الأصول الثّقافيّة في إبداع الرّمز بالخزف الأمازيغي المغاربي
العدد 64 - ثقافة مادية
على سبيل المقدّمة:
عالج الخزف المغاربي مسائل تعلقت بالتّراث والتّقليد. فشملت زخارفه فنون الوشم والسجّاد والأرابيسك وحروف التّيفيناغ والأشكال الهندسيّة المجرّدة. وقد يكون أَنْ يرتبطَ الخزفُ المغاربي بمرجعيّات ثقافيّة وإيديولوجيّة تستدعي كثيرا من التّحليل والقراءة. كما قد يكشف عن مقاربات تساهم في تطوير خصائصه الجماليّة. وعموما يمكن أن نوجّه اهتمامنا للخزف الأمازيغي في بلاد المغرب كواقع جمالي مرتهن لأطره الزّمانيّة والمكانيّة، ويعود في اعتقادنا هذا التّنصيص إلى الدّور الجليّ لعامل التّاريخ والجغرافيا في تطوير الممارسة الخزفيّة الأمازيغيّة من ناحية الرؤية الجماليّة، والبِنيويّة، والتحليليّة، والثّقافيّة، والحضارية لتضمين إفرازات البِنْيَة البصريّة من عناصر تآلف وتخالف تتعاطى مع التّراث بمختلف مرجعياتها وتأثيراتها، وهو الجانب الّذي نبحث فيه عن جماليّات البِنْيَة التّشكيليّة بالخزف الأمازيغي المغاربي وأصول إبداع الرّمز فيه.
في تحديد المصطلحات :
إنّ ما يذهب إليه الخزف الأمازيغي في مجمل تعبيره عن مضامين بيئية يؤدّي دورا توفيقيّا بين الفرد ومحيطه الثّقافيّ والفنّي. ولهذا يُمكن تفسير تمثُّل الثّقافة في الخزف الأمازيغي من جهة كونها محاور إبداعيّة، وبمجملها سياقات مختلفة في ممارسة الفكر: كتجديد حركة علاقة الفرد بمحيطه، ولأشكال التعايش معه وتحيين نظم التّواصل فيه.
الوشم: يُعدّ الوشم إحدى أُسس الثّقافة في تشكيل الخزفيّة الأمازيغيّة وذلك لما ارتبط به من رموز تمثّل مجموعة مضامين للعلامات، والتّصاميم، والإيحاءات، والمقاصد. فتنقل الكثير عن ملامح الوعي بالمادّة كنوع من الثّقافة التّقليديّة الحاضرة في الجسد. فحين كانت المرأة الأمازيغيّة تَسْتَوْشِمُ، كانت ترسم أثار انتمائها وتجذّرها، فتستحيل رسوماتها رموزا وإشارات وشذرات من الذّات. هي حركات تاريخية وحضاريّة، وهي كذلك تصاميم تحاكي حروف تيفيناغ، وهي أيضا رسومات لحشرات ونباتات... فالوشم عند المرأة الأمازيغيّة هو نضج، واكتمال جنسيّ، وتميّز وجمال... ومن مآثر القول والغناء عند أمازيغيات «أوراس» أو المناطق الغربيّة التّونسيّة الّتي تُعرف كامتداد مجالي لها، وغيرها من مناطق بلاد المغرب.
«يا سيذي يا يْعْزيز يِنوغ
راج يا سيذي قلّي تْرافذيش أورْقاز يِنوغ
بْغِير اراحن شِينات نُوحْجام ذْقير بْنُوغ أَضْعِيف»
وتعريبها «يا سيدي يا عزيزي...
تريّث يا سيدي قليلا...
لا تحملني إلى زوجي، حتى تشفى أثار الأوشام الّتي خُطَّت على عنقي الضّعيف».
يقدّم الوشم خطابا صامتا يستدرج الفكر والعين إلى أسوار قَدَر الأنثى، فيمارس به جسدها شتّى طُرق الإغراء «الخجول»، إلا أنّ الكثير من الأوشام تدلّ على الانتماء القبَلي. ويُستعمَل الوشم لطقوس عقيديّة وتمائميّة، غير أنّه أُخذ له تقليد جديد مع دخول الاستعمار الفرنسي. إذ انتشر عند النّساء المتزوّجات كشكل من أشكال التوقّي وتنفير الجنود من المرأة الأمازيغيّة.
ساهم الرّمز بالوشم في تطوّر الممارسة الجماليّة بالخزف الأمازيغي، فأصبح بمثابة سلطة اقتراحٍ ودَفْعِ تَغَيُّرٍ لخصوصيّات الممارسة. وذلك لما يحمله من عناصر وأشكال زُخرفيّة متنوّعة أوجَدت حضورها على سطوح المحامل الطّينية بما لها من مقاصد، ودلالات، وإيحاءات تستحضر الجسد وتستشعر الانتماء للقبيلة.
المنسوجة الأمازيغيّة: تعكس الزّربية الأمازيغيّة روافدَ تمثّل الثّقافة في الخزف؛ ومن ذلك، ما توفّره من تنوّع وثراء زخرفي كالمثلّث، والدّائرة، والمربّع، والأشكال الخطّيّة: المستقِيم منها والمنكسر. علاوة على الشّكل النّجمي والمعيّن لما لها من دلالات سيميولوجية عميقة تُمثًّل فضاء الثّقافة التّقليديّة وبيئتها.
