فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
7

الثأر فولكلوريًّا

العدد 7 - عادات وتقاليد
الثأر  فولكلوريًّا

من الصعوبة أن نحدد الزمن التاريخي لنظام الثأر في المجتمع المصري قديمه وحديثه فلم يسرد لنا التاريخ الفرعوني أنباء عن الظاهرة، وهل كانت عهد قدماء المصريين جرائم قتل بدافع الثأر حتى أصبح يمثل شكلاً اجتماعيًّا يعترف به المجتمع أو أحد قطاعاته؟!.. فقد أمدت أوراق البردي كثيراً عن أهم نواحي الحياة الاجتماعية عند قدماء المصريين، إلا أننا لم نستطع أن نستدل بشكل قاطع على وجود أو عدم وجود الثأر، وإنما كانت حالات القتل ترتكب بدوافع أخرى مختلفة تماماً، أهمها الفقر الذي كان يدفع إلى انتهاك حرمة المعابد، ونبش المقابر بأنواعها.

وقد خضعت مصر لأنواع مختلفة من الحكم الأجنبي، حتى فتحها العرب وإن كانت مصر قد احتفظت بكثير من نظمها الاجتماعية الأصلية وعاداتها وتقاليدها، وبذلك لم تندثر المؤثرات الأجنبية الدخيلة.

ولكن هذا لم يحدث بعد الفتح العربي وبعد انتشار الإسلام، وبالتالي بعد اندماج العرب بالمصريين، وهذا لم يحدث قبل الفتح العربي، أي في عهود الحكم الأجنبي المختلفة.

وكانت نتيجة اندماج العرب بالمصريين أن اكتسب المصريون كثيراً من عاداتهم وتقاليدهم ومنها عادة ممارسة القتل بدافع الأخذ بالثار، وهى عادة أصلية عند العرب كانوا يمارسونها في جاهليتهم، وظلت حتى بعد عصر الإسلام الذي لم يستطع في الواقع القضاء عليه، رغم موقف الإسلام من القتل للثار. وهذا يرجع إلى ارتباطه كنظام اجتماعى قبلي يقوم أساساً على التعصب للأهل والعشيرة والقبيلة، هذا ما نراه في المجتمع المصري الريفي بالذات، فهو له نظامه وقوانينه الصارمة التي بدأ يظهر فيها تغير تدريجي سوف نلحظه في صفحات قادمة.

ولكن الذي نؤكده الآن أن ظاهرة الأخذ بالثأر لا نستطيع أن نجزم أنها ظاهرة بدأت منذ عهد قدماء المصريين، تأخذ شكلاً ووضعاً اجتماعيًّا يعترف به المجتمع، أم أن العرب واندماجهم بالمصريين أكسبوهم هذه الظاهرة أوالعادة، وهي أصلية في جاهليتهم تمسكوا بها أيضاً بعد عصر الإسلام قد غير الإسلام من عادتهم السيئة التي كانت علماً واضحاً يشتهر به عصر جاهليتهم.

إن الاحتمال السائد والواقعى ـ دون أن نجزم ـ قد أخذ هذه الظاهرة أوالعادة من العرب، وهو ما نراه الآن سائداً في مجتمع الريف المصري وبالأخص في أقاصي الصعيد، وفي مجتمعات القبائل العربية، فإن الثأر في مجتمع الريف المصري ومجتمعات القبائل العربية له دستور غير مكتوب، وعرف سائد معترف به، وشريعة ابتدعها إنسان هذا المجتمع وأقرها دون رجوع إلى حكمة الدين وشريعة الله.

لقد كان العرب يعتقدون أن روح الميت تبدأ في قبرها، وتظل معذبة وتائهة، تنادي الأخذ بالثار، ولا يهدأ لها حال حتى يؤخذ بثأرها.

نلاحظ في قرية مصرية ، وبخاصة قرى الصعيد أن الأصل التاريخي، والاجتماعي لها، ينحدر من صلب رجل واحد، ثم ما لبث أن تزوج، وأنجب أولاده من بعده أحفاداً ، ثم أحفاد الأحفاد حتى كون ما يشبه القبيلة التي تسكن هذه القرية أو تلك، ثم تتفرع من هذه القبيلة التي تحمل اسمه بصفته المؤسس الأول لها عدة أفرع، كل فرع يكون عائلة أوما نطلق عليه البيوت وكل بيت ينتمي إلى بدنة، والبدنة تتكون من عدة بيوت أو عائلات، والبيت أو العائلة يتكون من عدة أسر ـ والأسرة تتكون من الأب ـ والأم والأولاد.. وفي أحيان كثيرة تتكون القرية من عدد من القبائل أو العائلات التي لا تربطها القرابة .

ومنطقة بحث ظاهرة الثأر في قرية الصوامعة شرق التابعة إداريًّا إلى مركز أخميم بمحافظة سوهاج، مثلها مثل كل قرية في الصعيد، حينما ندرس مؤسسها الأول وسبب تسميتها وما تلا ذلك من تطور اجتماعي في شكل بدنات أوعائلات كبيرة وهو الاسم البديل لكلمة بدنة، هذه البدنة أوالعائلة الكبيرة جمع مؤسسها أفراد عائلته في مكان محدد يطلق عليه الزمام، ويبني بمساعدتهم، ومن بعده مساكن لهم يسكنون بها بجوار أرضهم الزراعية، وقد أعطى وجودهم في زمام واحد، القوة والمنعة ضد معتد يسعى إلى الاعتداء عليهم والسطو على أرزاقهم، وقد تضعف هذه المنعة حينما ينتقل أفراد منها، يسكنون خارج زمامهم، أو حينما يبيع أفراد منها أرضاً كانت لهم، ورثوها عن الآباء، والأجداد، فتصبح هذه البدنة في مركز ضعيف يتيح للبدنة الأكثر قوة ومنعة ووحدة الفرصة في الاعتداء عليها، وهذا ماكان يحدث، بداية لارتكاب جرائم الانتقام ورد الفعل بالفعل  وهو مانسميه بظاهرة الثأر، التي تفشت في حقيقة الأمر بين جماعات أو بدنات هم في الأصل ينتمون إلى أب واحد.

