فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
60

الزجل المغربي: النشأة والخصوصيات الاستيطيقية

العدد 60 - أدب شعبي
الزجل المغربي: النشأة والخصوصيات الاستيطيقية
كاتب من المغرب

يشكل الزجل أحدَ أهمِّ مقومات الثقافة العربية، ويعتبر من بين مكونات التراث الشفهي العربي، كما أنه يعتبر رصيدا معرفيا هامّا لما يتميز به من حمولة ثقافية تُعرفنا بماضينا العربي العريق، وتمنحنا صورةً عن حياة الأجداد والأسلاف، وتُطْلِعنا على الفئات الاجتماعية السالفة التي عاشت في الظل، والتي تَغيب عادةً في ذاكرة الثقافة العالمة وفي الأدب الفصيح، كما أنه يُضيء، بفضل قدرته على البوح التي تمنحها إياه اللغة العامية والانزياح والرمز، جوانبَ اجتماعيةً وسياسيةً أغفلها التاريخ الرسمي.

ويمكن اعتبار تاريخ الأدب المغربي عموما تاريخ التراث الشفهي؛ لأن جُل ما تناقلته الأجيال الماضية من أشكال أدبية وفنية ومعرفية كان شفهيا، نجد هذا في الأشكال ما قبل المسرحية المغربية، وفي الغناء الشعبي، وفي الحكايات الشعبية غير المكتوبة، وفي الزجل الذي يمكن اعتباره المعادل الرمزي للشعر العربي الفصيح بالمغرب. 

المفهوم والنشأة:

تعني كلمة «زجل» على مستوى اللغة «درجة معينة من درجات الصوت»، وهي الدرجة الجهيرة ذات «الجلبة والأصداء»، وبهذا المعنى كان يقال للسحاب «سحاب زجِل»، إذا كان فيه رعد، كما قيل لصوت الأحجار والحديد «زجلا»1.

 وقد تغير المعنى وتطور ليدل على اللعب والجلبة والصياح، ومنها: رفع الصوت المرنم، ومن هنا جاء إطلاق اسم «زجل» على الحمام فيقال «حمام زاجل»، والزجل بفتح الجيم: اللعب والجلبة والتطريب ورفع الصوت، زجل كفرح، فهو زجِل وزاجل. 

أما من حيث الاصطلاح اللغوي ففي المعجم الوسيط: «الزجل نوع من الشعر تغلب عليه العامية»2. من ثمة فإن المصطلح يدل في الأدب على شكل من أشكال النظم العربي، أداته إحدى اللهجات وأوزانه مشتقة أساسا من أوزان العروض العربي، مع تعديلات تتواءم والأداء الصوتي للهجات منظومة.

 من هذا المنطلق يتضح أن الزجل صار يطلق على نوع من الشعر أو النظم الذي تطور عن الشعر العربي التقليدي، لغته اللهجة المتداولة في الوسط الذي ينتجه، بحيث نجد لكل شعب عربي زجله الخاص.

ويكاد يتفق جُلُّ الباحثين  في هذا المجال، على أن الزَّجل نشأ في الأندلس ومنها انتقل إلى باقي الدول العربية3، وقد انبثق من القصيدة العربية التقليدية؛ ذلك أن مختلف بنياته الإيقاعية توازي بنيات الشعر العمودي من حيث القافية الواحدة والبيت المفرد والوزن الواحد، مع خُلوّ القصيدة أو المنظومة الزجلية، كما يحسن أن نطلق عليها، خلوها من الإعراب، كميزة أساس لها عن الشعر الفصيح.

ومما يؤكد ظهور هذا الفن في الأندلس قول ابن خلدون: «لما شاع فن التو شيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته وتنميق كلامه وترصيع أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظَموا في طريقته بلغتهم الحضرية من غير أن يلتزموا فيها إعرابا، واستحدثوا فنا سموه بالزجل»4، ثم سينتقل إلى باقي الدول العربية؛ وفي ذلك يرى المستشرق الإسبانى آنجل جنزالس أن هجرة الأندلسيين إلى مصر وبلاد المشرق أصبحت تمثل ظاهرة في عصر المرابطين في القرن السادس الهجري، وبخاصة هجرة أهل العلم والأدب حاملين معهم علومهم وآدابهم وثقافتهم من الأندلس إلى المشرق5. وفي هذا السياق انتقل الزجل إلى معظم الدول العربية.

