فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
59

السيف والخنجر: في الموروث الثقافي السوداني

العدد 59 - عادات وتقاليد
السيف والخنجر: في الموروث الثقافي السوداني

 

يهدف هذا المقال إلى إبراز أهمية السيف في الموروث الثقافي السوداني، ويبيِّن ارتباطه بكل مجالات هذا الموروث من النواحي التاريخية في حضارات السودان القديم بالرجوع إلى السجل الأثري لمعرفة الأدلة الأثرية التي تؤكد الوجود الأثري والتاريخي للسيف والخنجر في تاريخ السودان القديم، ومدى استمرارية استخدام السيف في الفنون الحرفية التقليدية، وفي الممارسات المرتبطة بالعادات والتقاليد والمعتقدات، وفي الأدب الشعبي من خلال المسميات المختلفة التي أطلقت على السيف وورود ذكرها في القصص التاريخي والبطولي في تاريخ السودان الحديث، وفي الشعر الشعبي، وكل ذلك يؤكد حقيقة هامة مفادها أن السيف والخنجر لهما صلة لصيقة بالموروث الثقافي بشكل عام، وهذا له عمقه وبعده التاريخي مما يؤكد الاستمرارية الثقافية والحضارية للسيف والخنجر في الموروث الثقافي السوداني، وهذا يدل على مدى عمق الهوية الثقافية المرتبطة بالسيف والخنجر في الثقافة السودانية. يستعرض المقال اسمي السيف والخنجر ومعناهما، وخلفية تاريخية لوجودهما في تاريخ السودان القديم، ومن ثم ارتباط السيف والخنجر بمجالات الموروث المختلفة وهي؛ الفنون الحرفية التقليدية، والعادات والتقاليد والمعتقدات، وفنون الأداء الشعبي كالرقص والألعاب الشعبية، الأدب الشعبي. مستدلاً في ذلك بالصور الفوتوغرافية والمصادر والمراجع لتأكيد البيانات والمعلومات.

السيف والخنجر: الاسم والمعنى:

السيف: الاسم: سَيْف، الفعل: سَيفَ، الجمع: أسياف وسُيُوف1. ويعرف السيف على أنه سلاح للدفاع عن النفس يستعمل باليد له نصل طويل، قد يكون مستقيماً أو مقوساً، مصنوع من الحديد، مثبت في مقبض وله واقية في معظم الأحيان وينتهي بطرف مدبب.

الخِنْجَرْ: الاسم: خِنْجَرْ، الجمع: خَنَاجِرْ2 وهو عبارة عن سكين كبيرة الحجم.

السيف هو أداة من أدوات الحرب بالنسبة لكل القبائل ذات الأصول العربية في السودان. ومن أكثر القبائل التي اشتهرت بحيازة السيف واستخدامه في العادات والتقاليد والممارسات قبائل البجا في شرق السودان وبعض القبائل العربية في وسط وغرب السودان.

فالسيف هو العلامة المميزة للرجولة بالنسبة لكل قبائل البجا، وهم البشاريون، الأمرار، الأرتيقة، الأشراف، الكميلاب، الهدندوة، الحلنقة، البني عامر والحباب. وامتلاك السيف يعتبر من الأهداف الرئيسية التي يسعى إليها كل فرد من أفراد القبيلة. والسيف من الأدوات التي يرثها الابن الأكبر عن الوالد، وهو الوريث الرئيسي لسيف والده ثم بعد ذلك الأبناء ومن جيل إلى الذي يليه. 

1)   السيف والخنجر في تاريخ السودان القديم:

هنالك ثقافة في شمال السودان بمنطقة النوبة السفلى، أطلق عليها ثقافة المجموعة (ج) في الفترة (2300 - 1500 ق.م)، عثر في مقابرها على خناجر وسيوف، وتمثل أول وجود للسيوف والخناجر في السودان. وتزامنت هذه المجموعة بما يعرف بفترة حضارة كرمة في الفترة (2500 - 1500 ق.م)، وهي بمدينة كرمة الحالية في شمال السودان، وتقع على بعد 40 كلم شمال مدينة دنقلا وجنوب الشلال الثالث، وهي من أقدم المراكز الحضرية في إفريقيا جنوب الصحراء، حيث عثر شارلس بونيه في مقابرها على عدد من الخناجر المصنوعة من البرونز والعاج واستعمل فيها الجلد للتجليد بغرض تثبيت العاج الذي يستخدم في المقبض3، «انظر الصورة رقم(2)».

