكونات الوشم في تاريخه الطويل، تظهر الصيغة الشعبية ومن خلال الأمثلة الحية التي يسمّيها الخطيبي، ليس توسيع نطاق ما يسمى بـ( الثقافة العالمة)، وإنما إلغاء هذا الفصل بينها وبين الشعبية، وما يترتب على فعل الفصل من حراك ثقافي دلائلي مختلف، يبرز تأثيره في كينونة الخطيبي نفسه، ومن خلال الجانب الآخر الذي يهتم به وهو الأدب، وتحديداً الرواية ذات الصبغة الحداثية المنفتحة على دائرة اهتماماته الواسعة، كما الحال في روايته السيرذاتية( الذاكرة الموشومة)23، وكأن صمت الوشم وهو ظاهر للعيان، أو راس ٍٍعلى سطح الجلد، ينتظر فرصته للإدلاء بشهادته وهي كافية لإحداث تغيير مفصلي فيما يقع وراءه24.
كشوفات الوشم :
في البعد الجمعي دلالة، أي: الوشم، يظهر المعلوم: الاسم، اسم العلم تأكيداً لذات معرَّفة، كما يتبدى الوسم في الجوار أو عائداً إلى المعني: حركة خطية، علامة تحتفظ بقيمتها إلى جانب الاسم كما الوشم الذي قد يكون الاسم أو الوسم، ولكنه العريق في تكوينه لأنه لا يفارق الشخص بقدر ما يكون الشخص منتمياً إليه ومحسوباً عليه!
أن يكون الوشم بمثل الزخم الدلالي وفي الآن عينه منطوياً على فراغات تقلق الناظر في أمره، فلأن مناخاً سديمياً يغطّيه، نظراً لجانب المباشرة فيه، وكون المنطوي عليه يعزز تصورات لا يراد لها أن تصبح في واجهة اهتمامات الناس، كون الوشم الذي يندرج في حيّز الهامش أو المهمش، في نطاق الثقافة الشعبية، يصعد بالوعي المراتبي إلى أعلى مدى له، فما مرتَبَه( جعله مراتبياً) ليس هو الوشم ذاته، إنما من مارس فيه خلخلة وبلبلة مفهوم، لأن ليس من تاريخ موحد يعنيه، وليس في وسع أي كان أن يسمّيه داخل موقع ثقافي ويغلق عليه، لأنه يشغل الخاصة والعامة، كما رأينا، وما يقيّم باسمه نتاج تاريخ لاحق، كما لو أن الذي يعرَف بعلامة منه، يسميه كائنَ تاريخ، لا يعود في وسعه الخروج عن العلامة الوشمية التي انحصر داخلها، فثمة مسعى مكاني، ثمة تعريف آت أو صاعد من جهة الوشم يطبِق على من أخذ به، وهذا لا يلائم من يتوخى التجلي بسلطة جسدية واسعة، كأني به يريد أن يكون الفاعل الوشمي الخفي بمفرده، لا أن يكون أحد هؤلاء الموشومين بصيغة جمعية.
وأن يكون الوشم عائداً إلى أولئك المتميزين بسلوكيات غير منضبطة، فهو سعي إلى اختزال تاريخه، كون الوشم عاش تحولات مختلفة، وتقطعت به سبل التاريخ، وما صار يعرَف به جزَّأه مفهوماً، وأخرجه من التاريخ السائد!
في هذا الإطار يكون أي حديث عن الوشم بإطلاق إزاحة نوعية كاملة بمعنى ما عن سياقه الدلالي والوظيفي، بقدر ما أن الحديث عنه بنوع من التحديد الاختزالي تضييق للخناق عليه، كون الوشم يعوم على بحر مفتوح من الدلالات والاستكشات الرمزية ذات الصلة العميقة بالمجتمع وتوجهات إنسانه وتحفظاته: آلامه وآماله.
