الثقافة الشعبية والعلوم الإثنية
العدد 62 - آفاق
العلوم الإثنية مصطلح جديد ظهر خلال الستينيات من القرن الماضي ضمن دراسات أنثروبولوجية (إناسية) قام بها باحثون أمريكيون زعموا وجود إثْنية جديدة غير تلك التي كانت سائدة آنذاك. إنها علوم تبحث في تعقيدات العلاقة بين الثقافات بشتى أشكالها بمراحات البيئة المحيطة بها. وقد تنوّعت الدراسات من هذا القبيل حيث نجدها تغطي بوجه خاص الثقافة الشعبية ذات العلاقة بالنبات والحيوان والأدوية والطب والآثار والرياضيات والفلك. تسعى هذه الدراسة إلى تعريف القارئ بهذه العلوم مع التركيز على روابطها بالثقافة الشعبية.
«الدراسات الثقافية»:
من الثقافة الشعبية إلى العلوم الإثنية:
ظهر في إنكلترا، بجامعة برمنغهام Birmingham عام 1964 على يد عدد من الأكاديميين البريطانيين تخصص علمي سُمّي «الدراسات الثقافية» (Cultural Studies)، وسمّي أيضا «علوم الثقافة»، يُعنى بالتحليل الثقافي. فهو تخصص يجمع بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا (علم الإناسة) الثقافية والفلسفة والإثنية والأدب والإعلام والفنون. كما يسعى إلى الربط بين الثقافات والسلطة ويرفض انتهاك الثقافة الأكاديمية للثقافة الشعبية، وثقافة الأقليات.
ومن ثمّ أعادت هذه الدراسات النظر في التعريف السائد لمفهوم الثقافة بشكل جذري. فبدل اقتصار الثقافة على عنصر ذوق الرجل المثقف وفق التعريف الشهير للأديب الأنكليزي ماثيو أرنولد ، فرضت «الدراسات الثقافية» نهجًا أنثروبولوجيًا على الظواهر الثقافية. وبذلك فتحت الباب واسعا أمام الدراسة الجادة للثقافة الشعبية. وهكذا فإن أهمية «الدراسات الثقافية» لا تتمثل في كونها دافعت عن الثقافة الشعبية فحسب، ذلك أن هناك الكثير ممن دافع عنها دون جدوى، بل تكمن في إثباتها بأن الثقافة الشعبية لا توجد بدون تمثيلات خارجية لها.
ومع ذلك، يلاحظ المدافعون عن الثقافة الشعبية أن الخطابات تتجه بصورة عامة نحو التقليل من شأن هذه الثقافة التي صارت تظهر للعيان وتحرج البعض في مجتمع اليوم. فهؤلاء المناهضون لا يرون فيها في زمن التكنولوجيا الحديثة سوى أداة ترفيه بعيدة عن الفكر العميق. ومن ثم يُنظر إليها البعض على أنها تهدد الثقافة السائدة في هذا العصر. يحدث كل ذلك وليس للثقافة الشعبية تعريف دقيق وموحد، لكنها تتميز بتعارضها مع الثقافة «البرجوازية» أو الثقافة النخبوية. ونتيجة لهذا الوضع نجد نقّاد الثقافة الشعبية ينغمسون في العموميات المفرطة بحثا عن مبررات لآرائهم.
ففي فرنسا مثلا، أشار دومينيك خليفة في مقال صدر عام 2005 حول الثقافة الشعبية، إلى أن هناك في هذا البلد «إحراجًا كبيرا» فيما يتعلق بكلمة «شعبية»، إذ ثمة من يفهم منها بما يعرف عند السياسيين بـ«الشعبوية» أو بـ«البؤسوية»؛ وهو ما يدل على أننا بحاجة إلى تعريف دقيق لمفهوم الثقافة الشعبية. والجدير بالإشارة هو أن ثمة من الخبراء من يؤكد أنه لا يجوز استعمال العبارة بصيغة المفرد بل الأصح هو الحديث عن «الثقافات الشعبية».
ورغم ذلك لا يرى أصحاب «الدراسات الثقافية» بوجه عام حرجا في ذلك حيث تستخدم تلك الدراسات العبارة «الثقافة الشعبية» (بصيغة المفرد)، وتُميّزها عن «الثقافة الفلكلورية» التي تأثرت في العصر الحديث بتقنيات الاتصال الجديدة، وتُميُّزها تلك الدراسات أيضا عن ثقافة وسائل الإعلام التي يتهمها البعض بمحاولات التلاعب بفكر الجماهير. والواقع أن الدفاع عن الثقافة الشعبية -باعتبارها ثقافة إبداعية أصيلة- كانت دائمًا في صلب الأهداف الاجتماعية والسياسية لـ«الدراسات الثقافية». ومع كل ذلك فإن المقاربة التي تنتهجها الثقافة الشعبية المستنبطة من جملة «الدراسات الثقافية» لا تخلو من الغموض.
ومما يراه البعض من سلبيات في الثقافة الشعبية أنه يسودها الابتذال، والخشونة، والافتقار إلى العمق الفكري، فضلا عن أنها تميل إلى الشكل على حساب المضمون، وإلى الكم على حساب الكيف، وإلى الجانب الهزلي والمتعة بدل الجِد. ونظرًا لأن تخصص «الدراسات الثقافية» في بريطانيا كان يمثل مشروعا سياسيا فإن تلك الدراسات تسعى لإظهار أن الثقافة الشعبية هي ثقافة مقاومة ضد الثقافة المهيمنة للنخبة الاجتماعية، وضد ثقافة السوق لوسائل الإعلام.
