فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
59

عرض كتاب (النيل في الأدب الشعبي) للدكتورة نعمات أحمد فؤاد

العدد 59 - فضاء النشر
عرض كتاب (النيل في الأدب الشعبي)  للدكتورة نعمات أحمد فؤاد
كاتبة من مصر

 

«نهر النيل له في نفس الشعب المصري مكان غال وله في أدب هذا الشعب وفنه صور ملونة وأصداء بعيدة...» نستعرض فيما يلي كتاب «النيل في الادب الشعبي» للأستاذة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد التي نالت رسالة الدكتوراه من جامعة القاهرة في الأدب وموضوعها «النيل في الأدب العربي» وذلك عام 1952، لها عبارة هامة تقول فيها (شيء كبير أن يكون للإنسان قلم ولكن شيئا نفيساً أن يكون للإنسان موقف، ومن نعم الله علي أن وهبني الكلمة والقرار)، ولقد اقترن اسمها بقضايا ومعارك دفاعا عن مصر وحضارتها وشعبها صدرت أول طبعة لهذا الكتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1972 ثم صدرت عدة طبعات لها عن الهيئة العامة لقصور الثقافة عام 1997.

والدكتورة نعمات أحمد فؤاد من أبرز الوجوه في الثقافة العربية المعاصرة ففي مقدمته لكتابها «النيل في الادب الشعبي» كتب الاديب الكبير الراحل خيري شلبي يقول: «الدكتورة نعمات أحمد فؤاد غنية عن التعريف..».. فهي «صاحبة إسهامات بارزة ومهمة في البناء الثقافي كما أنها صاحبة أسلوب جزل رصين معبأ بالمعاني والأفكار والمعلومات، ثم إنها تكتب من فيض علمي غزير وعميق وتجربة ضخمة في القراءة والدرس والبحث قلما توفرت لكاتبة من جيلها، فهي من القلائل الذين دانت لهن اسرار الكتابة الأدبية فامتزج أدبها بعلمها» فأصبحت مقروءة على نطاق واسع لأنها تمكنت من الاقتراب من الجميع ومخاطبة الأفهام على اختلاف مستوياتها الفكرية والثقافية فاستفاد منها القارئ سواء عبر مقالاتها العديدة أو كتبها الكثيرة. لذا وصفها بعض النقاد بـــــ «عروس النيل» التي  كسبت احترام الجميع.

إن كتابها «النيل في الادب الشعبي» قد وُصف بأنه عمدة حاولت فيه أن تكون مثل النيل في فيضانه وجريانه في أحشاء البلاد بل وُصف هذا الكتاب أيضا بأنه كتاب فذ تناولت فيه المؤلفة نهر النيل باعتباره كائنا حيا وإنسانا عملاقا وأسطوريا لما له من تداخل في كل شيء في مصر جعلت علاقته بالوطن علاقة إنسانية حميمة ربطت بينه وبين الناس فذاب في كل تفاصيل حياتهم ودخل في الأمثال الشعبية والمأثورات والحواديت وكل ما يتصل بالوجدان المصري. تلك هي ملحمة النيل، ملحمة الخضرة والنماء وعنوان الحياة والإرواء.. ملحمة الخيال الأسطوري الواقعي الخصيب لذا كان الوجدان المصري وسيظل هبة النيل بجميع تجلياته.

لقد صنع النيل تاريخ مصر وأقام حضارتها وأضاف لها خصبه مختلف ألوان السحر فعرفت الجمال والفن بما تمكنت من اقتباسه من ألوانه في التصوير وصاغت جمالياته في الشعر والقصائد، فملأ دنيا المصريين قدامى ومحدثين فرأوه رقراقا كالفضة المذابة والذهب البراق المنثور في الحقول، فمصر التي دانت بالمسيحية واعتنقت الاسلام ظل إجلال المصريين للنيل ظاهرا فيها في وصفهم إياه مسيحيين ومسلمين (بالمبارك)، فالعرب حين رأوه تخيلوه نابعا من الجنة، جنة طرقاتها، بما يحفها من جبال وأشجار من ذهب وفضة.. هكذا صورت لهم أخيلتهم. لذا فإن النيل في الأدب الشعبي ضارب بجذوره . فالأدب «النيلي» أدب أخضر كضفاف النيل التي نشأ فيها ونابض كحب المصريين للنيل

تبدأ المؤلفة بالإشارة إلى أثر النيل في الأغاني الشعبية حيث أكدت الأديبة الكبيرة أهمية نهر النيل في إلهامه للشاعر الغنائي مفرداته فقد كان النيل وراء الفنان الشعبي حين يغني وحين يقص وحين يطلق المثل من واقع تجربته بل حتى حين يتسلى (بالفوازير). فالنيل مصدر كل شيء حي في مصر.. إنه حياة للعاشق والمعشوق.. للناس ... للحيوان.. للنبات. ذكرت الكاتبة أيضا المفردات الشعبية المستخدمة في هذه المواويل (كألفاظ الذبول والمجيء والغياب).