أما عن السيوف فقد عثر على لوح من الحجر الرملي ارتفاعه ما بين 59,7 سم وقطره بين 3,62 سم في إحدى صالات معبد رمسيس الثاني ابن الملك سيتي الأول بموقع عمارة غرب يعود إلى فترة الدولة المصرية الحديثة (1550 – 1069 ق.م)، يظهر النقش الملك سيتي الأول يحمل سيفاً حدب بيده اليمنى ويقبض الأعداء باليد اليسرى وهو رمز القوة الإلهية. هذا النقش جعلنا نتعرف على استخدام السيوف البرونزية في السودان. .

استعملت السيوف عند المرويين في الفترة المروية (القرن الرابع ق.م – القرن الرابع الميلادي) من خلال النقوش المنحوتة البارزة التي وجدت في معبد  الشمس بمروي حيث أن جراب السيف تم إظهاره معلقاً بسير على الكتف بالطريقة التي توجد عند جماعة البجا في شرق السودان في منطقة جبال البحر الأحمر، وهذا يؤكد أن هذا السلاح هو سلف السيوف التي تستعمل بواسطة مجموعات البدو في وسط الصحراء الكبرى4. «انظر الصورة رقم (3)»، وعلى معبد الأسد في النقعة يظهر الملك نتكاماني يستخدم سيفاً، وفي جبل قيلي يظهر الملك شركارير يرتدي كامل أدوات الحرب ويظهر بهيئة المحارب المروي، فهو يحمل على كتفه سيفاً في جرابه، كما في نقش معبد الشمس5.

في فترة ما بعد مروي (القرن الرابع الميلادي – القرن السادس الميلادي) عثر على عدد من الخناجر المنحنية والمحدبة الشكل والحادة من الاتجاهين، وتستخدم كسلاح للقتال والدفاع عن النفس منها خنجر من الحديد يتراوح طوله بين 20 سم وعرضه 4 سم وسمكه 5 ملم، عثر عليه بموقع عبري في شمال السودان، ومن الملاحظ أن هذا الخنجر وجد بدون يد فهي في الغالب تكون صنعت من الخشب وتحللت مادتها بفعل الطبيعة6.

في فترة دولة الفونج أي الفترة الإسلامية (1504م – 1820 م) تم العثور على عدد من السيوف من أهمها سيف الوزير ناصر وهو أحد أبناء زعيم طائفة الهمج الشيخ محمد أبو الكليلك، ملك الهمج (1762م – 1769م) خلال سلطنة الفونج، وله دور كبير في الحياة السياسية في دولة الفونج بحيث ارتبط اسمه بهذه الدولة إلى حد كبير7. «انظر الصورة رقم (4)»، فقد أرسل لمحاربة الخارجين على دولة الفونج في عهد الملك عدلان في إقليم الجزيرة فتمكن من تحقيق النصر عليهم عام (1198 ه – 1784م)8.

في فترة الدولة المهدية (1885م – 1898م) تم استخدام السيف وارتبط بالقوى المادية والروحية أي المعتقدات الدينية، وهذا التقليد من الواضح أنه مستمر منذ الفترات التاريخية المختلفة والمتعاقبة في الحضارة السودانية القديمة وفي هذا السياق يقول أبو سليم: 

«وهو من الأدوات ذات الدلالة على القوة والأبهة، وهو رمز الجهاد وشارة النصر. ومنه أنواع كثيرة يعرفها المعتنون به. والسيف عند الملوك آلة أبهة وقوة وعند الصوفية قوة روحية وسلطان روحي. وهذا هو منحى المهدي في وصفه للسيف في بعض مناشيره. ومثله ما جاء في الطبقات في خبر صالح ود بانقا: الشيخ إدريس ود الأرباب أعطاه سيف قدرته بينما احتفظ بسيف الولاية لأولاده، وحسن ود حسونة أعطاه سيف ولايته وقدرته وقال: فسيف قدرتي قبضته فضة وسيف ولايتي قبضته ذهب، والأثنين وضعهن (كذا) في وجه النبي، والشيخ عبد الرازق أبو قرون أعطاه سيف قدرته بينما احتفظ بسيف ولايته لولده صالح. وهكذا حاز هذا الولي على أسرار هؤلاء الأولياء وبركاتهم فاكتملت ولايته»9.

كان المهدي يحمل على الدوام في يده اليسرى أو على منكبه الأيسر سيفاً، بالطريقة التي يحملها الملوك في تاريخ السودان القديم، وقد ظل المهدي يعتمد في حربه على السيف ودعا أنصاره إلى الاعتماد عليه؛ وذلك اقتداءً بالسيرة النبوية ولأن بهما سرَّاً روحياً10.