وقد تفشت ظاهرة الأخذ بالثأر في قرية الصوامعة شرق، شأنها شأن كل قرى الصعيد وهي تتشابه معها في النفوس، وتدمير لكل قيمة نافعة.

والذي يحرك هذه الظاهرة ـ في رأيي ـ هو الإحساس بالعار والمعايرة والشماتة من قبل جماعة أو أفراد غير مسئولين ، فيصبح الثأر في نظرهم هو دستورهم وطريقتهم لرد الاعتبار، والكرامة، و((رفع الراس)) ومن غيرة عليهم أن يلبسوا – ((الطرح)) ويعيشوا حياة ((الحريم)) .

 

ظاهرة البحث ، أسبابها ، وقانونها من خلال رؤية ميدانية :

كان لكل عائلة ((كبير)) مسموع الكلمة، يهابه الصغير، ويحترمه الكبير وكان بدوره أهلاً لكي يكون كبيراً لعائلته، فيجب أن يكون  صاحب ثروة وأراضٍ زراعية تعد بعشرات الأفدنة، صاحب حق وعدل لا يفرق بين الآخرين حينما يكون حكماً، يعطي كل ذي حق حقه، وبالتالي يحافظ على هيبة العائلة، ومركزها الاجتماعي بين العائلات . 

وكانت تنشب معارك بين العائلات، قد تستمر ساعات وسلاحها المستخدم.. التشابك بالأيدي، والألفاظ النابية أو استخدام ((الشومة)) أو القذف بالطوب من أعلى أسطح المنازل وتنتهي المعركة فور ظهور ((أكابر)) العائلات وهم يطلبون من المتعاركين إنهاء معركتهم، واللافت للنظر أن هؤلاء ((الأكابر)) يدخلون أرض المعركة، ولا يجرأ أحد على إصابتهم بسوء وكان لا ينفض نهارهم أو ليلهم إلا وهم في ود وسلام .

وكان في القرية لصوص، يعرفون بالاسم، وهوعادة من فقراء العائلات، يسرقون الزرع أو الماشية، أو ينقبون البيوت لسرقة ما قد يحصلون عليه، وما دام اللص لم يقبض عليه، يظل طليقاً رغم معرفتهم به، وإذا قبض عليه ووصل إلى العمدة الذي كان حاكمها المطلق، ينال الأذى الكبير، والمهانة التي تحرمه ألا يعود الى السرقة مرة أخرى، ومن هذه المهانات.. حلق شاربه وهي أقسى الإهانات التي تلحق به، أو يؤمر بركوب حمار على أن يكون وجهه لذيل الحمار، وخلفه الأطفال، يصيحون فيه بعبارات الإهانة والمذلة – ولا تستطيع عائلة اللص أن تدافع عنه، وتعتبر فعله فعلاً فاضحاً، البراءة منه واجبة .

كما أوضحت منذ قليل فإن القرية – قرية الصوامعة شرق محل الدراسة كانت تعيش في هدوء تام، ومنذ أربعين عاماً حدثت جريمة أخذ بالثأر، لذا أستطيع أن أكون شاهد عيان أو راوياً لما حدث بها من أحداث بصفتى ابناً من أبنائها، على اتصال دائم بأهلها، ولكني فضلت أن أشرك معي واقعية لهذه الظاهرة، بعد أن أخذوا مني وعداً بألاّ أذكر أسماءهم لو كتبت عن هذه الظاهرة .

ففي قرية الصوامعة شرق وقع حادث قتل كان له أثره السيئ على واقع الحياة اليومية في القرية، وبالتحديد، أثره السيئ على أسرتين هما طرفا الحادث، يتجاوران في السكن، وفي ملكية أرض زراعية ..... شدنى إلى معرفة تفاصيل عنه، والناس عادة في مثل هذه الأمور قليلو الكلام، يترددون في مناقشتها. فالحديث عن أهل القتيل وأهل القاتل قد يأتي بنتائج عكسية، وقد يصبح مردد الأخبار صادقاً  كان أم كاذباً، طرفاً، وبالتالي فإن عائلته قد تصبح أيضاً – طرفاً إذا اشترك مع أهل أحد الطرفين، وأحد أهل الطرفين قد يجد في مردد الأخبار تدخلاً لا يرضاه، وقد يبدأ بالعتاب وينتهى بجريمة أخرى. ويصبح الطرفان ثلاثة، لذا، نجد الناس يبتعدون عن ترديد أخبار المتخاصمين إلا في نطاق ضيق، في إطار الأسرة الواحدة أو بين الأصدقاء. وكل من أهل القرية يسلك طريقه في معترك حياته غير مبال بما حوله من مشاحنات، أصبحت غير مقبولة، وعادة أو ((ظاهرة))، ما زال لها وجود في مجتمع قروي في حالة تطور مادي تشغله الصراعات المادية... هل هذه الظاهرة، تقف – أمام التغير دون أن يتصدى لها أحد؟... ومن يتصدى لها؟ القانون... أم الناس؟

لم أجد صعوبة – بوصفي من أبناء القرية – في جمع معلومات عن الحادث وحوادث أخرى كثيرة، حدثت قبل ذلك بسنوات، ما زال تأثيرها باقياً إلى الآن، لها جذور لم تخلع بعد ولكنها جذور بدأت في التآكل بفعل عامل الزمن، ورحيل من كانوا ينتمون إلى عصور الثار القديم.

لم أجد أي حرج في التحدث مع من أعرفه، وبالتالي لم يجدوا معى هذا الحرج إلا في أمر واحد حينما طلبت أن أسجل هذه المعلومات. الكل يرفض بإصرار شديد، ومن غير تفاهم ولهم حجة قوية في ذلك بأننا نتناول موضوعاً خطيراً يمس الآخرين، هؤلاء الآخرون أحياء بيننا، لدرجة أن أحدهم كلمني بلهجة قاسية، واتهمني بإثارة فتنة، أو ما حاولت أن أعرف الأسباب الحقيقية التي لا تخرج عن كونها أسباباً مادية واهية، لو وجدت العاقل الواعي لأبقاها في حكم المنتهي.