عندما أثبتت «الدراسات الثقافية» أنها تخصص قائم بذاته، ظهرت أشكال جديدة من المطالبات الاجتماعية، مثل إعادة الاعتبار للثقافة الشعبية لدى الأقليات الجديدة والنظر بطريقة أخرى في العلاقات بين الثقافة السائدة والثقافة مهضومة الحقوق. وفي هذا السياق، فإن أداء «الدراسات الثقافية» في الولايات المتحدة كان حاسما، فهي لم ترفض ثقافات الأقليات ولا الثقافة التي تركز عليها وسائل الإعلام بل تفاعلت معها بفعالية منتقدة القوى الضاغطة التي تحاول طمس جميع أشكال الثقافة. أما بالنسبة لمؤيدي الدراسات الثقافية التقليدية في الولايات المتحدة وأوروبا فهناك الكثير ممن يطالبون بالعودة إلى الأساسيات، أي إلى دراسة الثقافة الشعبية وإلى الدفاع عنها، فضلاً عن الترويج للفكرة القائلة إن الثقافة الشعبية تمثل امتدادا منطقيا وطبيعيا للمجتمع.
لقد أصبحت «الدراسات الثقافية» نموذجًا مهيمنًا في التحليل الثقافي المعاصر، ورغم ذلك يمكن التساؤل عما إذا كانت هذه الدراسات قد أفادت الثقافة الشعبية. نلاحظ أن الازدراء بالثقافة الشعبية قد اختفى نسبيا من مجتمعاتنا اليوم، وتضاءلت هيمنة ثقافة النخبة. ومع ذلك، لازال الطريق طويلا أمام الثقافة الشعبية لتحتل المكانة التي تستحقها.
يمكن القول إن العلوم الإثنية هي مجموعة المعارف التي يمتلكها السكان حول بيئتهم الطبيعية، الداخلية والخارجية، الحيّة وغير الحيّة. لذلك يتم وصف هذه العلوم لدى مجتمع معيّن خلال مرحلة محددة من تاريخه. وهو ما يعني أن هذه العلوم تشكل جزءًا من التاريخ العام لمجتمعاتنا. وكلمة «إثني» هنا تشير إلى كل العوامل التي تتشكل منها الهوية الثقافية للمجتمع: اللغة والرموز والقيم والدارج من الكلام والمعتقدات والمأكل والملبس والعادات والملامح الجسدية وغيرها.
إن المعارف التي يمتلكها السكان عن وسطهم تعني وجود علاقة خاصة بين المجتمع وذلك الوسط. وهذه العلاقة تندرج في إطار الدراسات التي تجريها العلوم الإثنية. كما تسعى هذه العلوم إلى تحديد التأثيرات والقيود التي تمارسها البيئة والوسط على المجتمع.
ومصدر مصطلح «العلوم الإثنية» يرجع إلى مدرسة علماء الإثنية (الإثنولوجيا) الأمريكيين الشباب الذين ادّعوا وجود إثنية جديدة، وأرادوا جعل الدراسة المنهجية لـ«العلم الشعبي» (folk science) الهدف الأساسي لأبحاثهم القائمة على المناهج العلمية المستخدمة في اللسانيات. وقد أدى بهم هذا التوجّه إلى وضع مصطلح «العلم الإثني»، وهو في الواقع مرادف لـ«العلم الشعبي»، مما أثار ردود فعل قوية داخل الأوساط الأكاديمية في الولايات المتحدة، حيث لاحظ ممثلو العلوم «الأساسية» (أي الرياضيات البحتة والفيزياء النظرية...) أن هذه النظرية الجديدة ستؤدي إلى خلط: يمكن اعتبار هذا «العلم الإثني»، بسبب سوء استخدام مصطلح العلم، بمثابة تخصص علمي، في حين أنه قد تم تصوره على أنه موضوع للبحث وليس علما. فهو يجمع بين عدة فروع: علم النبات الإثني، وعلم الحيوان الإثني، البيولوجيا الإثنية، وعلم الصيدلة الإثني، والرياضيات الإثنية، وعلم الفلك الإثني وغيرها. ومن المجادلين في هذا الموضوع الباحث الفرنسي في اللسانيات الإثنية سيرج باهوشيت الذي يرى أن العلوم الإثنية تمثّل نظرة قديمة تجاوزها الزمن نسبيا!
وهكذا يتمّ نشر العلوم الإثنية كبرنامج بحث حقيقي يهدف إلى تحديد الفئات المحلية ووصف العادات السائدة عندها. وقد تعرضت هذه العلوم لانتقادات بسبب رؤيتها التي تميل إلى النظرة الغربية مع أن هذه الرؤية ليست بالضرورة المرجعية المناسبة في المجتمعات غير الغربية. ومهما كان الأمر فالعلم الإثني يساعد على إدراك كيفية تطور المجتمعات البدائية والقبلية، ويركز على المساهمات البيئية والتاريخية التي يقدمها الناس بصورة عامة. ولذا فهو علم يقوم على التعاون بين العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية (مثل علم الإناسة وعلم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة) والعلوم الطبيعية، مثل علم الأحياء وعلم البيئة والطب والرياضيات والفلك.
علم النبات الإثني:
نجد من بين فروع العلوم الإثنية علم النبات الإثني الذي يُعنى بخبرة المجتمع في حقل النبات ومعارفه وتقاليده ومعتقداته ذات الصلة بما تنبت الأرض. والواقع أنه يمكن القول بأن المصطلح الأنكليزي ethnobotany (علم النبات الإثني) قد ظهر لأول مرة في عام 1895 حيث استخدمه عالم النبات الأمريكي جون ويليام هارشبيرجر الذي كان أستاذا بجامعة بنسلفانيا.
وأُدرج بـــعــــد ذلـــك فـــي اللــغـة الـفـرنسـية (ethnobotanique) من قبل عالم اللسانيات والنبات والجغرافيا الفرنسي أندريه جورج هودريكورت ومن المعلوم أنه قبل الحرب العالمية الثانية بفترة وجيزة، عمل هودريكورت مهندسا زراعيا وعالم نبات، ثم تقني ولغوي في مختبر علم الزراعة الاستوائية بباريس حيث قام بترجمة أعمال عالم النبات الروسي نيكولاي فافيلوف من الروسية إلى الفرنسية. وفي هذا السياق، يرى هودريكورت أن دراسة تاريخ النباتات ومكانتها في المجتمعات البشرية تتطلب بالضرورة استخدام علم اللسانيات. ولذلك كان من اللازم القيام بوصف ومسح اللغات ذات التقليد الشفوي.