السيف بشكل عام يرتبط بكل عناصر الموروث الثقافي من أدب وعادات وتقاليد وفنون أدائية وفنون حرفية تقليدية ويبرز لنا كل هذه المجالات بالإضافة إلى البعد التاريخي، وكما بينا أن للسيف والخنجر وجود في تاريخ السودان القديم عبر الحقب التاريخية المختلفة، وهنا أسوق مثالاً لسيف السلطان علي دينار وهو آخر سلاطين سلطنة الفور في غرب السودان بمنطقة جبل مرة، وعاصمتها مدينة الفاشر، بها الآن متحف السلطان علي دينار، وعلي دينار هو ابن زكريا بن محمد الفضل بن عبد الرحمن، وحكم سلطنة الفور في الفترة (1898م- 1916م)، وازدهرت هذه السلطنة في منتصف القرن السابع عشر11. وسيوف علي دينار بعضها نقش عليها عبارات منظومة ونثر وآيات من القرآن الكريم، وتعاويذ كالتي يعتقد فيها أهل غرب السودان، ويقصد بها تحصين النفس من الأذى أو الهزيمة والتمكن من العدو. ومن هذه النصوص ما نظمه الإمام علي كرم الله وجهه باسم الله الأعظم: «ثلاث عصى صفصفت بعد خاتم ميم طميس ثم سلم وهاء شقيق وواو منكس كانبوبة مثل سهام القوم كسحابة مظللة ثم أربعة ملازمين وتنجي بها من كل المهالك». كما نسخ علي دينار اسمه على مقبض سيفه واسم الجلالة وأسماء الخلفاء الراشدين ونسبه على صفحة السيف. وفي الصفحة الأخرى مكتوب12:

إن الوفود أتتك يا محي السنن

لاقيتها بالبشر والوجه الحسن

وإذا المعالي خاطبتك بقولها

آيات نعي يا سمي أبي الحسن

سمي أبي الحسن يقصد به هنا (علي دينار)، وكذلك كتبت هذه الآية: «أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة. قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم. نصر من الله وفتح قريب. وبشر المؤمنين يا محمد بالجنة. وبشرى لنا معشري الإسلام».

هذه الخلفية التاريخية التي تبيِّن استخدام السيف والخنجر في تاريخ السودان القديم يتضح لنا ارتباطهما بالسلطة السياسية والدينية، ومقدرتهما الدفاعية عن السلطة بدحر الأعداء وذلك للقوى السحرية التي تكمن في السيف والخنجر، وهي قوى فوق الطبيعة في التاريخ القديم، واستمر هذا الاعتقاد حتى بعد دخول الإسلام في السودان، حيث يعتقد الناس أن السيف والخنجر من صنع الجان وتكمن فيهما قدرات فائقة لقدرات البشر، ولبيان ذلك نتناول أمثلة من مجالات الموروث الثقافي السوداني المختلفة لتعضيد هذا المفهوم في الفنون الحرفية التقليدية المرتبطة بالعمارة التقليدية، وفي العادات والتقاليد والمعتقدات المرتبطة بدورة حياة الإنسان، وفي فنون الأداء الشعبي في الرقص وفي التقاليد الشفاهية كالشعر الشعبي والغناء.

الفنون الحرفية التقليدية:

من الفنون الحرفية التقليدية التي ظهر فيها استخدام السيف كرمز تشكيلي شعبي له دلالة سحرية ترتبط بالحماية والقوة الرسم الذي نجده في العمارة التقليدية النوبية بمنطقة شمال السودان لدى جماعة النوبيين، حيث نجد في مداخل البيوت وفي داخلها تصوير لأسد يحمل سيفاً مشقوق الرأس، وهذا التعبير يوضحه لنا أحمد محمد علي الحاكم الذي يقول:

«الأسد من أكثر الأشكال شيوعاً وكل الفنانين جربوا رسمه ولم يشذ منهم أحد. وقد اتفق الجميع في أن أحمد بتول أول من أدخل منظر الأسد يحمل سيفاً وكانت أشكاله بالحفر البارز على طريقته البتولية. والسيف طويل مشقوق الرأس وكأنه يشير إلى سيف ذي الفقار، سيف سيدنا علي بن أبي طالب»13. يتميز السودان بتنوع أشكال السيوف ولها مسميات مختلفة، فهنالك نوع يسمَّى (السِليْمَانِي) ونوع آخر يسمى (الدُكَّرِي)، ويتكون السيف من أجزاء مختلفة، ولكل جزء مسمى، مثلاً الجراب يسمَّى (الجَفِيْر)، والمقبض يسمى (القِيَامْ)، وتتعدد المواد التي يصنع منها السيف، الجزء الحديدي الحاد يصنع من حديد قضيب القطار أو ما يعرف بـ (السِكَّة حَدِيْد)، وتسمى القطعة الحديدية التي تتقاطع مع المقبض بـ (البَرْشَمْ)، ووسط السيف يسمى (السَدُر)، والجزء الحاد يسمى (السيف)14، «انظر الصورة رقم (5)».

والأجزاء المكونة للسيف هي كالآتي:

1.    السيف هو عبارة عن سلاح مصنوع من الحديد ويتكون من الأجزاء الآتية:

2.    القيام: وهو مقبض السيف وأحياناً يسمَّى القَبْضَة.

3.    البَرْشَمْ: وهي قطعة حديدية على شكل صليب أمام القيام.

4.    السَدُرْ: وهو الجزء في وسط السيف.

5.    السيف: وهو الجزء الحاد من السيف.

أما الجفير يصنع من جلد الماعز أو الضأن وذلك لأنه طائع في التشكيل، وينقسم الجفير إلى ثلاثة أجزاء وتسمَّى على التوالي من ناحية البَرْشَم؛ (السِبْحَة) و(الصَدْر) أو(السَدُرْ) و(القُمْرِيَّة)، وتنتهي بقطعة معدنية تسمَّى (الكُسْتُبَانَة)، وتفصل بينهما قطع جلدية بارزة تصنع من الكرتون وتجلد بجلد التمساح، وتسمَّى بـ (الحِجْبَاتْ)، ويربط فيها قرص دائري حديدي أو نحاسي لربط المعلاق أو السير، وفي الجزء الأسفل من الحجاب تربط قطعة جلدية أشبه بورقة النبات للزينة تسمَّى (اللفَّاخَاتْ)، وفي الجزء الأمامي من السير أو المعلاق تنسج مجموعة من السيور الجلدية تسمى (الكَسَائر)، ولها وظيفة جمالية وعملية حيث تساعد على تعليق السيف على سرج الجمل15. «انظر الصورة رقم (6)».

أما الأدوات التي تستخدم في تجليد جفير (جراب) السيف من أهمها «المُحْرَات» وهو أشبه بالمسطرة من خشب الأبنوس ويستخدم للنقش على الجلد لعمل الزخارف وخاصة الخطوط المستقيمة، و«المُوْس» وتستخدم لتقطيع الجلد، و«المُخْرَز» يستخدم للتخريم، «انظر الصور (7)، (8)، (9)، على التوالي».

      

يستخدم السيف كسلاح للدفاع عن النفس وعن القبيلة، واستخدم في كثير من الحروب والمعارك القبلية التي دارت بين القبائل السودانية. والسيف هو العلامة المميزة للرجولة ويعتبر السلاح الرئيسي للرجل بعد سن الرابعة عشر، أما الصبي ما دون ذلك فيكتفي بحمل السكين أو الخنجر خاصة حينما يكون قادراً على رعي الأغنام بمفرده، وعند قبائل البجا في شرق السودان يعتبر السيف من الأسلحة التي يكتمل بها الزي التقليدي بالنسبة للرجل الذي يتكون من السروال العريض والعراقي والسديري. «انظر الصورة رقم (1)».

العادات والتقاليد والمعتقدات:

ارتبط السيف والخنجر بعادات وتقاليد دورة حياة الإنسان في الميلاد والختان والزواج؛ وذلك للاعتقاد السائد في الموروث الثقافي السوداني في السحر وفي الخواص السحرية للسيف والخنجر، ومن أهم ما يوضع للمرأة النفساء لحمايتها من القوى الشريرة الأدوات الحادة والأسلحة مثل السيف والخنجر، حيث يعتقد أنها تطرد الأرواح الشريرة وهو اعتقاد قديم منذ الحضارة المروية كما بيَّنا سابقاً، عليه تستخدم السيوف والخناجر في طقوس العبور في الولادة والزواج لحماية الطفل المولود والعريس من الأرواح الشريرة، والحديد والمعادن بصفة عامة يعتقد أنَّ لها خاصية وقدرة في طرد الأرواح الشريرة16.