وتأخذنا الكاتبة بأسلوبها الجزل إلى «لوازم النيل وزروعه في الاغاني الشعبية» حيث تلفت الاهتمام لأغاني الساقية والشادوف والمحراث والنورج حيث غنى الفلاح لقطنه وفاكهته وسجلت الكاتبة الكبيرة ما أسمته بـــــ «أغاني جمع القطن» و«مواويل الزراعة» واغاني «سمك النيل» بل «والقُلل» التي تُملأ من النيل وكذلك أغاني الزروع ولوازم الزراعة الأخرى.. وأيضا هناك من يغني هواه أو يبث شكواه فينفس عن نفسه موالا متكاملا. لذا نجد في كل موضوع رصيدا نفسيا وتجربة ذاتية . فأغاني الحج متصلة لأن وراءها شحنة من الذكريات والمشاعر الجياشة والمشاهد الثرية، أما المراثي وأغاني الملاحين فتتسم بالموضوعية كما لوحظ أن أغاني الشكوى يدور معظمها حول شظف العيش وقسوة الظروف.. فأغاني الحصاد وأغاني اللبن عند نساء الإغريق تدور حول الأشخاص الذين أوقعهم سوء حظهم في مصائرها. كما يلاحظ أن طابع الأغاني التي غناها الأدب الشعبي للنيل وزروعه هو الوضوح والبطء والقوة.

والنيل في الأدب الشعبي حياة الأرض وهو صاحب أفراح المصريين فهو يزف العريس وزفة العريس في الريف أكبر معالم الفرح. وفي الأدب الشعبي صورة جانبية من النيل.. صور للساقية والشادوف .. صور للفول والقطن والفاكهة.. صور للجني والحصاد ووراء هذه الصور دلالة كبيرة هي الاحساس الجماعي العميق بالنيل فهو إحساس شامل يستوعب اللون والحركة والأثر والأشخاص والأشياء. والنيل في الأدب الشعبي صورة متواكبة فردية حينا وجماعية حينا آخر.. ساكنة أحيانا وتعج بالحركة وتزخر بالألوان أحيانا أخرى. وهكذا فرض النيل نفسه على الأدب الشعبي فهذا الحشد الهائل من الصور النيلية في الغنائيات الشبيه بما تحمل من دلالات ومضامين وراءه حشد آخر من الصور التي يبدو بعضها أكثر تفصيلا وأعمق في معناها وأوفى في مضمونها وأوسع في دلالاتها مما تعكسه القصة الشعبية والأمثال الشعبية وكافة ألوان التعبير الشعبية على اختلافها.

ونأتي لتأثير نهر النيل على القصة والأمثال الشعبية حيث تذكر الكاتبة الكبيرة أن نهر النيل كان دائما مصدرا لإلهام الكثير من كتاب القصة، فمثلا حكاية «صندل مع ورد» تتناول الشاطر حسن البطل التقليدي للحكايات الشعبية والذي يغذ السير حتى تدمى قدماه فيجلس تحت شجرة والشجرة تحتها نهر صغير  أحمر بلون الدم يصد الوارد عنه ثعبان فيقتل الثعبان وتصفو المياه وتشرب الطيور والناس. وتشير الكاتبة إلى ما جاء في الاساطير المصرية القديمة من أن (أباتون) ذلك القبر الذي رقد فيه أوزوريس على جزيرة بيجه جنوب الجندل الأول عند أسوان حيث يقر فيه أوزوريس على هيئة النيل. إن الاساطير المصرية برغم كل ما حملته من خيال وأوهام ترسب عنها مع مرور الزمن معتقدات شعبية بل إنها أنتجت أدبا نظرا لما أوحت إلى القصاص الشعبي من قصص كثيرة مفعمة بالطرافة والثراء الأسطوري. وعند المصري القديم النيل له يوم في السنة ينام فيه، فتظهر أصداء ما كان يرويه المصري القديم من قصص شعبي في الأدب الحديث نفسه الذي اقترب من الشاطئ في رواية (الارض) للأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي على سبيل المثال كما  أن صورة الشبكة التي تكون سبب السعادة بما تحمله تذكرنا بقصة (عبد الله البري) في قصص الف ليلة وليلة. إن موطن القصة الصعيد والشعب في مصر العليا خاصة لا يرى غير النيل ولا يقصد إذا غنى أو بكى أو قص غير النيل. وهناك في الصعيد إذا أقبل الليل ينصب السامر وتحلقت الندوة حول القاص وجاء الجميع ليروا الشاعر ويسمعوا مواله وفيه يكون النيل واعيا جياش العاطفة كما تصوره المصري القديم.

