فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
59

التطبب في تونس خلال القرن 19: قبيلة الهمامة مثالا

العدد 59 - عادات وتقاليد
التطبب في تونس خلال القرن 19: قبيلة الهمامة مثالا
كاتب من تونس

المقدمة

نظرا لأهمية العادات والتقاليد، يلاحظ تعدد الدراسات التي تناولت أهمية التراث الشعبي في المجالات المختلفة، حيث لبثت الطبيعة البشرية على سجيّتها. وعليه، نهض لفيف من الباحثين بتبيان ما للثقافة من أهمية في حياة الشعوب، وقد بدأ هذا المجهود حثيثا منذ القرن التاسع عشر. وكانت تدور أغلبها حول الحقل الثقافي والعلاقات الاجتماعية، مما زاد من أهمية دراسة تراث الشعوب للاستفادة منها. 

ونتيجة لذلك، وجد الاستشراق، مثلا، دعامة سياسية منقطعة النظير من الحكومات السياسية، ففي فرنسا تم تأسيس المعهد الفرنسي للشرق الأوسط l’institut français du proche orient وفي ألمانيا تم بعث معهد الشرق والجمعية الألمانية الاستشراقية والمعهد الألماني للعلوم العقلية في الخارج. وأدى هذا الأمر إلى تقارب المؤسسات الرسمية الغربية، وخاصة في تقارب الدولتين الفرنسية والألمانية1. بهذا المعنى أصبح التراث هو القاطرة التي تقود بقية مرافق الدولة، ويساهم في تحديد إستراتيجيات السلطة السياسية، وقد بانت تلكم التأثيرات في السياسة التوسعية الأروبية في باقي المجالات المتاخمة لأروبا. 

في هذا السياق، حاول ماكس فيبر إنجاز نظرية سوسيولوجية متكاملة وقدّم عرضا يربط جميع أشكال الجماعات الكبرى بالاقتصاد: بدءا بالعائلة والجماعات المنزلية فالعشيرة والجماعة العرقية فالدين2، وكانت دراسات فيبر وكلود ليفي شتراوس محاولات جادة لتناول الثقافات المحلية وفق رؤية رصينة.  

علاوة على ذلك، فقد سعت اغلب الدراسات الاستشراقية إلى تدمير البني الثقافية التقليدية لمجتمعات المغارب وتعويضها ببنى ثقافية جديدة تسمح للسياسيين في أروبا بفرض نمطهم الثقافي، مغتنمين في ذلك ضعف إدراك التكوينيات السكانية المحلية لأهمية مخزونهم الثقافي.هذه الجدّة في البحث السياسي الغربي دفعت الكتابات في المغارب إما إلى محاولة التشبه بالعقل السياسي الغربي وبين الرغبة في الحد من هذا المد الفكري بالتشديد على الخصوصيات السياسية المحلية. 

وهذا ما دفعنا إلى دراسة تراث التطبب في تاريخ تونس، وخاصة لدى قبيلة الهمامة في وسط وجنوب غرب البلاد، ومحاولة تبيان كيفية استثمار الموارد الطبيعية من قبل السكان كإشكالية مركزية في هذه الخطاطة. كما لا يفوتنا أن نشير إلى أننا ركنا إلى الأنتروبولوجيا كمنهج بحثي، لقدرته على كشف قفا التاريخ والوجه المضمر للذهنية الجماعية، وأعاد دراسة الإنسان كأساس للفكر والأبحاث. في هذا السياق سنسعى إلى الإلمام بهذا الموروث القبلي للهمامة من خلال الركون إلى المنهج الانتروبولوجي الذي يهتم بتاريخ الأعماق، دون أن نغفل كتابات الرحالة الذين زاروا المنطقة وكذلك بعض الآثار المادية من قبيل المغاور الجبلية واللباس والسلوكيات اليومية، والتراث اللامادي مثل الاعتقادات الجماعية والوشم وغيرها، معتمدين على الملاحظة الميدانية، والتراث الشفوي، وبعض الشذرات الواردة في المصادر.

التراث الحضاري لقبيلة الهمامة:

1)    مجموعات الهمامة واستثمار التراث الطبيعي:

يقع مجال الهمامة في وسط وغرب البلاد التونسية، وهي من أكبر القبائل التونسية مساحة وساكنة بشرية. وتمتاز بمناخ شبه صحراوي جاف، تحيط بها الجبال من كل جانب، وهي محاطة كذلك بغابات شاسعة وثرية من الواحات التي تمتد على مسافة 12 كم، ونجد بها النخيل والزيتون والغلال، ويذكر الرحالة الأعداد المحترمة لأشجار النخيل والزيتون بمدينة قفصة3. 