لم يخبرني أحد عن حادث واحد سببه الدفاع عن الشرف أو ما يسمى بغسل العار، لأنه في مثل هذه الأمور تكون المرأة هي الضحية الوحيدة التي قيل عنها في شرفها ولو ادعاء ... مجرد أي إشاعة تؤدي بها إلى القتل من قبل أهلها، وينتهي الحادث إلى الأبد أي يموت وحده كما وصف الموقف أحد الرواة لأن العرف هنا يقر بأحقية أهل ((المرأة برفع الرأس)) .. لأنهم أنهوا على من أرادت أن تلوث شرف ((العيلة)) وهيبتها.

ولم يكن حادثاً بسبب علاقة حب مثلاً، أو شاب تسبب في حادث رفض من قبل أهل العروس، أو ابن عم تسبب في حادث أيضاً لأن العم أو بنت العم رفضته. وإنما حوادث الثأر في معظمها كانت نتيجة خلافات مادية، وقلما تكون هذه الماديات ذات قيمة كبيرة تحتم على صاحبها الصراع من أجل الفوز بها، أو يكون متمسكاً به، غير عابئ بما حدث نتيجة هذا التمسك الشديد، فكل شيء ممكن الوصول فيه الى حل مرضٍ، لكن التسرع والتهور وسب الوالدين والمسك بالأيدي، واستخدام العصا، كلها وسائل ساعدت على استخدام السلاح القاتل .. ويرجع ذلك –أيضاً– إلى أسباب أخرى منها ظهور قطاع الطرق من بين أفراد الأسر الفقيرة من سارقي الزرع والماشية، وتهديد بخطف أولاد الأغنياء من أجل الفوز بفدية حتى ولو كانت قيمتها صغيرة.

ذن هناك أسباب تؤدي في النهاية إلى جريمة القتل، ثم الثار، والتي بسببها عاشت القرية فترة عصيبة من حياتها، ما زالت تعاني حتى اليوم، من هذه الأسباب، كما تحدثت عنها بعض الرواة من القرية هي:

- خلاف بين المزارعين حول من يروي زرعه أولاً.

- مزارع سد الماء عن جاره دون وجه حق ليعطي زرعه كفاية من الماء.

- ماشية الجار أكلت من الزرع المجاور.

- تبادل الاتهامات في سرقة محصول الأرض وسرقة الماشية والطيور.

- المنافسة على السلطة والنفوذ في حكم القرية فيما يتصل بالعمودية والخفراء ومشايخ الحصص.

- خلافات في إيجار الأرض الزراعية وعدم تسديد قيمة الإيجار في الموعد المحدد.

- حدوث مشاجرة بين الأطفال أو بين الزوجات.

- مزاح ينقلب إلى جد وهو أمر نادر حدوث تطوره إلى معركة تنتهي إلى القتل.

- فروق في البيع والشراء حتى ولو كانت هذه الفروق صغيرة.

وقد حدثت معركة بين رجلين من عائلتين بسبب (مية فضة) أي خمسة وعشرين مليماً، أدت إلى حادث قتل من أحد الطرفين خلاف الإصابات الخطيرة التي أدت إلى وفاة أكثر من شخص فيما بعد الحادث، وكان عدد القتلى والجرحى في إحدى العائلتين أكثر من العائلة الأخرى مما تطلب الأخذ بالثار من هذه العائلة حتى يتساوى الطرفان وكان من نتيجة ذلك دام الصراع بينهما الذي هو أشبه بحرب العصابات أكثر من عشر سنوات، قتل وجرح من العائلتين أكثر من أربعين شخصاً، ولم يتم الصلح بينهما حتى تساوت الكفتان وهو ما يعرف ((بقانون الثأر)) وبعد أن خربت بيوت، ودمرت مزارع، وقد حدث في فترات كثيرة أن أصبح الرجال في البيوت والنساء في الحقول، تزرع وتجمع المحصول في الوقت الذي كانت فيه المرأة حبيسة البيت، لاتخرج منه قط إلا لزيارة أهلها، أو أداء واجب فرح أو عزاء أو تنتقل إلى الرفيق الأعلى.

وتلعب المرأة دوراً هامًّا في عملية الثأر، فإن من يقتل إما زوجا لها، أو ابنا، أو أخا أو والدها، وصلة الرحم قوية بين المرأة وهؤلاء، لذلك نجدها المحرض الرئيسي للأخذ بالثأر، فلا تحزن ولاتلبس السواد عليه إلا بعد أن يؤخذ لها بثأره، هنا تكون الفرحة برد الاعتبار. ثم الحزن عليه إلا بعد أن يوخذ لها بثأره، . وتقبل العزاء كما يفعل الرجال حينما يرفضون تقبل العزاء إلا بعد أن ينتقموا من العائلة التي قتلت واحداً منهم.

والأمر اللافت للنظر أن المرأة التي يقتل قريب لها، في الوقت الذي تكون فيه متزوجة في العائلة التي قتلت، يخيرونها، إما أن تظل معهم أو ترحل إلى أهلها معززة.

اللافت للنظر أيضاً – وكثيراً ما يحدث – أنها تفضل البقاء مع زوجها، خاصة حينما تكون مرتبطة معه بأولاد، فيستجيبون إلى رغبتها، مع الحذر الشديد منها فلا يتحدثون أمامها في أمر يتعلق بأخذ الثأر من أهلها. 

كانت هذه المعركة – والمعلومة للرواة الذين كانوا يتحدثون معي، ومعلوماتي عنها منذ فترة طويلة – بداية لتحكم عادة الثأر في هذه القرية.

وقد جذب انتباهي موقف غريب وشاذ لأحد الآباء. فقد قتل ولد له في هذه المعركة, فأقسم أن يشرب من دم قاتل ولده – وكان هذا الوالد معروفاً بالغلظة والجفاء وقسوة القلب، ولكن أن يشرب من دم إنسان كنوع من التشفي فهذه هي الوحشية بعينها، والجاهلية في جبروتها، وقد أكد لى أكثر من راوٍ أن هذا الوالد قد شرب من دم قاتل ولده فعلاً. 

هذه المعركة حدثت خلال عام 1949 – وقد استمرت أكثر من عشر سنوات حتى تم الصلح بين الطرفين، ومن تاريخ الصلح وحتى الآن حدث كثير من المعارك بين العائلات انتهت بعضها بالقتل وبالتالي الأخذ بالثأر.

