فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
59

الغناء الفولكلوري ومواضعات الثقافة ( دراسة في البنية والدلالة )

العدد 59 - موسيقى وأداء حركي
الغناء الفولكلوري ومواضعات الثقافة ( دراسة في البنية والدلالة )
كاتب من مصر

 

لايزال الغناء «الفولكْلوري» موْضع عناية كبيرة في الدراسات التي تتصدى للموسيقا التقليدية عند الشعوب، ليس فقط لأن هذا الغناء يَحْمل قيمًا فنيَّة وجماليَّة خالصة أو يَحْمل أبعادًا فلسفية عريضة؛وإنَّما لأنه يُؤكد - بحضوره الدَّائم- الدّور الذي يَلْعَبه في المجتمع باعتباره عنصرًا متكاملًا ووظيفيًّا يتفاعل مع عناصر الثقافة من ناحية، وباعتباره نشاطًا كاشفًا للدّور الذي يَلْعَبه الأفراد والجماعات في المجتمع، من ناحية أخرى. وقد أجْمَعت عَديد من الدراسات الفولكْلورية المعاصرة على أن العناية بِدَرْس هذا الغناء لاتهدف إلى معرفة المقومات الفنية التي ينشأ بها أو يعتمد عليها في بناء أشكاله وموضوعاته المختلفة فحسب؛ وإنما إلى الكشف عن طبيعة النشاط الاجتماعي الذي يتخلَّق عنه هذا الغناء، لاسيما وأن عديدًا من أشكاله وهياكله اللحنيَّة لم يكن لها أن تَنْشَأ وتتشكل وتنتشر في الحياة الشـــعبية «التقليدية» إلَّا من خلال ممارسات وأحداث اجتماعية بعينها وهو الأمر الذي جَعَل هذا الغناء لايأتي فقط لكي يصوِّر لنا «الطبيعة الفنية للجانب الصوتي» الذي يُمَثله في تلك الأحداث والممارسـات الاجتــماعية وإنَّما ليساعدنا على التَّوَصل إلى تكوين نَظرة عميقة في مجال العادات والمعتقدات وفي سائر مجالات الاتصال والتكيُّف الاجتماعي المتبادل.

والغناء الفولكلوري الذي نُخصِّص له القَوْل هو:  (في جانب من جوانبه) الغناء الذي ينتمي من حيث الانتاج والاستهلاك إلى العامة من الناس في مجتمع الثقافة الشعبية، وتَوافَر له رصيد من الألْحَان والإيقاعات وطُرق في الأداء والأساليب، غَنيُّ ومتنوع، وراح يُغَطي كل مناشط الحياة من مناسبات وأحداث اجتماعية مختلفة. وهذا الرَّصيد كان - ولايزال - تَتِـــم تنميته وتجويده باستمرار، خاصة وأنه قد توافَرت له مصادر متعددة. كما أنه - ولكي يستقيم مع وضْعِيَّة العامة واختلاف مستوياتهم وقدراتهم الفنية - لايتطلَّب في عمومه تأهيلا فنيَّا خاصًا يُوقف أداؤه على أفراد أو فئة بعينها؛ بل بات ملكًا لكل الأفراد شريطة التزامهم بمجاراة المناسبات والأحداث الاجتـــماعية المختلفة دون الإخــلال بتقاليدها1 .

وما نتصدَّى له في هذا المقام هو ان ثمة مواضعات لم يتوقف الباحثون عندها كثيرا، وكذلك تلك التي لم تحظ حتى اليوم بتفسير مقبول، ونخص منها المواضعات التي كان تصدينا لها - في كتابات سابقة - منقوصا، أو أنها لـــم تنل منّـــَا فــــــي حينه حقها مــــن التفسير الملائم . لذلك عمدنا – في هذا المقام إعادة النـــــظر فيما سبقت كتابته، ومن ثم تعديله بما استجد من أفكار. ووفق هذا المنحي أدرجنا جُل المواضعات الثقافية - التي تحكم عمليات الغناء الفولكلوري لنتصدى للجدل الذي لايزال قائما حول علاقة النص الشعري بالنص الموسيقي (في الغناء الفولكلوري) ومقدار الأهمية التي يحظى بها كل من النَّصين عند العامة من النــــاس (غيــر المحترفين) 

وفي هذا السياق لابد أن نُنْسب الفضائل لصاحبها ممثلًا في عبد الحميد حوَّاس، فقد أوردنا في هذا المقام (وكما سيلاحظ القارئ) مقاطعًا اقتبسناها من كتابات سابقة لـه: (يرجع تاريخ بعضها إلى أوائل السبعينات من القرن الفائت) والغرض من ذلك ليس مجرد الاستناد إلى هذه الكتابات المهمة كمرجعية لنا، أو بغرض محاجاتها وحسب؛ وإنما لأننا نَرى أن هذه الكتابات بما تتضمنه من أفكار ومفاهيم تأتي في مواجهة الكثير من المختزن السلبي من الأفكار، ناهيك عن الالتباسات التي تراكمت على امتداد العقود الخمسة الفائتة بشأن ماهية الثقافة الشعبية ومواضعاتها الواقعية، وأن من دواعي التأكيد على أهمية هذه الكتابات أنها تفتح آفاقًا متسعة للعمل الجاد الذي يحتاجه مجال البحث الفولكْلوري. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإننا لازلنا نؤكد للقارئ على أن ماقَدمناه من معالجة للمواضعات الثقافية (التي يقوم عليها النشاط الغنائي الفولكْلوري في هذا المقام)؛ ليــس نهاية المطاف وإنما هو مجرد «محاولة» لانَزْعم انهاس تُقدم حلولًا قاطعة للمشكلات التي لايزال يواجهها الباحثون في مجال الموسيقا الفولكْلورية؛ وحَسْبُنا أنها قد تُثير عديد التساؤلات حول عمليات الأداء، وما يكتنفها من غَوامِض وخاصة مَغْزَى الإنشاء والتَّشَكُّل في الغنـاء الفولكْلوري وطبيعة بنْيَته الفنية ودلالاتها، وجميعها في حاجة إلى مزيد من العمل. ونأمل أن يَجد القـارئ – فيما قدَّمناه - شيئًا نافعًا. نذكِّر هنا بأن «الغِنَاء الذي نقصده» هو ذلك التركيب الصَّوتي الذي يقوم على أداء الشِّعْر بالتَّنْغيم بدرجات متباينة، منها التَّنْغيم البسيط، ومنها المركَّب والكثيف. وتحكم درجات البساطة والتركيب هذه، عوامل عديدة تتقدمها طبيعة المناسبة، أو نوع الحــــدث الذي ينبثق عـــنه الفعـــــل الموسيــــقي (ومن بينه وظيفة الموسيقا) وما يقتضيه ذلك من ملاءمات فنية، كتحديد نوع وسرعة الإيقاع المشترك، وكذلك الملاءمات النفسية (المزاجية) التي تحكم اختيار الألحان وتحديد هيكليتها، ومقاميتها، وتحديد أسلوب الأداء، إلخ.. فعلى سبيل المثال، يلاحظ أن الغــــناء الذي يجري أثنــــاء تنويــــم الطفــل (التَّهْنين) يتميز بإيقاع بطيء وبعدد قليل من النغمات. ويختلف هذا الصنف من الغناء (في تكوينه وتشكله) عن الغناء الذي يجري في العُرس، والغِناء الذي يجري أثناء العَمل أو في مجالس الأذْكار إلخ. وهــــــذه الرَّابطة - بين المكون الغنائي وظــــــــروف الأداء واحتياجاته لايستقيم لها تفسير دون الوقوف على مفهوم الغناء لدى عَامة النَّاس ووظائفه في مجتمع الثقافة الشعبية. وبالرغم من أن مُنْطَلق التفسير هذا يُعَدُّ من البديهيَّات التي تجاوزها عديد من الدراسات الإثنوميوزيكولوجية؛ فإن التصدِّي لها بالمعالجة فـــــي هــــذا المقام (وفق الشواهد الميدانيِّة، ووفق ماتوصلنا إليه بشأنها) ربما يُؤدي إلى إعادة النظر في بعض الأفكار التي استقرت وباتت من المسلمات، وخاصة تلك الأفكار التي تذهب إلى الاعتقاد بأن الألحان التي يُؤدَّى بها الشِّعر (في الغناء) تُعَبِّر بالضرورة عن مكنون هذا الشِّعر،وأنها إذا ماجاءت على عكس ذلك سقط الغناء !. هذا الاعتقاد - كان ولايزال - مدخلا أساسيًّا «في عديد من الدراسات» التي تصدَّت لمعالجة بِنْيَة الغناء ووظائفه، ولم يُسْتثن مـن ذلك الغنـــــــاء الفولكلوري. ولذلك لامناص هنا من التَذْكير بالحقيقة التي طالما أكَّدتها الدراسات التي قطعت شوطًا مقبولا إزاء حَسْم هذه الجدليَّة، والتي مفادهــــا، أن الموسيقا فــــــــي حقيقتـــها (السياقات والتراكيب اللحنية البحتة) فَنٌّ تجريدي وَشَكْلي لايُعبِّر عـــــــن الأفــــكار (مثل الأدَب والفنون البَصَرية) وإنَّما هي تُثير الأفكار وتُفَجِّرها، كما أنها لاتشتمل على تلك الصِّفات التي نُسِبَت إليها مثل: أن منها ماهو حَزين، وما هو مُبْهج أو حَماسي.. إلخ. فهذه الصفات وغيرها، أضيفت إلي مفاهيم التَّلَقِّي للموسيقا وفق عوامل ثقافية هي التي اصطنعت هذه المضامين الاصطلاحية، وأنشأت العديد من الأفكار والرَّوابط الشَّرْطية بين هذه الصفات وبين مجالات أداء ومواقف حياتية بعينها أو بينها وبين حالات مزاجية معينة. وهذه الرَّوابط اختلفت بالطبع من مجتمع إلى مجتمع آخر وفق تنوع الثقافات واختــــلاف مواضـــَعاتها. 

