غناء الجبّادة (المنسيـون) دراسـة في المأثور الشعبي ..
العدد 64 - أدب شعبي
«إن مــا أصــاب ثقافتنــا هــي القطيعــة مـع مـا يمنـح الحيـاة والتنـوع لبلادنـا، حـي بـلا ذاكـرة، وبلا ثقافة شعبية، حي ميت» .
كمالا ماركندايا
إن حرفة استخراج المياه بالمزارع، أو ما كان يعرف «بالجبَـادة، أو الجـبَـاد» لهي من الحرف القاسية، الصعبة والمضنية، حيث عانى الفلاحون في مناطق الجفرة وواحات فزان، الويل والمعاناة والرهق الشديد، طوال قرون عندما كانت هي الوسيلة الوحيدة لاستخراج المياه من الآبار السطحية لغرض ري المحاصيل، بطريقة الغمر... بالحقول والمزارع والبساتين، معظم أيام السنة، وبالرغم من تعاقب الفصول، وتباين المحاصيل المزروعة، وغالبا ما كان «الحمار» هو الدابة الوحيدة القادرة على تحمل هذا الرهق وتلك المعاناة.
فقد أطلق على العامل بهذه الحرفة صفة أو مسمى «الجبّـاد»1 كالحدّاد والخبّـاز والقصّـاب، فهو الذي يقوم بعملية استخراج المياه من الآبار مقابل جزء من الإنتاج يبدأ من الثلث والربع والخمس ليصل حتى السدس، وحصة محددة من إنتاج التمور، عدا المصروف اليومي من ذات الغلة، بموسم التمور في فصل الخريف، وأحيانا تمنح قيمة مالية محددة متفق عليها، وهذا كله كان يتوقف على حجم المزرعة ومستوى إنتاجيتها من الحبوب والتمور وعدد العاملين فيها من الجبّــادة والسقاة أو السقــّـاية.
لم ينل الجبـّـادة، حقهم أثناء أدائهم لوظيفتهم او عملهم، كذلك لم ينصفهم المؤرخون والباحثون والدارسون، حيث لم يكونوا ينالون سوى الفتات نظير ما يبذلونه من جهد وعرق، حيث كانوا يعملون أكثر من اثني عشر ساعة في اليوم الواحد تقريباً.
وفي هذا الإطار، ترك لنا الجبـّـادة، المئات بل الآلاف من المقطّـعات والمنظومات الثنائية والرباعية الشعرية، التي تقطر حكمة، والتي تشي عن تجربة مصفاة، وبكلمات منتقاة، نابعة عن تجربة إنسانية عميقة وحقيقية، حفظ بعضه، ونسي جلّه، هذه المقطعات والمجزوءات ذات الدلالات والمعاني الموجزة المقطرة والمكثفة، يندرج جزء كبير منها في إطار الحكمة والمثل والعبرة، التي يجب أن تحتذى.
هذه الخلاصات، لم تدرس، بل لم يتم التعرض لها، إلا عرضا، وفي سياق التعريف بها كلون فني، ضمن ألوان2 أغاني العمل ليس إلا ...
ولم يتم التوقف والانتباه عندها ومعرفة حجم المعاناة والمكابدة، التي كان يلقاها هذا الإنسان، حتى النصف الأول من القرن العشرين، وما سبقه من قرون، وفي هذا الصدد، يقول عبد القادر جامي، حاكم غات التركي عام 1906 عند مروره بواحات فزان قاصدا مرزق، في كتابه – من طرابلس الغرب الى الصحراء الكبرى.
«إن صوت غناء جبّــادة فزان، الموزون، وإخراجهم الماء مع النساء والأطفال، من الآبار التي نصبت على جانبيها ساريتان من جذوع النخيل الطويلة المربوطة، بحبل في أوتار حول البئر، وكأنهما ساريتا سفينة كبيرة، ومنظرهم وهم هابطون صاعدون في الخندق ذي الانحدار الخفيف السهل، الذي طوله يساوي عمق البئر المسمى» المرجع «أو الــ «المجر» لمنظر يمثل العناء والكد بكل معانيه في سبيل لقمة العيش»3.