وإذا كانت القصيدة التقليدية هي التي سادت الثقافة العربية والأدب العربي، فإنه قد ظهرت، بمقابل ذلك، في أزمنة مضت، فئة من الشعراء الذين بحثوا تحت ظروف سوسيولوجية وثقافية معينة وبسبب التمازج اللغوي بين العربية واللاتينية، في الأندلس بشكل خاص، عن جنس أدبي جديد يضاهي الشعر للتعبير عن ذواتهم، فكان اختيارهم هو فن الزجل الذي يعتبر من الفنون الجميلة.

هؤلاء الذين اختاروا الزجل كانوا وسطا، من حيث الشكل، بين القصيدة التقليدية والفولكلور الجمعي، ذلك أنهم أخذوا عن القصيدة التقليدية مقومات الإيقاع، بينما جعلوا اللهجة السائدة لغته، مبتعدين عن الإعراب وعن إكراهات المصطلح الفصيح، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

ويعتبر ابن قزمان الأندلسي، من القرن السادس الهجري، أول من وضع قواعد الزجل، حيث أشار مثلا الى ضرورة اللحن والتجرد من الإعراب فقال: «إن الإعراب أقبح ما يكون في الزجل، وأثقل من إقبال الأجل»6، وما يؤكد سبق ابن قزمان إلى الزجل قول ابن خلدون في مقدمته: «وأول من أبدع في هده الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان. وإن كانت قيلت قبله بالأندلس، ولكن لم تظهر حلاها، ولا انسبكت معانيها، واشتهرت رشاقتها إلا في زمانه، وكان لعهد الملثمين»7؛ ويقصد بالملثمين هنا المرابطين الذين حكموا الأندلس في القرنين السادس والسابع الهجريين.

وبفعل القرب من الأندلس كان المغرب سباقا لاحتضان هذا الفن، لكن يمكن القول، بالمقابل، إن قيمة هذا الفن لم تُعرف إلا في أواخر القرن العشرين بِفعل تزايد الاهتمام بالتراث والموروث الثقافي، ذلك أنه في السابق عانى الزجل من وجود مُعارضين له خاصة من هؤلاء المتعصبين للشعر الكلاسيكي واللغة الفصحى باعتبارها لغة الثقافة العالمة، كما كان يصطلح على ذلك، وباعتبار الدارجة لدى هؤلاء لا تستطيع أن تشكل مادة للأدب، وفي هذا السياق، يقول الباحث المغربي مراد القادري: «الدارجة في ظن الباحثين القدامى لغة عامية لا يمكن أن تنتج بها وفيها نصوص إبداعية، فهي سوقية تستعمل في الكلام بين الناس وليس في الكتابة. لكن في السنوات الأخيرة، خاصة في العقدين الأخيرين من القرن الماضي.. بدأ الاهتمام بالزجل المغربي وإعادة الاعتبار إليه سواء من طرف النقاد أو مبدعيه»8 مشيرا إلى التفات المفكرين الشباب نحو الثقافة الشعبية لرد الاعتبار إليها. وقد أكد هذا الباحث على أن إقصاء هذا التراث كان بفعل الصبغة الإيديولوجية التي اصطبغ بها.

من هنا يمكن أن نمثل لهذا الفن بالكرنفال الساخر في الغرب، وفي الاتحاد السوفياتي تحديدا، الذي واجه الثقافة السائدة في أوروبا والإيديولوجيا القائمة في المجتمع الغربي. ويخلص مراد القادري إلى أن رد الاعتبار للزجل جاء نتيجة خروجه من قوقعته الايديولوجية وانفتاحه على أغراض أخرى واتصاله بالذات للتعبير عن مكنوناتها، وإن كان الزجل في الواقع ومنذ ولادته ظل معبرا عن هذه الذات وآمالها وآلامها راصدا همومها اليومية: «الزجل إذن ممتد في الجذور العميقة للأرض المغربية، يستمد منها روحها، وينسحب ليعانق هموم ومشاكل وأحلام صغيرة تعيشها كل ذات زاجلة، ويورد الباحث مجموعة من الزجالين الذين أثروا الديوان الزجلي أمثال المرحوم المهدي الودغيري والمرحوم أحمد الطيب العلج ومحمد الزروالي وعزيز بنسعد، وفاطمة شبشوب، ومحمد الراشق، ورضوان أفندي، ومراد القادري، وفاطمة مستعيد، ونهاد بنعكيدة»9.