وفي الألحان التي صيغت للعمليات الغنائية نَرَى أن المحتوى أو الأفكار لايظهران، بدرجة أو بأخرى، إلَّا في الشِّعْر المستخدم في الغناء. ويبقى أن هـــــذه الألحـــــان، وســـواء كانت «مُسايِرة» للنـــَّص الشِّــعْري أو «مناقِضَة» لــــه؛ تظل محافظة على سماتها الموسيقية «الشَّكليَّة والمجرَّدة» وأن العلاقة الصحيحة التـــــي تَظَل قائمة بيــــن النّــــَص الشِّـــــعْري والموسيقا التــــي اقترنت بـه لاتتجاوز من النــاحية الفنية «البنــائية» العلاقة الإيقاعية حيث يجري تَطْويع تَفَاعيل النَّظْم الشِّعْري للبيت أو للشطرة الشِّعْرية الواحدة، بل وتفاعيل الكلمات المفْرَدة، إلى الحركات والسكنات المماثلة لها في السِّياق الصوتي (الموسيقي) المستخدم في الأداء2.

وفق هذه المواضعات نتساءل:  ماهي المعايير التي يَستند إليها النَّاس في تحديد مَاهـيَّة الغنــاء (الفولكلوري) الدائر في مجتمعهم. وكيف يُعَالَج الشِّعر بالموسيقا مكوِّنًا «الغناء»، ولماذا ؟ ومن منهما يحافظ على الآخر، أيْ ما هو الدور الذي يلعبه الشِّعْر في الغناء، قياسًا إلى الدور الذي تلعبه الألحان المصاحبة لهذا الشِّعر. ومن منهما يحتل مكانة الصدارة في العمليَّــات الغنـــائية،ولاسيما من حيث الوظائف والغايات ؟ . 

ثَمَّ تفسير «أوَّليّ» للعلاقة التي تَرْبُط التَّنْغيم بالأشكال اللغوية تَطَرَّقنا إليه (في أوائل التسعينات من القرن الفائت) عند معالجتننا لواحدة من طرق الأداء المثيرة للجدل عند شُعَراء السِّيرَة الهلاليَّة في صعيد مصــــــر، والتــي تُعرف باســـــم: «المِوَاوْيَه» 3، وهي طريقة في الأداء «كانت ترتبط أصلا بنوع خاص من المدائح يُلقيها «المِوَاوي» في مجلس شخص أو أمام منزله إلقاءً مُنَغَّمًا. وموضوعات هذه المدائح وصورها النمطية تَصِف الشَّخْص بالشجاعة والكرم والأصل الطيِّب..، وتأخذ هذه المدائح شكل القصيدة العربية العمودية، ولغتها - عادة - بدوية أو قريبة منها. وعندما كان «االِمِوَاوي» يُلْقي مدائحه يقف وقفة خطابية إحتفالية، يبدأ مُتَّكِئًا على عَصا طويلة، وبتقدم عملية الإلقاء يأخذ في الإشارة والتلويح بيده وبعصاه بإيماءات تُعْطي إحساسًا بالفخامة، وقد يُؤكِّد حركاته الجسدية بالمشي جيئة وذهابا في ساحة إلقائه، وربما لم تعجبه عطيَّة الممدوح وإذ ذاك يأخذ في إلقاء جزء هجائي ينقض فيه الصِّفات والصور التي مَدَحَه بها تصريحًا أو لَمْزًا، وخاصة بعـــــد أن يبتعد عن احتمال أن تطــــــــوله يَد الممدوح..، وعلى أي الأحوال نحــــن لانعرف متى تحوَّل المـــــؤدي (المِوَاوي) لأداء نصوص من الهلاليَّة بطريقته تلك، لكن هناك ذكريات عن الجيل الماضي تفيد بأن رواة قُدَامَى للسِّيرة الهلاليَّة كانوا يقدمون روايتهم بهذه الصورة تقريبًا، ولا نستطيع أن نقطع بمَدَى القُرْبَى بينهما، لكن الملاحظ أن النَّص الشِّعْري الذي كان يلقيه «المِوَاوي» عند روايته للهلاليَّة قريب قرابة شديدة من النَّص الذي يتداول بين الشُّعَراء رواة الهلاليَّة في صعيد مصرالأدنى. إلا أن مَرْويَّات المِوَاوي الأخرى ومدائحه قد تغيَّرت نصوصها هي الأخرى، حيث نجد أن مربعات «ابن عَروس» الحِكَميَّة تُهَيْمن على مَرْويَّاته»4. وإذا كان فــي هــذا القـــول ما يُشير إلـــــــــى أن أداء المِوَاوْيَة (على هذا النحو) شكل مُتَحوّل عن المدائح التي كان يلقيها الشَّعْراء في مجالس الأشخاص؛ فإن ثَمّ مايشير أيضا- في القول نفسه - إلى أن «مِوَاوي» السِّيرَة الهلاليَّة اتخذ لنفسه وجْهَة مُغايرَة للوجهة التي سار عليها الشَّاعِر المدَّاح صحيح أنه ليست هناك شواهد ميدانية حيَّة لشِعْر مديح الأشخاص أوهجائهم حتى يمكن الوقوف على مابينهما من تشابه أو اختلاف. لكن هناك - مع ذلك - أدلَّة على وجود ميزة في «الموَاوِية» تساعد على التفريق بينها - من ناحية التَّنْغيم والتوقيع -، وبين أي أداء شعْري فولكلوري آخر، ليس فقط للأسباب الفنية التي نتجت عن تَحَوُّل الشِّعْر من شكله العمودي إلي نظام المربَّع، وإنما لأن موضوع الشِّعْر في المِوَاوْيَه (وهو سيرة بني هلال) بَدَا في أغلب الحالات أنه عامل حاسم. فهذا التَّمَيز يأخذ بالأداء إلى وجهة ذات خصوصية في التَّنْغيم والإيقاع وخصوصية فيما يتعلَّق بهما من تعبيرات سواء بالصوت أو بالحركة الجسدية،وهـــــي (أي تلك الخصوصية) مَعْلَم أساس في «الموَاوِية» عندما تكون السِّيرَة موضوعًا لها، ومن ثم فإن تَنْغيم الشِّعْر وتأكيد إيقاعه في أداء مشحون بالانفعالات الصوتية والحركية (ولاسيما باليدين) لايعني أن كل أداء يندرج تحت هذا المبدأ، إنَّما هو أداء واحد لنمط غنائي بعينه فهناك شواهد تنهج التَّنْغيم والتوقيع في أداء الشِّعْر، وتلجأ – بجانب ذلك – إلى الإيحاءات الصوتية والحركية معتمدة علي معطيات الشِّعر في إيقاعه، وعلى مايقتضيه هذا الشِّعْر من تعبيرات يَرَى المؤدون أنها تتناسب والصور المختلفة التي يريدون تبليغها، مما يعني أن تَنْغيم الشِّعْر مع التَّوقيع في أداء حَي مُوحي؛ إنما يجري في الشِّعْر بصفة عامة أيًا كــــان هذا الشِّعْر 5 وليس في شِعْر السِّيرَة علـــــى وجه الخصوص. وقــــــد عَرف ريف مصر الشـــمالي – وحتى العقود الخمسة الماضية – من كان يُعْرَف باسم «الأُدَبَاتي»6 الذي كانت له طريقة في الأداء يعتمد فيها على إبراز معاني الكلام بالإشارات والحركات، وتدور في دائرة المبدأ الصوتي نفسه الذي قام عليــه أداء «المــوَاوي». وكان «الأدَبَاتي» يتسم بالجرأة وطلاقة اللسان وقوة البيان وله طريقته المثيرة في الأداء وقدرة على تلوين الصــــوت وإظهـــــار التعبيرات المختلفة التــــــي كانت تزيد مــــن قـــوة حضــوره، وهو لذلك كان ذائع الصيت محبوبًا لدَى العامة، يحفظون أشعاره ويرددونها. ولا شك أن هذه الشَّواهد – وما اكتسبته من قيمة فنية واجتماعية في زمانها – كانت تستند إلى قواعد وتقاليد، كما كانت تحمل رسالة وتحقق عائدًا ولا شك أيضًا في أن عنصر الزمن (التاريخ) كان عاملا أساسيًّا في بلورة قواعد هذه الشَّواهد وفي تشكيل تقاليدها، مما يعني أن هناك أصولا مُؤَكَّدة لبنْيَة هذه الطريقة، أو أنها نتاج تراكمات ثقافية ساهمت في تشكيلها وفي شيوعها بين عامة الناس. على أن المقام لايقتضي الإسهاب في ذِكر هذه الأصول أوتَتَبُّع المراحل التي سارت عليها هذه الطريقة في الأداء بقدر مايقتضي الإشارة إلى ذلك المبدأ القديم الذي كان يَحْكُم أداء الشِّعْر بالطريقة التي يُفَاد فيها من خطاب النَّص ومن طبيعة الصياغة اللغوية الأدبية (نثرية كانت أو شِّعْرية) وتحويلها إلى جَرْسٍ صوتي وإلى تعبيرات لها تأثير خاص على المتلقي، وهي طريقة لاتصل - وفق هذا المبدأ - إلى مرتبة الغِناء الصَّريح، ولاتقف عند حدود طريقة التكلُّم الجارية بين الناس في لُغَة التخاطب الاعتيادية وإنما طريقة لها قواعدها في صياغة إيقاع الأداء وتشكيل تَنْغيماته، وتستوعب الكثير من الفوارق الصوتية الرَّهيفَة التي يتطلبها التعبير، والتي تفصل - في الوقت ذاته - بين الهَزْلي منه والجاد. 