وفي هذا المجال، يعتقد كثير من الدارسين والباحثين أن مهنة او حرفة «الجبّـاد» كانت مقتصرة ووقفاً على الطبقة الدنيا من الفلاحين العتقاء أو أحفادهم المعدمين، الذين لم يكن لهم أي حرفة سوى الفلاحة ولكن هذا القول يجافي الحقيقة والواقع ولا ينسحب أو ينطبق على فلاحي منطقة الجفرة، فلقد زاول وامتهن هذه الحرفة بواحات هون وودان وسوكنه، مـُـلاّك وأصحاب مزارع، جلهم ينتمون إلى عائلات وعشائر وقبائل معروفة، وهذا يعود في ظني إلى صغر حجم هذه المزارع، بل وإلى عدد أفراد هذه الأسرة أو الأسر، وما تغدقه أو تنتجه هذه الحقول من حبوب وتمور أو غلال أخرى، ولربما تعود في بعض منها إلى فقـر ومحدودية إنتاج هذه المزارع، بسبب إرهاق الأرض بزراعتها لسنوات طويلة، أو لعدم قدرتهم على تشغيل وإيواء جبـّـادة بمزارعهم كما أن انعدام فرص أخرى للعمل، جعلت هؤلاء الفلاحين يتشبثون بمزارعهم، ويمارسون هذه النوعية من الأعمال بمزارعهم الخاصة أو لدى الفلاحين الذين يملكون مزارع أكبر مساحة، قادرة على استيعاب أكثر من جبـّـاد، وبها عدد كبير من النخيل، وهذا يشير في بعض من وجوهه، إلى الاختلاف الحاصل في نوعية الفلاحين العاملين بالمزارع بمناطق فزان، كذلك في الكيفية التي يتم التعامل معهم في قيمة الحصص من المواد المنتجة، والتعاقدات البينية مع الفلاحين الملاك، والعاملين من الجبّــادة والسقاة، مع نظرائهم الفلاحين بواحات الجفرة حيث كانت الطبقة الكادحة في فزان هم الفلاحون الخمّـاسة، «والخمّــاسة هم فلاحون بلا أرض، يبيعون جهدهم العضلي، ويقومون بري وزراعة وجني محاصيل السواني، مقابل نسبة من الإنتاج مع مالك الأرض، وعادة ما يزود مالك الأرض الفلاح، بالملابس والحيوانات والبذور»4 وما ينطبق على الشريحة الدنيا من العتقاء بواحات فزان، ينطبق على نظرائهم من الجبّــادة بواحات الجفرة، أما الجبّــادة من الفلاحين أبناء الواحات الأحرار، والمالكين لزمام أمورهم، فلهم شأن آخر فيما يخص التعاقدات والاتفاقات، خاصة فيما يتعلق بمنتوجات فصلي الصيف والخريف، المحددة بضوابط وتفاصيل لا يمكن الحؤول عنها أو تجاوزها والتي تستند في جزء كبير منها على أسس الدين ومعاملات الشريعة حيث وضع هذه الضوابط والبنود والتفاصيل، بعض الفقهاء المتنورين درءا لكثير من المنازعات والخصومات التي كانت تقع بين الفلاحين والجبـّـادة والسقاة، في أزمنة سابقة.
ومن أبرز هذه الضوابط، أن يتم الاتفاق مبدئياً ومع بداية كل موسم بين الفلاحين المُلاّك، ومحاصيصيهم – من الجبّــادة والسقـّـاية على نسبة السدس في المزروعات عامة، أما ما يخص محصول التمر بالموسم فلقد قدر بعشرين كيل من التمر، عدا الرطب أو مـا يسمى محليا «بتمر النقي»5 وأحياناً يطلب الجبـّـاد أو السقــّـاي من الفلاح المالك جزءاً من السدس مبلغاً مالياً يدفع نقداً، يتفق بشأن قيمته من القيمة الإجمالية للسدس.