وإزاء ثراء العادات والتقاليد القبلية، فقد أسهب الكثير من الرحالة في الحديث عن العادات والتقاليد لدى شعوب المغارب4. إذ عرف عن البدو الأكل دون أدوات واستعمال اليد مباشرة، وتخزين الطعام في الجرار، وتقنيات تصبير الطعام مثل القديد والشريحة، إذ تجفف كميات معتبرة من ثمار التين والتين الشوكي ثم تمزج بزيت الزيتون وتخزّن في جرار من الطين، حتى يقتات منها البدو في أوقات المسغبة. أما اللحم فيقع تفتيته إلى قطع صغيرة ويجفّف تحت أشعة الشمس، ثم يمزج بالملح المستخرج من السباخ، ويحفظ كذلك في جرار طينية. وتستعمل شحوم الأضاحي كدهون في الطبخ عندما يفتقدون إلى الزيت، وإعطاء نكهة لذيذة للطعام.     

وقد أمدتنا جملة من الدراسات الاثنوغرافية بمروحة ثرية من الدراسات التي أحاطت بالعادات والتقاليد، ومن ذلك الأنشطة اليومية لبعض المجموعات الطرفية مثل صناعة الحلفاء والفخار5. علاوة على ذلك، يُعرف الهمامة بإتقان صناعة الرحى الحجرية، ولها صيت حسن لدى كل سكان الإيالة6، وقد تم استعمال الرحى لطحن الحبوب وتحضير الثريد والدشيش. 

ومن العادات الغذائية الشائعة لدى الهمامة هو الأغذية المستمدة من الشعير، لذلك يقع تحويله عادة إلى ثريد، لأنه أكثر قدرة على الديمومة ومقاومة تقلبات المناخ وقساوته. ومعلوم أن تتالي سنوات الجفاف وطبيعة المناخ تجعل الهمامة يقبلون على زراعة الشعير الذي يستطيع أن يجابه ضعف التساقطات، عكس بقية الحبوب التي تتطلب كميات معتبرة من الأمطار، علاوة على أنه يعدّ علفا جيّدا للمواشي.

 ومن العادات الاستهلاكية للهمامة يمكن ذكر إقبالهم على أكل الكسكسي والزميطة الممزوجة بالتمر والعسل، دون أن نغفل مردود الماشية من حليب وما يشتق منه من لبن وزبدة و«دهان»، وقد تميّزا كذلك بادخار مأكولاتهم في «بيت المونة» والتي شيّدت بطريقة هندسية تلائم الحرّ والقرّ، فداخل كل بيت الشعر نجد مكانا بخالفة الخيمة يكون بمنأى عن الشمس والرطوبة، ويستعمل عادة للتخزين وحفظ المواد القابلة للتلف. وفي أعلى مَناخ القبيلة في الزملة أو الحرش، وهما من التضاريس المرتفعة والبعيدة عن مجاري الماء، والتي تخصص لتركيز الروني أو المطمور لخزن الحبوب والتمر و«الكباب» و«الشريحة»، وهو ما يوحي بقدرة الهمامة على تصبير الغذاء.

وفي حالات القحط الشديد، يستغل الهمامة ما هو متاح في الطبيعة مثل الكمأة (الترفاس) والتين الشوكي، ويؤكل الترفاس بعد أن يطبخ في الماء والملح بعد تنظيفه من التراب، كما يمكن أن يطبخ مع بعض الأكلات وثمة من يشويه على النار. وقد انعكس ثراء مقدّرات مجال الهمامة في قدرة البدو على استغلال التراث الطبيعي من أجل اتباع نظام غذائي وصحي يقيهم من الأمراض.

2)    استغلال الطبيعة للتوقي من الأمراض:

لا تفوتنا الإشارة إلى أن البعد الروحي لبث أهم عامل للوقاية من الأمراض وخاصة النفسية والمستعصية منها، وينهض «دبير» العرش بمهمة وضع الحجاب والحرز الكفيل بمداواة المسّ والعين والعكس. وتلعب كذلك الزاوية دورا محوريا في تخفيف آلام المريدين وتكون لمسة من شيخ الزاوية وحتى مجرد دعاء قادر على إدخال السكينة على المريض، ورغم ذلك لم يعدم الهمامة سبيلا من أجل التوقي من الأمراض. 