ومن الرواد في هذا المجال في بريطانيا عالم النبات إسحاق هنري بوركيل ، الذي نشر في عام 1935 موسوعته «معجم المنتجات الاقتصادية لشبه جزيرة الملايو»
A Dictionary of the Economic Products of) the Malay Peninsula). وقد عالج في مؤلفه بشكل أساسي علم النبات والجغرافيا والهندسة الزراعية في نطاق البُعدين الاقتصادي والاثني لذلك العهد. وهذا تلبية لاهتمامات الاستعمار البريطاني باستغلال البيئة في تلك المنطقة.
كان الباحث الأمريكي فولني جُونز ، رائد علم النبات الإثني، قد عَرّف هذا الفن بأنه علم يدرس العلاقة بين الإنسان البدائي والنبات. ثم وسّع أمريكيون آخرون هذا المفهوم، أمثال ريتشارد إيفانس شولتس (1915-2001)، الذي اعتبر علم النبات الإثني علما يدرس مجموع العلاقات بين الإنسان والنبات. أما المدرسة الفرنسية فتبنت مفهوما آخر لهذا العلم حيث عَرّفه عالم الفلاحة والنبات الفرنسي لويس هيدان سنة 1946 بأنه دراسة العلاقات بين معتقدات الإنسان وتقنياته والعالم الأخضر (النبات).
لقد عرف تطور علم النبات الإثني عدة مراحل يقسّمها الخبراء إلى ست حقب، هي حسب الموسوعة العربية: العصر القديم، العصر الروماني، العصر الإسلامي، العصر الأندلسي، مطلع القرن الثامن عشر، القرن العشرين وما بعده. دعنا نتعرّف عليها فيما يلي بإيجاز:
1. في العصر القديم: يمتدّ هذا العصر على أزيد من 10 آلاف سنة. كانت توجد خلال هذه الحقبة ارتباطات قوية وواضحة بين الإنسان والطبيعة. وقد قام الإنسان مثلا خلال الحضارة السومرية في جنوب الرافدين بوضع قوائم خاصة باستعمال النبات والحيوان، ويرجع تاريخها إلى القرن التاسع عشر قبل الميلاد. وصُنّفت تلك الكائنات تصنيفاً نفعياً، فقُسم عالم الحيوان إلى أسماك ومفصليات وأفاع وطيور وذوات أربع. كما قسم عالم النبات إلى أشجار وبقول وبهارات وعقاقير وحبوب. وجُعلت الأشجار المثمرة كالتين والتفاح والرمان في مجموعة واحدة. أما في الحضارة اليونانية فظهر علم النبات الإثني بوجه خاص في قصيدة «الأعمال والأيام» من نَظْم الشاعر اليوناني هزيودس Hesiodes في منتصف القرن الثامن قبل الميلاد. وقد عبّرت القصيدة عن التقويم الزراعي السائد آنذاك.
2. في العصر الروماني: كان أبرز كتاب في هذا الحقل كتاب في علم الأعشاب الطبية من تأليف طبيب يوناني من شمال حلب، هو بيدانيوس ديوسقوريدس Pedanius Dioscorides، (القرن الأول للميلاد). كان هذا الطبيب يجمع النباتات الطبية، ويدرس سبل استخدامها في العلاج ثم يركب منها الأدوية. وفي هذا السياق، نشير أيضا إلى كتاب «الحشائش» لنفس الكاتب الذي وصف فيه الطيور والحيوانات البحرية والبرية دون أن ينسى ذكر ما يُستفاد من ألبانها وأصوافها وشحومها. وورد في هذا المؤلف نقاش حول السموم والتحذير من تناولها. وقد بلغ عدد العقاقير والأدوية التي ذُكرت في الكتاب نحو 950 عقارًا. أما النباتات الطبية فبلغ عددها نحو 550 نباتاً. ومن الكتب الأخرى التي ظهرت في العصر الروماني كتاب هرمس الهرامسة Hermes Trismegistus «مثلث الحكمة» (Trimegist) الذي وصف فيه العديد من النباتات.
3. في العصر الإسلامي: من المعلوم أن سكان الجزيرة العربية كانوا وثيقي الصلة بالشجر والنباتات وكذا الحيوان. وقد استمدوا منها الغذاء والدواء لجميع الأحياء. واكتسبوا خبرة انتقلت بالممارسة من جيل إلى آخر من دون تدوين كتابي. ويذكر المؤرخون أنه في القرن الثاني للهجرة بدأ الاهتمام بتسجيل أسماء الكائنات الحية وتحديد بعض صفاتها. ولعل أشهر من كَتب في هذا الموضوع هو عالم مدينة البصرة الأصمعي الباهلي (123ه/741م-216/831م) حيث ألف أكثر من ثلاثين كتابًا في مواضيع مختلفة، منها وصف البيئة التي تعرّف عليها. ومن عناوين مؤلفاته في هذا الحقل نذكر كتاب «النبات والشجر»، وكتاب «الخيل»، وكتاب «الإبل»، وكتاب «الوحوش وصفاتها»، وكتاب «مياه العرب»، وكتاب «الأنواء».
ويُعدّ أبو حنيفة الدينوري (ت. 282هـ/895م) أول من وضع أسس علم النبات الإثني عند العرب، إذ ألّف موسوعة في النبات جمع فيها أسماء العديد من الأعشاب والأشجار التي تنمو في الجزيرة العربية. لكن الدينوري لم يكن مجرد جامع، بل تجاوز منهج التعريف الموجز للنباتات الذي دأب عليه سابقوه، وقام بتصنيفها بحسب فوائدها موضحا الجزء الذي يتم استعماله منها، وتأثيره العلاجي لدى الإنسان والحيوان. وواصل العرب والمسلمون بعد ذلك هذا العمل في الغرب الإسلامي وشرقه.