ونشير، في هذا الصدد، إلى أهمية التلاقح الثقافي بين المغرب والأندلس خاصة في عهدي المرابطين والموحدين، فالأندلس تلك البيئة الجميلة التي أنجبت ابن زيدون وابن خفاجة وابن حزم، هي التي أنجبت الزجل كفن جميل قبل أن ينتقل إلى باقي البيئات العربية، مما يعني أصالة الزجل في الثقافة المغربية-الاندلسية، وفي هذا الصدد يمكن أن نورد نموذجا لذلك الشاعر الصوفي الششتري المتوفى سنة 668هـ، والذي عبر في قصائده الزجلية عن خوالجه الوجدانية والروحية، بشكل لا يقل جمالية عن قصائده الشعرية التقليدية، ومن نماذج ذلك قوله مناجيا:

حينْ نكونْ مْع ذاتي

شمسْ أنسي مني تطْلوعْ 

ويْجيني فقري مطبوعْ

والموجودْ قدْ بانْ ويْرى الإنسانْ

جْميع الكْوان*** كلها من جزئياتي

أطْيب ما هو أو تاتي***حينْ تْكونْ مَجموعْ مْع ذاتي10

(تطلوع: تطلع، يجيني: يأتيني)

ويقول في المعنى نفسه حيث الشوق إلى المحبوب:

أش قالْ لي ذَا الشَّيْخْ يَا مُشْتَاقْ

اسْمع كْلامي وفَهْمُو

ما يسري قلبك مَ الاشواقْ

إلا حْديث نكَتْمو

كنْ مثلي هيمْ في المْليحْ واعشاقْ

وانظرْ لحسنو واجدمو..

افهمني ومن فْهم يَرْقى

فِي وْجَلْ حَضْرَه عُلْيَا

وأَيْ حَضْرَة تَدْنِيكْ مَ الْقُرْبْ

وْتْرى المْعَانِي الشَّاشِيَّة11

(اش قال لي ذا الشيخ: ماذا قال لي هذا الشيخ، وفهمو: وافهمه، م الأشواق: من الأشواق)

 الخصوصيات الاستيطيقية وتعدد الثيمات في الزجل المغربي 

لن نعنى في هذا المحور بقضية الشكل فقط، إنما نشير إلى أن الزجل عامة، والزجل المغربي بشكل خاص اعتمد في بداياته على الوزن التقليدي حيث اعتمد على الوحدة الرباعية كما في مثال صفي الدين الحلي المتوفى سنة 750 هـ:

ذا الوجود قد فاتك وانت في العدمْ

ما كْفيت من جهلك زلّة القْدمْ

قد زرعت ذي العقبة فاحصد النّدَمْ

أو تريدني الساعة ما بقيت أريدْ

ففي هذين البيتين نرى كأن اللغة هنا قريبة من الفصحى ولا تغييرات إلا في خلوها من الإعراب الذي يرى ابن قزمان، كما أسلفنا، أنه من عيوب الزجل.

وقد اتخذ الزجل الصورة الآتية في المنظومة التي تسمى الحِمل، كما يلي:

= <للحمل مطلع ذو بيتين=< وبعد المطلع تتوالى الأدوار، وهي على الأكثر اثنا عشر دورا=<والدور خمسة أبيات أو أربعة.

 فإذا كانت الأدوار من ذات الخمسة أبيات فتأتي الثلاثة الأولى على قافية واحدة والاثنان الأخيران على قافية المطلع، وإلا كانت كلها على قافية واحدة.

لكن بعد ذلك مال الزجالون إلى التبسيط، كما هو الشأن بالنسبة للشعر الحر في تجاوزه لعمود الشعر العربي وقواعد الوزن، وسنركز في هذا المحور، بشكل أكبر، على جانب المضمون والتيمات، انطلاقا من بعض القصائد الزجلية المختلفة لنرى المضامين التي تحملها، ونشير إلى بعض عناصر الجمال فيها.