حديث عن الوشم يكون مصطحباً بتاريخ منشأته الاعتبارية، للجدوى منه، من يكون وراءه، من يكون الحامل له، من يروّج له، من يتحفظ عليه، من يشكل خصماً له سراً وعلانية، أو بأشكال مختلفة، ماذا يودَع رهانياً فيه.
وكمثال حول ذلك، لا يمكن القول بأن الرجل يتمتع باحتكار خاص للوشم عندما يُرى على ساعده أو ذراعه أو المفصل الكتفي، أو أعلى ظهره. إذ لكي يكون من بُنات التاريخ، لا بد أن يتحدد الرجل ذاته ومجتمعه ومهنته.
فالحاكم أو المتنفذ عندما يستعين بالوشم إحدى العلامات الفارقة له، لا بد أن يؤخَذ هنا بعين الاعتبار ما يلي:
دلالات الوشم، وإلام يرمي الوشم ومن كان الواشـــم، علــى الصعيـــد المعتـقدي والاجتماعي والرمزي، وهل هو وشم استثنائي، كما هو خاتم الملك أو الحاكم أو المتنفذ، حيث يكون حكراً عليه. إن الختم ذاته وشم مركَّب، يعود من جهة السلطة إلى مقام ما، وكلما تجلت السلطة نافذة الأثر برز الختم أكثر حرصاً عليه ومحمياً، وجاء المختوم حاملاً للأثر السلطوي ذاك، والوشم خاص هنا، لأنه علامة تمايز، قراءة بصرية لمن يجهل القراءة والكتابة، أشبه بالقانون الذي يعلم المحيطين به على أن ثمة ما ينبغي إدراكه وتفهمه، وربما كان خفياً، يصار إلى معاينته أو كشفه في حالات دون أخرى كما لو أنها البطاقة الذاتية التي لا يستطيع أيٌّ كان الطعن في مصداقيتها، رغم أن الممكن قوله هو إمكانية وقوع الشبه أو المحاكاة للتشويش على المتنفذ، والإيقاع به في حالة ما دون أخرى.
فالوشم الأعزل والمجرد من التوصيف عراء المعنى! كل وشم يتعزز بموقعه، باسم لا يُشَك في حقيقته الاجتماعية والسياسية كذلك، لتأتي الأمكنة الموزعة في الجسم، وبحسب العمر والجنس والمكانة والبيئة والثقافة، مداميك وظيفية يعلم بها حرفيو الوشم والمطَّلعون على أدق أسراره. فما يحتكَر فيه، وما يجري تخصيصه، أو ما يتم تعميمه وتعزيزه بنسَب معينة، يتبع حراكاً خطابياً متعدد الطيات، بقدر ما يسلّط الضوء على ما يجري اجتماعياً!
وفي الوسع الحديث عما أسمّيه بـ( التاتولوجيا: علم الوشم)، لأن ثمة وقائع حية موزعة، تستدعي تكثيف الجهود للوقوف على هذا المتحوّل تاريخياً، وكيف يشكل سلعة محمولة ومرئية متداولة بالمعنى الرمزي هنا وهناك.
وفي سياق التأريخ للوشم، جائز هذا القول الذي يؤصل للوشم كقيمة اجتماعية من خلال قائمة متداخلة ومعقدة في بعض الأحيان، من الشعائر والمعتقدات والمناسبات في مجريات الحياة اليومية لهذه الجماعة أو تلك، مثلما يؤصّل له كقيمة ذرية، أو انشطارية أكثر فأكثر كلما تقدمنا صعداً، فيختلف المودَع قيمة ودلالة فيه بحسب الأشخاص.
ومثال آخر، وفي مجتمعنا الراهن، يسهل رؤية نساء الغجر، حيث يشكلن نسبة عالية، ممن يضفين على الوشم جانباً من الهيبة وحتى الشعوذة والغموض، من خلال معيشهن اليومي، والجانب المهني أو الحرفي لهن.