كذلك نجد أن الطفل المختون والعريس في السودان لا يفارق يدهما السيف، وهو رمز للرجولة. وحمله في مناسبة الختان وفي الزواج يعني أن المختون أو المتزوج أصبح مؤهلاً لتحمل المسؤولية. ومن الطقوس التي تشير إلى هذا المعنى أن المختون أو العريس بعد إتمام سبعة أيام من المناسبة يجرى له طقس يُعرف بـ (قَطْع الفَرِعْ)، وفيه يذهب في موكب راكباً على حصان باتجاه الشرق، وعليه أن يقطع غصناً أخضراً من النخيل أو أي شجرة أخرى قريبة الشبه. وعليه أن يقطع الغصن بضربة واحدة من السيف، وهذا يعني أنه أصبح مؤهلاً لتحمُّل المسؤولية الجديدة، كمدافع عن القبيلة أو مسؤولاً عن الأسرة17.

كذلك من العادات عند جماعة البجا في شرق السودان التي ارتبطت بالزواج ويستخدم فيها السيف تلك العادة التي يتم فيها تحديد مكان إقامة منزل الزوجية، وتتلخص العادة في أن أهل الزوج يذهبون إلى أهل الزوجة بغرض تحديد المكان لإقامة المنزل أو بيت البرش من السعف. وفي هذا اليوم تذهب النساء إلى أهل العروس وهن يحملن «السُنْكَوَابْ»، وهو عبارة عن سعف يحزم بحبل أو خيط من الصوف الأسود، وتقوم والدة الزوج بالطواف على منازل أهل الزوجة وهي على ظهر الجمل وسط الزغاريد إيذاناً ببدء المراسم الخاصة بتحديد مكان إقامة المنزل، ويتم اختيار أحد الصبية تحت سن الرشد على أن يكون والداه على قيد الحياة وهو اعتقاد شائع بين كثير من المجموعات السودانية ويرتبط بالفأل الحسن، ويستخدم الصبي طرف السيف لعمل خط على الأرض ويعتبر مكان الخط هو مكان منزل الزوجية، وهنا يخرج الزوج سيفه ويدور به حول المكان الذي يحدده الصبي، وهذه الممارسة هي بمثابة تأكيد على مقدرة الزوج لحماية زوجته18.

للسيف دلالة جنسية في الزواج فهو يشير إلى الخصوبة، لذلك نجد أن العريس يحمله حتى يكون الزواج مباركاً ومثمراً بالرفاه والبنين، وهذه من العادات المتعارف عليها عند قبيلة الرشايدة، في شرق السودان19، وعند قبيلة البني عامر يحمل العريس السيف حتى بعد الزواج لمدة أربعين يوماً، وإذا غادر العريس فراش الزوجية يترك خنجره تحت الوسادة ليمنع الأرواح الشريرة من احتلال مكانه بجوار عروسه20، وهذا يؤكد أيضاً استخدام الخنجر كأدة معدنية حادة للحماية من الأرواح الشريرة كما ذكرنا مقدماً.

فنون الأداء الشعبي:

تتراوح فنون الأداء الشعبي من الموسيقى الغنائية والآلات الموسيقية إلى الرقص والمسرح إلى الإيماء والشعر الغنائي، بل إلى أبعد من ذلك. وهي تشمل العديد من أشكال التعبير الثقافي التي تنعكس فيها روح الإبداع البشري، والتي تتواجد كذلك بحدود معينة، في كثير من مجالات التراث الثقافي غير المادي الأخرى.

ومن فنون الأداء الشعبي الرقص، وهو على تنوعه وتعقد أشكاله، فإنه ببساطة حركات الجسم المنتظمة المؤداة على إيقاع الموسيقى. 

في السودان ارتبط السيف بالرقص الشعبي لدى عدد من المجموعات التي تقطن شرق السودان منها كل المجموعات التي تنتمي إلى جماعة البجا، والمجموعات بمنطقة البطانة، وهذه الأخيرة استخدمت السيف فيما يعرف برقصة «العَرْضَة» التي تؤدى بشكل جماعي بمصاحبة إيقاع طبل النحاس، «انظر الصورة رقم (10)».

