النظم الشفوي للأغنية الشعبية العربية
العدد 8 - أدب شعبي
تحاول هذه الدراسة أن تحدد معنى «الأغنية الشعبية» Folk Song، وتميزها من الأغنية الدارجة Popular Song التي تتدخل في بنائها الوسائط المعرفية، أقصد الكتابة أو النوتة الموسيقية. وهذا يعني أن شيوع الأغنية ليس معياراً ثابتاً لوصف الأغنية بالشعبية.
كما تحاول هذه الدراسة أن تبين طبيعة النظم الشفوي للأغنية الشعبية العربية؛ فالمنتج الأول يتوارى اسمه بمجرد أن تذيع الأغنية بين أفراد المجتمع، ويسهم القالب الصياغي Formula في تحقيق نمط من التجانس الإيقاعي في سرعة ذيوع الأغنية. ويخضع النص الغنائي للتغيير والتطوير الدائمين، وفقاً لطاقة المنشد الثاني الإبداعية وثقافته، ووعيه بتراث مجتمعه وتقاليده. ومن أجل ذلك، ترفض الدراسة أن نتعامل مع الأغنية الشعبية العربية كما نتعامل مع العقلية البدائية التي تميل إلى تفسير الظواهر وحركة الحياة اليومية اعتماداً على الأسطورة، وتؤكد أن الأغنية الشعبية العربية تقوم على قاعدة حضارية ثقافية تشكلت في ظل فكرة البطولة.
يبدو الفصل بين الأغنية الشعبية والأغنية الفولكلورية ناجماً عن أخطاء في الترجمة؛ فلفظة «فولكلور» نقلت عن الألمانية Volkied أو الإنجليزية Folk Song اللتين تنحصر دلالتهما في «الأغنية الشعبية». ولعل أظهر خلط في الترجمة نجده في ترجمة رشدي صالح لكتاب الكزاندر هجرتي كراب الذي شكل مادة أساسية، يعتمد عليها دارسو الأدب الشعبي العربي. يقول كراب:» الأغنية الفولكلورية أغنية ـ أي قصيدة ملحنة ـ مجهولة النشأة، ظهرت بين أناس أميين في الأزمان الماضية، ولبثت تجري في الاستعمال لفترة ملحوظة من الزمن، هي قرون متوالية في العادة. وهكذا تتميز الأغنية الفولكلورية عن الأغنية الشعبية ـ أي تلك الأغنية ذات الأصل الأدبي البحت (ولو أننا لا نعرف هذا الأصل بتفاصيله الكاملة) والتي ذاعت بين أناس أميين، لم يهتموا بأمر مؤلفها أو ملحنها»(1). من الواضح أن الأغنية الفولكلورية Folk Song هي ذاتها الأغنية الشعبية، لكن المترجم يجعل عبارة Popular Song دالة على الأغنية الشعبية. وقد بنى كراب تفريقه بين الأغنيتين على أساس الأمية (الشفاهية) التي تتصف بها الأغنية الشعبية/ الفولكلورية. أما الأغنية التي تتدخل الثقـافة الجمــاهيرية في إعادة صياغتها بصورة تنحرف فيها عن أصالتها، وفقاً لمظاهر تلك الثقافة، فإن تجنب الخلط يحتم أن تترجم Popular Song بـ»الأغنية الدارجة»(2).
الأغنية الشعبية/ الفولكلورية Folk Song تأسيساً على ذلك، تنطلق من فكرة شفاهية الثقافة، أو الثقافة التي لم تتدخل في بنائها الوسائط المعرفية (الكتابـة). إنها تدخل في نطاق «الشفاهيـة الأوليـة» بالتقابل مع «الشفاهيـة الثانويـة»(3) التي تتميز بها الثقافات ذات التكنولوجيا العالية في الوقت الحاضر. وبعبارات أخرى، فإن الشفاهية الأولية ماثلة في الأغنية الشعبية/ الفولكلورية، وإن الشفاهية الثانوية ماثلة في الأغنية الدارجة. وتظهر فعالية الثقافة الجماهيرية جلية في محاولة جعل الأغنية الشعبية، في ضوء الشفاهية الثانوية، عبارة عن «موتيفات فولكلورية» بغيـة إحداث استجابة عميقة داخل المتلقـي، وذلك باستثارة مخزونه المعرفي حول الأغنية الشفاهية الأولية، وتقديمها إليه بنكهة مُحدَثة (ثانوية)، تتناغم والسياق الحضاري الجديد. المتلقي يعد بدوره هذه الموتيفات مظهراً من مظاهر إحياء التراث، والحفاظ على بقائه حيويّاً وديناميّاً لمواجهة عوامل التفسخ Degeneration Factors التي يتعرض لها التراث الشفاهي الأولي بفعل تعرّض رواة هذا التراث للنسيان أو الاندثار بمرور الزمن.