في ظاهر الوجه، على الأيدي، وفي أماكن حساسة، يمكن متابعة حركية الوشم، إنما يدرك المعنيون بأمرهن، ماذا يعني الوشم باعتباره علامة خاصة، ممهورة بمسحة السحر الدارج واللافت، سحرهن الذي يتمتع ببعض النفوذ في الوسط الشعبي، وكأننا إزاء كهانة محوَّلة، في محاولة تسمية الغيبي، وقراءة الحظ: والبخت وغيرهما.
أما في الوسط المديني، فيكون تفرع لافت، إذ تتدخل الأمزجة والأهواء في الحيلولة أحياناً دون القبض على ميكانيزم الحركة الوشمية، أو آلية التعامل مع الوشم، إلا من خلال إحاطة أشمل وأعمق بالثقافة القائمة.
وهذا يذكّرنا بالفنانين: نجوم السينما، والرياضيين، ممكن يعتقدون أن اتكاء ما، على وشم يتم اصطفاؤه أو ابتداعه كفيل بإضفاء صفة تمايزية على أي منهم، فالنجومية تمثل التيار الأكثر صخباً في بلبلة مفهوم الوشم، لأن ثمة تصوراً مركباً يتركز على الوشم، من ذلك: وجود تلك القناعة الذاتية لدى الفنان النجم أو الرياضي الموشوم، على أنه بالفعل يختزن دفقاً كاريزمياً يعلي مقداره، وكون الوشم المعرَّف به يدخله في سباق الموضة، أو الاستعراض المفعَّل في أوساط شبابية أكثر من غيرها، ولأن ثمة رغبة تمايزية يجلوها الوشم وليس سواه.
إننا في الوضع السالف حتى الآن، يمكن لنا أن نضع الوشم باعتباره علامة ناطقة بتاريخها الثقافي والاجتماعي، وهو فاعل مرئي لا يهدأ، محل لعبة السرد في النص الحكائي أو القصصي. في السرد الحكائي- القصصي، ثمة غياب لعامل الإسناد، وهذا يحتّم وجود ذخيرة حية من ظلال التأويل وهي تلقي بثقلها على ما حولها، ليكون الغموض جلاباً للهيبة، وضرورة وجود مسافة فاصلة بين الموشوم ومن ينظر في أمره، ليكون الجسد بمثابة النص الذي لا أحد يستطيع تحديد ملكيته، إنه النص: اللوح العائم على سطح مائي، ربما أوقيانوسي يتداخل فيه أفقه بالغائر باسمه، بينما الوشم فهو المدون المجهول الاسم فيه وإن كان في الإمكان معاينة الجهات التي أبدعت فيه إنما راهناً قبل كل شيء، ولعل هذا التذبذب في المعنى واللا استقرار المنوّه بشأنه هو الذي يغري من به رغبة في البروز أو النجومية، أو حتى في التعريف الذاتي والمضخم بالذات، على استثماره بمقاييس غير منضبطة.
ومن يمعن النظر في مجتمعات اليوم وعلى أعلى مستوى، يكاد يصعقه النظر أحياناً وهو يصطدم بوجود أشخاص، يختلط اللباس فيهم بالوشم، لأن ثمة كساء وشمياً كاملاً أو يكاد يغطي هذا الجسم أو ذاك، إنه المشهد الممكن تسميته بـ: الكولاج ، إذ الصورة تشترك مع الكلمة، مع جماع خطوط، مع إشارات، جسد هيروغليفي أو لوح جلدي متعرج، كما هو المشهد التضاريسي يفصح عن مدى حصول الانزياح الدلالي في الوشم، حيث يصعب استمرار النظر كي لا يعتبَر ذلك تعدياً على الموشوم وإقلاقاً لراحته فيما اختاره لنفسه: لجسمه، لعله حضور آخر لرفض صامت إنما هادر في العمق على ما يجري من حوله، لأن وشمه المطلسم، ربما، يكون لسان حاله فقط25!