كان، ومازال فضاء الزّربية مكانا لاستلهام العلامة ولاستحضار الجسد الفاعل، ولرغباته المتوهّجة والمتوقّدة أسرارا خَفيّة تروم التّواصل مع الآخر من خلال ممارسة خطاب الرّمز واشتغاله في الممارسة الخزفيّة، فتكون بذلك الزّربية مساحة للثّقافة والمعرفة والتّعبير وهي بذلك تمثّل بيئة خصبة لاستنباط الرّمز والعلامة بما تبثه من مضامين لونية وشكلية كفضاء يختصر التّعابير ويمكِّنُ من الاقتصار فيها كمجال مجازي لجسد الأنثى الخزّافة.
الرّسومات الصّخريّة: ارتبطت الحضارة الأمازيغيّة بالجبل والصّحراء1. فكان تواصلها مباشرا مع الطّبيعة، فتمكّنت منها، ومن مستلزمات التّعبير فيها، وحوّلت أجزاءها إلى مقترحات تواصل من خلال شواهد الرّسوم الصّخريّة بالجنوب التونسي، والصّحراء الجزائريّة بمناطق مثل مناطق «تمنراست» و«واد تيوت» و«واد جرات» و«التاسيلي» و«جانت»... حملت الرسومات الصخريّة نماذج لفنّ الإنسان الأوّل ومن ذلك أشكال الحيوانات والرّموز والكتابات. مثّلت جملة هذه التّكوينات مرآة عاكسة لروح الاستلهام، والاستعارة، والانتماء للبيئة ضمن مساحات بِنْية التّكوين الجماليّ بالخزف الأمازيغي في تمثّله لثقافة المحيط السوسيولوجي، وهو ما تؤكّده الحروف اللّوبيّة المخطوطة على الصخور2 وهي نقوش ما تزال غير مفهومة، والّتي تُعَدُّ سندا جماليا ومقترحا للتّعبير عن صياغة الرّمز ضمن الخزفيّة الأمازيغيّة..
ثقافيّة العنصر الزّخرفي في الخزفي الأمازيغي
شكّل الخزف الأمازيغي مجالا خصبا لما به من طابع ثقافي وفنّي بمختلف مصادر تأثراته، وروافد بنية الجماليّة لتكوينه. وهي على أهمّية من حيث قدرتها على دفع التوهج الإبداعي في صياغة المخزوفة على نحوٍ يعزّز مقاصد المعنى، والدّلالة؛ مدركات حسّية وتعبيريّة ورمزيّة تستعير من المادّة قِيمها الإنشائيّة، لما يبثّه خطاب التّواصل مع الألوان والأشكال والرموز وما يوفّره هذا من دوافع الانتماء للحضارة والمكان. كان للخزف الأمازيغي أن يتبوّأ مكانته لدى الذائقة العامّة والخاضعة لصرامة شتى النُّظم والقوانين والقواعد المُنظّمة لأشكال ممارسة خزفيّة يستسيغ العامّة جماليّتها كتعبير عن نوع من الإبداع والوعي الجمعي الّذي له مبرراته وروافده، أو بما توفّر في طياته من أوجه مخصوصة ومُتماهية مع مقاصد الجماعة. فتمثّل الممارسة الخزفيّة جزءا من هويّة مشتركة والتّدليل عن انتماء لمكان وزمان يستوعبان تصوّرات بيئة ثقافيّة تساهم في التَعرُّف على الخصائص الجماليّة والتّعبيريّة ومميّزاتها في اشتغال العلامة ضمن الخزفيّة الأمازيغيّة.
لم تشذ التّراكيب الزّخرفيّة في الخزف الأمازيغي عن النسق الفكري والجماليّ في توظيفها للرّمز والعلامة. ونتلمّس ذلك من خلال الخزف «القبائلي» بالجزائر أو خزف «سجنان» بتونس، أو «هوليبيا» بالمغرب الأقصى. وهو توظيف إنشائي لفلسفة اجتماعية وجماليّة مرادفة للتصوّر الكلياني والشّمولي لمفهوم التطبيق والممارسة في الخزف الأمازيغي، وبالنّظر إلى النسق الاجتماعي المنظّم لشكل العلاقات الثّقافيّة الّتي تعارض في منطلقاتها بين نزعة الفرديّة وبين «الطّبيعة» الاجتماعيّة للفرد. هذا ما يبرز القِيم الجماليّة الاجتماعيّة والثّقافيّة الموحّدة لشكل الممارسة كتطبيق جمالي للوعي الاجتماعي المقترن بالفنّون، والصنائع، والحرف، وذلك بالنّظر إلى طبيعة العلاقات السّائدة والمحدّدة لطبيعة الممارسة الفنّيّة، إذ كانت «الطّبيعة» الاجتماعيّة تتجلّى على شاكلة حركة إنشائيّة ممتدّة في التّاريخ، وتعمل على قمع النزعة الفرديّة أو ترويضها، وعليه أنّ «الجميل» ما لا يتعارض بقِيم الجماعة كمسألة نظريّة وجوهريّة تجعل من الفرد قِيمة اجتماعيّة وثقافيّة. فبروز الفنّ الخزفي الأمازيغي كان قرين التّعابير الجماليّة الأخرى كالوشم، والرّسم، والنّسيج، فصار سمة تحوّل في النمط الحضاري ومظهرا للتطوّر فيه، ومرآة للروحي والفكري تكشف درجة من تنامي الوعي، وعلى وجهة تحديد بالممارسة الجماليّة في مجال نقش وزخرفة الخزف، إذ لم تكن توجد رسوم وتمثيلات للبيئة معلنة بقدر ما كانت نقوشا تجريديّة وحدثا باطنيّا لإفرازات وعي الجماعة ودلالاتها الجماليّة والتّعبيريّة.