1.     المقطع الأول من قصيدة اللطفية المشهورة للحاج أحمد الغرابلي الفاسي الذي عاصر السلطانين المولى الحسن الأول والمولى عبد العزيز، يقول:

يا لُطف الله الخافي

الطُف بينا فيما جْرات بيه القدارْ

يا نعم الحي الكافي

اكفينا شر الوقتْ ما نْشوفو غْيارْ

يا مول الفضل الوافي

فضلكْ ما يتنهى ولا تحدّو سطارْ

عجل بدواك الشافي

وارحم ضعف الأمة الغارقة فالوزارْ

قادرْ تبلي وتعافي

وتنسخْ الشدة بالعفو كما فالخبارْ12

(غيار: أعداء/ سطار: أسطر/ الوزار: الذنوب والأوزار).

فالواقع أن هذه القصيدة تعبر عن المرحلة البئيسة التي عاشها المغرب في ظل صراع الدول الاستعمارية فيما بينها لبسط نفوذها على المغرب في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وانتشار الهلع داخل صفوف المغاربة الذين عاشوا قبل هذه المرحلة الحالكة في ظل الهدوء والاستقرار، ويرجع ذلك على ما يبدو إلى ابتعاد الأمة الإسلامية عن الدين، هذه الوضعية الأليمة التي يجسدها قوله:

عجل بدواك الشافي

وارحم ضعف الأمة الغارقة فالوزارْ.

2.     ومن القصائد التي عبرت عن العشق الصوفي واختارت الوجدان والجانب الروحي نجد قصيدة «تاه فالدّاج نْعاسي» لمحمد بن سليمان (عاش في القرن السابع عشر الميلادي) يقول فيها:

من صدود اللي نهوى ساكنْ عْلى قلبي نافَرْ

كيفْ نعمل يا ناسي

لهْوى عن كاهْلي حمله ثقيلْ شلـّة ما نصْبر

لادوا ينـفعْ باسي

لا طبيبْ اتقولو هذا حكيم بالقصدْ يخبرْ

لاشْ يا غربة راسي

لمْـتى عظمي من هرس لفراق بالـْعطف ينجْبرْ

...

بن سليمان اسمي للجاحدين ضربي ف: المنحرْ

درتْ فيدي مدْعاسي

رفدت سيفي وركبت على جوادي فايق على لبدرْ

حر نسّاهْ قرطاسي

صاحب الخطوة قراب لبعيد ويفتت لحجرْ

هبت بالورد وياسي

والسلام على ناسي والجحيد خليه مكدّرْ

ياعاتق لنفاس

جيرنا من هولْ الدّنيا وبعدها هول المحش

(شلة: كثير، لمتى: إلى متى، هرس: كسر، المدعاس: الرمح)

ففي هذه القصيدة تطغى نغمة الاغتراب والوحشة والتذكر في اتجاه نحو المكان الذي به المحبوب، ويبدو كذلك أنها تصطبغ بصبغة سياسية من خلال دعوة الزجال قومه إلى مبايعة السلطان وأتباعه والاجتماع على كلمة واحدة.

3.     وهناك لون آخر من الزجل وظف فيه الزجال المغربي عناصر الطبيعة، وعبر من خلاله عن خوالجه ثم عن مواقفه السياسية والاجتماعية، ومن ذلك ما نظمه التهامي المدغري في قصيدة «النحلة شامة»، كما أورد ذلك الباحث والزجال محمد الرائق في كتابه «إضاءات حول تاريخ وقضايا الزجل المغربي»، يقول المدغري:

سهلا واهلا بك يا النحلة 

وهنيّة يا الصّايلة صلتِ ع لّطيارْ

غني بين النّهرْ والزّْهرْ 

وخدود الزينْ والعيون المحّارة

وْحى ليك الله في كتابه

ولَهْمَكْ لبطايحْ العفة ولقيط النوار

والجولاتْ فَ السّْهلْ والوْعَرْ

وجْعلْ فيك دْوا وحكمة وتْجارة

بنغمة التحنان بين البستان

يا شامة الظريفة نغْمي دونْ وْتارْ

ما مثلكْ فضَّة ولا تْبَرْ

ولا ياقوتْ في ذخايَرْ مومارا

قطفي قطفي ألزّاهية سوسانْ

وغناجْ ولحكَم والوردْ المسرار

وسْجَلماسي رايْقَ النّْظَرْ

الطمّاح مْعَ مدليكة والجلاّرة

والبهجة والباغْ والزريرق

والشْكوكي والعْشيقْ مصلحْ لنظارْ

إلى أن يقول في المقطع الثاني:

دْواتْ النحلة وقالتْ عشوب البيدا حلال

 لي فالبساتن ما بين اسوارْ

نْتْبَحْبَحْ ف مسارَحْ الزْهرْ وغْصانْ تميلْ

والجبالْ العاليا وقْفارْ

ما بين الجرنيسْ والسْدرْ ونروحْ

للجباحْ بعْدْ نتسارا

(هنية: هنيئا، وحى ليك الله: أوحى الله إليك، التحنان: الحنين، رايق: رائق، نتبحبح: أتجول، الاجباح: خلية العسل، نتسارا: أتجول.

فالواضح أن هذه القصيدة جمعت بين جمال المعنى وجمال الأسلوب، وذلك من خلال استلهام عناصر الطبيعة فيما يمكن مقارنته بالشعر الرومانسي، أو ما يمكن أن نطلق عليه زجلا رومانسيا، حيث يهرب الشاعر /الزجال من ضغوط الواقع باحثا في الطبيعة عمن يشاركه مشاعره وأحاسيسه، تلك الأحاسيس الجميلة التي أوحت بها النحلة إلى الشاعر وهي تنتقل من زهرة إلى أخرى دون أن تضر بالطبيعة وكأنه يجعلها مقابل الإنسان الذي يخرب الطبيعة ولا يصلحها، وإن كان البحث المعاصر في جذور هذه القصيدة قد أعطاها بعدا سياسيا وإيديولوجيا باعتبارها تمثل العلاقة بين السلطان محمد بن عبد الرحمان في القرن التاسع عشر والشعب المغربي، حيث تتهم الوزير بعدم إبلاغ السلطان بأمور الرعية.

وإذا كان هذا يؤكد خوض الزجل في مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية، فإن القصيدة على المستوى البويطيقي والأسلوبي غنية فنيا وأهم صورها أنسنة الطبيعة والتشخيص الذي جسده حوار الشاعر مع النحلة، وعبر التناص الاقتباسي في قوله:

وحا ليك الله في كتابه

ولهمك البطايح العفة ولقيط النوار

في تناص مع قوله تعالى في سورة النحل: «وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون»13، إلى غير ذلك من الأساليب البديعية والبيانية، كما تتجلى جمالية هذه القصيدة في ظاهرتي التكرار والتوازي الصوتي كتكرار الراء والسين وتكرار الكلمات مثل(قطفي قطفي)، فضلا عن التناسب الصوتي، مما أضفى على القصيدة جرسا موسيقيا متوازنا.

4.    ومن القصائد المعاصرة نورد نماذج زجلية لأحمد لمسيح عن ديوانه «ريحة الكلام»:

لسانو بلا لجام

باغي يطير عند خيالو

والْعْكس مقيد لو القدّامْ

بانت لو القصيدة حمرا

بانت لو المرا قصيدة

وسط الزحامْ

فراشة خافْ عْليها

اطفا نارو فيهْ

بظلوا عليها حام

ثمرة من الجنة قدّامْها مخطوفْ

ما فْطر ما صامْ

ففي هذه القصيدة تحضر المرأة كموضوع مما يدل على تنوع أغراض الزجل المغربي، كما نجد أيضا تنوع الصور الشعرية خاصة التشبيه والمجاز.

5.    ويقول محمد الراشق في قصيدة لرياح الجاية:

يا لرياحْ الجاية

ديري بحساب ْلْعريانْ

الرميلة على قد الحالْ

والذات معلولة

والكانة مقتولة.

(الجاية: الآتية، الكانة: الحالة النفسية). 