وإذا كـــــان أداء الشِّـــــعْر لـدَى «الأُدَباتــــي» قـــد اتَّسم بالفـــكاهة والنَّــقد الساخر؛ فإن الأمر مختلف في حالة أداء شِعْر السِّيرة، إذ أن جَدِّية هذا الأداء وما يتسم به من وقار في التعبير والبيان لاتُماثله جَدِّية ووقار في حالة ما إذا كان الأداء يجري في شِعْر آخر غير شِعْر السِّيرة. وربما يكون هذا عَلامة على أن الموضوع الذي يعالجه الشِّعْر يشكِّل عاملا حاسمًا في تَخَلُّق التَّعبيرات الذي يتعين على المؤدي أن يُضْفيها عَلى هذا الأداء أو ذاك. وتبعًا لذلك ليس من المستبعد أن ينسحب هذا العامل الحاسم على كل ما يطرأ على الشكل الفني نفسه من عمليات مُؤَثرة في الإيقاع وسرعته، ومُؤَثرة أيضًا في كل مايتصل بالتفاصيل الصوتية التي من شأنها توجيه الأداء وجهة جادة وقورة، أو وجهة هَزْلية ساخرة ومضحكة .

إن «الموَاوْيَة»- وكــما تَنُم عنها طريقة الأداء فــــي السِّيرة – تضــــــع الموَاوي في حالة أداء تَسْتقطب كل مشاعر الحماسة لَدَى المؤدي ولَدَى جمهوره، فتراه - في شكل جلسته وفي حركات ذراعيه الدائمة وفي تعبيرات وجهه المختلفة - وكأنه يَحُث هذا الجمهور على الانتباه إلى أنه لم يجلس هذه الجلسه إلَّا ليقول لهم شِعْرًا جادًا وقورًا، وأنه بهذه الحماسة والتَّأهُّب شاهد على هذا التراث الشِّعْري الذي يَرْويه، إن لم يكن يُوْحــي لهذا الجمهور بأنه جزء من هذه السِّيِرَة، أو أنه نائب يُمَثل كل شخوصها بمختلف مواقفهم، وهو في ذلك، ولذلك، يعرف كيف يَتَلَفَّظ النَّغَمة المناسبة (من وجهة نظره) مع هذا الشِّعْر ومتى يَمدها أو يُوْصلها أو يقْطعها أو يدْمجها مع غيرها من النَّغَمات، وكيف يمنحها كل الصفات الصوتية التي يتطلبها أداء هذا الشِّعْر بصوره المختلفة كما يراها هو.