وعلى وجه التّرميز، بدت الزّخارف الخزفيّة معبّرة عن مفاهيم شاملة تعكس نظريّة «الحقيقة الثقافيّة»، فتكشف عن قِيم الجماعة الّتي كان بموجبها الفرد نموذجا للتّماهي والوفاء للثقافة والهويّة على اختلاف أشكال تجلياتها، سواء في قِيمها الفكريّة، أو تلك الّتي تمسّ الفرد في حميميّته، إذ أنّ كلّ تعبير مفرد هو إنشاء لقِيم الجماعة المتعلّق بمسائل الوجود، والرّوحاني، وكلّ ما هو خصوصي ذاتيّ. وكون الرّمز تعبيرا ثقافيا وحضاريا، فإنّه يمثل مرتكزا لتجليات المعنى وتضمين المقصد إذ اقترن الدّال بمدلولاته فيفصح عمّا بداخله من علامات مضمنة، هي إنشاء التوازنات الثّقافيّة. من هذا المنطلق يصير توظيف الرّمز في مجال التّعبير تشريعا ثقافيا يكشف عن التّعابير الذاتيّة والحميميّة، وكذلك يصبح الرّمز وسيلة تصوّر تحمل المعنى دون تعارض مع اكراهات الثّقافة، وبما يحقّق التوازنات الاجتماعيّة الّتي تكرّسها السّلطة المطلقة للمجتمع الأهلي بوحدة نظرته للجماليّة وتخصّص تعبيراته الّتي تقتضي جملة من السّياقات والمواضيع المحدّدة لنمط ما من التّواصل الاجتماعي والروحي. ونخصّ من هذه الناحية التّعبير عن المقدّس وكذلك الدّنيوي، أو ذاك المرتبط بالآخرة كالخزف الجنائزي: وهو فنّ مرتبط بالقبور.
يضطلع توظيف الرّمزي بالتّعبير عن الحاجة، وكذلك بصفة الجهد والمُتحصَّل الخطابي للكتابة، إذ أنّ الصفة الجماليّة للأشكال الهندسيّة والتّعابير الخطّيّة تؤدي دورا أساسيا في استلهام المضمون وتحويل الرّمز إلى علامة، إذ يصبح التّشكيل الزّخرفي أداء لغويا وتضمينا للمقاصد دونما الحاجة إلى خطاب ألسنيّ مباشر فهو يستعيض عن الحوار والصّوت بالصّورة والتمثّل فيكشف بذلك التّعبير الرّمزي إلى الحاجة في التوصّل إلى نتائج، وأفكار، ومقاصد لا تتعارض وقِيم الثّقافة المتداولة.
لمّا كان الرّمز تعبيرا جماليا يؤسّس خطابيّة لغوية، فإنّه من النّاحية الثّقافيّة يمثل فكّا للارتباط من شراك طوق المجتمع إلى حيّز يكون فيه أكثر تمثّلا وتأسيسا لابتداع قِيم الذّات وممكنات التّفرّد. يقدّم هذا التّمثّلُ (في توظيف الرّمز والعلامة بصفتها التّقنيّة) التّعبيرَ الفنّي على أساس عمليّة تنظيم تشكيلي تصبح فيه العلامة التّعبيريّة مجرد تقنية تحفّز قِيمة العين في تذوق الجمال دونما الحاجة بالمرور من القِيم العامة المشتركة. فالتّوظيف الثّقافي للرّمز والعلامة يمثل أحد فروع القِيم الإنشائيّة المتمثلة في مهارات الصّياغة والبناء الداخلي للشكل وتصميم القِيم التّراثيّة الّتي تُراعى فيها قِيمة الذّوق العام والمشترك في علاقته بقِيم التذوق المفردة عند الذّات المبدعة. وتحويل الرّمز من علامة ثقافيّة إلى فنّيّة يقتضي المرور بخواصّ الذّات وتمايزها حتى يكتسب الإنشاء جهده الحيوي والفاعل في تصوّر وبناء التّعبير الجماليّ بالخزف الأمازيغي، إذ «تؤدي التّقنيّة دورا مهما في تحقيق مختلف الانجازات البشريّة على مدى العصور المنصرمة وتختلف التقنيات باختلاف الاختصاصات والتوجهات الفكريّة والوسائط المادّية الّتي تقودها كما تختلف التقنيات أيضا تبعا لظهور النتائج في المنجز النهائي لأن التّقنيّة في محاولة تطبيقاتها هي تجارب تخضع للنجاح والإخفاق