في بداية الأمر، لم يشترط أن يقتل القاتل مباحاً للطرفين مع دمار البيوت وخرابها، ثم بدا هذا الدم المباح يسيل في نطاق ضيق، بدا يسيل مع الحكمة التي تقول ((من قتل يقتل)) إلا أنها لم تطبق كما أرادها الناس، إلا مع تطور المجتمع، فمثلاً، القاتل، إما أن يقتل هو، أو يقتل أخ له، أو ابن له، أو أحد من أسرته الصغيرة وهو الاتجاه الذي أصبح سائداً الآن، وهو تفكير اقتصادي بحت، ومن أجل حقن دماء الأبرياء، وليس تفكيراً دينيًّا، لأن الآخذ بالثأر لا يفكر في أمور دينية، بقدر تفكيره في أمور دنيوية، حتى لا يكون مطارداً بالمعايرة من قبل الآخرين من أهل القرية.

وأقصد بالتفكير الاقتصادي أو المادي، عرف بدأ يسود وهو أن من يقتل يتحمل وحده نتائج فعله، فمن يقتل عليه أن ينتظر من الطرف الآخر أن يقتله أو يقتل من أسرته فحسب، ولكن عليه أن يتحمل نتيجة فعله في القضايا، وشراء المزيد من السلاح، فهو بالضرورة يحمي نفسه، هذه الحماية لها ثمنها الفادح مع بيع الأرض وكساد التجارة.

والحادث الذي نحن بصدده أسبابه جد واهية.. 

أسرتان متجاورتان من عائلتين مختلفتين، صلتهما صلة الجيرة الطيبة، ولأتفه سبب انقلبت إلى جيرة حائرة.  

تخطت ماشية إحدى الأسرتين، وداست على زرع الأسرة الأخرى، وأكلت منه، صاحب الزرع سب صاحب الماشية، خرجت النسوة, يتقاذفن بالسباب، تدخل الرجال، تشابكوا بالأيدي، ثم العصي، إحدى الأسرتين تغلبت على الأخرى، واحد من هذه الأسرة المغلوبة دخل وأحضر بندقية، وأطلق عياراً في الهواء، تهديداً للأسرة الأخرى.. شاب تقدم اليه بعجرفة شديدة، يريد أخذ البندقية، الرجل لا يريد أن يقتله، يحذره، يهدده، الشاب تقدم إليه بجسارة الجاهلية، الرجل يطلق عليه عدة طلقات على جانبيه وفوق رأسه، وتحت قدميه حتى يرتدع، الشاب لا يهاب التهديد وأوشك أن يصل إلى الرجل الذي لم يجد بدًّا من إصابته، فجاءته في مقتل. 

قتل الشاب تحت سمع وبصر الناس من كلا العائلتين، وآخرين من العائلات الأخرى هم يدركون تماماً أن الرجل لم يخطئ، لقد كان ما حدث منه دفاعاً عن النفس، كل خطأ الرجل أنه أحضر بندقية. وآخرون يدافعون عنه ويقولون إنه مدفوع لحماية نفسه وأقربائه من غطرسة هؤلاء وتعمدهم النيل منهم من أجل عدة خراف، أكلت من زرعهم، السبب كان واهياً، ولكن الذي حدث فقد حدث. 

تفرق الناس، دخل كل إلى بيته، تدخلت الشرطة، وقبضت على من نسب إليه تهمة القتل، وحولته الى المحاكمة لينال القصاص العادل، وبقى قصاص العادة، العرف المتبع، تجنب العار، الثأر، لا بد من الثأر حتى وإن كان القاتل مظلوماً، قتل دفاعاً عن نفسه، العرف، العادة لا تعترف به ... الناس، ليسوا هم من كانوا يعيشون في الماضي، فقد تغير المجتمع، وأصبح في كل بيت موظف، يحمل شهادة جامعية أو متوسطة والصغار كلهم في مدارس، ووسائل الحياة المعيشية الحديثة، حتى ((الفيديو)) أصبح له وجود في القرية، ومشاهدة الأفلام المعيبة في المقاهي البعيدة عن الأعين.

وفي المقابل، بدأ التيار الدينى في المهد، وإن كان قد أصبح له وجود، بفضل شباب متعلم، هداه الله إلى التقويم والإصلاح والتنبيه والتحذير.. أما عادة ((الثار)) هل وجدت من يقاومها ويحاربها؟  

هذه العادة، لم يستطع أعقل العقلاء في القرية، بحكمة الدين وعقلانية العقل أن يؤثروا حتى في التخفيف من شدة الالتزام بهذه العادة، وإن كان قد خفف من غلوائها ليس بحكمة الدين فحسب، ولكن بتاثير اقتصادي واجتماعي.

إن الطموح الاقتصادي، والتغيير الاجتماعي الذي أحدث زعزعة في فكر الناس، وتطلعات إلى تحديث أنفسهم وأوضاعهم بما ملكت أيديهم من أموال جلبوها من أسفارهم، وأعمالهم في دول عربية، حتى انقلبت بعض الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، فأصبح من لا يملك المال يملكه، وأصبح من كان يملك المال لا يملكه، هذه الأوضاع المستحدثة، كان لابد لها من تاثير على هذه العادة إيجاباً ولو ببطء شديد، جعلت في فكر الناس وعياً يترسخ، وبحسابات مادية بحتة، تطلعوا إلى تعميق الحكمة التي تقول ((من قتل يقتل)) أي يصبح مفهوماً محصوراً بين القاتل وأهل القتيل ولا دخل لأحد بينهما، فإن شاءوا تركوا القاتل وهو أمر في حدوثه استحالة، أو يتريثوا حتى تتاح الفرصة لهم للنيل منه.

نحاول معرفة تطور حادثة الثأر السابقة... مع سؤالنا للرواة الذين رفضوا تسجيل أسمائهم، والذين يبدون رأياً في عادة الثأر، يقولون... إن تطبيق الحكمة التي تقول ((من قتل يقتل)) صعب تنفيذها. وإن أبعدت عنها معنى الاستحالة فالرغبة الملحة في تحقيق مضمونها الإيجابى له وجود عند كل الناس.