وعلى الرغم من أن الفارق بين هذا الأداء الجاد ونقيضه السَّاخر تحكمه فواصل صوتية طفيفة بحيث يَسْهُل تحويلها (بأسلوب الأداء) إلى الوجهة التي تتناسب وأهداف أي مـــــن النمطين؛ فإن «الموَاوْيَة» مــــــع ذلك لاتقتَــــرن بأداء «الأدَبَاتي» الهزلي إلا من ناحية المبدأ الموسيقي الذي يضع أداء الشِّعْر بين حَدَّي الغناء الصريح ونبرات لُغَة التخاطب الاعتيادية التي تجري بين الناس. ولا تَعْني وحْدَة هـــذا المبدأ أن «الموَاوي» ربمـــــا كان فــــــي ســــابق الزمن هـــو «الأدباتي» نفسه، وأن موضوعات الشَّعْر وأغراضه هي التي اختلفت فَنَشَأ هذا التخصص. فالموَاوْيَة «نمط آخر يختلف في تعبيراته ومَراميه عمَّا يهدف ويرمي إليه أداء المهرجين، ولذلك لاتُقْتَرن إلَّا بمثيلتها من طرق الأداء التي تتجه الوجهة نفسها في التعبير والغايات والتي تتخذ من الجدية والوقار سندًا لنفاذ أفكارها. وإذا اقْترنت «الموَاوْيَة» بأداء يحمل هذه الصفات فإنها تكون بذلك أقرب إلى ما كان يُعرف عند اليونانيين القدماء بفن الخَطَابَة، ذلك أن الخطابة عندهم كانت لها موسيقاها وإيقاعها، ولا تختلف عن الأداء الموسيقي الصريح إلا في المَدَى والمساحة، وليس في مَدَى ومساحة النغمات فحسب، وإنمـــا في صفاتها أيضـــا، ذلك أن للخطابة هرمـــونيتها (أي أنها تتشكل من الناحية الأفقية من فواصل موسيقية صحيحة) ولها إيقاعها وجماليَّاتها وتعبيراتها وتحولاتها وانتقالاتها..، وقد أدخَل القدماء الفصاحة إلى فَنّ الخطابة لأنها تَعْني عندهم أن يَعْرف المرء كيف يُغَيِّر من النبرات أو يمنحها القوة أو أن يُلَطِّف منها أو أن يَقف منها موقفًا وسطا، وكيف ينبغي له أن يستخدم النغمات الحادة أو الخفيضة أو التي تقع فيما بينهما، وأن يعرف أي الإيقاعات تتوافق مع كل نغمة من هذه النغمات7. لقد كان الإيقاع والنَّغَم من السمات التي رسَّختها الخطابة انطلاقا من المبدأ الذي قام عليه هذا الفن وهو: أن كل تاريخ أو علم فلسفي أو مثل بسيط يُراد إظهاره ونشره على الناس في صورة وقورة، ينبغي أن يتوسَّل بالشِّعْر والنَّغَم. فالشِّعْر كان - عند القدماء - عماد الخطابة، يدعم النَّفس ويشكِّلها على الفضيلة، بل كان الشِّعْر المُنَغَّم Recitative . لقرون عديدة يُعَد عند معظم شعوب العالم، الوسيلة الأكيدة التي لاتخيب لنشر تراث الأجيال دون عوائق تتهدده، وبشكل يجعله غير قابل للتحور، حاملا معه المعرفة بالدين والقوانين والعلوم والفنون8. وبالرغم من أن، هناك فاصلا تاريخيًا وحضاريًا بين فَنّ الخطابة القديم عند اليونانيين، وأداء «الموَاويَة» المعاصر عند الشُّعراء في صعيد مصر الأدنى؛ فإن وجه التشابه بينهما لايزال كبيرًا، وإذا كان المقام هنا ليس بحاجة إلى حصر سائر أوجه هذا التشابه؛ فإنه من الأهمية مع ذلك الإشارة إلى تلك الخاصية المشتركة التي يقوم عليها كل من النمطين والتي تدفع بأهدافهما إلى وجهة واحدة وهــــي:  وقــــار الأداء وجدية الموضوعات،فقـــد ظـــــلَّ الشَّــــاعر «الموَاوي»- وحتى وقت قريب مضى - ينهج الوقار والجدِّية حينما كان يُوَقِّع شِعْر السِّيرة وينَغِّمه ويستخدم من النبرات مايُظهر المَعْنى ويلوِّن فيها حتى يُوحي بجَوِّ الأحداث والمواقف المختلفة التي تتضمنها روايته، وهو - في ذلك - حريص كل الحرص على ألا يخرج بهذا الأداء عمَّا يراه جديرا بهذا التراث الذي تناقله عن السَّلف الذين وقفوا منه موقف التقديـر والاحترام. وهكذا بَدَا الشاعر «الموَاوي» على مقربة من تلك الصورة التي رسمها الباحثون لشعراء بني هلال الذين كانوا يترنَّمون بالشِّعْر الذي يحكي أمجاد قبيلتهم. ولـيس من الغريب أن يتصوَّر الشَّـــاعر «المواوي» أنه امتداد لهذا التاريخ وأمجاده. 

من هذا الشَّاهد المطوَّل نَخْلص إلى أن خطاب الشِّعر وأغراضه المختلفه تُشَكِّل جميعًا عامل الأهمية التي يلتقي عليه المخاطِب والمخَاطَب، وأن وظيفة عمليات التَّنْغيم والتوقيع التي تدخل على هذا الشِّعْر تُحَوِّل نبراته إلى جَرْس صوتي يعمل علي حفظه وتثبيته في الذاكرة..، وأهمية هذا الشاهد لاتكمن في كونه يُقَدم تفسيرًا للمبادئ الأوليه التي بينا بعضها فحسب؛ وإنما لأنه يقدم صياغة صحيحة للقاعدة الأوليِّة التي تنشأ عليها عمليَّات الغناء برمتها. وهي العمليـَّات التي يتوازن فيها الشِّــعر مع الألحـان توازنًا إيقاعــيًا (عَروضِيًا) وتوازنا نغميــــا9.

على أن الغناء بصفة عامة، لايتشابه (في جل خصائصه الفنية) مع فَنِّ الخطابة لاسيما وأن لكل منهما نشأته المستقلة ومسيرته التَّاريخية الخاصة. كما أنه (أي الغناء)، وخاصة الفولكلوري منه، لم يتوقف - بطبيعة الحال - عند هذه القاعدة الأولية،إذْ تجاوزها، وأفاد من مراحل التاريخ المتوالية ومن التراكمات الثقافية «الفنية» المتعاقبة وتسلَّح بدينامية لاتفصل (من حيث الإنْشَاء والتَّشَكُّل) بين الشِّعر وألحانه، بل تدفع بهما أثناء الأداء الحيّ دفعة واحدة في آن. وفضلا عن ذلك، راح هذا الغناء يتخذ وضعية خاصة من حيث درجة ومدى تأثيره في تشكيل الطبائع المزاجية عند الناس،وكذلك من حيث العوامل والأسباب التي تُهَيِّئ لحدوثه أوتجعله ضرورة مُلِحَّة تتطلبها مناسبة ما دون أخرى، أو تجعل أداءه منوطًا بأفراد دون أفراد آخرين. 

وفق هذه المواضعات، تشكَّلت نظرة الأفراد للغناء وتكوَّنت لديهم المعايير التقييمية «الضِّمْنِيَّة» لكل شكل غنائي ولكل طريقة أداء.بيد أن هذه المواضعات (العامة) ظلَّت، وحتى يومنا هذا لاتقدم تفسيرًا واضحًا لمقدار الأولويَّة، أو الأهميَّة التي يعطيها الجمهور لكل من عنصري الغناء (النَّص الشِّعري والنَّص الموسيقي). كــما أنها لم تقدم صورة واضحة لتلك المعايير «الضِّمْنِيَّة» التي يستند إليها هذا الجمهور لتقييم الغناء الدائر في المجتمع..، وتُرك الأمر لعديد من التأويلات والاجتهادات التي راحت تطلق أحكامًا عامة وملتبسة تناقضت مع معطيات الواقع الفني الفولكلوري، فمنها ماذهب إلى الاعتقاد بأن النَّاس يضعون الشِّعْر في صدارة الغناء من ناحية الأهمية، ومنها ما خَصَّص هذه المكانة (عند النَّاس) للحن وطرائق الأداء والأساليب. ومنها ما نُسَب للنَّاس تفضيل أصناف غنائية عن أخـــرى.. إلخ. وهو أمر يجعلنا نُقِر بأننا أمام جدليِّة معقَّدة لاتحتمل الأحكام العامة، كما يجعلنا (ونحن نسعى لالتقاط حلٍ لهذه الجدلية) نتوخى الحذر، خاصة وأننا حريصون على ألا نُنْسِب للواقع الموسيقي الفولكلوري بكل مناحيه المعيشة (وهو مصدرنا الأساسي) مالا يَنْطق به هذا الواقع. 

لقد لوحظ - في عديد من العمليَّات الغنائية الفولكلورية - أن الشِّعْر بَدَا وكأنه يتميز (عند النَّاس) بالصّـَدارة، ويُعْتَمَد عليه ممثلا رئيسيًّا لخط التواصل المباشر بينهم وبين المغّنِّــــي (وكان هذا في الأداء الغنائي لدى المغنين المحترفين) وخاصة في الغناء الممتد، ومنه الغناء القصصي، حيث بَدَا أن جلسات الاستماع تُظْهِر أن الشِّعْر محور الأداء يلتف حوله الناس لما يقدمه من صور وأفكار وأحداث ومواقف وشخصيَّات. وعلــــى العكس مـــن ذلك، لوحظ فـــي مجالات أخـــــرى (ومنها مجال الإنشاد الديني)،أن الأداء يُرَكِّز بطرق متعددة علـــى الناحية الموسيقية، ويجعلها محور التواصل المهيمن مــــــع الجمهور. 