وفي حالة طلب الفلاح ضمن الاتفاق المبدئي ومع بداية الموسم، أن يتم تأمين صرف مأكله وأحياناً مأكل أسرته من ضمن حصته «السدس» الذي يسمى «الصرف» يخصم فيما بعد مع نهاية هذا الموسم.
يستوي في هذه الشروط الجبّــاد أو السقّــاي ابن البلد، أو الفلاح الوافد أو المستجلب من واحات فزان البعيدة.
ومن بين الشروط المعروفة والمتفق بشأنها سلفا أن يوفر المالك البذور والدلاء والبهائم وكل لوازم ومعدات المزرعة الأخرى.
على أن ثمة أمرا جوهريّا لابد من إيضاحه وهو حالة توفر «غرغاز أو غرغازين» بالمرجع الواحد، حينها سيكون للغرغاز6 الربع والسدس للغرغازين.
عملية الجبَــاد أو الجبَــادة، كانت تتم في مكان يسمى «المرجع» الذي ينحدر ويزداد عمقه كلما ابتعدنا عن البئر، بحيث يصل عمقه، عمق البئر تقريبا ومتوسط طوله من سبعة إلى عشرة أمتار، وعرضه ثلاثة أمتار تقريباً للغرغاز وستة أمتار للغرغازين، ويتم سحب الماء من البئر بالبهائم بواسطة وعاء يسمى «الــدلو» الذي تتكون مفرادته من:
الدنقاره، الرشاء، القيود، الطوق، الخراص، الخابية، الكم، الشناف، السلنكه، أما الساريتان اللتان تحـدّثَ عنهما السيد جامي ومشتملاتهما فتتكون من الذراعين، الغربّة، الجرارة، الجبهة، السركايا، الكرية، الدايا، الرايس، وأما الحوض الذي يستقبل الماء أو ما يسمى بـ (الميدة )7 فتشتمل على العتبة واللطّامة، والتي من خلالها أي الميدة يتم توزيع المياه المستخرجة عبر الأقنية والأعمدة والجداول والأحواض.
إن هذه العملية البدائية، المرهقة، والمضنية والمملة في آن، والتي لم يتم تطويرها وإدخال تحسينات جوهرية عليها إبان العهد التركي الذي امتد قرابة الخمسة قرون، يدل بما لا يدع مجالا للشك على عدم الاهتمام والجدية بل والإهمال والتسيب من قِبل هؤلاء الأتراك تجاه الولاية ونواحيها من أقضية وقائمقاميات بل كان همهم الأساسي كما هو معروف، ما يتم جمعه وتحصيله من ضرائب وعشور وإتاوات من هؤلاء الفلاحين البسطاء.
هذه العملية وما رافقها من شعور بالغبن والضنك والتهميش، أنتجت لنا فناً عظيماً، وأغاني بديعه شائقة، في هذا المضمار تقول الدكتورة نوال السعداوي ... «إن الفن الشعبي الذي يغنيه الناس منذ دهور، والذي يغنيه الرجال والنساء، هو أجمل الفنون» .
تغنى الفلاحون، تعبيراً عن معاناتهم، وما حاق بهم من جور وعسف وما كانوا يلاقونه من ظلم الإنسان، وقسوة الطبيعة.
كان هؤلاء الفلاحون «الجبّــادة» ينهضون منذ الساعات الأولى من الصباح الباكر ولا نبالغ إن قلنا الساعات المتأخرة من الليل، فلقد أكّد لي أحدهم أن ذلك كان يتم غالبا مع الساعة الثالثة صباحاً.
فهي عملية ميكانيكية، مكررة أو مكرورة ومملة من الغدوّ والإياب، الذهاب والرجوع والتي جاءت منها تسمية «المرجــع» تقريباً.
كذلك جاءت هذه الأغاني في إطار قتل الملل، وكسر حاجز الصمت والرتابة والمعاودة التي تتصف بها عملية استخراج المياه أو الجبَادة.