ففي هذه الأبيات الزجلية، نجد الخطاب موجها إلى الرياح داعيا إياها إلى مراعاة حال المشردين ومن لا مأوى لديهم؛ بحيث يشرك الزجال الطبيعة في زجله للتعبير عن الواقع، 

6.     أما الزهراء الزرييق فهي تخاطب لسانها وتقول في قصيدة «لساني يا لساني»:

ملي نبغيك في هجا

كونْ سمّ ثعبانْ

شاعلْ قايدْ

حْمى من سفافدْ وقطبانْ

وملّي نبغيك مدّاحْ

امدح بالحقّْ لا طمعانْ

في عمارة شكارة أو زريبة خرفانْ.

فهي تبني صورها الشعرية على ربط المجرد بالمحسوس قصد إثراء الحساسية وتعميق الوعي.

استنتاجات:

وإذ نكتفي بهذه النماذج، نشير كاستنتاج عام، إلى أن ثراء الزجل المغربي وقدرته على التعبير عن الذات والمجتمع بشكل عميق، ناتج بالدرجة الأولى عن الانمزاج بين اللغة الدارجة والثقافة المغربية الشعبية، فاللغة تعبر أكثر عن المدلولات إذا كانت متعايشة معها ومنغمسة فيها، ولغة الزجل هي لغة المعيش اليومي ولغة الواقع الاجتماعي الحي، ولهذا فهي تعبر بصدق عن هذا المعيش وعن هذا الواقع، كما أن النماذج التي ذكرنا تجعلنا نخلص إلى كثرة الزجالين الذين تعاطوا لهذا الفن خاصة في الآونة الأخيرة، ومن الملاحظات  التي توصلنا إليها ما يلي:

    -    تجذر الزجل في الثقافة المغربية.

    -    تنوع الأغراض والموضوعات التي تعرض لها الزجل المغربي.

    -    وبالمقابل نسجل الإكراهات الآتية:

    -    اللهجة التي يعتمد عليها الزجل تشكل عائقا بالنسبة لهذا الفن وتجعله مرتهنا بالبيئة التي نشأ فيها خاصة أن اللغة تعرف تطورا قد لا يسمح للأجيال اللاحقة باستيعابه وتذوقه، حيث تتقادم بعض المصطلحات وتظهر مفردات جديدة، مما يفرض على الزجال اعتماد مفردات قريبة من اللغة الفصحى.

    -    تجاوز الزجل للقواعد التي وضعت له وتخلصه من الأعراف الموسيقية التقليدية على غرار الشعر الحر، تجعله أقرب إلى الكلام العادي والفولكلور الجمعي.

    -    هناك العديد من القصائد الزجلية التي يغيب فيها الإيقاع خاصة القصائد الحديثة، وتغيب فيها الموسيقى الداخلية، مما يجعله أقرب أيضا إلى الكلام اليومي.

غير أن هذه الملاحظات لا تعني البتة قصور الزجل عن إثبات ذاته في الحقل الثقافي والفني كتراث ثم كفن قادر على التفاعل مع القارئ العربي وفرض نفسه كتعبير فني جميل.

ونختم بهذا المقطع من قصيدة «الشمعة» للزجال المغربي محمد بن علي ولد رزين الذي عاش في القرن الثامن عشر، و له ديوان في الملحون نشرته أكاديمية المملكة المغربية،  حيث يتقاسم في هذه القصيدة معاناته وآلامه مع الشمعة ويحاورها في جو من الحنين والمناجاة:

لله يا الشمعة سألتك ردي لي سآلي

واش بيك فالليالي تبكي مدى انت اشعيلا

***

علاش يا الشمعة تبكي ما طالت الليالي

وش بيك يالي تتهيء لبكاك فكل ليالي

وعلاش كتباتي طول الديجال كتلالي

واش بيك يا لي ما رينا لك فلبكا امثيلا

علاش كتساهر داجك ما سهرو نجالي

واش بيك يالي وليتي من ذا البكا عليلا

وعلاش باكيا روعتي ناس لهوى امثالي

واش بيك يا لي تنصرفي بدرارك الهطيلا

علاش باكيا وانت فمراتب المعالي (...)