وإذا كان الشِّعْر (في الحالتين السَّابقتين) يصيغ مثالا لتَقدُّم مكانته في الغناء على الناحية الموسيقية، وأن الموسيقا تصيغ - في المقابل – مثالا لتَقدُّم مكانتها على الشِّعْر، فكيف إذًا يتحدد عند النَّاس ما يمكن وصفه بـ: «القيمة» فـــــي الغناء، وإلى أي من العنصرين تُنْسب هذه القيمة ؟.

من الجائز الحكم على الغناء (غير الفولكلوري) بأن أحـــد عنصريه (شعرًا كان أو موسيقا) يمكن أن يتصدر المكانة الأولى في عملية الغناء دون الآخر، أو أن كلا منهما يتبادل مع الآخر هذه المكانة لأسباب، إن لم تكن فنية مباشرة، فإنها في كل الأحوال، تتصل بطبيعة الثقافة التي ينتمي إليها هذا الغناء (غير الفولكلوري) كما تتصل أيضا بطبيعة الغرض الفني الخاص الذي يمكن أن يُنْشِئ صيغًا غنائية بعينها قد يَبْرُز فيها أحد العنصرين أو يتقدم على الآخر. على أن الأمر مختلف في حالة الغناء الفولكلوري، فإذا كان الشِّعْر فيه يصوِّر الأحداث والمواقف ويجسِّد الشَّخصيات.. إلخ؛ فهذا لايعني أن الألحان المرتبطة بهذا الشِّعْر وطريقة أدائها بالأساليب المختلفة تلعب دورا ثانويَّا، فالغناء لدى المحترفين (خاصة) لايتشكَّل من مجرد وجود لَحْن ما مع نص شِعْري دون أن تكون هناك مـــراعاة (مُلْزِمة فـــــي معظم الأحوال) لكيفيَّة تواجد هــــذا اللحن مـــــــع ذاك الشِّـــــعْر، وتختلف صور المزج بين اللحن والشعر باختلاف الأشكال الغنائية واختلاف الرسالة التي تتضمنها. فالموَّال على سبيل المثال (وهو شكل شعري في المقام الأول ويجتذب النَّاس بما يقدمه من حِكَم وعِبَر وصور مختلفة من الحياة) يأتي غالبًا في صيغ قصيرة وبعدد قليل من الشطرات، وفي حالة الأداء الغنائي يسترسل المُغَنِّي ويُظْهر مهارات في الأداء تُثير وتُشْجي، ويطول الأداء ليصل في زَمَنه إلى أضعاف الزمن الذي قد يُستَغْرق في حالة ما إذا اكْتُفِيَ بسرد هذه الشطرات (القصيرة) أي أدائها بدون ألحان (الأداء بطريقة العَدّ). وفي الغنـــاء القصصي تَكْثر الشطرات الشِّعْرية ليتجاوز عددها المئـــــات، بل والألـــوف (كمــا في السِّيَر الشِّعبية) . لكن الألحان التي صيغَت لهذا الغناء تبدو قليلة وقصيرة، تتكرر دَوْمًا، وتمتد في سَعْي متواصِل لاستيعاب هذا الشِّعْر الغزير المتلاحق. وعلى الرغم من أن الجانب الموسيقي في المثـــال الأول (الموَّال) كان واضحًا في احتوائه عُنصر الزَّمن الذي استغرقه الأداء الغنائي، وكان بارزًا ومتقدمًا؛ فإنه ليس زعمًـــــــا صحيحًا القول بأن الموسيقا كانت أكثر أهمية مـــــن النَّـــــص الشِّعْري، وليس صحيحًا أيضًا القول بأن الموسيقا أقَل أهمية من الشِّعر لأنها توارت خلف شطراته الكثيرة، كما في المثال الثاني (الغناء القصصي). فالكَثرَة أو القِلَّة التي يُوجد عليها أي من عنصري الغناء (الشِّعْر والألحان) ليست دليلا على أن هنــــاك أهمية «فنية» خاصة متعمَّدَة تُعْطَى (من قِبَل المغني وجمهوره) لعنصر دون عنصر آخر في الأداء الغنائي، وينطبق الحال ذاته فيما لو تَصَدَّر أي من عنصري الأداء وتوارى خلفه العنصر الآخر، فمهما تَكُن المساحة التي يشغلها كل منهما في الأداء وكذلك مهما تَكُن درجة الفنية التي يأتيان بها أوعليها في الأداء؛ فإن لكل منهما دورًا أساسيًا فــــي رســـم مسار الغناء وفـــــي تحديد الشَّكل كما أن هذه العلاقة - ولأنها تُصَاغ بآلِيِّة معيَّنة – كفيلة بوضع كل نمط غنائي على مرتبة المراد الذي يتعين عليه بلوغه .

لقد أظْهَر النشاط الموسيقي الفولكلوري حالات (من الغناء) تبدو متباينة في هذه النواحي إلي حَدٍ تَسْهُل ملاحظته، كما أنه - وفي الوقت نفسه - يُقَدم تفسيرًا يمكن تَقَبله لما ينطوي عليه هذا التباين.فــ«الشِّتِّيوه» و«الغنِّيوه» عند البدو في مصر، وكــذلك «اللقْلَقَه» أو «القَلْقَلَه» في واحات مصر الغربية، وفي بعض الحالات الغنائية المرتبطة بالعمل الزراعـــــــي وأعمال الجَرّ والسَّحْب (وناهيك عــن النداءات، وصيحات العمــل ومـــا شــــــابه)، تتحوَّل فيها كلمات النَّص الشِّعرْي أو بعضها إلى مجرد «صَوْت» يحمل نبرات الألفاظ، وهي ألفاظ مُدْغَمة تارة، وممدودة تارة أخرى، وتجري في سياق الأداء الغنائي. ويبقى أن التَّمَسُّك بأداء هذه الأشكال الغنائية يَدْعَمه أن المؤدين يتعاملون مــــــــع النَّــــص الشِّـــــعْري (الكلمات) في إطار معرفتهم بالمعْنَى العام الذى ينطوي عليه هذا الشِّعْر، والذي يبدو أنه مُتوَارث على هذا الحـال. ويزداد التَّمَسُّك بأداء هذه الأشكال لأنه لابديل عنها في تمثيل الجانب الصوتي (الموسيقي) للموقف أو المناسبة التي نشأت عنها. ويبدو أيضا أن التقاليد التي أبْقَت على هذه الأشكال الغنائية مرتبطة بمناسباتها؛ أنشأت مبدأً أمْكَن معه معالجة النَّواقص والفراغات التي تعتري منظومات هذه الأغاني، والتي ربما حدثت بفعل تَقادُم زمنها، أو بفعل ضعف ذاكرة المؤدين، حيث أن الأخيرة غالبًا ما تؤدي إلى تَكَسُّر النَّص. ولذلك قد يُصَادَف وجود مقاطع أو ألفاظ غير واضحة المَعْنى أو ألفاظ لا دلالَة لها، وقد وُضِعَت لمجرد الحفاظ على سلامة الوَزْن ويأتي هذا كله دون الإخلال بالدور الأساسي الذي يلعبه هذا الغناء في مناسبته الطبيعية، ودون الإخلال أيضًا بالحالة المزاجية التي تنشأ عن أداء هذه الأشكال أو المشاركة في أدائها . 

وثمة عمليَّات غنائية أخرى بَدَا فيها أن الشِّعْر له الصَّدارة، وهي العمليَّات التي تُمَثلها أغاني النسوة أثناء تهنين أطفالهن وأثناء أداء بعض الأعمال المنزلية وفي مجالس العَزَاء، وإن كانت المـُتْعَة الفنية التي تنشأ لديهم (من تأثير جَرْس الصوت ومن توافق التَّنْغيم وتآلف مساراته)، تشير إلي أن ثَمَّ حضورا قويا ومُؤثِّرا للعملية الصوتية المتمثلة في التَّغَنِّي بالشِّعْر، وإن ظَل الناس لايملكون وسيلة للتعبير عن تقديرهم لهذه الناحية الصوتية بالغـــــة التعقيد. ويساعد على ذلك أن مناسبات الأداء تلك،وتقاليدها، رسَّخَت مفاهيم بعينها - حول عمليَّات التصويت التي تجري فيها - باعدت بين هذه العمليَّات الصوتية وبين أن توصَف بأنَّها مَنْحى من مَناحي الغناء.