الهوامش
1ـ انظر حول ذلك، ملف( الجسد) في مجلة ( عالم الفكر) الكويتية، العدد 4 أبريل- يونيو، 2009، وكذلك، إبراهيم محمود: وإنما أجسادنا: ديالكتيك الجسد والجليد» دراسات مقاربة»، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2007..
2ـ ليبس، يوليوس: بدايات الثقافة الإنسانية» في أصل الأشياء»، ترجمة: كامل اسماعيل، وزارة الثقافة السورية، دمشق،1988/ ص42- 43..
3ـ لوبروتون، دافيد: انتروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة: محمد عرب صاصيلا، المؤسسة الجامعية، بيروت، ط2/1997، انظر مثلاً الفصل الخامس منه، وكذلك العاشر... الخ.
4ـ فياض، منى: فخ الجسد: تجليات- نزوات وأسرار، منشورات شركة رياض الريس، بيروت، ط1/2000..
5ـ هذه الأمثلة مستلة من مواقع انترنتية كثيرة، يسهل الرجوع إليها، بمجرد كتابة( الوشم- تاريخ الوشم) غوغلياً.
6ـ كلاستر، بيار: مجتمع اللادولة، تعريب وتقديم د. محمد حسين دكروب، المؤسسة الجامعية، بيروت، ط2/1982، ص180.
7ـ المصدر نفسه، ص 181.
8ـ دريدا، جاك: في علم الكتابة، ترجمة وتقديم: أنور مغيث- منى طلبة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2005، ص 302.
9ـ ديكسون: عرب الصحراء، الترجمة: قسم الترجمة في دار الفكر، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1/1996، ص147.
10ـ المصدر نفسه، ص148.
11ـ الخطيبي، عبدالكبير: الاسم العربي الجريح، ترجمة: محمد بنيس، دار العودة، بيروت، ط1/1980، ص55.
12ـ فرويد، سيغموند: الطوطم والتابو، ترجمة: بوعلي ياسين، دار الحوار، اللاذقية، ط1/1983، ص24-41.
13ـ جيرار، رينيه: العنف والمقدس، ترجمة: جهاد هواش- عبدالهادي عباس، دار الحصاد، دمشق، ط1/1992، ص280.
14ـ فرويد، سيغموند: في مصدره المذكور، ص41.
15ـ الخطيبي، عبدالكبير: المصدر المذكور ، ص51.
16ـ المصدر نفسه، ص52.
17ـ لا أدري إلى أي درجة يكون الاستشهاد دقيقاً، بما أورده جاك دريدا حول دلالة الوشم، في مشهد طريف، يقوم على خلفية الحديث في اللغة التي لا تكون لغته وهو يتحدث كما يُعرَف بها، أي سر يحمله هو نفسه كمتحدث بها، وهو إلى زوال، والمشهد يتمثل في إشارته إلى فيلم ياباني يُري رجلاً يكون فناناً ووشاماً، يشِم ظهر زوجته غارزاً في ظهرها رأس ريشته الجارحة، وهي تتألم، في الوقت الذي يمارس معها الجنس. هنا نعثر على أثر لذلك الزوج الفنان، أثر داخلي يعنيه، بينما أثره الخارجي على ظهرها، فهو مؤقت، إن ما نقشه باعتباره وشماً يغدو تحفة، لكنها باعتبارها ذاكرة لن تدوم، مثلما لا تُرى من قبل المرأة، بما أن الوشم: الذاكرة على الظهر، وفي الوقت ذاته، تكون المرأة وحدها معنية بالتحفة تلك، وهذه تمضي معها، باعتبارها سرها في الموت..
- يُنظَر حول ذلك كتاب جاك دريدا: أحادية لغة الآخر أو ترميم الأصل، ترجمة: عزيز توما- إبراهيم محمود، دار الحوار، اللاذقية، ط1/2009، ص 68، وانظر تعليقي على هذا المشهد في الصفحة167-169..