تحت عوامل مهاريّة وقصديّة جميعها تحدّد مدى الانتفاع الّذي تحققه التّقنيّة من خلال ظهور الإنجاز النهائي. فالتّقنيّة بمعناها الشامل هي المهارات والعمليات المستنبطة والمكتسبة الّتي تنتقل عن طريق الثّقافة»3، ممّا يكشف عن تأثّر بناء الشّكل بخواصّ امتداد الثّقافة وتطوّرها. فيستقي الرّمز بذلك تراكيبه الظاهرة من خلال قدرته على التمدّد ضمن سياقه التاريخي والحضاري، في تفاعل بين خلاصات المجتمع والثّقافة ونتاجات الذات. وإنْ تظاهر الأمازيغي بالتقيّد والارتباط بالثّقافة، فإنّه سعى إلى تجاوز ضوابطها ونواميسها التّقليديّة في إنشاء منجزه الخزفي لبناء تنظيم تعبيري ومادي وليد له خصوصيات الفردانية بتملك الأحاسيس الحميميّة الّتي تؤهل استقبال المتلقّي ضمن سياق الخطاب الجماليّ والفنّي. وتكشف عمليّة إنشاء الرّمز والعلامة، واختلافها من منشئ إلى آخر عن جانب التعدّد، وتُكسب الفرد تمايزه الدلالي من حيث معالجة التّعابير الاجتماعيّة والقِيم الحاضنة وتحوّلها إلى وسائل دلاليّة تعيد بناء الرّمز، وتنقله من صيغة المضمون الثّقافي إلى هيئة التّقنيّة والأسلوب. فيتحرّر بذلك الشّكل من قِيمة العلامة، ويفصح عن خطاب الشّكل الّذي بدأ يشق مسلك التحرّر من مقومات الإبداع الثّقافي إلى إبداع التّعبير الجماليّ على أساس مقوّمات فرديّة، وتنظيم، وبناء شكلي بآليات ووسائل ثقافيّة تتّصل بالحضن الحضاري وبالفكر الجماعي المشترك. فيتشابك المقصد الإبداعي بالمشترك الثّقافي من ناحية بناء الشّكل والمعنى. فإن كان تمثيل العنصر الثّقافي بالخزف الأمازيغي متماهيا مع التّصوّر الكلّي من الناحية الثّقافيّة، فإنّه يختلف عنه من ناحية التّصوّر الذاتي، فضلا على ممكنات الإخراج الأدائي للشكل، فيحافظ بذلك العنصر التّراثي على شكل الرّمز رغم التّحوّل التاريخي وانتقال الخبرات فإن الشواهد الخزفيّة تؤكد على محتوى المعنوي المتضمّن لحميميّة الذّات واستنطاقها لدلالات «جميلة» تعكس تعاملا ذاتيّا مع الأشكال والتّفاعل حسيّا معها كتواصل بين الذّات والرّمز للإشارة عن أفكار ومضامين جديدة تأخذ الذّات بديلا عن المحتوى الثّقافي والمضمون اللغوي للمفردة التّراثيّة. ولا شكّ أنّ الخزف المغربي القديم كان جزءا من الثّقافة، وجزءا من ثقافة الذّات بما لا يتعارض والقوى المتحكمة في إنشاء الثّقافة من قِيم القبيلة، والمصالحة مع الثّقافات الأخرى. ولا ريب أنّ للعوامل المؤثرة في تشكيل الرّمز دورها في الكشف عن جوانب الارتباط بين الشّكل وأدائه الوظيفي، إلى جانب اضطلاعه بوظيفة الخطاب والاتصال. ما أدّى إلى تمثّل قِيمتين ووظيفتين للرمز والعلامة في الخزف الأمازيغي.
التّوظيف الثّقافي:
يتمثّل في قدرة المنجز الخزفي على تمثيل قِيم العامة والبيئة والتّعبير عنها لتأكيد الخصوصية المحلّيّة. فيرتبط الشّكل بقِيمته الرّمزيّة والدّلاليّة كانعكاس مؤشر بأنّ الثّقافة هي الّتي ابتدعت الرّمز، واكتسبت مدلوله التّعبيري وأعطته قدرته على التواجد ضمن فضاء تكون فيه قِيم الفرد متطابقة مع أفكار وقِيم العامّة، وما على الخزّاف إلا أن يجتهد في صياغة صورة معانيها الّتي توحي بقدرات الرّمز في التّعبير عن الثّقافة والتّفاعل معها.