***

لو جيت يا الشمعة نحكي لك كل ما اجرى لي

تنسى غرايبك وتصغي لغرايبي طويلا

اذا باكيا من نارك نيران في ادخالي

عدات كل نار فذاتي وجوارحي عليلا

 خاتمة:

تأسيسا على ما سبق؛ يمكن اعتبار الزجل المغربي رصيدا ثقافيا لا يختلف من حيث القيمة عن الشعر الفصيح؛ بحيث إن له أدواته الفنية الخاصة و له جمهوره الخاص، كما أن أهميته تتضح بشكل أكبر في كونه صار مغذيا لباقي الفنون الأخرى مثل المسرح والأغنية الشعبية التي لها جمهورها العريض في المغرب، كما أنه يحمل من الذاكرة المغربية والعربية والإسلامية ما يمكننا  من الاعتزاز به كتراث حي يبقى صلة وصل بين الماضي والحاضر؛ ولعل ذلك  ما يدعونا  إلى الحفر في التراث الزجلي المغربي ورقمنته للتعريف به عالميا ولتعريف أجيال الغد به، فالتراث يبقى جزءا لا يتجزأ من هويتنا العربية.

 

 

 هوامش:

1.    سميرة مالكي: "الفنون الشعرية المستحدثة في الأندلس"، في: https://www.inst.at، آخر اطلاع:  21 أبريل/ نيسان 2022.

2.    المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 2011.

3.    أحمد مجاهد: "الزجل"، في: https://www.shorouknews.com، آخر اطلاع بتاريخ:  21 أبريل/ نيسان 2022.

4.    عبد العزيز عتيق: الأدب العربي في الأندلس، دار الآفاق العربية، القاهرة، 2005،  ص. 290.

5.    أحمد مجاهد، مرجع سابق.

6.    إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الرابعة 1983، ص. 509.

7.    عبد الرحمان، بن خلدون،  المقدمة، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، الطبعة الأولى، 2004، ص. 353.

8.    مراد القادري: وقفات مع الشعر الشعبي المغربي، في: ahlamontada.com، آخر اطلاع بتاريخ: 23 أبريل 2022

9.    مراد القادري، مرجع سابق.

10.    أبو الحسن الششتري، الديوان، تحقيق علي سامي النشار، دار النشر المعارف، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1960، ص. 305

11.    ديوان الششتري، مرجع سابق، ص. 315.

12.    ديوان أحمد الغرابلي، إشراف وتقديم عباس الجيراري، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة التراث، 1992.

13.    سورة النحل، الآية 68.

 

 

المراجع:

1.    المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 2011.

2.    ابن خلدون، عبد الرحمان: المقدمة، تحقيق عبد الله محمد الدرويش، دار يعرب، دمشق، الطبعة الأولى، 2004.

3.    أكاديمية المملكة المغربية: ديوان أحمد الغرابلي، إشراف وتقديم عباس الجيراري، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة التراث، 1992.

4.    عباس، إحسان: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، دار الثقافة، بيروت، الطبعة الرابعة 1983.

5.    عتيق، عبد العزيز: الأدب العربي في الأندلس، دار الآفاق العربية، القاهرة، 2005.

6.    الششتري، أبو الحسن: ديوان الششتري، تحقيق علي سامي النشار، دار النشر المعارف، الإسكندرية، الطبعة الأولى، 1960.

7.    أحمد مجاهد: "الزجل"، في: https://www.shorouknews.com، آخر اطلاع بتاريخ:  21 أبريل/ نيسان 2022

8.    مراد القادري: وقفات مع الشعر الشعبي المغربي، في: ahlamontada.com، آخر اطلاع بتاريخ: 23 أبريل 2022

9.    سميرة مالكي: "الفنون الشعرية المستحدثة في الأندلس"، في: https://www.inst.at، آخر اطلاع:  21 أبريل/ نيسان 2022.

 

 

الصور:

    -    الصور من  الكاتب.

1.    https://i.pinimg.com/564x/2f/23/43/2f2343d01293cd14f07b372fafcb8835.jpg

2.    https://hespress.news/wp-content/uploads/2019/04/%D8%A3%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B7%D9%8A%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D8%AC-1.jpg

3.    https://www.hibamusic.com/ajouter2/files_uploded/photos_artiste/full_size/jil-jilala-393-9186-7476881.jpg

 

أعداد المجلة