وإزاء غياب طب حديث فقد درج الهمامة على تسخير الطبيعة من أجل معالجة بعض الأمراض والتوقي من البعض الآخر، فيتعهد البدوي أسنانه بالسواك وعينيه بالكحل ودهن الرأس بالحناء وتغطية الرأس اتقاء الحر والقر، والمداومة على المغيثة (الحجامة) لإخراج الدم الفاسد. 

 ومن عادة الهمامة الاهتمام بصحة المرأة الحامل حتى يكون مولودها في أبهى حال، فتكثر من أكل الجلجلان لأنه مقوي للبدن. ومن العادة الجارية أن المرأة وعندما يحين وقت الولادة تجعل تحتها إناءا فيه مسمار وقرن فلفل حار وشمعة وعلبة وقيد وقماش حرير أخضر وشيء من الكمون. ويبخر المكان بالبخور، أما المسمار فيزعمون أنه يزيل النفس، أي تثقب به عين الحسود، أما الشمعة تفاؤلا بالمولود الجديد حتى يعيش في النور. وبعد الولادة تمضغ القابلة الكمون مضغا جيدا وترشه على وجه المولود زاعمة أن ذلك يجعله ذا طالع حسن7. 

علاوة على ذلك، فقد أورد بعض الرحالة معلومات مسهبة حول النظام الغذائي للهمامة، من ذلك أن الناصري لاحظ أثناء عبوره مجال الهمامة أن بعض السكان يسمنون الكلاب ويأكلونها8. ويبدو أن الرغبة في زيادة الوزن كانت وراء أكل لحم الكلاب، ففي فترة سابقة، وخلال عصري المرابطين والموحدين، استخدم سكان منطقة القسطيلية لحم حيوان يسمى الحرذون، ولحم هذا الحيوان أكثر مما تأكله النساء لأنه يسمن ويخصب البدن9. ويعبّر أكل الحيوانات الممنوعة شرعا عن ضعف الوازع الديني لدى مجموعات الهمامة من جهة، وعن شيوع هذه الممارسات الغذائية من جهة أخرى. فقد درج الهمامة على تناول الخمور، بمختلف أنواعها، فقد ذكر بعض الرحالة أنهم كانوا شاهدين على تقديم الخمر في مائدة خليفة قفصة10. مما يعني تنوع المائدة في جهة قفصة والهمامة، فإذا بدأت الفئات الحضرية في الإقبال على المستهلكات الوافدة، مثل الخمر والسكر والقهوة، فإن البدو عوّلوا بشكل أساسي على عائدات الطبيعة في نمطهم الغذائي.

ورغم شيوع بعض الأمراض الخاصة بسكان الواحات11 فقد أشار الرحالة أن غالبية البدو يبدون في صحة جيّدة، ولا يتأثرون بالبقاء أياما دون طعام، فلا ريب أن العيش في فضاء مفتوح (الخيمة) يمنع عنهم الأمراض، مما يؤكد قدرة الهمامة على التصدي لبعض الأوبئة، غير أن تواتر الأمراض دفع الهمامة إلى البحث عن علاجات من خلال الفضاء الطبيعي المحيط بهم.

علاج الأمراض والأوبئة:

1)     التداوي بالأعشاب الطبية:

يعكس ما سلف ذكره، تمكن الهمامة من حسن استثمار الطبيعة من خلال تسخير الأعشاب للتداوي. في هذا السياق، يتناول الرجال مستحضرا من الأعشاب، باهض الثمن لذيذ المطعم، ويثير عندهم شهوة للنساء، فمن أكل منه أوقية واحدة قضى يومه جذلان فرحان، دون أن يخشى عاقبة ما، ويقال أن أهل تونس أخذوا سر هذا العقار من الأتراك12. 