التّوظيف الفنّي:
انطلاقا من المعطى الثّقافي للرمز -والّذي يتحقّق داخل سياق العامة، وكذلك داخل سياق الممتلئ الحضاري والثّقافي- يتجسّد الرّمز داخل حركة تخضع لنظام داخلي يستطيع من خلاله الشّكل أن يعبّر عن هويّة جماليّة يَنْغرِسُ فيها التّعبير مقدّما ارتباطه بالشّكل وبتحولات الدّلالة فيه كمقصد إبداعي يُمايِز بين التّعبير الثّقافي وبين والوعي بالشّكل، لاسيما وأنّ المضمون الخطابي لم يعد له جدوى. فالتّحوّل الطارئ أن تخلّى الشّكل الإبداعي عن مقاصده المتداولة داخل سياق التّراث، وبدأ الرّمزُ يتجسّد بصفته الإبداعيّة المتفردة عن غيره من السّمات المقترحة من معنى وتراتيب تخضعه للذوق العامّ، إذ يتحرّك الشّكل من أنسجة الثّقافة ويحوّل نسقه النّمطي في التّعبير إلى بِنية لها مقوماتها البصريّة والحركيّة الّتي تنحو منحى المقصد الجماليّ داخل سياق التّجربة الوجدانيّة والذّاتيّة. فترتبط بذلك الشّكل بتملّك قِيمه الذّاتيّة الّتي تتكيّف مع نشأة فكرة «الجميل» فيغيب الرّمز بمقدار التّعبير عن الذّات واتّصاله «بسحر الجمال» فالرّمز يتموقع داخل هيأة الوسيط، ويعود بالشّكل الخزفي إلى الدلالات المشتركة الّتي تنتجها قِيم الجماعة، ومنها صرامة القواعد في رسم العلامة، بغاية إحداث موطن تصوّري للذات يدعّم وجودها التّعبيري والتّضميني داخل سياق المُتخيَّل عبر التّواصل مع أشكال الرّمز، لا من حيث رصد طاقتها التّعبيريّة وشحنها بالدّلالة فحسب، بل من حيث قدرتها على مواجهة الذّات في تواصلها مع مادّة الطّين وتجهيز الأصباغ، والتعامل مع الأشكال التّراثيّة الّتي تبني تعبيراته من إطار مواجهة تخلقها القِيم الإبداعيّة لثقافة المجموعة إلى علاقة انصهاريّة تخلّص الفرد من اندماجه وخضوعه للمنتَج الثّقافي الخارجي، وتستثير فيه الرغبة في إنشاء صورة حميميّة، ما يجعل الرّمز محدّدا لأبعاد حضوره بتمظهرات، وأشكال حضور تخييليّة متباينة، ترصد ضروبا مختلفة من التّعابير.
1) حضور تعبيري دالٌّ:
يتشكّل من خلال تمثّل مواضعات الثّقافة في تعاملها مع إنشاء العلامة، إذ يمكن أن يضطلع الرّمز بوظيفة اللّغة والكتابة وتسجيل الحاضر الاجتماعي.
2) حضور تعبيري بصري:
يتشكّل من خلال الوعي بالشّكل وبقدرته على إنشاء نسق تركيبي يوالف بين التّراكيب الخطّيّة داخل صياغة الرّغبة في البعد الجماليّ وبناء الملمح البصري والحياكي للصورة، وهو مجموع الجهد الإبداعي في اشتغاله تراكيب الرّمز وتمثّله، لا بصفته متحققا ثقافيا للسائد بإكراهاته، بل بوصفه صياغة جماليّة تتّصل بالعلاقة الإبداعيّة بين الفرد ومحيطه. وبتشكل الوعي في بناء العلامة، يتجسد الرّمز وسيلة تعبيريّة عنه من خلال إحاطات المقصد التّعبيري عن الثّقافة، أو ذاك الّذي يتّخذ من الشّكل مجرد أداة تحقّق وتواجد داخل المنجز الخزفي.
أهمّيّة المعيار الجّغرافي في تحديد البِنْيَة الجماليّة للخزف الأمازيغي:
تميّز الخزف الأمازيغي في فترة ما قبل الإسلام بارتباطه الثّقافيّ والجغرافي وبصيغة تواصل بين الفرد ومحيطه. فالجغرافيا فضاء احتواء، ووعاء حضارة، وبيئة ثقافيّة محيطة بالفرد ومؤطرة له في جُلِّ ممارساته التّعبيريّة والجماليّة. ولفهم مدار الممارسة التّعبيريّة في الخزف الأمازيغي كان لا بد من فهم طبيعة الانتماء للجغرافيا كمعيار محدد للبنية الجماليّة بالمخزوفة في فترة ما قبل الإسلام.
إنّ هذا الانتماء يُنبِئُ بمسار علاقة متطوّرة بين الفرد ومحيطه السوسيولوجي والفكري والجماليّ، ممّا يكشف عن اختلاف طرق وأساليب الإبداع المحددة لأشكال وأنماط البنى الجماليّة في مجال الزّخرفة وصناعة الخزف.
تنشأ العلاقة بين الفرد والجغرافيا على صيغة انتماء للمكان روحيّا وفكريّا وجسديّا. وهو انتماء للمجتمع، وللقبيلة، ولنظم وقوانين العرف في شتّى مجالات الإبداع والتّعبير. ويتحدّد الانتماء في قراءتين:
1) جغرافيا خارجيّة:
تتحدّد في جملة القِيم ومعايير التّثاقف والتّواصل البين بين، وهي تقود في تجميعها وتركيبها إلى صياغة وليدة «لعجينة» فنّيّة وإبداعيّة، وهي الشّكل، والخامة، واللّون، والرّمز بغاية خلق مضمون تعبيري وإيجاد حاضنة ثقافيّة جديدة.
هذه الجغرافيا الخارجيّة هي بمثابة البيئة الحاضنة لفعل تشكيلي في الخزفيّة الأمازيغيّة المنفتحة على غيرها من الثّقافات. وهي تنطبق على «مجموعة الأشكال والظواهر المحيطة بالفرد، والمؤتمرة فيه، تقول البيئة الطّبيعية أو الخارجية، والبيئة الاجتماعيّة والبيئة الفكريّة»4.