4. في العصر الأندلسي: نلاحظ أن الترجمة العربية لكتاب الأدوية لديوسقوريدس لم تنتشر كثيرا في شرقي العالم الإسلامي وذلك لأن كثيرا من النباتات الطبية المذكورة فيه وردت بلغة أعجمية. ولذا ظلت مجهولة من قبل الأطباء، ولم يتم ربطها بأسماء النباتات التي ورد ذكرها في مؤلفات الأصمعي والدينوري وغيرهما. ولكن حينما وصل كتاب ديوسقوريدس إلى الأندلس، اهتم به بعض مشاهير الأطباء الراغبين في معرفة جميع مفردات الكتاب. وهكذا ربطوا بين أسمائها اليونانية، كما وردت في كتاب ديوسقوريدس، وأسمائها باللغات اللاتينية والبربرية والعربية، المعروفة في بلاد الأندلس آنذاك. وظهرت بعد ذلك عدة مؤلفات في تفسير تلك المفردات بأقلام أطباء أندلسيين مثل ابن جلجل (ت. بعد 377ه/987م) الذي ألّف كتابا في تفسير أسماء العقاقير عام 372هـ/983م في قرطبة.
ولا يمكن هنا أن نمرّ مرور الكرام على عمل عالم النبات ابن البيطار (593ه/1197م-646ه/1248م) الذي ذاع صيته في الأندلس إذ تعرّف على نباتها وأعشابها ومحيطها الطبيعي. ثم قرر الرحيل إلى بلاد المشرق نحو سنة 617هـ/1219م، فانتقل خلال رحلته إلى المغرب الأقصى والأوسط (عام 1220م). وتابع مسيرته إلى تونس وليبيا، ثم ركب البحر نحو سواحل آسيا الصغرى وبعض جزر بحر إيجه. وفي طريق العودة مرّ بمدينة أنطاليا في جنوب غرب الأناضول عام 1224م. وبعد ذلك اتجه إلى شرقي العالم الإسلامي فزار بلاد فارس والعراق وسورية ومصر. وكان يقيم بكل بلد مدة ينكب فيها على دراسة الأعشاب، يفحص ويختبر النباتات. كما كان يحاول الاجتماع بالأطباء والعشّابين في المناطق التي كان يزورها. وقد صنف ابن البيطار عدة مؤلفات أشهرها كتاب «الجامع لمفردات الأغذية والأدوية»، و«تفسير كتاب ديوسقوريدس»، و«المغني في الأدوية المفردة». ولذا يُعدّ ابن البيطار لدى الغرب أكبر عالم نباتي ظهر في الشرق.
5. في القرن الثامن عشر: في منتصف القرن الثامن عشر، نشر في هولندا عالم النبات الألماني جـورج إرهـارد رُمْف كتابا بعنوان «مَعْشب أمبوانة» (Herbarium Amboinense) وذلك في خضم جدل فلسفي حول الطبيعة وتشكيلتها. وقد قدّم الكتاب جردا إحصائيا للأنواع النباتية الموجودة في جزر أمبوانة الأندونيسية تميّز بدقة الملاحظة ووضوح الوصف عندما تناول المعارف النباتية المرتبطة بحضارة تلك الجزر. كما حدّد الكاتب أسماء النباتات الدخيلة التي جلبها المستعمر الأوروبي إلى تلك المنطقة. ومن جهة أخرى، أبرز طرائق تصنيف النبات من قبل سكان تلك الجزر مسلطًا الضوء على الموارد النباتية ودورها في حياة المجتمع.
وفي سنة 1690، أصدر الطبيب وعالم النبات الألماني أوغست باخمان كتابا عنوانه «مقدمة عامة حول العلاج بالأعشاب» (Introductio generalis in rem herbariam). ومما جاء فيه التأكيد على ضرورة الفصل بين دراسة النبات النفعي المستعمل للعلاج ودراسة النبات بصفة عامة. ووصف الطريقة النفعية بالبدائية لأنها لا ترى في عالم النبات سوى ما يخدم الإنسان في باب الأدوية والعطور والبهارات.
شكّلت آراء باخمان منعطفا حاسما في مسيرة دراسة النباتات حتى القرن التاسع عشر. وقد تركّز الاهتمام على التصنيف النباتي والدراسات الوصفية للنباتات الإقليمية والمحلية. وفي نفس الوقت تواصَل ظهور علماء في التصنيف النباتي أدى إلى ولادة علم النبات الإثني الحديث.
6. في مطلع القرن العشرين: كما أسلفنا، فقد كانت ولادة علم النبات الإثني عام 1895 على يد العالم الأمريكي جون ويليام هارشبيرجر إذ قدم آنذاك كمّا معتبرا من المعلومات المهمّة عن أصل الذُرة الصفراء الأمريكية. في ذلك الوقت، طُلب من هارشبيرجر أن يحدد بقايا نباتية جُمعتْ من حفريات أثرية عُثر عليها في مسكن هندي أمريكي قديم. ومن ثمّ وضع نظاما جديدا لدراسة النبات، معتمدا على التقاليد المستعملة لدى القبائل الهندية للنباتات النافعة. وهكذا اتضحت الطرائق القديمة المستخدمة في تبادل المنتجات النباتية، وتم استخدام منهج علم النبات الإثني للكشف عن عدد من المواد القابلة للاستعمال الصناعي المعاصر، وعن تلك التي يمكن استغلالها تجاريا في الوقت الحاضر.
وفي آخر المطاف، أدت الدراسات في علم النبات الإثني إلى ظهور عدة فروع جديدة، منها علم النبات الإثني المستحاث (paleoethnobotany) المرتبط بعلم الآثار وعلم النبات الإثني الاقتصادي (ethno-economics) المرتبط بالنبات والمواد النباتية الأولية ومشتقاتها الاقتصادية؛ وعلم الحيوان الإثني (ethnozoology) الذي اهتم في بداية الأمر بخبرة الهنود الحمر فيما يحيط بهم من عالم الحيوان، وعلم البيئة الإثني الذي سنتناوله أدناه. وقد ظهر علم الأحياء الإثني (ethnobiology) الذي برز في منتصف القرن العشرين حين دمج أحد العلماء علم النبات الإثني وعلم الحيوان الإثني بهدف الإحاطة بالعلاقات المتبادلة بين أنماط المجتمعات البشرية والعالم الحيوي.
