فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
59

«التّبُوريدَة» في المغرب... صراع بين بقاء الأثر وفكرة التلاشي

العدد 59 - في الميدان
«التّبُوريدَة» في المغرب...  صراع بين بقاء الأثر  وفكرة التلاشي
مملكة البحرين

 

لم أتوقع يوما أن أسعى جاهداً لأن أحاكي عبر صوري عملاً من أعمال الفنان الفرنسي فرديناند فيكتور أوجين ديلاكروا (26 أبريل 1798 -13 أغسطس 1863)، والتي رسم من خلالها الظاهرة التراثية التي تسيدت بلدان المغرب العربي «الفانطازيا» كما يلفظها أهل المغرب «التّبُوريدَة» أو أن أخوض تجربة البحث في تلك اللوحات التي رسمها. 

أنا هنا لا أزعم بأني قاربت شيئا من عظمتها وروعتها فما من شك في أن تلك اللوحات كانت بمثابة رائعة من روائع الفن في القرن التاسع عشر، فالمستحيل قد لا نبلغه كما يقول رينيه شار لكننا على أقل تقدير نستخدمه كقنديل، إذ أن اللوحة لديه،  كانت تظهر نسخة مثالية ومعبرة عن قوة الاكتمال، التنافر والتجانس الفني في آن معاً، في قبالة فكرة الأضداد التي كانت ترتسم من خلال رموز و علامات تشكل المعركة المتخيلة لظاهرة «التّبُوريدَة» و بين اللون و الحركة المتناثرة كوحدة زمنية يمكنها أن تختزل ضد آخر أو ما يمكن الاصطلاح عليه بهزيمة الموروثات وصراعها الدائم بين بقاء الأثر وفكرة التلاشي والنسيان التي أحاول تأسيسها في صوري كعمل فني. 

«لمكحلا»... العروس التي قد تغدر بصاحبها:

كانت الساعة التاسعة صباحاً، عندما وصلنا ميدان «التّبُوريدَة» أو«الفانطازيا» في الـ 16 من أكتوبر 2018، كانت الصورة لدي متخيلة عن الحدث وذلك من خلال اللغة التصويرية التي رسمتها في ذهني حول هذه التظاهرة التراثية بمدينة الجديدة المغربية.

 كنت مشدوها أراقب ضخامة الحدث، بمختصر الكلام أنا هنا أتحدث عن قوة المشهد وحركة الصورة عبر تلك المجاميع من الفرسان التي يسمونها بـ «السُّرْبَة» المكونة من 11 إلى 15 فارسا يصطفون على خط انطلاق واحد، ويترأسها «المقدم»، الذي يتخذ مكانه في وسط الفرقة وينسق حركات الرجال والخيل معا، وهم يتباهون بمهاراتهم في استعراض تراثهم الأصيل من خلال جموح الخيل و بندقية البارود التي يحملونها.. عرفت بعدها ومن خلال البحث والاستقصاء بالسؤال، بأنهم كانوا يسمونها بـ «لمكحَّلا» وهي بندقية تقليدية الصنع يزينونها كعروس بزخارف من العاج وبقطع زجاجية مختلفة الألوان وأصداف واحجار كريمة لكنها رغم ذلك قد تغدر بصاحبها.   

إذ إنهم وبشكل دائم يتدربون على أمل أن يكونوا هم الأفضل في اليوم المحدد للاستعراض والمنافسة، قبائل و عشائر تأتي من مختلف بلدات و قرى المغرب لخوض معركة تحاكي هجمات عسكرية ضد الأعداء. 

قبل خوض تلك المنافسة تأتي نساء العشيرة أو القبيلة «أمهات وزوجات وبنات» لمؤازرة وتوديع فرسان العائلة المشاركين في الميدان كما لو كانت الحرب، يعوذونهم بالله كي يحفظهم من الشر، يقرأون «آية الكرسي» وسورة «الفلق» و سورة «الناس» أملاً في خروجهم سالمين، ذلك لأن الخطأ في هذه المنافسة مكلف جداً لأنه يعني الخروج بجرح أو نَدْبَةُ و حتى الموت.

 بارود يطلق في الهواء و آخر تحت أقدام الخيل «البربري» الذي يتميز بالشجاعة والسرعة والقوة أيضاً. هذا العام لم تكن هناك حوادث مميته، لكن كانت هناك إصابات كثيرة، لكنها مكلفة إما لخسارة الخيل أو إصابة الفارس في جزء من أصابع يديه أو الوجه .. كان الجمهور دائما ما يردد عليهم  عبارة : الله يحفظكم من «العافية»، العافية هنا تعني النار، نار البارود، مصحوبة بزغاريد النساء عندما تنتهي الجولة، أملا في خروجهم من الميدان في سلام.