كما أنّها جاءت لتصوّر حجم المعاناة والكدح والمكابدة التي تميزت بها هذه الحرفة والتي ساقها لنا هؤلاء الفلاحون في نماذج وصور وتعبيرات سهلة، مشحونة بالمعاني الإنسانية المعبرة، وفي غاية الشفافية والنبل والرقي، لتدلل وتجسد معاناة حقبة من الزمن، وشريحة من الناس كانت تنزف العرق والدم والدموع كي تـُدفع كإتاوات وضرائب وعشور للسادة الأتراك في مركز الولاية ومن تحالف معهم من المواطنين أولصالح الدويلات المحلية، كدولة أولا، أو لغيرهم من الحكام الذين يتمكنون من السيطرة على الواحات زمن انحسار الدولة المركزية.
كما أن هؤلاء الجبّــادة، ساهموا مساهمة فعالة في استقرار الاقتصاد «الريعي» المحلي، والذي تمكن من خلاله الفلاحون والقبائل والتجار من إنجاح عملية المبادلات التجارية فيما بينهم، والتي كثيراً ما كانت تتم عبر عمليات المقايضة بالسلع المتوفرة، أو التي كانوا في حاجة إليها ..
فلقد كانت التركيبة السكانية بالدواخل .. «حيث عاش فيها التجار» الفلاحون والعبيد والقبائل فالفلاح هو العامل الحر الذي استقر في مزرعة «السواني» ودفـع الضرائـب، إلـى الدولـة أو القبيلة، مقابل الحماية من القبائل الأخرى والعبد هو إما خادم في منزل أومزرعة أو راع ٍ مملوك من قِبل عائلة أو قبيلة8.
فلقد كانت هذه المبادلات والمعاملات الاقتصادية بين الفلاحين والبدو والتجار، تتم عبر سياقات وآليات انسيابية سلسة، ووفق ضوابط متفق عليها يتم تطويرها حسب الحاجة والمستجدات ...
كما أنّ العلاقات الاجتماعية كانت تتم عبر تراتبيات ونظم وتحالفات وأنماط تشكّـلت وتراكمت عبر الزمن، ارتقت لتشكّل أعرافاً كان من الصعوبة خرقها أو التعدي عليها أو تجاوزها.
ولعل أهم أغنية ومثل وقيمة، تغنى بها الفلاح «الجبّـاد» هي أغنية، الصبر فلقد كانت هي الأنموذج والدلالة والثيمة والرمز والشفرة، والحبل السُري «الأمتن» الذي ربط بين كافة أفراد هذه الشريحة من الجبّـادة فلقد كان الصبر هو أبرز ميزة يتحلون بها، والخصيصة الأهم من بين خصائص عديدة أخرى، والحلية الأنقى والأبهى التي يتزينون ويتجملون بها بين الناس، وبالرغم من هذا الصبر «الأيوبي» الجلي والبين فإنك لن تجد، ولن تعثر بين هذه الأشعار والتعبيرات ذلاً أو انكساراً أو خضوعاً، رغم كل شيء.
فـــ ....
الصبـر هـو طـب لوجــاع
وبالصمـت تقهـر العادي
وكثـر التطمــع ولدناع
بهــن يكرهـوك العبادي...
حضور قوي للذات، الواثقة المتحررة، والشامخة، الممتلئة بالعزة والكبرياء فبالرغم من كل صور معاناته اليومية المؤلمة، فهو حكيمُ وبليغُ، وشاعرُ أيضا ...
الصبر ديـره عوينـك
ديـــر المليحــة وداري
واللــي أنكتــب فـــي جبينـك.
مــا عـاد يمحـاه قـاري
فالصبر هو الزاد والمعين على الرهق، إضافة على ذلك يوصي نفسه وسامعيه بالعمل الصائب، ويحثهم على الاستقامة، والسير عبر الطرق والدروب الخيرة والمضي إلى الهناء والسعادة ...
