«الثقافة الشعبية» في ثباتها على نهجها
العدد 62 - عطف نسق
تتّبع الثقافة الشعبية نهجا ثابتا في نشرها لبحوث كتّابها لا تحيد عنه. وهو يستند إلى المبادئ الأساسية التي قام عليها إنشاؤها باعتبارها رسالة بلد الإصدار : البحرين، إلى العالم؛ وباعتبارها مجلة علمية محكمة. وكونها رسالة إلى العالم، فهي تحتكم إلى جملة من المبادئ الإنسانية، هي بمثابة الروائز التي تحكم نشاطها. وهي جميعا ترمي إلى غاية واحدة، ترنو إليها على مدى سنوات إصدارها. وهي أن تكون ساحة لقاء وتعارف بين الشعوب، تيسّر لهم إدراك عمق ما يؤلّف بينهم رغم تعدد هوياتهم واختلاف ثقافاتهم. فالإنسان يبقى هو الإنسان مهما حملته الحياة والبيئة وخصوصيات الثقافة على أن يكون له في حياته نهج مختلف عن الآخرين. وإذا كان الاهتمام بالثقافة الشعبية قد شهد نشأته مع ظهور النعرات القومية في سياق من الصراع والمغالبة؛ فإن «الثقافة الشعبية» تحرص على أن تكون ملتقى للشعوب المختلفة. تعتز كل جماعة بما لديها وتتمسّك به. وتتعرف إلى ما عند غيرها وتقدّره. فمعرفة ما عند الآخر في عاداته وتقاليده وموسيقاه وتراثه المادي وغير المادي هي طريق لقاء وتضامن وسلام بين الشعوب المختلفة فيما تطمح «الثقافة الشعبية» أن تبلغه. هذا الوجه الأول من الرسالة. أما الوجه الثاني فتلخصه عبارة علمية محكمة. وهي عبارة يدرك أهميتها أهل الاختصاصات العلمية المختلفة سواء تعلق أمرها بمجالات دقيقة في ما يعرف بالعلوم الصحيحة أو تلك التي تقوم على غالب الظن في ما يعرف بالعلوم الإنسانية. وهي جميعا يقوم البحث فيها على جملة من المبادئ المنهجية التي على أساسها يمكن تقدير محلها من الانتساب العلمي. ولا سبيل إلى إدراك ذلك إلا بالاستناد إلى آلية التحكيم العلمي الذي يأخذ بعين الاعتبار جملة من العناصر : موضوعية التناول انتظام المنهج وسلامة العبارة. ومن هذا المنطلق حرصت إدارة التحرير على أن تستجيب النصوص المنشورة فيها إلى جملة من العناصر. أولها معرفي ومداره على أن تكون البحوث مستجيبة بشكل معقول إلى مرجعيات البحث العلمي. وهي إذ تسعى إلى إدراك هذا الهدف فإنها تسلك إليه مسلكا موضوعيا، يأخذ بأسباب التحكيم المتعارف عليه في الأوساط التي تعنى بهذا الصنف من النشر. ومن هذا المنطلق توجه البحوث إلى لجان قراءة مشكلة من أهل الاختصاص، تنظر في مضامينها من حيث علاقتها باختصاص المجلة من ناحية وتماسكها المعرفي ومدى استجابتها إلى شروط البحث العلمي من ناحية أخرى. ولقد حرصت الثقافة الشعبية في هذا السياق على التنقيح اللغوي للمواد المرشحة لديها للنشر. وهي تبذل في ذلك جهودا كبرى بالرغم من أن المسؤولية العلمية في ذلك، تقع على الكاتب وحده كما هو متعارف عليه في كل الأوساط الأكاديمية.
ثانيا تحرص «الثقافة الشعبية» في كل عدد من أعدادها على التوازن بين أبواب الثقافة الشعبية بحيث يتسع له أن يغطي مختلف مجالات الثقافة الشعبية المادي منها وغير المادي ( الأدب بفروعه المختلفة، العادات والتقاليد بمختلف ألوانها، الموسيقى والرقص، الثقافة المادية...)
ثالثا تحرص «الثقافة الشعبية» على التوازن بين البلدان والأقاليم وذلك حتى لا تغلب جهة على جهة ولا بلد على بلد وإن كنا نلاحظ أن بعض البلدان أكثر نشاطا من غيرها وأن بعضها أقل منها بكثير. وهوما يدفعنا أحيانا إلى أن نولي بلدا لم يسبق أن نشرنا له، عناية خاصة حتى يكون ماثلا في ذاكرة المجلة. وإذا كانت بلدان بعينها دائبة الحضور في مختلف الأعداد فذلك لأن الأبحاث التي تردنا منها تتجاوز معدلات ما يردنا من غيرها بنسب عالية تبلغ الأضعاف أحيانا. والأمر الثابت الذي لا شك فيه أنا لا نوجه لجان القراءة توجيها بعينه حتى ترد تقاريرها على نحو يرجح بلدا على آخر. وإنما نحن نأخذ بالتوصيات الصادرة عنها ونرتب البحوث على ضوئها إلى أربع مجموعات جيدة جدا، جيدة، مقبولة، مرفوضة. ثم نبحث بعد ذلك عن التوازن داخل هذا الترتيب. ولقد تواتر لدينا أن حملنا الحرص على هذا التوازن إلى أن نرجح اختيار بحث على آخر هو دونه في التقدير لأن البلد الصادر عنه لم يلق نفاذه إلى أبواب المجلة بشكل مرضي. فنعمد إلى مراسلة صاحبه ودعوته إلى تجويد عمله وإدخال بعض التعديلات عليه حتى يدرك مستوى مرضيا يجعله جديرا بالنشر. وهو أمر فيه إجهاد لنا. لكنا نقبل عليه أحيانا كثيرة. ونكون في غاية السعادة عندما يتفاعل معنا الكاتب وتتحقق الغاية المرجوة.
أما ما لا يرد في خاطر أي فرد من أفراد أسرة التحرير فهو أن نحابي بلدا لأن السياسة فيه تسلك مسارا معينا وأن نشتد مع كتابات تأتينا من بلد آخر لأن السياسة هناك تتبع مسلكا مغايرا. هذا معيار لا علمي. لا يمكن لأحد يحترم عقله أن يأخذ به. ذلك أن القيمة العلمية لأي عمل إنما تتأتّى من الاعتبارات العلمية التي يندرج في سياقها ولا يمكن أن يستمدّها من سياق آخر. والالتفات إلى المعطى السياسي في هذا السياق هو نقض للمنهج العلمي ونسف له. واعتقادي أن القائلين بهذه الشعارات ليسوا من أهل العلم في شيء.
وإنه لمن خصال العلماء الترفع عن صغائر الأحقاد وأن يخلص الباحث إلى مجاله الذي يبحث فيه، وأن ينأى بنفسه عن دواعي الفرقة والخلاف.