كذلك من أشهر الرقصات في شرق السودان عند جماعة البجا ما يعرف برقصة السيف، ونلاحظ أن هذه الرقصة أخذت اسم السيف لأنه يلعب فيها دوراً أساسياً، وهي تؤدى بواسطة الرجال، حيث نجدهم دائماً ما يتبارون في هذه الرقصة ليبرزوا مقدراتهم في استعمال السيف ومدى مهارتهم في استخدامه في الفنون القتالية المختلفة، وتعتمد هذه الرقصة بشكل أساسي على القفز، حيث نجد أن الرجل يقفذ وهو يحمل السيف إلى أعلى مستوى، كما يقوم بعمل إيماءات حركية أثناء الرقص يوضح من خلالها مدى مهاراته في استخدامه للسيف كأداة للفروسية، كأن يحمل السيف بيده ويحركه حركة دائرية أثناء الرقص، أو أن يمسك به بواسطة فمه وهو يرقص. «انظر الصورة رقم (11)».

كذلك من عناصر فنون الأداء الشعبي الألعاب الشعبية لدى الأطفال، وهنا أصنفها ضمن فنون الأداء وذلك لأنها تشتمل على الإيماءات الحركية كالرقص الجماعي وترديد الأغاني، واستخدم السيف في ألعاب الأطفال لدى مجموعة الرشايدة بشرق السودان بمدينة كسلا، حيث نجد الأطفال من البنات والأولاد يلعبون لعبة السيف، وهي عبارة عن رقصة يستخدم فيها السيف وتؤدى بشكل جماعي، «انظر الصورة رقم (12)».

الأدب الشعبي:

يشتمل الأدب الشعبي على كل إبداعات الإنسان القولية، التي تتمثل في الشعر الشعبي والأغاني الشعبية، والقصص الشعبي الذي يضم الحكايات الشعبية، والأساطير والخرافات، والنكات، والنوادر، والأمثال، والحكم، والألغاز، والمعضلات اللسانية، واللغة الشعبية.

في هذا الجزء أعرض أولاً بشيء من التفصيل مسميات أنواع السيوف ضمن اللغة الشعبية التي تندرج في مجال الأدب الشعبي:

1.    السيف السِليمَانِي:

هو نوع من أنواع السيوف به ثلاثة مجاري رقيقة ومتوازية. يمتد المجرى الأوسط حتى نهاية السيف، أما المجاري الجانبية فلا تصل إلى نهاية السيف بل تنتهي على بعد شبر من مقبض السيف.

2.    السيف الكَارْ: 

هذا النوع يكون به مجرى واحد يبدأ من المقبض وحتى نهاية السيف.

3.    أيرَاب نَفِيْب:

هذا النوع من السيوف به ثلاث مجاري اثنين جانبيين يقفان على بعد شبر من المقبض، والمجرى الثالث في الوسط يقف عند منتصف السيف. وكلمة نفيب تعني أبيض في اللغة التبداوية عند البجا، أي أن هذا السيف هو سيف أبيض.

4.    هَبَّاشَي:

هذا النوع يكون به مجرى كبير بالوسط، ولكن هذا المجرى لا يمتد حتى نهاية السيف بل ينتهي على بعد شبر من مقبض السيف، وفي داخل هذا المجرى نجد العديد من النقوش الزخرفية.

5.    الدُكَّرِيْ أبو ضُبَّانْ:

يكون به مجرى قصير في وسط السيف، وبه ثلاثة علامات تسمى (ضُبَّانَة) و(نُقَّارَة) و(أَسَدْ). وقد ورد في قاموس اللهجة العامية في السودان أن كلمة دُكَّرِي هي وصف للسيف أو هو السيف. ومن ذلك قول الشاعر شَلَّاخُو سيف الدُكَّرِي، ولعلها من السيف الذكر جمع ذكور، أو من دَكَّر في اللغة النوبية بمعنى دُمَّل أو جرح الجمع «دَكَاكِرْ»21.

ورد في الشعر الشعبي على لسان الشاعر ود جماع:

رَكَّزَتْ فِيْك ديْدَانِك22 عُلُوْجَاً بَتَّر

والدَمْ فِيْك مِنْ لَبِعْ الدَكَاكِرْ23 قَطَّرْ

هنالك قصص تاريخية في تاريخ السودان الحديث تحكي عن سيوف لأبطال مشهورين، ومن هذه القصص: «يحكى أن للزبير باشا سيف ثمين يعتز به ويصطحبه في غزواته وروحاته فلما مات وقع هذا السيف في يد المرحوم الشريف يوسف الهندي فاعتز به وحفظه عنده كتذكار ثمين لا يقدر بمال لأن الزبير فارس زمانه وهو خال الشريف وصهره وكان الشريف أكبر الزعماء مقاماً. وعندما أعيد استعمار السودان بواسطة الإنجليز، ظل يقيم في سنار حتى عام 1908م، ولكن الإنجليز بدأوا يشكون في إخلاصه بعد واقعة (كتفية) بسبب إيوائه لفلول أنصار ود حبوبة عندما كان في سنار فدعوه للإقامة في الخرطوم ولولا مكانته الروحية التي تبلغ حد التقديس في نفوس أنصاره ومريديه من قبائل العرب لمثلت به الحكومة كما ضيقت الخناق على غيره من الزعماء والفقهاء، وربما كان السيف المذكور هنا الذي ارتبط بهذه القصة هو (أَبْ غَارِبْ)، وهو سيف حسب الله ود السلطان محمد الفضل سلطان دارفور سلبه منه الزبير باشا بعد أن هزمه»24، وهو الذي قال فيه شاعر الزبير أبو شورة القريدابي25:

أَصْبَح مِنيْل كَارِبْ مُرَّاً يِصُر العيْن وُمُرَّاً يِبُرْم الشَارِب

حَسَبْ الله القِبيْل قَلفَاً صَمِيْم وُبِحَارِب

مَدَّ إِيْد الزِبيْر مِنْ حِكْرُو شَالْ أبْ غَارِب

من القصص الشعبية المتداولة التي ورد فيها ذكر للسيوف المتوارثة (أَبُو بَقِيْع) سيف المك نمر وهو المذكور في مرثية ود مهدي الشهيرة في عمارة ود المك نمر26:

مَاهُوْ الفَافَنوْت مَاهُوْ الغَليْد البُوْص

وَد المَكْ عَرِيْس خيْلَاً بِجَنْ عَرْكُوْس

أَحّيْ آ علي أب سيفاً بِجُز الرُوْس

وهو سيف متوارث من الشيخ عجيب المانجلك ثم المك إدريس ود الفحل ثم المك نمر، قال الشريف: « عثر جماعة الشايقية في اقتفائهم لآثار المك نمر على أربعين سيفاً محلاة بالفضة من بينها سيف المك المسمَّى (أبو بقيع) وسيرته عند الشايقية باقية إلى اليوم، ومن المحتمل أنه عندهم وقيل أهدوه للسيد علي الميرغني قال ود مهدي»27:

سيْفَكْ قوبُو وَاصبَحْ بِسَوِّي التِكْ

حَارْسَكْ من عَجِيْب وادرِيْس وُنِمِرْ المَك

الخاتمة:

يخلص المقال في الختام مما ورد ذكره أنَّ السيف والخنجر يمثلان المكون الأساسي الذي يشكل الموروث الثقافي السوداني الذي تمتد جذوره التاريخية إلى أعماق الحضارات السودانية القديمة، التي ساهمت في تشكيله. وتمَّ تداوله في المحيط الاجتماعي لأهل السودان عبر الأجيال. مكوناً بذلك المجالات الثقافية المختلفة في حياتهم والعوالم التي يدور فيها. سواء في الفنون الحرفية التقليدية وفي العادات والتقاليد والمعتقدات وفي فنون الأداء الشعبي وفي الأدب الشعبي، أي التقاليد الشعبية الشفاهية، في القصص البطولية الشعبية وفي الشعر الشعبي، وفي مجال العادات والتقاليد نجد أن السيف والخنجر ارتبطا بدورة حياة الإنسان منذ الميلاد حتى الختان والزواج. هذا بالإضافة إلى مجال فنون الأداء الشعبي المتمثلة في الرقص الشعبي والألعاب الشعبية. وجميع هذه المجالات بعناصرها المختلفة نجدها متداخلة في بيئة الموروث الثقافي السوداني. حيث أنَّها تعطي صورة كاملة للموروث الثقافي. 

 

 

 الهوامش 

1.    مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، القاهرة، مكتبة الشروق، 2004م، ص، 494.

2.    مجد الدين بن طاهر الفيروز آبادي، القاموس المحيط، بيروت، مؤسسة الرسالة، 2005م، ص، 171.

3.    شارلس بونيه، أحمد محمد علي الحاكم، كرمة مملكة النوبة، الخرطوم، الهيئة العامة للآثار والمتاحف، 1997م، ص، 217.

4.    ب. ل شيني، مروي حضارة سودانية، ترجمة: أحمد المعتصم الشيخ، الخرطوم، إدارة البحث العلمي، جامعة الخرطوم، 2017م، ص، 105.

5.    ب. ل شيني، نفسه، ص، 105.