حاول أهل القتيل في بادئ الأمر أن يقتلوا أحد الأشخاص من أقرباء القاتل، وتكررت هذه المحاولة أكثر من مرة، وفي كل مرة يفشلون رغم سكن الرجل في طرف من أطراف القرية، لقد كان هذا الرجل حذراً كل الحذر فهو يعلم أنه المقصود لانفراده بالسكن بعيداً عن أهله وعائلته.

ورغم الحذر الذي كان بين العائلتين، وشرائهما أحدث الأسلحة أكثر من مرة حينما كانت الشرطة تهاجمهما في بيوتهما، وتصادر السلاح، وتوقعهما في مخالفات قانونية فإن محاولات أهل القتيل فشلت في كل محاولة تسربت الأخبار من عقر ديارهم تقول إن اتجاههم أصبح محدداً في شخص القاتل نفسه، ولا ذنب للآخرين، ولا ذنب لمن يسكن في طرف من أطراف القرية، فهو أصلاً – لم يكن في القرية ساعة حدوث القتل. 

لكن الحذر، ما زال له وجود بين الطرفين رغم أن الاتجاه الصحيح باتوا ينوون مسلكه، لكي تبدأ مرحلة متقدمة في تطور العادة، وتعميق الحكمة التي تقول ((من قتل يقتل)) نصًّا وروحاً، ويصبح القاتل ملزماً بدفع دمه نتيجة ما جنت يداه.

سألت محدثي.. هل يأتي اليوم الذي يترك فيه القصاص لسلطة القانون؟. . .  أجاب محدثي: كثير من العادات تغيرت، ولم يصبح لها وجود أمام التقدم العلمي ونضوج الفكر، ولكن عادة الثأر من العادات التي لا تمحي، كما محيت غيرها من العادات، ما دام هناك تكفل عائلي، وقد تجد فرقاً واضحاً بين الفرد الذي يعيش في القرية في كنف عائلته الكبيرة، وبين الفرد الذي يعيش في المدن الكبيرة، فإنك تلاحظ أن الساكن في المدن لا يكاد يتعرف على الحد الفاصل بين المنازعات أيًّا كان نوعها، بينما نرى أن قانون العرف- فيما يتصل بالثأر– هو الذي ما زال سائداً في القرية مهما كانت سطوة قانون السلطةأوالحكومة.

                 

المعتقد في شبح القتيل ...  :

من المعتقدات في هذه المنطقة – الصوامعة شرق – أن لكل مقتول عفريتاً يظهر في شكله وهندامه، يشبهه كل الشبه، ولا يختلف عنه إلا في حمرة عينه كما جمرتين من نار، وهذا ينقلنا من العادة إلى الاعتقاد. 

حكى لي شاب في الثلاثين من عمره الحكاية التالية، وقد طلب عدم ذكر اسمه، متخرج من إحدى المعاهد المتوسطة، يعمل في إحدى المصالح التابعة لوزارة الزراعة، طلب مني – أيضاً– أذا كتبت في هذا الحادث عدم ذكر الأسماء الحقيقية.

وبطل هذه الحكاية، أو الحادث، شاب في مثل سنه، حصل على دبلوم صنايع, مشهور بالغلظة والجفاء، اتهم بعدة سرقات، قتل إنهاء لهذا الحادث الذي استمر بضع سنين بين عائلتين في القرية.     وقصة هذا الحادث من أولها تبدأ بمقتل عمه حينما كان يحرس ((جرن القمح)) وسرق منه خمسمائة جنيه .. أشارت أصابع الاتهام إلى هذا الشاب، فغضب عليه والده أشد الغضب، إذ كيف يقتل عمه من أجل سرقة مبلغ من المال، فأطلق عليه عيارين من بندقيته دون أن يصيبه، هرب الشاب من أمامه واختفي عنه، وهو بريء من هذا الاتهام، غير مصدق أنه متهم بقتل عمه ... ولما كان الحادث بالليل فلم يعلم عنه أحد من أهل القرية إلا في الصباح.

للمقتول قريبة لا تنجب، قيل لها أنها لو ((خطت)) مقتولاً سوف تحمل، قامت بما وصف لها، وخطت قريبها المقتول، بعدها مباشرة ((لبسها)) عفريته وبدأت تهذي، وأصبحت تصرفاتها غير عادية، وبدا لسانها يتكلم وينطق بصوت رجل مما سبب دهشة الجميع، وما زال الشاب في رأي الجميع قاتل عمه طمعاً في مال كان يملكه.

وفي يوم، بينما كانت عائلة القتيل تتحاور وتفكر في القاتل المجهول، والمرأة بينهم، وقد بدأت تتصرف تصرفات غريبة وغير طبيعية، ثم  فوجئوا  بها تتكلم بصوت المقتول موجهه كلامها أو كلامه إلى أخيه والد الشاب المتهم.

أخبره أن ابنه بريء من دمه، وأن قاتله ثلاثة أشخاص، غادروا القرية بعد قتلهم له، وأخبرهم أيضاً أن الثلاثة لم يسرقوا ماله، وإنما الذي سرقه إحدى قريباته، وضعت يدها في جيبه وسرقت المال بعد إن تأكدت من موته، وطالب بثأره من الثلاثة الذين هربوا إلى مدابغ مصر القديمة بالقاهرة.

لكي يتحققوا من هذا الأمر، ذهبوا إلى قريبتهم التي اعترفت بالسرقة فتيقنوا من صدق عفريت المقتول.

يقول الراوي ...... إنه بعد ذلك أحضروا ((قسيساً)) للمرأة فاستطاع أن يخرج العفريت، منها ولم يعرف الراوي، إذا كانت قد حملت أم لا، وإن كان يرى أنها لم تحمل لأنه - في رأيه – كيف يعاشرها زوجها وقد لبسها عفريت، حتى ولو كان عفريتاً من الأسرة؟

حينما عرف الشاب المتهم بقتل عمه الحقيقة من ((العفريت)) ظهر من مخبئه وأقسم لوالده بأخذ ثأر عمه بنفسه، وذهب إلى المدابغ – مدابغ مصر القديمة – وقتل اثنين من الثلاثة، أما الثالث فقد هرب إلى القرية، وأقسم لأهل القتيل أنه فعلاً كان مع الاثنين حين تم القتل، ولكنه لم يشارك في قتله، وأن الخلاف كان بين المقتول وقاتليه، ولا ذنب له إلا أنه كان صديق القاتلين.