وهكذا، وإثر هذا التطوّر عبر العصور، أصبحت دراسة علم النبات الإثني بدءا من الأربعينيات من القرن العشرين تدرج في أمريكا وأوروبا ضمن مناهج التدريس في الجامعات.
علم البيئة الإثني وعلم الصيدلة الإثني:
1) علم البيئة الإثني:
تندرج العلوم الإثنية في صلب البحوث متعددة التخصصات. وقد أظهرت هذه العلوم أنها مجال أساسي يمكّن من إدراك الكثير من المعلومات حول العالم، منها إنجازات الممارسين البيئيين الذين يتعاملون يوميا مع الكائنات المختلفة فضلا عن البشر. وبعد سنين طوال من الملاحظات قامت بها عدة أجيال، منهم الصيادين في البر والبحر والمتعاملين مع البيئة الغابية والساحلية اتضح أن علم البيئة الإثني يمكن، بل يجب، أن يؤدي دورًا حاسما في إجراء بحوث متعددة التخصصات حول العلاقات القائمة بين المجتمعات البشرية والطبيعة.
يرمي هذا النوع من العلوم إلى التعرّف على الطرق المنهجية في التعامل مع مختلف الموارد في المجتمع والغوص بوجه خاص في المعارف ذات الطابع البيئي وارتباطها بالمعارف التقليدية والمحلية. نشير إلى أن المعارف البيئية التقليدية، التي تسمى أيضا معارف الأهالي الأصليين، هي تلك المعارف المتطورة التي يكتسبها الأهالي والمواطنون الأصليون في مكان معين على مدى العقود والقرون من خلال علاقاتهم المباشرة مع بيئتهم؛ وهي تشمل الطقوس والمعتقدات المتراكمة التي يتبناها المجتمع بحكم علاقته بالبيئة. وتراعي هذه المعارف استخدامات النباتات والحيوانات، والتعامل مع الأرض.
لكن كيف ظهر علم البيئة الإثني؟ في رسالة الدكتوراه التي ناقشها هارولد كونكلين عام 1954 درس هذا الباحث علاقة عالم النبات بإحدى اللغات الفلبينية، هي لغة هانونو Hanunoo. وفي تلك الدراسة استعمل لأول مرة مصطلح علم البيئة الإثني (Ethnoecology) عندما وصف نهجه في الدراسة بأنه إثني وبيئي (إيكولوجي) في نفس الوقت. وواصل البحث في هذا الاتجاه بعد حصوله على الدكتوراه. والواقع أن علم البيئة الإثني رأى النور إثر ظهور بعض الأعمال المبكرة للباحث هيو بوبينو Popenoe Hugh، وانتشر بعد ذلك بفضل أعماله.
دعنا نتعرّف على هذا العالم الذي يعدّ باعث علم البيئة الإثني، ومن خلال ذلك سندرك مراحل تطوّر هذا العلم: ولد هيو بوبينو عام 1929 في بلدية تيلا Tela الواقعة شمالي الهندوراس، وهي أرض ذات تربة متميّزة يحلم بها كل عالم نبات وزراعة وآثار وبيئة إثنية. كان والده ويلسون بوبينو عالما في البستنة، أمضى فترة المراهقة في جمع أشجار النخيل في الشرق الأوسط وحدائق الهند الغربية وكاليفورنيا. وفي هذا السياق، نشير إلى أن الفضل في ظهور صناعة التمور في كاليفورنيا يعود إلى حدائق الهند الغربية التي كان من ورائها ويلسون بوبينو.
في وقت لاحق، تم إحضار ويلسون إلى قسم استكشاف النباتات في وزارة الزراعة الأمريكية، حيث عمل قرابة عقدين. وكان أبرز إنجازاته خلال نلك الفترة استكشافه المكثف للبلازما الجرثومية للأفوكادو في المناطق المدارية الحديثة. وأثناء وجوده في وزارة الزراعة الأمريكية، تعرّف ويلسون بوبينو على باحثة متخصصة في الأعشاب الأفريقية، دوروثي هيوز وتزوجها، فأنجبت هيو بوبينو. وكان الوالدان قد استقرا خلال فترة قصيرة في تيلا الهوندوراسية حين ولادة الابن هيو.
وبعد ذلك تمّ توظيف ويلسون بالهندوراس من قبل شركة فواكه قصد تأسيس محطة تجارب زراعية. وبفضل تفانيه في العمل أصبحت المحطة تحتوي على حوالي 630 نوعًا من النباتات الاقتصادية تتربع على مساحة 78 هكتارا. والجميل أنه أثناء تطهير محطة الأبحاث، تمّ اكتشاف العديد من القطع الأثرية لحضارة المايا، فأدى ذلك بالباحثة الأم دوروثي إلى الانكباب على دراسة آثار المايا ونشرت فيها عديد الأبحاث.
وهكذا وُلد وترعرع هيو بوبينو في قلب أمريكا الوسطى، تحيط به مجموعات من النباتات الاقتصادية وآثار المايا والتحف. وكان لذلك أثر كبير في توجهه الدراسي إذ قضى الكثير من شبابه في المدرسة الأمريكية للزراعة في الهندوراس. وبهذا الصدد، يتذكر هيو باعتزاز الوقت الذي قضاه في استكشاف الغابات المحيطة بتلك المنطقة حيث تعرف على الكثير من النباتات والحيوانات المحلية حتى أصبح دليلا للزوار من العلماء. والغريب في ذلك الوقت أنه لم تكن لدى هيو نية للدخول إلى الجامعة. ومن حسن الحظ أن العلماء الزوار كانوا يشجعونه على التسجيل في جامعة كاليفورنيا. وفي آخر المطاف تم ذلك وحصل على بكالوريوس العلوم في الري عام 1951. وبعد ذلك عمل هيو خلال فترة وجيزة كعالم تربة في تايلاند.