بجانب ذلك لايخلو النشاط الموسيقي الفولكلوري من الأمثلة الغنائية التي يتوازن فيها - وبالتساوي - عنصرا الغناء. (الشِّعْر والألحان) ويتجلي هذا التوازن على نحو خاص، في طُرق الأداء والأساليب حيث تَظْهَر الخواص المشتركة بين عنصري الغناء، من بينها – على سبيل المثال - أن محيط الألحان وإيقاعاتها، يَاْخُذان في الاعتبار محيط تَنْغيم النصوص الشِّعْرية وإيقاعاتها. كما يتجلَّى هذا التوازن أيضا في وضوح النَّص ومباشرة معانيه مقابل بساطة الألحان المستخدمة والتي يسهِّل ترديدها. ولعلَّ الشاهد على ذلك يأتــــي فــــي أغاني النسوة التــــي يرددنها فـــي مراحل العرس فــــي ريف مصـــر، ويأتي أيضا في أشكال المواويل التي يرددها الأفراد في جلسات السَّمر وأثناء أداء بعض الأعمال.

وفـــي تقاليد التلقِّي، ثمـــة حالات مميزة يحكمها - مايمكن تسميته – عــــــامل «التَّهَيُّؤ المُسبق»، تتمثل في مجالس الأذكار (عند الرجال) وفي حضرات الــــــزَّار (عند النساء) حيث لايكترث المشاركون – عادة – بمتابعة تفاصيل المعاني والصور التي يقدمها النَّـص الشِّـــعْري (المُغَنَّى)، ذلك أن التَّهيُّؤ المسبق هذا، من شَأنه دّفْعهم إلى الاندماج، وربمــــا «التَّوحد» مع موضوع الأداء، ومع كل ما ينطوي عليه من رموز ودلالات، وكذلك التَّوحد والإندماج مع الحالة الصَّوْتية التي صيغت (في هذه الممارسات صياغة خاصة) لتَدْفَع بالمشاركين إلى بلوغ مرادهم الذي أتوا مـــن أجله . وفي إطار عامل التَّهيُّؤ هذا، يمكن إضافة «مجالس العزاء النسائية» حيث تخضع لذات العامل، وإن كنا لانتجاهل الدور الواضح الذي يلعبه الشِّعْر في الارتفاع بدرجة الاندماج مع هــذه المنـاسبة (تحديدًا) وخاصة بما يقدمه من صور ومعان فضلا عما يثيره من مشاعر.

يَبْقى ممَّا نريد بيانه في هذا المقام؛ أن الغناء الفولكلوري ظل يحتفظ بميزات فنية قادرَة على صياغة المزاج الموسيقي واستحضاره وقت الحاجة وتأتي المتعة الفنية لتكون عاملا أساسيا ومميزا في صياغة هذا المزاج، حتى وإن كان هذا الغناء (في بعض أشكاله) لاينطوي في ظاهره على هذه الميزات10. غيرأن ردود الأفعال - عندالناس - لاتُظْهر بوضوح ما يمكن اعتباره استجابة خاصة للناحية الموسيقية، أو ما يبدو أنه متعة فنية حققها هذا الأداء الغنائي، أكثر مما تُظْهر أنه انفعال مباشر مع الصور التي يقدمها الشِّعْر لحظة الأداء، وهي الملاحظة التي طالمَا أوْحَت بالتفسيرات الملتبسة التي تتناقض مع كُنْه العمليَّات الغنائية ووظائفها. صحيح أن الشِّعْر هنا هو الظَّاهر ويقدم المحتوى الذي نُصِبت له جلسة الأداء الغنائي، لكن يبقى - مع ذلك - أن المتلقي وهو يتجاوز التفاصيل الفنية التي تقوم عليها عمليات الغناء ولايقدر على تفسيرها تفسيرا فنيا (وخاصة في تحويل لُغَة الكلام الشِّعْري إلى جَرْس صوتي متعدد النبرات والنغمات، له مَدَّات ووقفات ووصل وفصل وسرعات وتمهُّلات إلي آخــــره)؛ لايكون في منْأى عن تأثير هذه العمليات الموسيقية التي يأتي عليها الشِّعْر. ولابد أن لهذا التَّاثير تقديرًا ضِمْنيا لاسيما وأنه يتجه عادة ناحية «الإمتاع الفني» (الموسيقي). لكنه - أي هذا التقدير - لايَتَشكَّل أو يُصاغ على هيئة ردود أفعال واضحة ومباشرة تشير إلى هذه الناحية الغامضة، فمظاهر الشعور بهذه المتعة الفنية تتوارى عادة خلف ردود أفعال عامة تبدو في ظاهرها أنها نَشَأت بفعل التواصل مع الشِّعْر وصوره المختلفة دون بقية العناصر الأخرى التي يقوم عليها الأداء الغنائي، وهي ردود الأفعال التقليدية والدَّارِجة التي لاتقف بطبيعة الحال، عند حَرَكَة أو تصرُّف إبداعي «فني» معين في الأداء الموسيقي، وهي السِّمَة العامة للمستمع التقليدي الذي يتجاوب ويستوعب ويتأثر بحركة النغمات وبأساليب الأداء الموسيقي، لكنه – وكما سلف - لايمتلك القدرة على تفسير جزئيَّات هذا الأداء أو تعيين مواطن الإثارة الفنية وما تنطوي عليه من إبداعات. 

وفق هذه المفاهيم ربما تتضح مكانة الشِّعْر (في الغنـــاء الفولكلوري) قياسًا إلى مكانة الألحان، ولا فارق هنا بين الغناء الذي ينتجه الموسيقيون المحترفون والغناء الذي يساير مناشط الحياة عند العامة من الناس. ويبقى (فيما بيَّنَّاه) أن ثم فارقا ينحو نحوًا بنيويًا يُمايز بين الألحـــان وبعضها البعــــض. هذا الفارق يَكْمن في تَرْكيب اللحن، حيث توجد ألحان تقوم على جُمَل موسيقية «تامة» كما توجَد ألحان لاتتمتع بهذه الميزة في تمام صورتها، أو في أدناها، ويتوافق هذا القول مع حقيقة أن هناك نَص شِعْري غنائي شعبي يُوْصَف بأنه قوي في صوره ومعانيه، ويلتزم بقواعد البَحر ومعطيـــاته الصوتية من إيـقاع وقـــواف إلــــخ..، أو يُوصَف بأنه نَص ضعيف لأنه يفتقد هذه الميزات. هذه الفوارق عالجها بعض الدَّارسين بوصفهـا من ناحية، معاييـــر تقييمية ومايزوا بها بين اللحـــــن والشِّـــعْر لصـــالح طـــرف منهما، وبوصفها من ناحية أخـــرى، معايير مُفاضِلَة تضع واحدًا منهما في الصَّدارة وتُواري الآخر خَلْفه.

أمَّــا عـــن الكيفية التي يحافِظ فيها أي مــن عنصري الغناء علـــــى العنصر الآخـــــر (وهو أمر طالما انشغل به البـاحثون)؛ فيمكن التَّذْكير بداية:  بأن الشِّعْر «في الغناء» هو عادة الذي تجري معالجتة معالجة موسيقية، حيث تَدخُل علي إيقاعاته وقوافيه التغييرات الصوتية، من مدَّات وتقصير ووقف ووصل إلخ. ويجري هذا وفق مقتضيات الموسيقا، والتي يظل التَّحَكُّم في مفرداتها وتراكيبها يدور في معظم الأحوال، في دائرة قواعدها هي وليس في دائرة قواعد الشِّــعْر ويتفق هذا التفسير مع مقولة عبد الحميد حوَّاس التي أوضح فيها أن:  «عيار النَّظم - في عملية الأداء – عماده مسار التَّلفُّظ المُغَنَّى وليس اللفظ المكتوب على الوَرَق11.