2) جغرافيا داخليّة:
وهي الجغرافيا «العضوية»5، جغرافيّة البيئة والانتماء للفضاء، زمانيّا ومكانيّا، بكلّ مظاهر تقيّدهما والتزامهما الثّقافيّ والعقيدي والعاداتي، أو تلك المتعلقة بالحركات، كالذائقة الثّقافيّة المتحوّلة بتحوّل الطبائع وتطوّر الصنائع.
والتّواصل مع المكان والزّمان هو نقيض الانفصال والاغتراب. إذ أنّ كلّ مظهر انفصال في ممارسة الخزف الأمازيغي هو مظهر شرود تعبيريّ، وخروج عن صرامة قواعد عرف الممارسة، وأنّ كل مظهر اغتراب عن الحائطة المكانيّة والزّمانية هو محاولة تملّص من تأثيرات البيئة الداخلية كمعيارٍ جغرافيٍ مؤثرٍ في سيرِ قواعدِ عملية الممارسة التّشكيليّة، وكعنصر فاعل في تحديد البِنْيَة الجماليّة للخزفيّة الأمازيغيّة .
إنّ المعيار الجغرافي الخارجي هو معيار تجدّد وانفتاح على الآخر؛ سمته التمرّد، والحركة. ويُنظرُ إليه بصفة الشذوذ، وبصيغة أخرى انّه السّالب للهويّة. وهو معيار وجبت محاربته للمحافظة على «نقاء» الممارسة. فالمعيار الجغرافي الدّاخلي هو معيار التّصالح والحميميّة مع الهويّة الجامعة والصّورة المشتركة، ومعيار القراءة الكلّيانية والتّصوّر الشمولي. وهو يمثّل الحركة الشّاملة والمتواصلة، والّتي لا يجب أن يقطعها سلوك الآخر، يقول «كلود برنار»: «هناك بيئتان تؤثران في الكائن الحي، الأولى هي الكائن هي البيئة الكونية، أو الخارجية والثانية هي البيئة العضوية أو الداخلية»6 تبدو هذه المعايير الخارجية والعضوية للجغرافيا مؤثرة في سير عمليّة اشتغال البِنْيَة الجماليّة في الخزف الأمازيغي من حيث تركيبة اللّون والخزف، وهي مضامين تقنيّة وجماليّة حاملة لطقوس الممارسة التّعبيريّة.
إنّ طقوس الممارسة الإنشائيّة بالخزف الأمازيغي ترتهن إلى موقفين ومبدأين عامّين:
- الخشية من الغريب: هو سلوك نافر، ورافض لكلّ أشكال التّجديد. إذ يتعامل باحتراز مع الدخيل. وفي الضرورة، يكون التّعامل جزئيا دونما إخلال بصرامة قواعد الممارسة.
- تكريس الانتماء: ينهض هذا المبدأ على الانخراط الكلّي في الأساليب التّقنيّة وطرق الأداء بفعل عامل الوراثة كتكريس لمشروع فعلِ ممارسةِ الهويّة. ولم يكتس الفعلُ التّعبيري في الخزف الأمازيغي طابعَ هويّة الممارسة في ظل غياب مشروع المقصد الفنّي الّذي ما زال لم يتبلور بعد. فالفعل الإبداعي ما زال في طور دائرة التّوارث والتّقليد، وتوسّل المضمون الرّمزي. فالمعرفة بالتّقنيّة ارتهنت إلى رسالة الرّمز وإيحائيّة الشّكل، فحدَّ الجانبُ التّرميزي من شكل التّعبير، وحوّل عملية الإبداع إلى عملية إنتاج للرّمز ومقصدِ الإشارة.
هناك قواعد ونظم صارمة محدّدة لسير العمليّة الإبداعيّة في الخزفيّة الأمازيغيّة، ويجب التقيّد بهذه القواعد، فهي ملزمة. والمرأة الأمازيغيّة العاملة في المجال الخزفي هي مُترفة ومُشبعة بضوابط الالتزام والتّقيّد بالقِيم الإنشائيّة لإنتاج موروث معياري تحدّده البيئة الجغرافيّة والثّقافيّة للمجتمع وللعرف التقني في الممارسة الخزفيّة.
ويمكن قراءة المعايير الجغرافيّة في ثلاث نقاط أساسيّة:
- معايير جغرافيّة عامّة: وهي معايير إلزاميّة مشتركة، وإرث كوني، ومخزون حضاري للإنسان الأمازيغي، ويمكن أن نسمّيها بمعايير «الأعم». وهي بمثابة الوعاء الواسع الّذي يستوعب الكلّ، أشمل وأعمّ من الفردانيّة. وتتمثّل في جملة الأشكال والرّموز المعتمدة في الخزف الأمازيغي على مختلف مناطق الإنتاج كحروف تيفيناغ وأشكال المعيّنات والمربّعات والدوائر.