أما الأمثال الشعبية فذكرت الكاتبة بكثير من التحليل  عددا كبيراً من الأمثال الشعبية التي يمثل فيها نهر النيل البطل الرئيسي، فتناولت ما أسمته بـــــ «الامثلة النيلية» و«الأمثال الزراعية» مثل (إن جاك النيل طوفان خد ابنك تحت رجليك ) و(اديني عمر وارميني البحر) والنيل في الأدب الشعبي كما تصوره الأمثال النيلية يمثل عندهم، بطوفانه، الروع العظيم ومن ثم استوحوه عندما أرادوا أن يعبروا عما يقدرون له الضياع والزوال أو عما يصيب المرء فيه من أخطار.

ويلاحظ أن الفنان الشعبي قد أطلق أمثلته من وحي تجاربه التي مر بها الآخرون في صورة من الصور أو وقت من الأوقات ومن ثم اعتبر المثل واقعا اجتماعيا من حيث صدقه ودلالته وذيوعه وتواصله على الأيام وأثره في النفوس بما يخلع على الأحداث والأشياء من تبرير او تعليل.. وهنا يقف النيل من وراء الأمثلة النيلية موجها للحياة في واديه محددا للقيم فيها. وهكذا تلتقي عصور مصر عند النهر ففي مصر القديمة كما في مصر الشعبية كما في مصر الحديثة تتصل حياتنا بالنيل وتطوف الأفكار حوله. وألمحت الكاتبة في هذا الصدد إلى تقارب وجوه التعبير بين الأمثلة المصرية القديمة والأمثلة النيلية الشعبية لأن الشعب هو الشعب وفلاح مصر الحديثة المتعلق بالنيل هو صورة من فلاح مصر القديمة وامتداد له. إن المثل الشعبي كما هو معروف مرآة لتجارب الشعب في الحياة والايام  بل يمثل ركيزة ضخمة ينقب الباحث فيها عن آراء الشعب وفلسفته في الحياة وحكمته وأمانيه وآلامه ورغائبه وأحلامه حيث يعتبر أوضح صورة لتفاعل الشعب مع البيئة التي يعيش فيها والتي هي مسرح خواطره ومعين أفكاره ووحي أقواله... إذا كان المثل الشعبي كل هذا فقد صنع النيل فيضا من الأمثال الشعبية حيث بلور آراء الشعب وأفكاره من خلال تلك الأمثال.

ومصر في تاريخها كله دائمة الخوف على النيل تخشى عليه بحبها الإنسان والمطامع والحب العميق يلازمه الخوف والأوهام بل لعله من فرط حساسيته وعمقه يخلق لنفسه المخاوف والأوهام  ثم يصدقها وهي حالة شعورية جعلت أديبنا الشعبي المجهول ينفض خوفه في قصة سيف بن ذي يزن على سبيل المثال.

بعد ذلك استعرضت الكاتبة (النيل والأمثلة الزراعية)  وسجلت ما تحمله الأمثلة الزراعية من مفردات زراعية وسمات المجتمع الزراعي في صفاته وأخلاقه ونفسيته ومنطقه ومعاملاته واعتقاداته. وصلة الأمثلة الزراعية بالنيل هي صلة الأثر بالمؤثر أي أنها صلة معنوية أكثر منها صلة تعبيرية والفنان الشعبي في هذه الأمثلة تشبيهاته واستعاراته ضمنية وقد يستتر المعنى فيها أحيانا لذا كانت الأمثلة أصعب مثلا من الأغاني الشعبية لأن الأمثال هي عصارة تجارب وسنين ومن ثم فهي أغنى في المعنى واللفظ وأعمق في الغرض وأكثر تركيبا في الصورة.