ثم غادر هيو تايلاند والتحق بجامعة فلوريدا حيث بحث في آثار التحول الزراعي على خصائص التربة الأساسية في غواتيمالا. وقد ركز على زراعة الذرة في وقت رفض هذه الزراعة العديد من العلماء باعتبارها بدائية ومكلفة، واهتم أيضا بتسيير الأراضي التقليدية باستخدام سياقاتها البيئية والثقافية. وفي مطلع السبعينيات عمل في الهندوراس حيث دفع إلى تجنيد الطلاب من مجتمعات السكان الأصليين. كما عمل كمسؤول الاتصال العلمي بين الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمعهد الدولي للزراعة الاستوائية في نيجيريا. وجال في كل البلدان الاستوائية في العالم، ومن ثمّ اكتسب خبرة واسعة في علم البيئة الإثني.
والجدير بالملاحظة أن الخبراء يتجادلون في موضوع التقسيم النظري للأنظمة الثقافية والبيئية وفي اعتبار البشر جزءا لا يتجزأ من البيئة. فالإنسان يمثل نوعا أساسيا في النظام البيئي ويؤدي فيه دورا حاسما في تشكيلته وفي الحفاظ عليه واستدامته. ألا يلعب الإنسان مثلا دورا في ظهور واندثار أنواع من النباتات وفي تكييف سلوك الحيوانات الداجنة والبرية؟ لكن الرؤية السائدة هي أن البشر عامل ملوث ينتهك أماكن كانت بيئتها الطبيعية مختلفة.
ويتساءل البعض: هل استحوذت الدوائر غير الأكاديمية على علم البيئة الإثني؟ وماذا عن المجتمعات المحلية؟ لقد أتاح تطوير المناهج المتأصلة في علم البيئة الإثني إمكانية بناء الجسور بين التخصصات حول قضايا البحث التي يتم تناولها الآن من قبل الجمعيات والجهات الفاعلة في المجتمع. ما من شك أن علم البيئة الإثني يفيد كثيرا في بناء الجسور مع العالم غير الأكاديمي، وهو يعزز توجّه إدراج المعرفة المحلية في سياسات الدول.
2) علم الصيدلة الإثني:
علم الصيدلة الإثني هو نظام يدرس النباتات الطبية في منطقة معينة، لاسيما فيما يتعلق باستخدامها التجريبي وفي الطب التقليدي. ويقوم العاملون في هذا المجال بجرد المعرفة العلاجية المحلية، وذلك بفضل مسوحات ميدانية. ثم ينتقلون إلى التجارب في المختبر لتقييم مدى الفعالية العلاجية. ويأتي بعد عدة مراحل تطوير الأدوية التقليدية المحضرة من النباتات المحلية. لذلك يقع هذا التخصص في مفترق الطرق بين علم الاثنية وعلم الأحياء وعلم العقاقير والكيمياء وعلم النبات.
وبصورة عامة يهدف علم الصيدلة الإثني إلى تحديد المعرفة بالعلاجات التقليدية في جميع أنحاء العالم، وإلى فهم تلك العلاجات بشكل أفضل بغية تحسين الأوضاع الصحية. كما يرمي إلى تقييم دساتير الأدوية التقليدية ومعرفة الظروف التي يمكن استخدامها مع أفضل ضمانات الفعالية، دون أن ننسى بثّ المعلومة على أوسع نطاق. ويعدّ هذا العلم أحد مجالات البحث التي يمكن تطبيقها لأن الأدوية والمعارف القديمة تمثّل مصادر محتملة لاكتشاف الأدوية. والجدير بالملاحظة أن المجتمعات التي يتكاثر فيها استخدام العلاجات التقليدية موجودة في البلدان الفقيرة، لاسيما في البيئات الاستوائية حيث يكون التنوع البيولوجي كبيرًا.
ومن ميزات علم الصيدلة الإثني أنه يؤسس جسراً بين ما نلاحظه في الميدان وما يجري من تجارب في المختبر، وبين العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة، وبين الأقليات والمجتمعات متعددة الجنسيات. لقد ثبت في كثير من الحالات -بعد سنوات من التشهير والتشويه- أن ممارسة العلاج الذي سبق أن وصف بأنه سخيف وبدائي، بل مثير للاشمئزاز وعديم الفائدة، أنه أكثر فعالية مما كان الناس يتصورون. ومع ذلك هناك عدد من المنشورات البحثية والإعلامية يعتبر أصحابها الأدوية التقليدية كدواء للفقراء خرافي وعديم الفعالية ولا يستحق الذكر في إطار نظام صحي محلي، وهو يتعارض مع أبسط الشروط العلمية. فما من شك أنه من حقنا التشكيك في الطبيعة الخطيرة لبعض الممارسات التقليدية، لكن علينا أيضا أن ندقق الأمور: هل الطب الحيوي المعاصر، وهو نتاج علمي محض، خال من أي مخاطر على المرضى؟ لا أبدا! ولذا لا يمكن لعلم الصيدلة الإثني الاستغناء عن التساؤلات ذات الطابع الأخلاقي للبت في مثل هذه التناقضات.
لقد حاول العديد من الباحثين مساعدة الأقليات حتى لا تندثر علاجاتهم التقليدية. ومن أجل كسب ثقة السلطات الحكومية وصناع القرار العلميين والمجتمع الطبي، فقد استند هؤلاء الباحثون في دعوتهم إلى البحث العلمي الذي تم إجراؤه على المواد الطبيعية المستعملة في إعداد الأدوية المحلية. فساهم هذا السعي في إضفاء بعض الشرعية على العلاجات التقليدية وحال دون اختفاء بعض معارفها. وفي هذا السياق، يلاحظ الخبراء أن عددا كبيرا من المنتجات الطبيعية المستخدمة في العلاج التقليدي لم تتم دراستها علميًا بعد، مشيرين إلى أن تلك التي تستخدم كمرجع لاختبار مستوى المعالج التقليدي أغلبها نباتات دخيلة.