18ـ الخطيبي، عبدالكبير: في مصدره المذكور، ص52.
19ـ للمزيد من المعلومات حول لغزانية العلامة القابيلية، ينظَر في كتاب جيمس فريزر: الفولكلور في العهد القديم( التوراة)، ترجمة د. نبيلة إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، ط2/ 1982، الجزء الأول، الفصل الثالث: علامة قابيل، ص 137-158.
20ـ لمعرفة المزيد من المعلومات حول هذا الجانب، يمكن مراجعة ملف( المغاربة والوشم)، في الموقع الالكتروني ( المغربية)، 2-12/2006، وهو ملف مثير يتناول جوانب حياتية مختلفة مغربياً..
21ـ الخطيبي، عبدالكبير: في مصدره المذكور، ص57.
وما ينوَّه إليه، هو الوارد في الهامش» 18» والمتعلق بمصدر له صلة بموضوعة الخطيبي، وفي الصفحة87، عندما توضع الكتابة التصويرية مقابلIdéographie، من قبل المترجم، ويرى أنها كتابة بالكلمات، ليقول عنها تتميز عن المرسوم La pictographie، وهذا ليس دقيقاً كما أظن، رغم التأكيد على دقة الترجمة عند محمد بنيس، لأن الأولى تحيلنا على المثال، الصُّوري، بينما الثانية فتحيلنا على التصويري المرئي، كما هو المعروف عن الصورة بالمقابل، لهذا يكون تغيير في موقعي العبارتين، أي يكون الوشم عائداً إلى منطقة النزاع بين الكتابة التصويرية La pictographie، وتلك الرمزيةidéographie. للتوضيح، انظر حول ذلك ما ورد في كتاب دريدا: الغراماتولوجيا: في علم الكتابة،ص69، وحول توضيح المترجم، ص14..
22ـ لمصدر نفسه، ص84.
23ـ الخطيبي، عبدالكبير: الذاكرة الموشومة، ترجمة: بطرس الحلاق، المؤسسة العربية، بيروت،ط1/1984، حيث إن تقديمه للرواية ينطوي على كم كبير من هيبة الوشميات، كما لو أنه أراد أن يعرّف بنفسه جسداً متخماً بالبياض الطافح، وأن البياض هذا فائض بالوشم، لتكون اللغة في المرتبة الثانية، ليكون الوشم صوت الكاتب الملون والذي يجمع بين السمعي والبصري، وهو يتحدث بلغة شاعرية( للفنان ما يخوله أن ينقش على أكواب المنادمة هياكل عظمية راقصة... ص7)، وما يقوله بلسان راويته عن طفولته وكيف تمت تسميته( هكذا وسم الشيخ طفولتي سمة مزدوجة بالاسم وبالختان. ص8)، إذ يشير إلى دلالة( عبد- الكبير، والبعد التضحوي فيه).
و( لا تدنس هيبة مقدس اللغة، إلا إذا أودعتها قسماً من ذاتك- تقدمة مأثورة موشومة: هذا الكتاب.ص10)...
24ـ للمزيد من المعلومات المتعلقة بكتاب الخطيبي السالف الذكر، انظر كتابي: الشبق المحرم» أنطولوجيا النصوص الممنوعة»، منشورات شركة رياض الريس، بيروت،ط1/ 2002، ص 92-391-429..
25ـ لا يحتاج المقدم والموصوف إلى توثيق، حسب الزائر في أي مدينة أوربية أن يلاحظ مثل هذا التنوع والتنويع، كما لاحظت ذلك في أكثر من بلد أوربي، لا بل وفي مدننا حيث بات الوشم الكلياني مألوفاً، إنما في سياق مغاير تماماً، عما هو الحال عليه في المجتمعات الأوربية، في المفهوم الثقافي والاجتماعي والنفسي...!