الصبــر عنــد العـرب مر
وعنــد العــوارف شجاعــه
اشريــه يـــا صاحــب العقـــل
إنكـان ريــت مهبــول باعـــه
فالصبر له طعم ونكهة خاصة، لا يستسيغ طعمه إلا العارفون والحكماء وذوو النفوس الكبيرة، وهو شجاعة ومروءة، رغم مرارته الموجعة والتي غالبا ما تكون إيجابية في نهاية المطاف، وتعود على أهلها بالفائدة، وقد تكون صعبة ومؤلمة، تولّـد الألم والحسرة وتحيل على الانطواء والانزواء والندم والعزلة فـــ ...
أوقـات في الصبـر علـه
وأوقـات فيـه الفوايـد
وأوقـات حملك تقلــه
وتقـــل فوقـه زوايـد
هذا الجبّـاد ومن خلال عمله اليومي المضني، الذي يدوم لساعات طويله، صار بإمكانه التأمل، بإعمال العقل في الحياة والكون والإنسان، وفي مختلف أنماط عيشه، وتفاصيل حياته اليومية بل إنه أوغـل وتعمق في أسرار كينونته، وقيمه الخلقية ...
اللي ما سفر ما خبر لرض
ولا وردك علـى المناهـل
واللي ما قري ما عرف فرض
حتى إن تاب ما زال جاهل..
وفي نظرة تأملية فلسفية يقول ..
نفسـي عـزيـزة علـيّ
وكــذاب مـن قــال راهـا
ايلـوذوا بهـا في سوق لرباح
ويزايــــدوا في شراهـا
فهم أي الناس، ينظرون إلى ظواهر الأشياء، ولا يتعدون مظهرها القشروي السطحي «البراني» ولا ينفذون إلى أعماقها الداخلية «الجوانية» وهو العارف ببواطن نفسه، يُكذّب ما يزايدون به عليها، وهم الذين يقيمونه من خلال رؤيتهم الظاهرية.
يـا عيــن شبـي النظـر فـوق
راهـــو التوطــي غبينـه
ومـن عـز نفســه بـدي شوق
ويبـدوا العـرب شاهيينـه
ويقول أيضا :
واحـد يغني مـن الـفرح
وواحــد يفضـي غشاشـة
وواحـد يغنـي مــن الهـم
اللـي بيــه مليـان جاشـه
كل يغني على ليلاه، فأحدهما يغني طرباً والآخر يغني ألماً وكمداً، لكنهما يغنيان على كل حال، واعتقد أن الغناء لكليهما خير وأجدى من الصمت والغم ..
هذا الجبّــاد الذي يتغنى بشقائه، يغبط الكسالى والأغنياء راحتهم فهو المنتج وهم الراقدون، عديمو التدبير.
نـوم الضحـى ونـوم لفجار
مـــا يرقــده غيـر بايـر
أمـا هنيــاً ومطمـان
وإلا عديـم الدبايــر
كما أنه يحث القاعدين والمتسولين، والمعتمدين والعالة على غيرهم بالسعي في الأرض، منتقداً ما هم عليه من كسل وضعف ..
عطـك كسـر يا مــاد أيـدك
وطامــع برزق الخلايـق
كنتـش واخـدم بجهـدك
مــا ينفعـنـك ظوايــل
فهو المعتمد على قوته الجسدية، وصبره الصخري الأسطوري وعزة نفسه الباذخة واجتنابه الكبائر والصغائر وتوافه الأمور ...
لاهمتــي لا علــىّ
ولا راح لــي لا غدالـي
مبسـوط وأيـــدي مليـة
وأنـا صحيحتي راس مالـي
أنـا والليالــي وليـام
نصـارعـوا بالذراعـي
جـــت بركتــــي فــــوق ليـــام
لياليـه كـرن كراعــي
صراع ومجالدة، كدح وعطاء، مواجهة ومغالبة، كر وفر مع الأيام والليالي وقد يكتشف بالرغم من كل هذا، أنه فقير معدم ...