إن حصر الأغنية الشعبية في دائرة الشفاهية الأولية، لا يعني أن هذه الأغنية مقصورة على الشعوب البدائية أو الفطرية القديمة حيث تنعدم أبسط أشكال الوسائط المعرفية؛ فالأغنية الحديثة قد تحمل سمة «الشعبية» إذا كان المجتمع الذي انبثقت منه ذا طابع شفاهي أولي، أو يغلب عليه هذا الطابع. وهنا، يبدو أن شيوع الأغنية ليس معياراً ثابتاً لوصف الأغنية بالشعبية؛ فمن السهل أن تتحول الأغنية الشعبية إلى أغنية دارجة، يعمل مؤدوها على إعادة توزيعها، وإخضاعها للألحان الموسيقية، فتكتسب شيوعاً كبيراً. السمة الشعبية/ الفولكلورية في هذه الحالة تُطمس أصالتها، وتدخل الأغنية في نطاق الموتيفات أو الدُّرجة، على الرغم من الإبقاء على الجهل بالمؤلف الأصلي. في ظل الثقافة الجماهيرية، يصبح مبدع الأغنية هو مؤديها الذي يتكئ على التراث الشفاهي الأولي في عمله؛ إذ تظهر صعوبة تواري المغني خلف عمله، لأن إعادة توزيع الأغنية ألصق بالنزعة الفردية (الإبداع الشخصي) وسط مجتمع طغت عليه الوسائط المعرفية، وبُني فيه التوزيـع الموسيقي على «النوتة»، وأدّي على الآلات الموسيقية الحديثة. وليس يعني هذا أيضاً أن الأغنية الشعبية لا تتوسل في أدائها بالآلات الموسيقية، لكنها في توسلها هذا، اتجهت للآلات الموسيقية القريبة من الروح الفطرية التي تفي باحتياجات الغناء الأساسية كالناي، والطبل، بعيداً عن «النوتة الموسيقية»، أو أي مظهر آخر من مظاهر الكتابة.
لا شك في أن المنتج الأول للأغنية الشعبية هو أحد أفراد المجتمع ممن يمتلكون موهبة إبداعية متميزة، ولكن اسمه يتوارى بمجرد أن تذيع بينهم. إن مرورها بين أقرانه من المبدعين، يشكل في حد ذاته رخصة كافية للتغيير في النص الأصليOriginal Text وللابتعاد عنه شيئاً فشيئاً بالحذف، أو البناء عليه، ليصبح النص في نهاية الأمر نصّاً ذا نزعة جمالية خالصة. ويخضع النص للتغيير والتطوير لأمور عدة، منها: ثقافة المنشـد الثاني، وفهمه للإيقاع الموسيقي، وقدرته على المواءمة بين الإيقاع الموسيقي والإيقاع الحركي (الرقص)، ووعيه بتراث مجتمعه وتقاليده، وما يجتذب انتباهه على الدوام، علاوة على دينامية ذاكرته في إحلال كلمة أو عبارة مكان أخرى سقطت بفعل النسيان، أو يراها قلقة في موضعها.
إن صياغة النص الغنائي ينبغي أن تُحاكى فيها أنماط سابقة، لا تنقضهـا، ولكن تبني عليها بناءً محكماً، يحافظ على العنصرين الرئيسين: الشكل واللحن، كي يجتذب المغني المتلقيَ إلى الإصغاء، أو المشاركة في ترديد عبارات الأغنية المحورية (اللازمة) وفق الأسلوب التكراري. ومهما عظمت قدرة المنشئ على الإبداع، فلا بد من أن يحظى النص بعنايته الفنية لضمان سيرورة عمله على الألسن. والحق أن الإبداع النهائي لا يتحقق؛ لأن هذا النص ذو ملكية عامة، كلما حل في ذاكرة منشد أضاف إليه من ذاته شيئاً، أو في أقصى الحدود غيَّر فيه تغييراً شبه كلي، مبقياً بعض ما يدل عليه. وهكذا، فإن المغني لا يجد حرجاً في الخروج على البنية القديمة ما دام خروجه لا يتعارض مع تقاليد الجماعة وأذواقها وأيديولوجيتها، هذا من ناحية، وما دام خروجه لا يشكل تشويهاً للقالب الغنائي الأصلي، هذا من ناحية أخرى.