وبهذا الصدد، تلاحظ منظمة الصحة العالمية أن الرعاية الصحية في بلدان الجنوب لا تتحسن كثيرا بمرور الوقت. فعلى مدار الثلاثين سنة الماضية، عولج 80 % من سكان هذه المناطق بالطب التقليدي لأن العلاج بالطب الحديث باهظ الثمن أو غير متوفر. ومن هنا جاءت الفكرة التي صاغتها منظمة الصحة العالمية في عام 1978، وهي أنه يتعيّن على البلدان أن تقيِّم ممارساتها التقليدية في باب العلاج وتدمجها في النظم الصحية الرسمية. من الواضح أن هذه الفكرة تندرج تماما ضمن انشغالات علم الصيدلة الإثني.
وقد توسعت دائرة علم الصيدلة البيئي فظهر مؤخرا علم الصيدلة البيئي السلوكي الذي يُعرف على أنه دراسة وتحليل سلوك المريض وعلاجه بما يتماشى مع ثقافته الإثنية وتصوراته الاجتماعية. ويركز هذا الاختصاص على وصف الاختلافات بين الثقافات من أجل تسهيل طريقة التواصل مع المرضى. ذلك ما يتطلب تحديد الأعراف الأساسية الخاصة بكل ثقافة. ومع ذلك، ينبغي أن يدرك صاحب هذا الاختصاص أن شخصية الفرد لها الأسبقية على السلوك العام للجماعة.
ومن انشغالات خبراء علم الصيدلة الإثني تداعيات الأضرار التي تلحق بالغابات وإبادة النبات عبر العالم. إذ ينبغي حماية الأنواع النباتية. وفي هذا السياق، يؤكد البعض أن الحفاظ على النباتات يكتسي أهمية بالغة في سبيل صون المعارف التقليدية. ثم إن تدريب الأجيال القادمة يتطلب استرداد المعارف الشفوية. كيف؟ بعدة وسائل أبرزها تسجيلها بالصوت والقلم والصورة بقدر المستطاع علما أن النباتات تنتقل دائمًا من حضارة إلى أخرى، ثم يتم دمجها في دستور الأدوية المستخدمة محليا.
الرياضيات الإثنية وعلم الفلك الإثني:
1) الرياضيات الإثنية:
يمكن تعريف الرياضيات الإثنية (أو الإثنورياضيات) بأنها دراسة الممارسات والأفكار الرياضية في علاقاتها مع مكونات الحياة الثقافية والاجتماعية. فهي تمثل ثقافة شعبية أصيلة تساعد على تقريب المفاهيم الرياضية للتلميذ إذا ما كُيفت بالشكل المناسب مع المناهج المدرسية. ومن التعريفات الأخرى لهذا العلم أنه يمثل الرياضيات المدمجة في الثقافة الشعبية، وقيل أيضا إنه الرياضيات التي تتعامل معها التجمعات الثقافية الشعبية مثل المجتمعات القبَلية.
وقد انكبّ باحثون على دراسة إمكانية توظيف الرياضيات الإثنية في المناهج الدراسية ضمن المسعى التعليمي في الغرب. أما توظيفها في المجتمعات القبَلية وبلدان العالم الثالث فكان بالنسبة إليهم من تحصيل الحاصل. والواقع أن لكل مجتمع طرقا ذهنية وفكرية ويدوية خاصة تنبثق من الثقافة الشعبية السائدة لديه. ومن شأن هذه الطرق أن توضح إجراء العمليات الحسابية، وكذا إجراء القياسات ورسم الأشكال المختلفة.
رأى علم الرياضيات الإثنية النور في البرازيل خلال السبعينيات من القرن الماضي عندما أدخل هذا المصطلح عالم الرياضيات الأستاذ أبيرتان دامبروزيو . لكنه ما لبث أن تكثّف النقاش حوله في نهاية الثمانينيات حين اهتم بعضهم بالموروث الرياضي لدى الهنود الحمر في البرازيل خلال الثمانينيات.
تسمح دراسات الرياضيات الإثنية بإدراك كيف تواصل الرياضيات تكيّفها ثقافيا وكيف تم استعمالها في مختلف الأماكن والعصور. وقد جرت العادة في المدرسة الحديثة على تجاهل البعد الثقافي في تدريس الرياضيات. ومن ثم ساد الاعتقاد لدى الكثيرين بأن لا علاقة تربط الرياضيات بالثقافة! وتتجلى هذه النظرة الخاطئة في طريقة التدريس حيث يتم تجاهل القيم والتقاليد والمعتقدات والعادات الشعبية خلال إلقاء الدروس في المؤسسات التعليمية.
بدأ الاهتمام حديثا بهذا العلم في أوروبا الغربية. أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد سبقت أوروبا بحكم اهتمامها بالأقليات الإثنية القادمة إليها من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية فضلا عن الهنود الحمر. وقد ظلت الكثير من الكتابات حول هذا الموضوع تكتفي بسرد المشاكل المطروحة والتنديد بعدم مراعاة خصوصيات الثقافة الشعبية في هذه المجتمعات.
وما دعّم الاهتمام بالرياضيات الإثنية في بداية الأمر هو توجّه فئة من الأكاديميين كانت ترغب في تحرير الشعوب والاعتراف بثقافاتها الشعبية وتؤمن بضرورة ترقية كل ما يعزز الهوية القومية. وهذه الفئة هي التي نادت مثلا بترقية الرياضيات الاجتماعية في إفريقيا، أي ترقية تطبيقاتها في حياة الشعوب الإفريقية. وقد أكد هؤلاء الأكاديميون بخصوص الرياضيات الشفوية أن في كل الثقافات الإنسانية هناك معارف رياضية تنتقل شفويا من جيل إلى جيل. وهو ما يدعو إلى المزيد من الاهتمام بهذا العلم.