6.    منال الأمين الشيخ عمر، الأسلحة في الحضارة النبتية والمروية وما بعد مروي، بحث ماجستير (غير منشور)، قسم الآثار، كلية العلوم الإنسانية، جامعة بحري، 2016م، ص، 93.

7.    مصطفى عبد الله محمد شيحة، دراسة زخرفية لسيف الوزير ناصر بالسودان وأربعة سيوف يمانية معاصرة، القاهرة، جامعة القاهرة، كلية الآداب، مكتب الجامعة للطباعة، 1984م، ص، 3.

8.    مصطفى عبد الله محمد شيحة، نفسه، ص، 4.

9.    محمد إبراهيم أبو سليم، أدوات الحكم والولاية في السودان، بيروت، دار الجيل، 1992م، ص، 79.

10.    محمد إبراهيم أبو سليم، نفسه، ص، 81.

11.    Julie Anderson, & others, “Royal Regalia: a sword of the last Sultan of Darfur. Ali Dinar”, Sudan & Nubian, The Sudan Archaeological Research Society, Bulletin No. 20. 2016, p, 161.

12.    أحمد إبراهيم المريود، "الأسلحة البيضاء في السودان من العصر الحجري إلى القرن العشرين (سيف علي دينار)"، جريدة الصحافة، العدد (5357)، 23 مايو 2008م، ص، 4

13.    أحمد محمد علي الحاكم، الزخارف المعمارية وتطورها في منطقة وادي حلفا، الخرطوم، شعبة الدراسات السودانية، جامعة الخرطوم، 1965م، ص، 37.

14.    كمال يوسف علي وآخرون، ملامح الحياة التقليدية في مدينة أم درمان، بحث بكالريوس (غير منشور)، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، كلية الموسيقى، 1998م، ص، 23.

15.    كمال يوسف علي وآخرون، نفسه، ص، 24.

16.    الصادق محمد سليمان، الحروز الممارسات الدينية والسحرية في السودان، الخرطوم، هيئة الخرطوم للصحافة والنشر، 2015م، ص، 139.

17.    الصادق محمد سليمان، نفسه، ص، 152.

18.    محمد أدروب أوهاج، من تراث البجا الشعبي، سلسلة دراسات في التراث السوداني (17)، شعبة أبحاث السودان، كلية الآداب، جامعة الخرطوم، 1971، ص، 97.

19.    هويدا عثمان صديق، طقوس العبور ودورة الحياة البشرية عند قبيلة الرشايدة، بحث ماجستير (غير منشور)، جامعة الخرطوم، معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، قسم الفولكلور، 2010م، ص، 150.

20.    إبراهيم صلاح الدين إبراهيم، طقوس العبور في قبيلة البني عامر، بحث ماجستير (غير منشور)، جامعة الخرطوم، معهد الدراسات الإفريقية والآسيوية، قسم الفولكلور، 1996م، ص، 63.

21.    عون الشريف قاسم، قاموس اللهجة العامية في ال سودان، الخرطوم، الدار السودانية للكتب، ط 3، 2002م، ص، 394.

22.    ديْدَانِك: جمع دُوْدَة والمقصود الديدان التي تأكل جسم الإنسان وتقوم بتقطيعه، مثل السيف الذي يقطع جسم الإنسان إلى أجزاء.

23.    لَبْع الدَكَاكِرْ: ضرب السيوف، لبع الدكاكر قَطَّر، الدم النازف من ضرب السيوف.

24.    إبراهيم القرشي، "الخرطوم عاصمة السيوف العربية"، جريدة الصحافة، العدد (3732)، 13/10/2003م. 

25.    إبراهيم القرشي، نفسه.

26.    إبراهيم القرشي، نفسه.

27.    إبراهيم القرشي، نفسه.

 

 

الصور:

    -    تصوير الكاتب

2.     شارلس بونيه، أحمد محمد علي الحاكم، كرمة مملكة النوبة، الهيئة العامة للآثار والمتاحف، 1997م، ص، 217.

3.     ب. ل شيني، مروي حضارة سودانية، ترجمة: أحمد المعتصم الشيخ، الخرطوم، إدارة البحث العلمي، جامعة الخرطوم، 2017م، ص، 130.

4.    متحف السودان القومي، قطعة رقم: 394.

6.5.    كمال يوسف علي وآخرون، ملامح الحياة التقليدية في مدينة أم درمان، بحث بكالريوس (غير منشور)، جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا، كلية الموسيقى، 1998م، ص، 28.

 

أعداد المجلة