وحتى تكتسب الأغنية شهرتها، فإن على المغني أن يذيعها بين الناس، ويحرص على علوقها في أذهانهم، متيحاً لذاته الفرصة للتبجح بقدراته على تحقيق إضافات نوعية على الأغنية القديمة. وتخضع الشهرة عادة في المجتمعات الشفاهية لرقابة كبار السن، كما أن الإبداع لا يأخذ مكانته المرموقة إلا من خلال الإطار العام للتقاليد والأعراف، ومنظومة القيم الخلقية، فضلاً عن الدلالة الوظيفية للأغنية؛ إذ ينبغي أن تكون قادرة على التعبير عن الوجدان الجماعي أو الإنسان الكلي؛ فالحوادث الطارئة التي تعبر عنها الأغنية في زمن ما، قد تسقط من الذاكرة الجماعية ـ على الرغم من ذيوعها آنذاك ـ بمجرد انتهاء الهدف الوظيفي من إنشائها. ومع ذلك، فقد تعاود الظهور إذا مرت الجماعة بمواقف مشابهة، فتلجأ حينئذ إلى استعادة المواقف الخاصة، لتؤكد إمكانيتها على الاستيعاب والتجاوز والتحدي، كما أكدت الأغنية هذا كله في مواقف سابقة.
العقلية الشعبية التي أنتجت هذه الأغاني أقرب ما تكون إلى العقلية البدائية التي تجهل الكتابة، وتتلقى الأداء الغنائي بوصفه نموذجاً متكاملاً، لا يحيل إلى تفكيك العناصر الجزئية للأغنية بهدف تحليلها، بل إن التنغيم المتوارث، دون إحداث تغيير جذري في إيقاعاته، وفي السياق العام لكلمات الأغنية، يحدث شعوراً كلّيّاً ثريّاً بعواطف معينة، سعى المغني إلى إحداثها خلال عملية التلقي، أو وجد أداؤه تربةً خصبة في نفس المتلقي لتنبت فيها انفعالات معينة تنسجم وخبراته السابقة، وفي الوقت ذاته، تبقى هذه الانفعالات في الإطار الكلي للموضوع المحوري الذي تدور حوله الأغنية. إضافة إلى أن الأغنية الشعبية تمثل للمتلقي استجابة عفوية أمام مناسبات حياتية مرتبة كالزواج والطهور، أو أمام أحداث لا يملك لها رداً ولا دفعاً كالموت وانهيار المنجزات التي بناها.
إن التماس بين العقلية الشعبية والعقلية البدائية تماسٌ لا يفضي إلى المطابقة والبناء المقارن؛ فالأمية والتلقي الشفاهي بوصف النص الغنائي نموذجاً متكاملاً، والاستجابة العفوية، تمثل قواسم مشتركة بينهما، لكن ما ينبغي النظر إليه أن العقلية البدائية تميل في تشكيل رؤيتها للحياة والوجود إلى الأسطرة ميلاً كاملاً، يجد مكانة رحبة في اللاوعي الجمعي، لكونه لا يرتكز على رصيد حضاري أو ثقافي متنامٍ يمكن أن يُبنى عليه. أما الأغنية الشعبية العربية، فإنها تقوم على قاعدة حضارية ثقافية، تشكلت في ظل فكرة البطولة.
ومن أجل ذلك، فإن اتجاه محمود مفلح البكر في دراسته «العرس الشعبي: الترويدة» لرد النصوص الغنائية الشعبية إلى أصول أسطورية/ بدائية، وتأويل النصوص في ضوء هذه الأصول(4)، هو اتجاه يبتر الأغنية العربية عن سياقها الحضاري، ويهمل الفلسفة الجماعية التي تحملها. ومن أجل ذلك أيضاً، فإن اتجاه بعض الدارسين لتناول «الخيال» في شعر ما قبل الإسلام، اعتماداً على أن لفظة «البدائية» مرادفة للفظة «الجاهلية»(5)، واعتماداً على الربط بين الأغنية الشعبية عند الأمم الأخرى والشعر العربي القديم(6)، هو اتجاه يعزل الشعر عن التراث الثقافي وعن السياق الحضاري، ويجعل من لفظة «الجاهلية» ذات المدلول الديني على عصر ما قبل الإسلام رديفةً للفظة «البدائية» ذات المدلول التاريخي القائم على فقر الخيال، والتطابق الخارجي بين الصورة والشيء المصور، دون الالتفات إلى الإحساس الذي تثيره الأشياء المصورة، ودون الالتفات إلى انتظام عناصر النص في سياق عضوي يجمعها.