وهذه المعالجة لاتَحُول - بطبيعة الحال - دون ارتباط موضوع شِعْري بعينه بلَحْن مميز بعينه كما هو الحال في «بعض» الأغنيَّات الشَّهيرة في الثقافة الموسيقية الفولكلورية، وكذلك في «بعض» نصوص القصص الغنائي المعروف. وفي هذه الحالة قد يُستخدم أي من العنصرين (الشِّعْر والألحان) لاستدعاء الآخر إلى الذَّاكرة. كما لاتَحُول هذه المعالجة أيضًا دون نشوء عمليَّات غنائية لبعض الموضوعات الشِّعْرية وخاصة الموضوعات التي لا تستقيم إذاعتها أو نشرها بين النَّاس بطريقة ممتعة وجاذبة، إلابالتغنِّي بهــــــا. ويبدو أن نشأة هــــذه العمليَّات (الأخيرة) جاءت وفق ما يمكن وصفه بـ: «مبدأ الضرورة الغنــائية» ،أي أن تخضع بعض الموضوعات الشِّعْرية «لطريقة» غنائية بعينها، وليس شرطًا في هذه الحالة أن تحتفظ هذه الموضوعات بألحَان مميَّزة، مثال ذلك ما يجري«لأغلب» نصوص القصص الغنائي وخاصة القصص الشَّائع عند المنشدين الدينيين، حيث تَبْرز «الطريقة» الغنائية المعروفة لديهم، في حين لا يثبت هذا القصص عادة على لَحْنٍ مميز واحد، وقَد تندرج السِّيرة الهلالية، لدى محترفي أدائها في مصر تحت هذا المبدأ أيضًا:  (الضرورة الغنائية)، خاصة وأن وسائل إذاعتها لم تكن مرهونة بالضرورة بعمليَّات التَّنْغيم ، أو هكذا كانت في سابق زمانها كما تذكر بعض الروايات. ويُسْتَخلَص من هذا كله:  أن الألحان وكــذلك «طريقة الأداء» هما الذان في إمكانهما الحفاظ على الشِّعْر، أو الحفاظ على موضوعات شِعْرية بعينها (وخاصة إذا ماكانت نشأة هذا الشِّعْر وموضوعاته مرتبطة بعملية غنائية قائمة على استخدام ألحان مميزة، أوقائمة على اتبــاع «طريقة» خاصة في الأداء)، فمن خصائص الألحان، وكذلك «طرق» الأداء أن استدعاءها إلى الذَّاكرة يكون أيْسَر من استدعاء الشِّعْر، وإذا ماتَمَّ استدعاء اللحْن أو «طريقة» الأداء، سَهُل استدعاء الشِّعْر المقترن بهما. وثمة شواهد عديدة تؤكد هذه الخاصية ليس فقط فيـما قدَّمنـاه من أمثـلة كـ:  «المِـوَاوْية» أو فَن الخطابة السَّالف ذكرهما؛ وإنما فيما مَرَرْنَا بِه خلال التَّجربة الميدانية الطويلة.من ذلك على سبيل المثال، أنه:  عندما كنَّا نطلب من المؤدين (بعد تسجيل الغناء تسجيلا صوتيًا) أن يعيدوا علينا ذِكْر شطرات الشِّــــعر التــــــي ورَدَت فـي الغـــناء المسَجَّل (بحـــجة أن بعضـــها غــــير واضـــح)؛ يستعصى عليهم الأمر، ولم يفْلح أغلبهم في قول النَّص المطابق للتسجيل أو القريب منه إلَّا عن طريق التَّرَنُّم به ، وهي – وكما تَبَيَّن- الوسيلة النَّاجِعَة والمعتادة لتَذَكُّر الشَّـعْر المُغَنَّى . لكن هذه الشَّواهد (وتفسيراتها) ظلَّت موضع شَك وجَدَل، وخاصة عندما تتكاثر - على سَطْح هذا الجَدَل - الآراء التي تَزْعُم أن تأليف الشِّعْر - في الغناء «بصفة عامــــــة» - يسبق عملية الغنـــــاء أو أن الألحـــــــان و «طرق» الأداء تَدْخُل على هذا الشِّعْر في مرحلة لاحـقة. وعلى كل الأحــوال حَسْبُنا - ونحن نتحدَّث عن عمليَّات غنائية فولكلورية في المقام الأوَّل -؛ أن الواقع الموسيقي الحَيّ لايزال يُؤكد أن الأداء هو المجال الرائج (وربما الأمْثل) الذي تَحْدُث فيه سائر العمليَّات الفنيِّة وهذه العمليَّات إن لَم تكن إنْشَائية، فهي- في أغلب الأحوال - عمليَّات من خصائصها التغيير الدائم الذي يصيب الشَّعر،سواء في صورة تَحْسين وتجويد، أو في صورة خَلَل وتَكَسُّر. وتتحدد وجهة هذا التغيير ونتائجه، وفق عوامل متعددة، من بينها ظروف الأداء ومتطلباتة، واختلاف المؤدين وتباين قدراتهم ومواهبهم. 

على أن الشِّعْر (في الغناء) قد ينطوي بصورة ما على دور بنيوي، وخاصة إذا كان هذا الدور يتعلق بصورة أو بأخرى بتكوين الشَّكل الموسيقي فالشطرات الشِّعْرية القليلة العدد والتي تقوم عليها أغْـنِيَّة قصــيرة، تحكم عادة شـــــكل الغنـــاء، والذي يأتي بدوره ملائمًا لهذا القِصَر. كما أن الشِّعْر الغزير (والذي قد يصل في عدد شطراته إلى مئات الشطرات) كما في الغناء القصصي؛ لابد وأن يُؤَثر في شكل الأداء الغنائي والذي يأتي بدوره طويلا وممتدًا بَل ومتعدد الأقسام أيضًا لكي يستوعب غزارة هذا الشِّعْر ويساير مايقدمه من صور ومواقف وأحداث متعددة.

 هذه الأمثلة، وغيرها، قد تُفسِّر الأسباب التي باعدت بين الأفـــراد (في مجتمع الثقافة الشعبية) وإمكانية استخدامهم التعابير والمصطلحات التي تشير إلى الناحية الموسيقية، وخاصة التي تشير إلى طُرق أو عمليَّات موسيقية فنية بعينها، وهي الأسباب نفسها التي حَمَلَتهم على تَبَنِّي العديد من التعبيرات البديلة ذات الدَّلالة الضِّمنية التي تستوعب - في آن - الشِّعْر ومقاصده والأداء ومناسبته والمؤدين وصفتهم12. بل وتتجاوز هذه المقومات، وتتجاوز أيضًا البناء الفني نفسه لتَسْتَدْعي إلى الذهن، المكان والزمان وكل الدَّلالات التي تتصل بعملية الأداء أو تحيط بها . فعلـــــى سبيل المثال حينما يأتـــــي ذكر لَفْــــظ «عَديــــد» أو «تَعْديد» (وهو مصطلح شعبي دارج معناه في اللغة لايشير إلى شكل شعري بعينه ولايشير أيضًا إلي ارتباطه بالغناء على نحو صريح)؛ فإنه يُشير إلى المقاطع الشعرية التي تجري على ألْسِنَة السيدات في مجالس العَزَاء وهُنَّ يرتدين السَّواد، وقد يَلْطــمن الخــدود، وهو في الوقت ذاته يُشير إلى تلك الطريقة في الأداء التي يتحوَّل فيها القول الشِّعْري إلى جَرْس صوتي حزين النبرات يتداخل مع نحيب النسوة ومع عويلهن، وذلك كله لايعهده المرء إلا في المآتم وفي أوقات الحُزن. وكذلك عندما تتردد عبارة «قصة أبو زيد الهلالي سلامه» وهي أيضا صيغة اصطلاحية ضمنية تُشير إلي منظومة العناصر التي تتصل بعالم السِّيرة الهلالية في الثقافة الشعبية، أي السِّيرَة في أحداثها وشخصيَّاتها، وتُشير إلى قُطفها وأمثالها وأقوالها المأثورة التي تتردد في مجالس الأجداد والآباء، وتجري على ألْسِنَة العامة، كما تُشير إلى الأداء الغنائي والصور المعهودة لمجالس الاستماع إلي الشُّعراء والمغنين. 