بنـادم بـلا مــال مسكين
فــي دنيتــه مـــا زهاشـي
طريلــه كمــا دلو مشــروك
يمـــلا ويطلــع بلاشـي
وأحيانا يعنـّف نفسه ويلومها قائلاً :
المـال يبغـي المحاريــر
اللــي يباتــوا سهـــاره
ايجضـوا جضيـض المكاسيـر
عطــوا نومهــم للفقـاره
وعندما يقلب أفكاره يميناً ويساراً، شمالاً وجنوباً، يمسي قانعاً بما كسب وما أتاه من رزق من خالقه ..
اللــي طلــب يطلــب الله
ايقــول يـا كريـم المعاطـي
إلا العبـد خليــك عنـــه
لا يرفعك ولا يواطــي
وحين يصف عمله، متمثلاً صراعه ومغالبته لمشاق حرفته، ومدى الشقاء الذي يكابده ويعانيه خلال رحلته اليومية الموحشة، يتجلى مقارناً معاناته واشتياقه لمحبوبته، بمعاناة الآلة التي يدور عليها الحبل «الجرارة» وهي المصنوعة من جذوع خشب شجر الزيتون الصلب والقوي..
حيث يصور عذابه وشقاءه، بما تلاقيه هذه الجرارة من دوران مكرر موجع..
أنــا ويــــاك يـــا عـــود عذبه
الاثنيـــــن مانــــــــا هنايــــــا
انــــت زنينــــك مـــن الحبــل
وإنــي مــــن كحيـــل السهايا
وحين يتملى معشوقته النخلة التي لا يفارقها يصفها بقوله ..
يــا سمحــة البــــسر جينــاك
والمـاء فغيــرك خسـارة
كان غـاب التمر نشربوا ماك
ولا خيـر منــك تجــاره
ومتغزلا بأوصافها :
سمحـة رقيقــة كرانيــف
ومتحملــة بالــولادة
عرجونهـا بسـر فـي خريـف
يبــري مـريـض الوسـادة
وعندما يحاول بعض التجار المزايدة والالتفاف، للإنقاص من حجم الجهد المبذول وسرقته، محاولين تحطيم الأسعار مستغلين حالة الفقر وحجم المحصول المتدني، يسارع الفلاح ..مدافعاً وبقوة
الــزرع كـرّم وعـرّم
والغـرس مــلاّ حلوقــه
قولـوا لكسـار لسعـار
لا يلحقــه ولا يذوقــه
فلقد كانت «الفلاحة البدائية المورد الأساسي للرزق والوسيلة الوحيدة للحياة، وما يزال الري يتم بالطريقة التقليدية أي بواسطة البهائم، فالقوم لا يملكون البقر هناك، وطبيعة الارض تقتضي أن يسقى المنتوج كل يوم، وبعضه صباحا مساء ومع ذلك فالإنتاج قليل للغاية.
إن الفقر هو سِمة الزمان، عديد الفلاحين يضطرون لبيع إنتاجهم قبل حلول مواسم جنيه لسد حاجاتهم اليومية، وينتج عن ذلك أن يكون فارق السعر كبيراً للغاية فحين يتم البيع قبل موسم الجني والإنتاج في الغالب يكون أقل من ذلك الذي سُدد ثمنه وفي هذه الحالة يُرحل المطلوب إلى السنة القادمة ولكن بسعر جديد يكون بالضرورة على حساب المزارع»9 ..
وقد يجري حوارات بينه وبين النخلة، أو بينه وبين دابته، وأحيانــاً غيرهـا مـع الدلـو أو الجرارير، في محاولة منه للتنفيس من ضغوطات العمل فها هو على لسان النخلة يشتكــي :
كثرلتـي بالتدرديـر
وغرقتلـي في الأراضـي
وخليتني كنـز للغيـر
أنـي أم الجريـد العراضـي
وعلى لسان الدلو :
يـا دلـو حسـك شراشيـر
وكمـك هـواه البيـادي
وقول لسيـدك يجــدد
حتــى إبشنــــة بـوادي
وعندما يتحدث على لسان دابته يقول :
لحمـار يشكـي ويبكـي
وقـال ناقــص عشايـا
الجبّـاد شـن حـاس من كيد
حفيــــــان يجـــــــري ورايـــا
شـــاد المناخيـــص فــي ايديه
بيقلــع الشحــم مـن كلايـا..