صحيحٌ أن فكرة البطولة نشأت في ظل الأساطير، لكنها انحرفت تدريجيّاً عن شرنقة التمحور حول الغيبيات، إلى الارتباط بالجانب الحياتي للجماعة، أو بعبارة ثانية، إلى ما تحققه البطولة على الصعيد العملي، فأصبح اللجوء إلى الأسطورة في ضوء هذا الانحراف محاولة لتفسير الأمور الخارقة التي يعجز العقل عن استيعابها، وكلما استطاع التوصل إلى تفسير يركن إليه، تخلى عن لجوئه إليها، ووظف ما يقوم به البطل في الحياة ضمن النطاق القيمي لمجتمعه. إن مبالغة الدارس في تفسير أي نص غنائي عربي في الإطار الأسطوري فحسب، لن يقود إلى نتائج دقيقة نطمئن إليها، وكذلك الحال فيما يتعلق بالشعر العربي القديم.
إن التراث المعرفي يوفر للمغني القالب الصياغي Formula الذي يأخذ طريقه الطبيعية على لسانه بفعل نظمه المرتجل Orally Composed ، ويدخل هذا القالب في نصه بمذاق جديد، يتيح له الانخراط بالسياق الكامل ليمنحه قيمة حيوية؛ لأن الذوق الشعبي يتعامل مع القالب الصياغي على أنه جزء من تجربة زمنية أدت دورها سابقاً بفعالية، وما زالت قادرة على القيام بالدور ذاته، وبالمستوى التأثيري ذاته، وذلك عن طريق استعادتها مختزلةً بقوالب صياغية أخرى تتناسج معها.
بعض القوالب الصياغية تكون مفتاحية للمغني، تكون فيها الكلمات مؤشراً على التجانس الإيقاعي Structural Formulas ، كما نجد في أغاني «دلعونـا»، و»ميجنا»؛ إذ تحدد هذه الكلمات القوالب اللحنية التي ستمضي فيها الأغنية بأكملها. وليس يقلل هذا التحديد من دينامية ذاكرة المغني، بل يوجه إبداعه للاندغام في «الكليشيهات» القديمة محافظاً على صبغتها العامة. وربما هذه المساحة من الحرية هي التي تجعل تكرار القوالب الصياغية ليس بارداً، لا حياة فيه؛ فهو حيوي لسياق النص الغنائي بما يفضي إليه من التوازي الإيقاعي في اللغة واللحن، وبما يفضي إليه من تحقيق التركيز الذهني عند المتلقي.
تعيدنا فكرة القالب الصياغي إلى دراسات ميلمان باري M.Parry وألبرت لورد A.Lord للشعر الملحمي الإغريقي، والملاحم اليوغسلافية الشعبية، وفقاً لنظرية النظم الشفوي Oral Composition Theory؛ فقد عدَّا هذه الملاحم ذات ملكية عامة لم تخضع للاستقرار، وقد بنيت على السرد Narrative الذي يبقي المتلقي في حالة تشوق لمتابعة الحدث الدرامي. ويستعين المنشد في أدائها بالتنويع الإيقاعي للإبقاء على تلك الحالة قائمةً. أوصلت هذه الرؤية باري ولورد إلى الزعم أن هوميروس كان يردد في شعره صيغة بعد صيغة فيما نُسب إليه، وهذا ما يؤكد أنه قد نظم أجزاء سابقة، ولكن مهارته لا تثبت أنه شاعر خالق، بل إنه شاعر نظَّام يؤلف بين أجزاء موجودة مسبقاً؛ فالقوالب الصياغية تتجمع حول ثيمات نموذجية أفرزها السرد الشفاهي(7).
وتنسجم فكرة غياب النص الأصلي Original Text مع فكرة غياب المبدع الفردي للنص/ مجهولية المنشئ. ولذلك، يقول مطبقو نظرية النظم الشفوي: «مهما كان الشاعر الملحمي مبدعاً، فإنه فيما يبدو، لا يعتبر إلا منشداً أو فناناً، دون أن يكون مؤلفاً. وفي ذلك بعض حق؛ فالشعراء الملحميون الشفويون الذين يستقون فنهم من الآخرين ممن غنى قبلهم، لا يدَّعون حقوق ملكية النصوص، ولا يقيمون اعتباراً لكون تلك النصوص غير مبتكرة من عندهم.. وبما أن الشاعر الملحمي يرى أن التراث أو الإلهام هما مصدر إيحائه، فإنه ليس في موقف يجعله يدعي لنفسه أكثر مما يستحق»(8).