وقد كان لأحد الرجلين اللذين قتلا، شاب في سن التجنيد، أقسم أن يأخذ بثأر أبيه من الشاب الذي أصبح مشهوراً بالقتل بعد أن كان مشهوراً بالسرقة...... تزوج، وفي نيته أن يقتل هذا الشاب بعد أن تحمل زوجته لكي يترك من يحمل اسمه واسم أسرته من بعده، ثم طلب للتجنيد، وحملت زوجته، ولم يعلم بهذا الحمل، فقد أخفت أمه عنه هذا الحدث وباعت قطعة أرض يملكها، واشترت سلاحاً، واستأجرت قاتلاً، وأعطته ما يكفيه من مال مقابل قتل هذا الشاب المشهور والذي قتل زوجها.

ذكرتني هذه الحكاية بحكاية سمعتها منذ أكثر من ثلاثين عاماً عن المعتقد الشعبي في حكاية عفريت المقتول، وما زلت أذكر أن الناس في ذلك الوقت يحكونها باعتبار أنها حكاية حقيقية بكل شخوصها ومواقفها.

وملخص الحكاية يقول إن شخصاً متزوجاً، قتل في إحدى المعارك التي نشبت بين عائلتين وكانت الزوجة صغيرة السن، جميلة، وفية لزوجها، رفضت أن تنتقل إلى بيت والدها، وفضلت العيش في بيت زوجها، تربي أولاداً منه وكثيراً ما عرضوا عليها الزواج إلا أن رفضها كان قاطعاً. ولم يرغمها والدها وأخوتها على الزواج، واحترموا فيها رغبتها في تربية أولادها، وكانت تشرف على زراعة أرض زوجها، وجمع محصوله، ثم فجأة خلعت السواد، وعاد إليها رونق شبابها وبهجة جمالها، ولبست الثوب الواسع، هذا الثوب الذي يشبه ثوب الزوجة الحامل، مما أثار الأقاويل حولها التي بدأت همساً، ثم أصبحت علناً، وأن لهذه الزوجة المقتول زوجها عشيقاً، ويأتيها كل ليلة، وفي ساعة محددة، وقد وصلت هذه الأقاويل والهمسات إلى سمع والدها وأخوتها، ولما كانوا يثقون فيها كل الثقة، فقد أرادوا التحقق من الأقاويل التي تقال عنها، وهمسات زاد فيها خصوم لهم.

طلب  ((الوالد)) من ابنه الأكبر أن يراقب بيتها، وأمره أن يقتل من يدخل عندها في هذه الساعة التي حددت لدخول غريب عليها.

وفي الساعة  الموقوتة، وبينما كان الأخ الأكبر مختبئاً في مكان لا يراه فيه أحد، لاح شخص يدخل  بيت أخته، فغلى الدم في عروقه، وصوب عليه البندقية، فأصابه في مقتل، وكانت المفاجأة؟

حينما  أطلق عليه رصاص بندقيته لم يجد له أثراً، وبحث عنه في كل مكان رغم تأكده أنه لم يهرب منه لأنه أصابه في مقتل.

و كانت المفاجأة الثانية !!.. حينما وجد في مكان مقتل الشخص الغريب”فردة حذاء قديم” وبها آثار رصاص بندقية.

أما المفاجأة الثالثة التي أذهلت الجميع.. حينما خرجت من فم الزوجة التي أصابها شك الجميع في سلوكها، مولولة صارخةـ، تقول بصوت باك.. إن من قتلتموه، إنما هو زوجي .. تقتلونه مرتين – كان يأتيني كل ليلة، وأنا به سعيدة- لقد حملت منه.

الموقف التالي الذي يدل على مدى اعتقاد أهل القرية في وجود شبح للمقتول، كنت مراقباً لحدوثه- ففي أيام الطفولة، وفي بداية مرحلة دراستي في المدرسة الابتدائية الوحيدة التي كانت في القرية – أقضى ليالي الصيف الحار، مع شباب القرية، نجلس في مكان فسيح، تحيطه البيوت المبنية بالطوب اللبن، أو الأحمر، إذ كانت هذه البيوت يملكها الأغنياء من العائلات الكبيرة، ويطلق على هذا المكان “الرهبة” وكان بمثابة سوق القرية الذي يعقد يوماً كل أسبوع، يبيعون فيه ويشترون منتجاتهم الزراعية والحيوانية.

في الليل كان يحلو فيه السهر، وبخاصة في ليالي الصيف، كنا نقضي الليالي، ونقتل الوقت بسرد الحكايات التي كنا نسمعها من الكبار أمثال جدتنا وأمهاتنا، وكنت في الحقيقة أسمع الحكايات وأتخيلها، وكأني أعيش وقائعها ومواقفها ولا أحكيها، وما زلت حتى الآن أسمع الحكايات وأسجلها.

في تلك الفترة كانت حوادث القتل تلعب دوراً جديداً في حياة القرية، وظاهرة الأخذ بالثأر تعرض وجودها حتى أنها  أعطت القرية كآبة وغموضاً لا يبشر بعودة حياتها الهادئة.

ونحن جلوس الليالي الصيفية تطرق حديث السمر إلى حكايات العفاريت وانقسم الحاضرون إلى فريقين، الأكثرية كانت تعتقد في وجود العفاريت وتعطي برهاناً ودليلاً على وجودها، وانفرد شاب برأي قاطع أن لا وجود لهذه العفاريت، وأنه يتحدى وجودها. ويراهن على السير الآن في الطريق الذي قتل فيه أحد الأشخاص، ويحضر شيئاً من بيت قريب له يسكن في نهاية هذا الطريق. وكنا في تلك الليلة في ساعة متأخرة من الليل وكان التحدي وقبول الرهان، رغم  تحذيره الشديد من هذا العفريت، لأن المقتول كان شرساً في حياته، وبالتالي فإن العفريت سيكون بنفس شراسته إن لم يكن أكثر، وبكل حماس الشباب بدأ يسلك الطريق وكان الليل مظلماً حالك السواد. لقد كنا في أواخر الشهر القمري ... لم يغب عنا الشاب برهة من الوقت بعد أن غاب عن أنظارنا حتى سمعنا صراخه و استغاثته وهو يهرول نحونا بكل خوف وذعر، فقام الشباب يعانقونه ويحمونه ولم يستطع الكلام إلا بعد وقت يلتقط فيه أنفاسه، لقد كان في شبه غيبوبة.