وعندما ينزع به التفكير إلى خلاصات في الصداقة والزمن والمعاشرة والزواج يخلص الى الآتي :
أحيـه مــن قلـة العـرف
ومن صاحبي موش واعي
أنـــي نشتكيــلـه مــن الضعف
وهــو مختبــل فـــي صراعـي
وأحيانا يقول :
الزيــــن زيــــــن الفعايـــــــل
مـا هــــو بشبـح العيوني
ولا بــارك الله في العفـن
لــو كـان مــولاي دونـي
وأحيانا يقف مشدوها، من صدمته في صديق، عندما أتت من جهته أو من طرفه الصدمة أو الفاجعة، والتي وقف تجاهها حائراً، ماذا يفعل ؟
أنــي صاحبي اللـي نعـزه
لفـت مـن قـداه الوجيعـه
زعـم كيـف دبرتلـي فيه
نشريـه وإلا نبيعـه
إنكـان في الدهــر مرة
في سيتــه مــا نبيعـه
وإنكـان عاثـر علـى الدوم
مــالا دوا إلا القطيعـه
ونظراً للظروف القاسية والمعاناة الصعبة والشديدة، التي عاناها هؤلاء الفلاحون والذين كان من بينهم قراء وفقهاء وحفظة ..
رتّـبوا أشعارهم حسب تسلسل الحروف الهجائية، أو حسب تسلسل الأرقام الحسابية .. فجاءت الحروف كالتالي :
أليــف بيـّــن شهرنــاه
علــى سايـــر الحـرف ديمــه
وفي كــل مذهـب لقينـــاه
يخلــي العوجــة سقيمــة
إشارة إلى وضوحه واستقامته ...
- البي تبينـت فـي علـو
انراجـي مكحل هميـــدة
القيـت السـزي منطقـه حلـو
ولاجـت منــه وكيدة
- التـي توتيــت للجـي
ولانـي مقصِّـر خطايـا
القيـت السزي شـاع في الدي
عاهـد وقصّـر معايـا
- الثـا ثوبـك اليابـاد ترميـه
وتلبـس جديداً خلافــه
ويـا ما مـن الزين تبغيـه
وتـاو الدغيصـه تعافـه
الجيم جيـك بلا ندي
تبغي تظهـر عـواره
يشمتـوا فيـك لعدا ...
ولا عـاد تاجـد خياره
- الحـي تحير دليلـي
وجـي مـن غلانـا ردايع
نشاكيــه بلـي طريلـي
ونبـدوا سـوا فـي الوجايـع
وعندما يتخذ الأرقام وسيله وسبيلاً للقول ... ومنهاجاً لترتيب أولوياته، تجيء مفرداته هكذا ..
- علـول دليلـي تحـول
ويـا عـاز مـن نشتكيلـه
ومــن صاحبــي داه طـول
يمنـي ولالــه صميلـه
- ثانـي بلوكـاد جانــي
غـلا الونــس صقـال نابـه
وحــق النبـي مـا خذانـي
إلا بحسنـــه وجــابــه
- ثالـث مثلــث بلوكــاد
ومسقـي بكـاس الغبينـــة
لبـّـاس للنيــل وقـّاد
مخـرب علـى النــاس زينـة
- رابـع غزالـي المربـع
قطـاف روس الزهانـي
خضـاب روس لاصبـاع
يومـي بهـن تـاو رانـي
- خامـس علـى الكبـد دامـس
قاضـي وتحتــه عدالــه
برقـن صقــل ليلــة أمــس
بيــش نجــدوا فيــه دالـة
- سـادس مــن داك نــي متـت
يـــا بنـت زين لاسامــي
ناســك خذونـي ونـي خـذت
ولا لـي نصيــرا يحامــي
وهكـــذا......