هناك جانب هام آخر ألا وهو علاقة نهر النيل وصلته الوثيقة بالموالد الشعبية التي تعتبر فنا من الفنون الشعبية حيث تتعانق افكار الشعب منذ القدم حول النيل، فهناك العديد من الأعياد والمراسم التي تمتد عبر الزمن من مصر القديمة لتتواصل مع أعياد مصر الحديثة التي تبدو امتدادا لها وتتخذ في الحديث كما اتخذت في القديم النيل وشواطئه وسفنه مسرحا لها ومجالا. وأشارت الكاتبة في معرض حديثها الى الأساطير الشعبية عن جنيات الماء او حوريات الماء او عرائس البحر والتي تتشابه في اللغات المختلفة وبين الأقوام ففي الأساطير الإغريقية إن جنيات الماء يجذبن الضحية إلى حتفها وهن في بعض الأحيان يتخذن أشكال الطير او طيور برؤوس نساء.

ومن ثم ظهر تأثير النيل العميق والهام على لغة الشعب فقد صنعت بيئة النيل الزراعية ألفاظا وصورا خاصة تصف الجمال في الأدب وأشارت الكاتبة إلى ظاهرة لغوية تسترعي الالتفات هي أن اللغة تتأثر بقربها من النيل او بعدها عنه، فكلما اقتربت من النيل فهناك الشفافية في اللفظ والألق في العبارة وكلما ابتعدت عنه افتقدت الى الجمال والرواء فكما استمد البدو مفردات حياتهم من الحياة الصحراوية، يستمد سكان المناطق النيلية مفرداتهم أيضا من النيل والنماء والخصب والورود والظلال  وغيرها من المفردات. هذا هو أثر النيل في اللغة بعد أثره في الحياة والناس.

 وكان لزاما على الكاتبة الكبيرة أن تذكر بالدراسة والتحليل أسطورة «عروس النيل» وتتبع جذورها الفرعونية، فذكرت أنها تستند الى أسطورة روجها المؤرخ الافريقي بلوتارك وهي كما رويت خرافة روجها بعض كتاب الإغريق واللاتين من بعد بلوتارك لم يرد لها ذكر في الكتابات المصرية وهي مع ذلك مصدر الأسطورة التي ذاعت في الناس قرونا ونسج حولها الخيال من فنون الرواية والقصص ما جعل كثيرين يتهمونها حقيقة حدثت بالفعل وانها كانت تتكرر في كل عام. فهذا التيه من الاقوال والاخيلة والأوهام قد هام فيه العرب وضرب فيه قبلهم من سبقوهم من الأمم ولا يستثنى المصريون القدماء أنفسهم ولكن النهر ظل يجري يطوي الأجيال جيلا وراء جيل ويبني الحضارات حضارة وراء حضارة وتتواصل الحياة على ضفافه كما شاء له الله لا كما اراد المغيرون.

وختاما تحدثنا الكاتبة الدكتورة نعمات أحمد فؤاد عن (وفاء النيل) المتجذر في احتفال المصريين به في شهر أغسطس من كل عام حيث عاش الفيضان في ذهن الشعب المصري ووجدانه فظل يحتفل به كل عام على مر العصور حتى في الفترات التي كان بها الحاكم أجنبيا او غريبا وكان الاحتفال بوفاء النيل نبضة قوية من نبضات الشعب المصري تصله بالنيل وتعمق إحساسه به وكيف كان فيضان النيل تجربة غنية للمصريين.. تجربة نفسية وفنية ووطنية.. تجربة مثيرة. والنيل في فيضانه عند المصريين بحر وقد جاء في المقريزي في باب «ذكر مقاييس النيل وزيادته» أن بعض المفسرين قالوا: (إن يوم الوفاء هو اليوم الذي وعد فرعون موسى عليه السلام بالاجتماع في قوله تعالى: ﴿قال موعدكم يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى﴾ (سورة طه، اية 59).

إن الأدب، شعره ونثره، اهتم بالنيل وفيضانه على الرغم من النظرة العلمية الموضوعية إليه، حيث ذكرت الكاتبة الكبيرة أن الشعر الانجليزي الحديث فيه ثلاث قصائد عن النيل من طراز المقطوعات القصيرة او السوناتا نظمها الشعراء جون كيتس (1795 - 1821) وبيرسي بيش شيلي (1792-1822) ولي هنت (1784-1959). وقد تغنى «شيلي» بالفيضان الذي (ينتشر انتشارا متساويا على أرض مصر ذات الذكريات) والفيضان عند الشاعر «لي هنت» له صورة أجمل وأكثر شاعرية حين جعل الصمت يعمق ليهيئ الأسماع والنفوس للنيل القادم من قلب إفريقيا يشق هديره الصمت والرمال.

 

أعداد المجلة