- معايير جغرافيّة خاصّة: تهمّ مناطق محدّدة، إذ لكلّ منطقة معاييرها وطرق تلوينها، وأساليب إفْرَانِها... وهي معايير مكرّسة لتجربة هويّة المنطقة الجغرافيّة المحدَّدَة، مثل خزف مناطق القبائل الكبرى، وخزف مناطق القبائل الصغرى، والخزف الأَسْود الصحراوي أو خزف «ادرار» بالجزائر، وخزف «سجنان» بتونس، وخزف «طنجة» بالمغرب، حيث لكل مميّزاته، إلّا أنّها لا تقطع كلّ الصّلة مع المعايير الجغرافيّة العامّة. تستقي هذه المعاييرُ أسسها من التأثيرات «الأعمّ» للبيئة ولتبعيّة المكان. وهي تأثيرات موسومة بمعيار التّنوّع والتّعدّد والتمايز صُلب التّواصل. ويتضح هذا من جملة الاختلافات ومعطيات التماثل والتّفاعل من خلال ربط الصّلة بين الفضاء الثّقافيّ للهويّة الصّغرى والهويّة الكبرى.
- معايير جغرافيّة ذاتيّة: وهي المعايير المخصوصة، أو ما يمكن الإشارة إليه بالجغرافيّة النفسيّة. وتلخّص التّجربة الذاتيّة المتأسسة على صبغة خلق المعنى الرّمزي الخاص وهو جملة الإشارات والمقاصد الذاتيّة وهو معيار وجداني يحدّد مدى التزام وتقيّد الفرد أو قطعه مع أشكال وأنماط الممارسة الإنشائيّة في صياغة الإنتاج الخزفي الأمازيغي هذا المعيار الذّاتي وهو المعيار المحدّد للنّشاط الإبداعي والتّعبيري والدّلالي والرّمزي في بلورة المقصد الجماليّ وهو المقصد للفعل والإنشاء الفنّي كنشاط حميمي كجملة نشاطات تمثّل نمط التّعبير الذّاتي وتأثيرات اليومي في تحريك ذات الصلة بين التّعبيري والذّاتي الدّاخلي لبناء مع الآخر لما تحدّده العلاقة بين توهّج الدّفع الذّاتي لبناء الفكرة، أو الإشارة الرّمزية، ومن هنا تنبع الرغبة المشتركة للتعبير بين المرأة الأمازيغيّة وحاجتها للرمز، واحتياجها لمادّة الطّين ،فيتأسس خطاب تعبيري وجمالي. فتنبرم الأشكال والخطوط إلى إيحاءات تعبيريّة، ومسارات رمزية، ومسارات إبداعيّة تقرّب الصّلة بين الذّات المنشئة وحضور الآخر، بغاية التمكن منه. وعليه، نعتبر النشاطَ التّرميزي للمُنشأَةِ الخزفيّة الأمازيغيّة محاولة تحرّر من تضييقات النظم وتمثّلات الالتزام والتقيّد البيئي الّذي يحاول أن يشغل مضامين تعابير الخطاب التّعبيري للعلامة ويصادر جوانب محاولات الانفلات فيها .
استطاع المعيار الجغرافي الذّاتي أن يتحسّس وجوده ضمن مساحات التقيّد على مكامن الاختراق وتضييقها. فمن خلال الإشارة تمكنت العبارة من إحداث «بؤر توتّر» دلاليّة، تحمل تآلف سحر الغموض في ممارسة طقس الزّواج بين حزم التقيّد بالقواعد الأساسيّة للمرجعيّة الثّقافيّة والبيئيّة وبين العمليّة الإبداعيّة الموهومة بالتقيّد في جانب إبداعيّة الرّمز وفق تحقّق سمة التخطي. وتكمُن شساعة التخطي في قدرة الجانب الرّمزي على التّبليغ، وجُرأَة العلامة في بسط الخطاب الحميمي في الممارسة الخزفيّة عند المرأة الأمازيغيّة.
ولمّا كان المضمون التّعبيري ليس بمعزل عن المضمون المادّي، فإنّ مدى تحديد البِنْيَة الجماليّة للخزف الأمازيغي -من خلال المعيار الجغرافي- يمرّ حتما من خلال توظيف الخامة والشّكل في اشتغال العلامة؛ ذلك أن ضابط الالتزام يُحتّم تكشُّف مضامين الانخراط في جملة الصياغات الموحدة الّتي يتأسس عليها البناء من لون، ومادّة، وتركيبة، وتقنية وفق معيار التّكيّف الذّوقي العامّ كنسق هويّة وماهية مشتركة. إلّا أنّ عملية الإنشاء تضمّنت جانب التّفرّد، وابتكار «حيلة» الرّمز كـ«آلة» تعبير، ونشاط اشتغال ذهني يطرح ممكنات التّوظيف الإيحائيّ لتعبيريّة الشّكل، حتى أضحى اشتغال العلامة مضمون تجاوز، ولغة تعبيريّة تزيح صفة الحرفة والمنتَج الوظيفي والاستهلاكي عن المشغولة الخزفيّة، وإنّما يتحدّد النّشاط التّعبيري كخطاب جمالي فنّي، له قِيمه التّشكيليّة في تمثّل تعبيريّة العلامة كأسلوب أداء مُحفّز لخطاب تشكيلي يتجاوز الصّياغة المادّية للشّكل وطرق نَظمه إلى صياغة النصية والإبلاغية. فتمثّل البِنْيَة الجماليّة للخزف الأمازيغي لا يحدّدها المعيار الجغرافي كسلطة اقتراح إنشائي فقط، بل من خلال انفتاح الآفاق التّعبيريّة في توظيف العلامة للتّعبير عن الانفعالات الوجدانية والتّصوّرات التّعبيريّة لتحويل التّجربة العامّة للممارسة الخزفيّة إلى تجربة ذاتيّة، وتمثّلية ذات مقاصد إيحائيّة.