علاوة على طلب الوقاية من العلل الظاهرة والباطنة فقد أطنب الهمامة في استعمال النباتات المتوفرة لعلاج بعض الأمراض، من ذلك اتخاذ الحلبة كعلاج لجملة من الأمراض، فبعد رحي حبات الحلبة يضاف إليها السمن ثم يمزجا ويطبخا معا لتنظيف الأمعاء من الأدران، وتستعمل كذلك في حالات الإسهال والحمى. ولعلاج مرض الصفراء يقوم البدو بتصفية الربّ واللبن وشربهما على الريق لمدة سبعة أيام متتالية حتى تذهب الصفراء عن البدن. وعندما يقرب موعد زفاف الفتاة النحيلة ولزيادة تصفية جسمها، فتقوم بتغلية الحلبة ثم تسحق ويضاف إليها دقيق الذرة ويطبخا بحليب البقرة وقبل أكله يضاف إليه العسل، أما الفتاة التي لا تجد حليبا أو ذرة فتستعيض عن هذه الوصفة بأوراق نبات الدرياس وحفنة من الشعير13. 

*جدول بالأغذية والنباتات التي يستعملها البدو كدواء:

المادة المستعملة العلاج كيفية الاستعمال
العسل والملح تأخر نطق الصبي دهن اللسان
الثوم والعسل إخراج البلغم وقتل الدود يخلط ويشرب على الريق
الثوم والعسل والملح البواسير يعجن ثم يوضع في المكان الرطب للبواسير
الحبة السوداء والعسل خلطهما وأكلهما على الريق آلأم المفاصل
قشرة السمك الحروق البليغة ينزع جلد السمك ويوضع كضمادات
الفلفل الحار الحمى وصعوبة التنفس يؤكل نيئا
الخل البارد يقطع رعاف الأنف يقطر في الأنف
الحلبة والسمن إطلاق عسر البول وتفتيت الحصى مزجهما وطبخهما ثم أكلهما
الخل قطع الربو يعصر ويشرب في الحال باردا
القرنفل يطرد الريح ويقوي المعدة ويطرد الرطوبة يأكل حارا
اللبان الذكر يقوي المعدة يصفى ثم يشرب حارا يابسا
الزنجبيل يعالج السعال والرئة يطحن ويمزج مع الحلبة ويؤكل ليلا

وعلى ضوء ذلك، تمكن البدو من اكتساب تجربة تسخير مختلف المواد الطبيعية في علاج بعض الأمراض المألوفة، فأثناء عبور بعض الرحالة لمجال بادية المهاذبة صادفتنا امرأة لدغت بأفعى قرنية كبيرة، وكانت هذه المرأة ممددة في خيمتها الرثة وحذوها مجموعة من العجائز «السحرة» بصدد مداوتها، فقمن بذبح كلب وغمس دمه مع الزيت وباشرن دهن جسم الملدوغة، ثم باشر هولاء الأطباء الرحالة مداوتها، وبرأت المرأة تماما من إصابتها ولكن لا نعرف هل بسبب تطبب النسوة أم بطب الرحالة14.

وخلال جرح أحد الهمامة يستعمل السمن الساخن على موضع الجرح ويدهن به داخل الجرح حتى يلتئم، أما الرعاة فكانوا يعمدون إلى وذح الشاة15 فيحكونها بقطعة صوف ثم يضعون الصوف على مكان الجرح، وكان الرعاة كذلك يستعملون شحم الماعز كدواء للحروق وللجروح. وإذا كان الجرح متقرحا فيقع رحي الحلبة ومزجها بالسمن ثم تكبس على الجرح لعدة أيام. أما علاج الشقيقة فمن خلال خلط الليمون والزعفران والخل وماء الورد يطلى به الصدغان، ثم يكبس الرأس بعصابة.

نستشفّ من هذا الجدول تمكن الهمامة من حسن استثمار الطبيعة من خلال تسخير الأعشاب للتداوي، ولكنهم برعوا كذلك في تسخير الطبيعة لغايات تجميلية.

2)    التجميل والزينة بموارد الطبيعة:

يجدر بنا الإشارة إلى أن التجميل مسّ الإناث والذكور سواء بسواء، مع تسجيل فروقات في أهداف كلا الجنسين. ومن ذلك الاختلاف البيّن في النمط الغذائي بين الرجال والنساء، فالنساء قد ركزّن على الأغذية التي تضفي النضارة على أجسامهن، علاوة على ذلك فقد ركّزت النساء على الأطعمة التي تزيد من بدانتهن، لأن المقياس العام لجمال المرأة يرتبط بشكل كبير بمدى اكتنازها للحكم أو ما يعبّر عنه بـ«الصحة». أما الرجل فيأكل الأطعمة التي تزيد من قوته الجسدية والجنسية، فالقوة البدنية كانت شرطا ضروريا للرجل، اعتبارا لطبيعة النمط المعيشي القائم على القوة الجسدية. زيادة على ذلك، فالفحولة كانت ركنا أساسيا في اهتمامات الرجل، لذلك فقد اقبل ألهمامة على أكل خصية الذبيحة الذكر بعد تجفيفها ليتمتع بأكثر نشاط جنسي.