 

 

 الهوامش 

1.    أنظر للمؤلف : دراسات في الموسيقا الشعبية المصرية – تأسيس نظري وتطبيقات عمليـة دار عين ، دار عين للدراسات والبحوث الانسانية والإجتماعية  سنة 2005، ص25 .

2.      يرى " هيجل " أنه : " إذا كان للموسيقا - من بين كل الفنون الأخرى – الإمكانية القصوى لتحرير نفسها من كل نَص ، بل ومن كل تعبير عن مضمون محدد ، فــــــي حين تجـــد رضـاها  الذاتي في عالمها الصوتي المحض بما يحتويه من توافقات وتغيرات وتعارضات وانتقالات ؛ عندئذ تكون الموسيقا خاوية وبلا معنى . وفي هذه الحالة لايمكن أن نعتبرها فنَّا ، لأن العنصر الرئيسي الواحد الموجود في  كل الفنون – وهـو المضمون والتعبــــير الروحييــــن – لايتمثل فيها . ولكن الموسيقا ترقى إلى أن تكون فنَّا حقيقيا عندما تصبح تعبيرًا روحيا باستخدام وسيطها الحسيي مـــن الأصوات وتوافقاتها المتنوعة ، سواء كان المضمون الذي تعبر عنه متمثلا في نَص للأوبرا ، أو =  كان علينا أن نشعر به على نحو أقل وضوحا ونستخلصه مـــن الألحان وعلاقتها الهارمونية ، وحيويتها اللحنية ... ومن هذه الزاوية فإن المهمة الخاصــة للموسيقا هـــــــــي إحياء هذا المضمون أو ذاك فـــــــي عالـــــــم الداخلية    الذاتية ، ولكن ليس كما هو – أي المضمون – موجودا في وعينا كأفكار عامة أو أشكال خارجية محددة ، بل المهمة الصعبة التي تقع على عاتق الموسيقا هي ترديد الطاقة والحياة الكامنتين داخليا بطريقتها النغمية ، وغمر الأفكار في هذا العالم الصوتي لإنتاجها بشكل جديد يحرك المشاعر والعواطف " ( آيات ريان : فلسفة الموسيقا وعلاقتها بالفنون الجميلة ، تقديم : صلاح قنصوة، الهيئة العــــــامة لقصــــــور الثقافة 2010، ص48) .حسمت الثقافة الشعبية أمر الموسيقا فيما لو كانت تعبر عن أفكار، فواءمت بين طبيعة الموسيقا كبنية صوتية مجردة، وبين حدود الوظيفة وأشكال الإفادة المختلفة ، وذلك بأن جعلت لكل مناسبة أو حدث اجتماعي، الموسيقا الخاصة به على نحو يبين الحدث مرتبطا ببنيته الموسيقية التي تقوم على تمايز اللحن ( جملة لحنية مميزة) فإذا ماتردد هذا اللحن أشار إلى المناسبة الاجتماعية التي ارتبط بها ، وإذا ما وقع الحدث الاجتماعي تردد اللحن الخاص به .

3.    أنظرللمؤلف: موسيقا السيرة الهلالية – المجلس الأعلى للثقافة 1999 ص167 وما بعدها .

4.    عبد الحميد حَوَّاس: مدارس رواية السِّيرة الهلالية في مصر، أعمال الندوة العالمية الأولى حول سيرة بني  هلال : الحمَّامات، 29:26  يونية 1980، نشر المعهد القومي للآثار والفنون/ النشرة الأولى تونس1990  ،من صفحة  57  ومابعدها.هناك إشارات إلي وجود أداء يحمل مثل هذه الصفات في دائرة تراث الإنشاد الشِّعري العربي. لكننا نركز هنا على الأداء المشابه للموَاوْيَة والذي توافرت بشأنه معلومـــــــــات في لناحية الموسيقية بتفصيل ووضوح .

5.    الأدَباتي . أو الأدباتيَّة : طائفة من الفنانين يحترفون إلقاء الشِّعْْر الفكاهي والزَّجَل السَّاخر، وأغلب ما ينشدونه مرتجل في المعاني التي يوحي بها مقتضى الحال ..، والأدباتية كانوا مشهورين في ريف مصر. لكن لا أحد يعرف على وجه اليقين متى  نشأوا في البيئة المصرية فليس لهم تاريخ متاح يذكر ..، وقد اشتهر الأدباتية بالنكتة والإضحاك وقلب الأشْعَار وصرف اللفظ الأصلي إلى معنى مغاير يؤدي إلـــى إهدار القياس وتحدث به المفارقة التـــــي تثــــير الضــــحك ( أنظر : محمد فهمي عبد اللطيف : ألوان من الفن الشعبي ،سلسلة المكتبة الثقافية العدد رقم 111، نشر المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، (القاهرة)  يونيو 1964،من صفحة  74 وما بعدها .

6.    أنظر: فيوتو: وصف مصر ، ج 8 ،ترجمة زهير الشايب ، مكتبة الخانجي  (القاهرة) 1981 ، صفحة 191 .  

7.    المرجع نفسه .

8.    يميل الأداء الموسيقي للنصوص الشِّعرية ( الغناء) لأن يكون ذا حدود مشتركة مع الوحدات الشعرية ( العروضية )، في حين أن محيط الألحان وإيقاعها يأخذان في الإعتبار محيط تنغيم النصوص الشِّعْرية وإيقاعها الموضوع لها ، وهي الخاصية التي تتيح لنصوص الأغاني أن تُعَدَّل وفق الحاجة ، وحتى تتلاءم مع أي أوضاع جديدة . وهو التفسير نفسه الذى أسلفنا بيانه في علاقة النص الشعري بالنص الموسيقي .

9.    هناك تقاليد تربط بين الشِّعْر والأداء الموسيقي مــن أجل تأدية وظائف  مباشرة ومحددة  وتأتي في ذلك الأغاني التي تؤدى لتنويم الأطفال وأثناء الاشتغال في بعض الأعمال وفي حضرات الزَّار وفي مجالس الأذكار الصـــوفية ، وفي المآتم . لكنها جميـــــــًا لاتخلــــــو تمــــامًا مــــــن الميزة التي تثير المتعة الفنية ولــــــو بدرجات متفاوتة . وتكتسب هذه الملاحظة مزيدًا من الوضوح إذا ما نظرنا إليها فــي إطـار  الفكرة العامة التي تعني : أن من طبيعة الأداء الموسيقي أن يُضْفي روحًا علـى الأصوات التي تُنَظَّم فــــي إطــــار علاقات نغمية محددة ، حيث ترتفع درجـــة التعبير ( بانتظام هذه النَّغمات ) إلــــــــى مستوى لايمكن بلوغه إلَّا فـــــي نطاق متعة فنية ..، ( للمزيد من التفصيل أنظــر : أرنست فيشر ،   ضرورة الفن ، ترجمة أسعد حليم . الهيئة المصرية العامة للكتاب ، ط 2( القاهرة ) 1986 صفحــة 238.

10.    أنظر للمؤلف : سيد المغنى" المَوَّال " نشر المركز المصري للثقافة  والفنــون 2008 صفحة ص 10  .

11.    من هذه التعابير : التَّحْنين ، التَّهْنين ، العَديد ، أو التَّعْديد ، الموَّال ، الضَّمَّة ، الشِّتِّيوه، شَدّاللهْجَه ، الحَدْو المديح، النَّميم  ، المرْبوع ، الجَنْزير . والمدَّاح ، الموَاوي ، الشَّاعر وغيرهم . ولاتستخدم كلمة " غِناء أو " أغنيِّه " في الثقافة الشعبية المصرية إلَّا في أضيق الحدود .   

 

 

الصور:

    من كتاب اليوبيل فضى لكلية الفنون الجميلة جامعة الأقصر ،2011

https://releases.cg.eg/videos

 

أعداد المجلة