وقد حاول عدد من المستشرقين تطبيق هذه النظرية على شعر ما قبل الإسلام، منهم: جيمس مونرو J.Monroe ، ومكدونالد Mcdonald، وزويتلر(9) Zwettler). والحقيقة أن التناصية (10)(Intertextuality) التي تصطبغ بالشفاهية هنا، ترتبط بالأغنية الشعبية، ولا ترتبط، وفقاً للرؤية الاستشراقية، بالأدب النموذج (شعر ما قبل الإسلام). وفي هذا، يقول والتر أونج W.Ong: «لقد تصور الناس عموماً الخطاب الشفاهي، حتى في البيئات الشفاهية على أنه نساجة أو حياكة Stitching ـ الفعل اليوناني haosoidein بمعنى to rhapsodize يعني أساساً: يلظم الأغاني بعضها إلى بعض، ولكن عندما يستخدم الكتابيون اليوم مصطلح النص للإشارة إلى أداء شفوي فإنهم في الحقيقة يتصورونه موازياً للكتابة»(11).
فالتناصية في الأغنية الشعبية، لا تقف عند مجرد تراكم نص فوق آخر، وإنما امتصاص العديد من النصوص المنبثقة من نماذج مركزية تناسجت معها من ناحية السياق اللغوي، أو من ناحية القالب اللحني. وقد ساهمت عملية النظم الشفوي في تفعيل هذه التناصية الشفاهية، فأعطت للمغني الحرية الكافية لإحداث التواصل الخلاق مع التراث، والتدرج المنطقي في نقل المتلقي من قِدم التجربة إلى حداثتها، بكل ما يفضي إليه المنظور الحداثي من تدخل فردي يحقق سيادة الذات الإبداعية، على الرغم من أن هذه السيادة الفردية تسقط بمجرد انتقال الأغنية إلى مبدعين آخرين، يخضعونها على الدوام للتنظيم الجمعي، لتصبح العملية بمجملها سيادة جماعية ذات بنية متماسكة نسيجيّاً.
هوامش
(1)علم الفلكلور، ترجمة: رشدي صالح، دار الكتاب العربي، القاهرة 1967، ص 253.
(2) تنبه فوزي العنتيل إلى دقة الترجمة في التفريق بين الأغنية الشعبية (الفولكلورية) Folk Song والأغنية الدارجة Popular Song، لكن هذه الدقة لم تقد إلى فهم دلالتهما فهمـاً دقيقاً، فبقي يخلط بينهما. ولعل ذلك يعود إلى تمثله آراء الكزندر هجرتي كراب السابقة، من ناحية أولى، وتمثله النظم الشفوي للأغنية الشعبية عند الأمم الأخرى، كأغاني البالاد Ballad وغيرها. انظر دراسته: بين الفولكلور والثقافة الشعبية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1978، ص245.
(3) طرح هذين المصطلحين والتر أونج Walter Ong في كتابه: الشفاهية والكتابية، ترجمة: حسن البنا عز الدين، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت 1994، ص59.
(4) راجع دراسته: العرس الشعبـي: الترويــدة، دار بيسان، ط1، بيروت 1995.
(5) انظر بحثي: نظريتا الخيال لكولردج وطقوس العبور لجنب وأثرهما في دراسة بنية القصيدة الجاهلية، المجلة العربية للعلوم الإنسانية ـ جامعة الكويت، ع72، الكويت، خريف 2000.
(6) حول الدراسات العربية التي تأثرت في دراسة الشعر الجاهلي بنظرية النظم الشفوي، راجع: الشعر والغناء في ضوء نظرية الرواية الشفوية، فضل بن عمار العماري، مكتبة التوبة، الرياض، د.ت.
(7) انظر: الشعر الجاهلي في ضوء نظرية باري ـ لورد ، عادل سليمان جمال، مجلة المورد، م19، ع1، بغداد، ربيع 1990.
(8) حول الشعر الشفهي، س. م. بورا، ترجمة: فضل بن عمار العماري، ضمن: المرجع السابق، ص150.
(9) انظر بحثي: نظرية النظم الشفوي وتطبيقاتها على الشعر الجاهلي، مجلة العلوم الإنسانية ـ جامعة الإمارات العربية المتحدة، م16، ع2، العين، أكتوبر2000.
(10) لتفاصيل حول مصطلح التناصية، انظر: التناصية، مارك أنجينو، ترجمة: محمد خير البقاعي، مجلة علامـات، م55، ج19، جدة، مارس 1996. وتداخل النصوص، هانس ـ جورج روبريشت، ترجمة: الطاهر الشيخاوي ورجاء سلامة، مجلة الحياة الثقافية، ع50، تونس 1988.
(11)الشفاهية والكتابية، ص 62-63 .