عند كل حركة هناك صور تبعثر الزمن 

وتستنفر الذاكرة:

في تلك الأثناء، لم تكن عدستي لتلتقط المشهد أو ما يمكن أن أصطلح عليه باللوحة الفوتوغرافية لتلك التظاهرة «الفانطازيا» / «التّبُوريدَة»،  دون أن تمر في ذاكرتي مقولة دولاكروا عندما قال : بأن «عند كل خطوة، هناك لوحات جاهزة «عليك اقتناصها» للرسم، وارتكاز فلسفة اشتغله على امتزاج اللون والحركة المتفلتة من صرامة الخطوط الواضحة والعريضة أو تلك الاشكال المصممة بعناية لتعبر عن واقعية الحدث» أي إنها تعبر عن حالة الانتقال التي تحدث عنها أرسطو من الوجود إلى اللاَّوجود والتي يسميها بـ «الفساد» أو «الْاِرْتِحَال» و «التحول» من صفة الشكل القار إلى صفة «التلاشي» أو «الأثر» الذي صاغة الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا ليعبر عن حركتين هما : امحاء الشيء أو بقاؤه في الباقي من علاماته.  لتمتد مسافة التورط في البحث والوقوع في شرك المقاربة ومجابهة السؤال، الذي يبحث عن تاريخ تشكل تلك التظاهرة في المغرب العربي.

فالمقاربة هنا تستدعي الصورة التي رسمتها مشاهد فيلم «أسد الصحراء» عمر المختار خلال مقاومته لقوات الزعيم الإيطالي موسوليني، حيث كانت قوات المختار تعتمد ذات الأسلوب لـ «التّبُوريدَة» القائم على تقنيات الهجوم المباغت والمنضبط في تنفيذ ما يعرف بـ «الكر والفر» التي ألحقت الهزيمة بأقوى قادة الجيش الإيطالي غراتسياني في حربه الاستعمارية على ليبيا. والتي قد تفسر المغزى الحقيقي لاستمرارية المغرب العربي بكامل أقطاره في تنظيم تلك العروض الفروسية بشكل سنوي، لتمثل نوعا من استعادة الذاكرة التاريخية  لإنسان المغرب العربي وحفاظ الفرسان المغاربة تحديداً على تلك الصورة الوجدانية التي عاشها أجدادهم من محاربين ومقاتلين شجعان في حربهم للدفاع عن الثغور المغربية التي احتلتها إسبانيا منذ القرون الوسطى، والقرن التاسع عشر.

لــتتحـول تــلـك الــتـظـاهـرة «الـفـانـطـازيـا» / «التّبُوريدَة» مع مرور الزمن من طقس حربي إلى فن فولكلوري تبنى من خلاله الصورة فيما البين، بين الصورة التي تؤسسها الذاكرة الجمعية للمجتمع المغربي و بين المتخيل الذي يضع المتلقي الجالس في ميدان الاستعراض في دائرة الافتتان و حدة المنافسة العشائرية والمناطقية.  

كان المشهد يفيض بجمالية اللون والبراعة والدقة والانضباط والحركة الملحمية التي تحاكي أطراف المعركة بشراستها التي تضج بوَقْعِ حَوافِر الخيل والصوت الرفيع لمقدم «السُّرْبَة» أثناء مخاطبته لأفرادها : باسم الله .. الحافظ الله .. الكد الكد : وتعني لتكن الخيل في صف واحد ..  كل شخص ينتبه لحصانه وبندقيته ويستعد ويعاود النداء : يالمكحلا .. علكتف .. ليخرج صوت ممتد - أثناء عدو الخيل بسرعة قصوى- معلناً عن لحظة إطلاق نار البارود، مختتمين حركتهم عند خط النهاية بالصلاة على النبي.

تاريخ تشكل مصطلح

«الفانطازيا» / «التّبُوريدَة»:

مع نهاية العرض في اليوم الأول وبلوغ حالة الاكتفاء واكتظاظ ذاكرة الكاميرا بالمشاهد المصورة، وقفت إلى جانب المصور الفوتوغرافي المغربي نور الدين، الذي كان بمثابة ترجمان اللهجة والكلمات، إذ لولاه لما عرفت مراحل تحرك «السُّرْبَة» في الميدان أو المعنى من المفردات الدارجة التي كان يرددها مقدموا«السُّرْبَة»، خصوصاً وإنها تتداخل مع صوت عدو الخيل ساعة تشتد. 

فمقومات اللهجة كانت تعتمد في كثير من المفردات على قواعد خاصة يتم من خلالها قلب الحروف أو إِدْغامها، مثل : قلب حرف القاف إلى همزة، أو الضاد إلى طاء، أو الكاف والراء إلى غين ، كما كانت تُعجمها أيضاً سرعة النُطق واحتواؤها على بعض الكلمات التي هي في الأصل غير عربية.

