الثقافة الشعبية في مواجهة فوضى «الربيع العربي»
العدد 24 - التصدير
كلما أراد الباحثون والمهتمون بـ «الثقافة الشعبية» بصفتها اختصاصـًا علميـًا يستطيعون من خلاله دراسة ومعالجة مفهوم الثقافة وقضيتها في المجتمعات غير الأوروبية أو الغربية بصفة عامة، وجدوا أن ما استقر عليه الباحثون الأنثروبولوجيون في تلك المجتمعات هو أن الثقافة الشعبية لا تخرج عن نطاق مفهوم الثقافة الطارئة أو العابرة، فهي لا تمتاز بالرسوخ ولا بالديمومة. أما في العالم غير الغربي، كالمجتمعات العربية فإن الثقافة الشعبية تمتلك خاصية وسمة، بل وسياقا تختلف فيه عن نظيرتها في الغرب. فلا تزال الثقافة الشعبية في المجتمعات العربية الحاضنة الكبرى للعناصر المادية والروحية للثقافات الفرعية التي تتشكل منها الثقافة العربية الأم، وهي المُسهم الأساس في استمرار الهوية والشخصية العربية، بالرغم من اختلافاتها الفرعية التي قد تبدو على السطح مبعثرة أو فسيفسائية كما يحلو للبعض أن يطلق عليها.
فعلى المستوى الأنثروبولوجي، لا تزال الثقافة الشعبية في البلاد العربية تؤدي دوراً لا يستهان به ليس في الحفاظ على الهوية العربية فحسب، بل في تمكينها من مواصلة ترسيخ الخصوصية الثقافية للشعوب العربية، من جهة، والانفتاح والتفاعل مع بقية الثقافات من جهة أخرى أيضا. والمتأمل لواقع الثقافة العربية، بتمايزاتها الفرعية من الخليج العربي حتى تخوم المغرب العربي، سيلاحظ مدى ابتكارية الثقافة الشعبية في تلك المجتمعات سواء لجهة تأكيد خصوصية ثقافاتها وهوياتها الفرعية في المجتمعات المحلية للبلدات والقرى والمدن الصغيرة والكبيرة بأحيائها الشعبية، أو لتعزيز متانة الثقافة العربية الأم وتفوقها، وتأصيل مرجعيتها الروحية سواء على صعيد الهوية، أو على مستوى الإبداع والابتكار اليومي بين أبناء الأوساط الشعبية أو النخبوية.
وبالنظر لأهمية الثقافة الشعبية في حياة المجتمعات العربية، فإن على المؤسسات المعنية برعايتها وصيانتها مواصلة جهودها المكثفة في توفير كل سبل الرعاية والدعم اللازمين، فالثقافة الشعبية هي إحدى الجبهات الهامة، بل والحيوية، التي تم من خلالها التأكيد على الشخصية الوطنية وعلي الهوية والتراث الثقافي. ولنا في اللحظات التاريخية والمحن الكبرى دروسٌ بليغة في الدور الذي تلعبه الثقافة الشعبية في دعم وتجسيد الوجدان العربي والهوية العربية الجامعة لكل العرب، وليس أدل على هذا السياق من دور ذلك الوجدان وتلك الهوية، التي واصلت الثقافة الشعبية في رفدها عبر مختلف العصور، في تصدي الشعوب العربية لمخططات ومؤامرات اتخذت من فوضى ما سُمي بـ «الربيع العربي» مجالاً للانقضاض على تلك المجتمعات والعمل على تجزئتها بدواعي إصلاحها مرة، وحماية طوائفها وأقلياتها مرة أخرى. لقد تمت في تلك المؤامرات والمخططات التآمرية محاولات عديدة فاشلة لتوظيف بعضٍ من التراث الروحي لهذه الأمة ممثلاً في معتقدها الديني، الإسلام، من جهة واللجوء إلى توظيفات مبتورة لبعض من عناصر وقيم الثقافة الغربية العائدة لقضايا مثل حقوق الإنسان والتنوع الثقافي والعرقي وحماية حقوق الأقليات، من جهة أخرى . لقد تم إسناد تلك المخططات المشبوهة لقوى وجماعات دينية وسياسية، سرعان ما وجدت نفسها في حالة من الصدام الحقيقي مع الوجدان والثقافة العربية الأم؛ ولنا في تجارب عربية مثل مصر وتونس والبحرين عبرة في ذلك.