إنّ الخزف الأمازيغي في جوهره ليس إلّا مجالا متداخلا من الجغرافيّات ينفتح فيها الفضاء البصري على خفايا الرّمز الجليّ منها والخفيّ. تتغير جغرافيّة الدّلالة وتتنوّع، ولكنّها تتوزّع ضمن حواضر أهليّة وثقافيّة تحتكر المعنى والنّصّ. فالفعل البصري لصورة الرّمز ينهض بوظيفيّة حارس الهويّة ومحرّك جملة العلاقات الانشائيّة للصورة. وفوق هذا، يفتح الرّمز في الخزف الأمازيغي نوافذ فكر الثّقافة ويتيح تحصيل استطرادات الماضي الّتي تدبّ فيه. وفي ثنايا هذه الاستطرادات، يرتبط الخزف الأمازيغي المغاربي بعلاقة قائمة بين الفعل الإبداعي الثّقافي وممارسة التّجربة الحميميّة باستحداث صياغات خزفيّة تشمل اللّون و«الزينة» والشّكل بما يوسّع القِيمة الإبداعيّة الّتي تحول التوهج الحرفيّ إلى حدث تعبيري يتطرّق إلى الطّابع الإيحائي للفنّ والثّقافة، وهو ما ينقل العلامة الثّقافيّة من مجال البصريات إلى مجال إبصارات جوهر الفعل الإنشائي، ويحيل الواقع الحسّي إلى واقع فكرٍ يشمل مساحات باطنية وخارجية عميقة تسير نحو لحظة إبداع الهويّة في علاقته بأصالة الرّمز وعلاقته بالمكان بما يفصح بوحًا عن مقاصد تشكيليّة كامنة في تمثّل العلامة بالخزف الأمازيغي. لعبة الثقافة والبناء.
النّتائـــج:
أوّلا: ساهمت التّحولات الثقافيّة في إرساء قيم تشكيليّة دالّة على جملة من التّحولات في خصوصيّة الخزف بالمغرب الكبير بما يعكس سلوكا إبداعيّا يتحقّق فيه الفرد والمجموعة. ويمكن القول إنّ الخزف الأمازيغي قد تميّز بأسلوبه الرّمزي وإن تعدّدت مراجعه، واختلفت روافده الّتي استلهم منها الخزّاف المغاربي ووظّفها في استخداماته التّعبيريّة. وانشغل الخزف الأمازيغي بعرض المأثور الثّقافي والحضاري للبيئة الإبداعيّة المغاربيّة وتبيان الأبعاد الجماليّة للبناء البصري للمشغولة الخزفيّة، ّإلّا أنّ الرّمز بقي عنصرا دالّا عن تقيّد الخزّاف بانتمائه الثقافي رغم ما نلاحظه أحيانا من نزوع للتفرّد ومحاولة الانفلات من قيود «الشخصيّة الثّقافيّة»، وهو ما نعبّر عنه بـ «سلطة الذوق الفرداني»، ذلك أنّ الخزّاف ذات ثقافيّة، وذات ذاتيّة تستحوذ عليها حميميّة «ذات الفنّان الفطريّة».
ثانيا: يعود اشتغال الرّمز في الخزف الأمازيغي إلى روافد ثقافيّة وحضاريّة عديدة، وبذلك استخدم الخزاف المغاربي العنصر التّراثي في اتّجاهين:
- اتّجاه ذاتي ووجداني يتصالح فيه الخزاف مع ذاتيّته
- اتّجاه ثقافي يتمتّع فيه الخزّاف بحضور انتمائيّ يتلاءم مع صرامة الذّوق الجمعي الّذي تعود جذوره إلى جملة التراكمات الحضاريّة والتّاريخيّة.
ثالثا: أدّت الحركات الثّقافيّة والحضارية في بلاد المغرب إلى بلورة المقوّمات البصريّة للخزف الأمازيغي، وكانت مؤثّرة في ولادة الخبرة الاجتماعيّة كأحد أسس التّعبير وشحن الرّمز بلغة المجموعة وعاطفة «الفنّان». ورغم محفّزات التّعبير في الخزف الأمازيغي وما يستبطنه من شعور وعاطفة، إلّا أن هيمنة البعد الثّقافي حدّ من الجوانب الذّاتيّة وعمل على صياغة كينونة جامعة قادرة على التّواصل بين مختلف شرائح «الكائنات الثّقافيّة». ولا تحجب محوريّة النّص الرمزي -كبعد ثقافي- مضامين الخصوصيّة البصريّة ما يطرح مدخلا جماليّا يتحوّل فيه العنصر التّراثي إلى وسيط فنّي يستعرض حدثا تشكيليّا إذا ما ربطناه بمفاهيم البناء، والتّركيب، والتوليف، والاستعارة...