حدثنا بما رأى بعد أن أفاق واسترد وعيه، قال إنه بعد أن سار بضع خطوات في الظلام أحس بالخوف، وكاد أن يرجع إلا أنه تماسك واستمر في السير، والخوف بدأ يتملكه، وفوجئ بالشبح أمامه، بعينين يخرج منهما شهب من نار، يلوح له بذراعين طويلتين كذراعي المحراث، فثقلت خطواته، وكأنه يسير في بحر من دم.

يقول وهو يرتعش ويرتجف إنه رآه فعلاً، وإنه قرب منه وكاد أن يلفحه بذراعيه الطويلتين، وكاد لهيب عينه أن يلفح وجهه فصرخ واستغاث، وكاد أن لا يسمع صراخه واستغاثته، ثم راح في حشرجة من البكاء الهستيري، فقام الشباب وحملوه إلى منزله.. وأنا بدوري تملكني الخوف، ولم أرحل إلى بيتنا القريب منا إلا في حماية أصدقاء السمر، حيث كنا نجلس في ليلة سمر ومنذ زمن بعيد ذاع في القرية الكثير من الحكايات عن “عفاريت الناس” الذين يقتلون في حوادث، أو أخذ الثأر وما زال الناس حتى الآن يعتقدون في وجود هذا النوع من العفاريت.

واللافت للنظر –من خلال أحاديث لرواة – أن عفريت المقتول لا يظهر إلا لشخص يكون بمفرده. وقليل منهم  قالوا إنه ظهر لأكثر من شخص، ولكنهم لم يروا ملامح له، وإنما يشعرون بشيء غير عادي في المكان الذي تمت فيه عملية القتل.

أما إذا كانوا جماعات أو أكثر من فرد فإن العفريت لا يظهر لهم، وتفسير ذلك في رأيي - أن الخوف وحده الذي يخلق في قلب الفرد الرعب من مكان الحادث، فيتهيأ له وجود شبح القتيل، يتحرك أمامه، ويقوم بأفعال تدخل في قلبه هذا الرعب، فيوقن تماماً أن الذي يراه ((عفريت)) ولا يذهب الخوف والرعب منه إلا إذا ترك مكان الحادث. – فالعفريت محدود المكان والزمان أو الوقت ولا يظهر - بالتالي-

في ليلة يكون فيها القمر ساطعاً، أما إذا كان بجواره مكان الحادث زرع كثيف كعيدان الذرة مثلاً، فان الفرد الذي يسلك هذا الطريق، ولو في ليلة مقمرة، ويدب في قلبه الخوف، يعتقد أن العفريت بين عيدان الذرة، وتلقائيًّا يجد نفسه ينظر إلى الزرع، فيهيأ له وجود الشبح أمامه بعينيه الحمراوين كجمرة من نار.

أما الشخص الذي لا يعلم بوجود حادث قتل في هذا المكان فإنه يمر دون أن يظهر له شبح عفريت، يرجع ذلك إلى أنه لم يشعر بالخوف – فالخوف وحده هو الذي يجعله يعتقد في وجود عفريت، وبالتالي يرى ما يراه أو ما يعتقد أنه يراه.           

لكن اليوم ، وبعد أن أضيئت القرى بالكهرباء، قل الحديث عن وجود العفاريت، ولم نعد نسمع أن شخصاً ظهر عفريت له في مكان حادث قتل إلا ما ندر، وإذا حدث وظهر عفريت فإنما يكون في ليلة قطعت فيها الكهرباء.    

روى لي ابن أخي مدرس الإعدادية وخريج الجامعة أن عفريتاً لمقتول حديث ظهر له في مكان الحادث بين الأشجار، حيث كان يمر فيه وقال إنه كان يمر في أمان، ولكن حينما تذكر القتيل، دب الخوف في قلبه، ونظر حوله فوجده واقفاً تحت الشجرة وهو المكان الذي قتل فيه، ولم ينقذه من خوفه ورعبه الا عودة الإضاءة الكهربائية إلى القرية، وكنت معه نسلك نفس المكان الذي قتل فيه الشخص، وأشار إلى المكان الذي رآه فيه، وأصارح بالقول ولا أخفيه، فقد دخل في قلبي الخوف، لأني تذكرت أيام الصبا حينما كنت أسمع الحكايات عن العفاريت، وأخاف من وجودهم، الخوف ما زال مترسباً في قلبي رغم مرور هذه السنين الطويلة ورغم بحثي اليوم عن أن مجرد وجودهم هو وهم الخوف والاعتقاد الموروث والمترسب في العقل الباطن أيام كانت حكايات الشياطين لها وجود واقعي في حياتنا.

 

توظيف المعتقد الشعبي  :

في الحكاية الأولى، نجد الجماعة الشعبية قد وظفت المعتقد لتنفيذ مخطط تهدف منه إلى تحقيق الثأر، وهو المعتقد الذي يؤمن به الكافة من الناس فعفريت المقتول يتلبس إحدى السيدات. وبدورها تقوم بأفعال هستيرية، وتتكلم بلسانه، وتخبر أهل القتيل عن القاتل وذلك كل باسمه، ولكي يصدق قول العفريت يطلعهم عن امرأة سرقت منه خمسمائة جنيه.

ولا تتخلص المرأة من العفريت الذي يتلبسها إلا عن طريق قسيس ((يقرأ)) عليه، ويجبره أن يخرج منها، وتدور بين القسيس محاورات حادة في كيفية الخروج، ومن أي المنافذ يخرج، مثال العين، أو الأنف، أو اليد، إلا أن القسيس يرفض ويأمره أن يخرج من ظفر إحدى أصابع قدمه وإلا فإن القسيس يعدمه إلى الأبد، والحكمة في خروج العفريت من ظفر الإصبع تحقيراً له حتى لا يرجع إليها.