وفي هذا السياق تعمدت سؤاله، عن أصل «الفانطازيا» / «التّبُوريدَة» كمفتاح لمعرفة الجذور التاريخية التي شكلتها كظاهرة فلكلورية في المغرب العربي، أمعن في التفكير قليلاً باحثاً عن الطريقة الممكنة لاختزال الإجابة وتكثيفها في آن معاً، إلا إنه في نهاية الأمر وضعني في سياق المعنى البسيط المتعارف عليه في الثقافة الشعبية المغربية «تراث فلكلوري». 

عدنا لمقر إقامتنا.. وأنا محموم بسؤال آخر، عن العلاقة فيما بين مفردة «الفانطازيا» و«الفنتازيا» وما إذا كانت هي ذات الكلمة وما الاختلاف إلا في طريقة لفظ المغاربة لها. أخذني البحث لقضاء ساعات على شبكة الإنترنت إلا أنني لم أفلح في العثور على شيء علمي يمكن له أن يفسر المعنى الواضح لظاهرة «الفانطازيا» / «التّبُوريدَة»، فقررت التركيز على الصورة الوثائقية من جهة والعمل على هندسة اللوحة التي أبني من خلالها فكرة مشروعي برفقة الفنان الفرنسي ديلاكروا.

بعد عشرة أيام انتهت رحلتنا، عدت لمكتبي أفكر في الطريقة الأمثل لجمع ما يمكنني على كتابة شيء له معنى، شعرت بخيبة البحث لبعض الوقت، إلا أنني في نهاية الأمر عثرت على دراسة هي عبارة عن «مقدمة في تاريخ الفانطازيا» للباحث والأنثروبولوجي الجزائري مبروك بوطقوقة.

كان سؤالي آنذاك، أثناء تواجدي في المغرب، لماذا «طـ» الفانطازيا بدلا من «فـ» الفانتازيا، هل هي بذات المعني ؟ هل الفارق محصور ومقتصرفقط على شروط وقواعد قلب الحروف في اللهجة المغربية الدارجة، لتكون المفردة الأخيرة بالمعنى الذي ورد في عالم الأدب متقصدة الأثر الأدبي المتحرر من قيود المنطق والشكل وصولاً بالمتخيل السارح لحدود اللا معقول، أو إن «الفانطازيا» لها معنى مغاير خاص بعالم الفروسية في المغرب العربي.

إلا أن ما تكشف من خلال المقدمة التي كتبها الدكتور بوطقوقة في مبحثه «مقدمة في تاريخ الفانطازيا» والتي أشار فيها إلى أن مفردة «الفانطازيا / fantasia» تشي بذلك التشابك في المعنى، إلا إنه شاع استعمالها في اللغة الفرنسية بمعنى محدد وهو استعراض الفروسية «Parade equestre» الذي يقوم به سكان شمال افريقيا وهو المعنى الذي أصبح مرتبطاً بهذه الكلمة في اللهجات المحلية في المغرب العربي ولكن المغاربة كانوا دائما ما يميلون إلى استخدام مصطلح «التّبُوريدَة».

مضيفاً بأن أصل كلمة «فانطازيا» يعود إلى اللفظ الإغريقي «qautasia» وتعني «فعل حب الظهور» لتنتقل فيما بعد للغة الأسبانية بمعنى «العجرفة» وفي الإيطالية بمعني «التباهي». 

اختلفت السرديات في تعيين الفترة الزمنية التي عرفت فيه «الفانطازيا» بوصفها فعلاً استعراضيا، وحتى قصة اللوحة الشهيرة «فانطازيا الفرسان المور بالمغرب» التي رسمها الفنان دولاكروا في العام 1832 والتي تعتبر أشهر لوحاته وعرضت مؤخراً في متحف محمد السادس للفن الحديث والمعاصر بالرباط «ديلاكروا ، ذكريات رحلة إلى المغرب» أكتوبر 2021، عاد الباحث ريموند أرفييه R.ARVEILLER في بحث نشره في مجلة فرنسية هي «Revue de la langue romane» - 1985، ليشير بأن دولاكروا لم يسم أيا من لوحاته باسم «فانطازيا» وبأنه لم تظهر تلك المفردة في قوائم الجرد الخاصة بأعماله وحتى في مراسلاته ولا في أي كتاب من كتبه، وبأن مفردة «الفانطازيا» لم تكن موجودة أصلاً في اللغة الفرنسية في ذلك الوقت.

لينتهي بأن الاسم الذي اشتهرت به تلك اللوحة كان قد وضعه صديقه ورفيق رحلته إلى شمال أفريقيا والمغرب في العام 1832 شارل دو مورناي، والذي آلت إليه ملكية اللوحة بطريقة ما.

 

أعداد المجلة