كل بيت وكل مقطعٍ له معناه ودلالته ومغزاه ولكن ذلك ليس غايتنا في هذا البحث، وعندما يعرض للأيام والدهر وما يخبئه من مفاجآت لم تكن في الحسبان ولم تخطر على البال .. يمضي قائلاً...
زمـان مضـى كنـت يـا عين
تــارع ومالـي الشـوارع
واليـوم مـن عكس ليام
غشاني تــراب المراجـع
وعندما يصير كهلاً، ويكتشف متأخرا حجم المعاناة، وأنه أمضى حياته في اللاشيء، يصب جام غضبه على المُلاّك والأثرياء من الفلاحين أو سواهم:
عطـي الجرايـر تكسيــر
وعطـي السوانـي عدامـه
وعطـي الخواجـات موتـه
فــي قبــر مشيـن ظلامــه
وفي النساء يقول :
خذيت النسـاء قلـت نربح
خذنــي وخـذن مالـي
من الصبح لليل ننبح
مشنوق بين الحبـالي
ونختتم هذه الباقة من الأشعار والأغاني بأن نختار مما يشير الى ما يرضي به ضميره رغم كل هذا الرهق والكدر والكدح والشقاء، فهو يشير إلى أن كل شيء مآله إلى الفناء والتلاشي والموت ...
وما الغبن إلا عندما يكون الإنسان مديناً وكما يقولون، إن الدّين همُ بالليل ومذّلة بالنهار، وأما ما عدا ذلك فكله على الله الخالق الواهب.
عيـش دوم واسنيــن وامنيــن
كلهـن وراهن اماتـي
ما تنغبن غيـر م الديـن
وقسمـك علـى الله ياتـي
الخلاصة، ان العشرات بل المئات وربما الآلاف من الأبيات الثنائية والرباعية الجميلة الإيقاع والموسيقية، التي قيلت عبر الأزمنة والحقب والقرون المتوالية، ومن ِقبل أناس عاديين، مغمورين ومهمشين قيلت ضمن فضاء هذا الغناء، في الأماسي والليالي والصباحات، الحارة والندية والشتائية القارسة، حيث كان الفلاحون الجبّـادة المعدمون، يعبرون من خلالها عن دخائلهم ومشاعرهم، التي كثيراً ما كان يملأها ويعتصرها الأسى والحزن والألم الدفين - المكابر، تجاه ذلك الواقع المدقع، مادياً ومعنوياً ...
لكن هذا الفضاء الفني، الناتج والفائض عن تلك المعاناة سجّـل ووثـّـق وحفظ لنا وقائع وملامح تلك الشريحة من البشر وما رافق تلك الوقائع من صور جسدت حياة هؤلاء المهمشين والمسحوقين، وما عانوه من قسوة وعنت وشظف عيشٍ في ظل ولاةٍ وحكامٍ وأمراء وسلاطين لا همّ لهم إلا ما يحصلونه ويجبونه من ضرائب وإتاوات ومكوس، على كل شيء، بشتى الوسائل والوجوه...
ولقد كانت الحكمة الخالدة التي تجري على ألسنة أولئك البسطاء ولا يفتأون يرددونها في سبيل إعمار الكون، وإغناء الحياة بما هو مجد، قولهم «عمـاركون» هذه العبارة الحكمة المشحونة بالدلالات، والزاخرة بحب الحياة، تفضي إلى أنهم وبالرغم من قسوة الواقع والطبيعة، كانوا غير ميالين إلى اليأس والقنوط مدركين بحسهم الفطري أن الأيام يوم لك ويوم عليـك ....
لريـاح شرقي بغربـي
والأيـام دالـه بدالـه
مـا طيحـن مـن سلاطيـن
ومـا نوظـن مـن عتالـة...