لقد ذكرني دور القسيس بالدور الذي يحدث في عملية الزار لإخراج ((الأسياد))

وبالمقارنة بينهما، فإن القسيس يخرج العفريت إلى الأبد من الشخص الذي يتلبسه وغالباً يكون امرأة. أما في عملية الزار فإن ما يحدث فيها من تشنجات ورقص عاصف على أنغام صاخبة من أجل تهدئة وإرضاء تجار في المعتقد، وكمصدر رزق لهم، وفي حد الأمرين استغلال لحالة نفسية ضعيفة، تستخدم فيها قوة الإيحاء والإرادة في شفاء المريض أوالتخفيف عنه. 

وفي حكايتنا هذه ، تحوم الشبهات حول شاب فاسد، رغم حصوله على قسط من التعليم، إلا أنه سلك مسلك اللصوص وقطاع الطرق وارتكاب جرائم القتل، وقد قمت بجولة في مدابغ مصر القديمة حيث التجمع السكاني لأهالى القرية، والذين يعملون فيها ، وسألت أكثر من شخص عن ظروف وملابسات جريمة الشاب الذي قتل اثنين في المدابغ من أجل الثار، وقد أجمع كل من سألتهم –والباحث يعرفهم – أن هذا الشاب قتل عمه فعلاً من أجل السرقة، ولم يقتله الثلاثة الذين اتهموا فيه، وأن ما حدث كان تغطية لقتله عمه، ومن أجل خصومات قديمة بينهما، وكان هذا الشاب مكروهاً من أهل القرية لشراسة طباعه، وقد نال جزاءه ((بتوضيبه)) بالخناجر والمطاوي على مرأى من الناس الذين أبوا الدفاع عنه.

لقد وظف هذا الشاب وجماعته المعتقد الشائع في ظهور شبح القتيل أسوأ استغلال وأشاع أن عفريت عمه تكلم بلسان امرأة منهم وأبلغ عن قاتليه وبذلك انتقم منهم.

أما الحكاية الثانية فإن الباحث يعتبر نفسه راوياً لها. فقد سمعها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ويتذكر تماماً أن الناس في القرية كانوا يتحدثون عن وقائعها إنها حدثت فعلاً، وكانوا يتذكرون الأسماء الحقيقة لشخوصها، فعفريت المقتول يدخل على زوجته كل ليلة، وفي ميعاد موقوت، ويشاع الخبر أن لهذه الزوجة التي فضلت أن تعيش في بيت زوجها المقتول – عشيقاً– ونعرف أن مجرد إشاعة تقال عن امرأة في القرية كفيلة بأن تنهي حياتها إلى الأبد.

وفي إثناء تجوالي في مدابغ مصر القديمة، مع أهل القرية الذين يسكنون فيها، كان سؤالي التالي حول هذه الواقعة. وقد سألت رجالاً يتراوح أعمارهم بين الثلاثين والستين. ووجدت أكثرهم يتذكر هذه الواقعة. وإن اختلفت روايتهم في بعض وقائعها. فمنهم من يقول إن العفريت كان يزور زوجته فعلاً، ويدخل عندها. ومنهم من يقول إن العفريت كان يحمل كل ليلة البرسيم والحشائش لمواشيه وأغنامه التي تركها.. واتفقوا جميعاً على الموقف الأخير. وهو قتل العفريت بيد أخ الزوجة وكان بذلك نهاية ظهوره.

ما زال الناس يعتقدون في وجود شبح للقتيل، ولم يصل أحد منهم رغم مرور السنين العديدة أن وراء هذه الحكاية أو الواقعة أمراً, مجرد إشاعة ولو كاذبة عن امرأة في سلوكها عار على أهلها، ولا ((يغسل العار)) إلا دم هذه المرأة.

والعرف المتبع لا ينتقم من مردد هذه الإشاعة التي تبدأ همساً ثم تنتشر، ولا ينتهي ترددها إلا بالخلاص من المرأة. 

إذن، المرأة الشعبية هنا، استغلت في ذكاء حينما أعلنت أن عفريت المقتول هو الذي يتردد على زوجته، بدليل أن أخ الزوجة أطلق عليه النار في موعده المحدد الذي يزور فيه زوجته، وأن هذا العفريت انقلب إلى ((فردة حذاء قديم)) عليها آثار طلقة نار.

وبفضل المعتقد وتوظيفه توظيفاً جيدًّا تموت الإشاعة بل وتموت إلى الأبد وتصبح حكاية تروى على مر السنين.

إن الحكايات عن المعتقد الشعبي في ظهور عفاريت القتلى كثيرة وتروى، لكنني أختتم هذا البحث الميداني بهذا الموقف الفكه.  

يرى الناس أن عفريت القتيل لا يظهر إلا في الليل حيث يسود الظلام المكان الذي حدثت فيه الواقعة، إلا أنهم يعتقدون في عفريت يظهر وقت الظهيرة، هذا العفريت الذي يظهر في وضح النهار يعتبر من أخبث العفاريت وأشدهم رعباً وشراسة . 

مرة في القيلولة، وفي الطريق الذي يصل بين داخل القرية وخارجها كان رجل يمر من هذا (الطريق) نحيف القامة، طويل، أسود اللون، واسع العينين،  كثيف الحاجبين، .. تصادف أن كان صبي صغير قادماً في الاتجاه العكسي لهذا الرجل، فلما رأى الصبي الرجل خاف، واعتقد أنه ((عفريت الظهر)) فولى إلى داخل القرية في رعب، صارخاً ((عفريت ... عفريت)) ...  الرجل بدوره اعتقد أن الصبي رأى ((عفريت الظهر)) فصرخ في رعب، مهرولاً خلف الصبي، وقد ألقى بعصاه وهو يصيح بكل خوف ورعب ((عفريت ... عفريت)) ... الصبي ينظر خلفه، فيجد الرجل يجري خلفه، كأنه يريد الإمساك به، فيزداد في صراخه وطلب النجدة، والرجل بدوره يصرخ، حتى دخلا القرية، وقد خرج الناس يشاهدون هذا الموقف الفكه. فإن شكل الرجل يوحي بشكل ((عفريت الظهر)) ... أخذوا يداعبون الرجل، ويطلبون منه ألا يخرج في ((الظهرية))

وأصبح الرجل لفترة طويلة الوسيلة التي يخوفون بها الأطفال.

أعداد المجلة