لم يعد البحث في حقل الرياضيات الإثنية اليوم حكرا على بعض البلدان، بل هو في تزايد سواء في عدد أطروحات الدكتوراه التي تناقش في هذا العلم أو عدد الدراسات المختلفة الصادرة في القارات الخمس. ذلك أنه تبيّن أننا بحاجة في سائر البلدان إلى عصرنة الموارد التي تأتينا من التراث الثقافي ذي الطابع العلمي. ولا نستثني في ذلك تراث السكان الأصليين الذين يعيشون مثلا في أراضي القطب الشمالي وغيرها. كل ذلك من أجل تقارب الثقافة الشعبية من الفروع العلمية، وعلى رأسها الرياضيات.
2) علم الفلك الإثني أو علم الفلك الأثري؟
يبدو أن المصطلح الأنكليزي «Ethnoastronomy» (علم الفلك الإثني) قد تمت صياغته في نهاية عام 1973، بعد فترة قصيرة من ظهور مصطلح «archaeoastronomy» (علم الفلك الأثري) في عنوان مقال بقلم إليزابيث بيتي Elizabeth . وعنوان هذا المقال كان «علم الفلك الأثري وعلم الفلك الإثني حتى الآن» (Archaeoastronomy and ethnoastronomy so far)، وقد نُشر في مجلة «الأنثروبولوجيا الراهنة» (Current Anthropology) التي تصدرها جامعة شيكاغو الأمريكية منذ 1959. إنه لا يوجد خط فاصل واضح بين علم الفلك الأثري وعلم الفلك الإثني. ولذا يفضل الكثيرون دمج العلمين في مسمى واحد مثل «علم الفلك الثقافي».
ومع ذلك، يمكن تعريف علم الفلك الإثني على أنه دراسة المعتقدات والممارسات المتعلقة بالسماء عند الشعوب اليوم، بالتركيز على مجتمعات السكان الأصليين. أما علم الفلك الأثري فهو علم يُعنى باكتشاف ودراسة المعتقدات والممارسات الفلكية للمجتمعات القديمة ودراسة العلوم القديمة للنجوم. إنه، قبل هذا وذاك، أداة لفهم الإنجازات الفكرية للثقافات البدائية، مثل ثقافة الهنود الحمر.
من المعلوم أن علم الفلك الأثري يمزج بين الدراسات الفلكية والدراسات الأثرية، ولذا فهو يسمى أيضا علم الفلك القديم. إنه فن يسعى إلى شرح ما تمت ملاحظته في المجال الفلكي عبر العصور، وذلك باستغلال المعارف الحالية ذات الطابع الإثني والأثري. يعدّ علم الفلك الأثري من الأهمية بمكان في دراسة ثقافات ما قبل عصر كولومبوس . فعلى سبيل المثال، أدت الحفريات إلى استنتاج أن علم الفلك لعب دورًا أساسيًا في وجود حضارة المايا في وسط القارة الأمريكية.
أما علم الفلك الإثني العربي فعكف على جمع معارف وأساليب من قبل علماء فقه اللغة في البصرة والكوفة وبغداد ضمن مؤلفات محددة، هي كتب الأنواء والكتب التي جمع فيها مؤلفو المعاجم مفردات النهار والليل. وفي هذا السياق، يمكن اعتبار كتب الأنواء المصدر الأساسي لعلم الفلك الإثني العربي، فهي تشرح العلاقة العميقة التي أقامها العرب قبل الإسلام بين ظواهر الغلاف الجوي والنجوم. وتجدر الإشارة إلى أن تلك الدراسات مكّنت العرب من رؤية سبب هبوب الرياح وهطول الأمطار فزوّدت السكان بنوع من التقويم المتكيّف مع دورة الفصول.
يعتمد علم الفلك الأثري على فرضية تقول إن الشعوب القديمة كانت مهتمة بالظواهر السماوية وحاولت تقديم تفسيرات معينة لهذه الظواهر. وقد استخدمت تلك الشعوب على مدار تاريخها ملاحظاتها حول الطقوس ودمجتها في أساطيرها من أجل إعداد التقويمات للأنشطة الموسمية، مثل المواسم الزراعية.
ويرى العديد من علماء الآثار في أوروبا أن مجال البحث في هذا العلم واسع جدًا وسيكون من العبث الاعتقاد بأن مجتمعات ما قبل التاريخ أو المجتمعات القديمة كان لديها «علم» خاص بالنجوم يمكن دراسته عندما ندرس اليوم علم الفلك. ومن شأن هذا النوع من الاعتراضات أن يجعل دراسة «العلوم القديمة للنجوم» مشكوكًا في نتائجها. ومع ذلك، يبدو اليوم علم الفلك الأثري في الولايات المتحدة علمًا قائما بذاته. وخلاصة القول إن الكثير من الخبراء يفضلون الآن الحديث عن علم الفلك الإثني مع أنهم مقتنعون بأنه استولى على نصيب كبير من علم الفلك القديم (علم الفلك الأثري)!
الخاتمة:
ظهرت العلوم الإثنية في الدراسات الأنثروبولوجية خلال منتصف القرن الماضي في القارة الأمريكية نتيجة محاولات بعض علماء الأنثروبولوجيا لإعادة تعريف مفهوم الثقافة. ويعتبر هؤلاء العلماء الثقافة ظاهرة فكرية ونظاما معرفيا وليس ظاهرة مادية أو سلوكية أو عاطفية. ومن بين أنواع هذه الثقافة ما يُعرف بالثقافة الشعبية. لقد بيّنت الدراسات المختلفة في مجال الثقافة الشعبية أن العلوم الإثنية فتحت الباب أمام التعاون بين العلماء من مختلف التخصصات، كما ساعدت البشر على اكتساب فهم أفضل وأوسع لروابطهم مع الطبيعة. وعلى كل حال، صار واضحا اليوم، بفضل تلك الأبحاث، أن الثقافة الشعبية المرتبطة بالمعارف التقليدية والمحلية ليست أقل شأنا من المعارف العلمية. ذلك ما سعينا إلى توضيحه خلال هذه الدراسة.