في هذا السياق، يتناول الرجال مستحضرا من الأعشاب، باهض الثمن لذيذ المطعم، ويثير عندهم الشهوة للنساء، فمن أكل منه أوقية واحدة قضى يومه جذلان فرحان، دون أن يخشى عاقبة ما، ويقال أن أهل تونس أخذوا سر هذا العقار من الأتراك16. في المقابل، تفننت النساء في تسخير الطبيعة في الزينة، إذ يتم طلي الوجه والشعر بالطفل الذي يضفي نضارة على الوجه، علاوة على ذلك وعند استحمام المرأة فإنها تخلط الماء بعود القرنفل والخزامة لتبقى رائحتها عطرة. وتستعمل الحناء كدواء وزينة في نفس الوقت، فتخضيب الشعر بالحناء مثلا يساهم في تغذية الشعر وفي إكسابه لمعانا، زيادة على أن الحناء تساهم في علاج آلام المفاصل.

وفي ضوء ذلك، احتفظ المجتمع التونسي بجملة من العادات والتقاليد، المتفاعلة مع الفضاء القبلي وخصوصياته، إذ تم استعمال اللبان والزعتر لإعطاء الوجه نضارة، وماء مرارة الذبيحة لمعالجة بثور الوجه، ومزج الطحين والحليب الطازج لوقاية الجسم من الحرارة المرتفعة، وتغلية زيت الكراث17 لوقف شيب الشعر، ومعالجة تساقط الشعر من خلال عجن دود الأرض وحكه على فروة الرأس. 

أنتجت جملة هذه المظاهر شخصية قبلية متموجة متماهية مع متطلبات كل عصر، مما انعكس في النمط المعيشي الفردي والجماعي، فقد تميزت المرأة الهمّامية بالاهتمام بجمالها، إذ تجمعها علاقة موّدة مع الشباحة (المرآة) وتميّزت كذلك بمعرفتها بطرق استخراج الخضاب والمساحيق من التربة والأشجار الجبلية، فتستعمل الجبس والرماد لإزالة الشعر، كما تستعمل الكحل والحرقوس والسواك والطين والجدرة (خليط من الخزامى والقرنفل) لزيادة جمال الشعر ونظارة الوجه. وقبل استعمال الحرقوس يتم مزجه بالماء بواسطة المرود ثم يقع تمريره على الوجه تستخدم قذاة الحلفاء للقيام ببعض الرسوم فوق الرموش. والحرقوس هو وقف على النساء المتزوجات، وخاصة خلال الفترة الواقعة بين الزواج والولادة الأولى، وتتكفّل الحنانة بتجميل النساء وتكون عادة من عجائز العامة. 

وقد يكون البربر المستقرون في جبال المجال الذي استقرّ به لاحقا الهمامة أوّل من تعاطى الوشم، إذ كانوا لا يزوّجون بناتهم إلا وهنّ موشمات. وينجز الوشم بعد سلسلة من الغرزات والحزّات الجلدية التي تمكن من نشر قليل من السخام (رماد القدر) بين الأدمة والبشرة وقطعة من الصوف، وتنطلق العملية بوخز الجلد ثم وضع السخام على الخدش، ثم يدعك الجرح بزيت الزيتون وأوراق العنب. وسادت لدى نساء القبيلة عادة وخز جلود أبنائهن وبناتهن منذ طفولتهم، إنه وشم الحماية المسمى عيّاشة، ومن المهم الإشارة هنا إلى ربط سيلان الدم بالبركة وزوال الشرّ «سال الدم، فات الهم»، فالوشم كان من الطقوس السحرية ونوعا من التمائم الدائمة، ودواء لعلاج ألم كان بالإمكان طرده بطريقة مغايرة وهو زخرف جمالي للجسد. كما يكتسي الوشم طابعا طبيا إذ من شأنه التخفيف من الألم وطرد الأرواح الشريرة وخاصة تلك التي تحوم حول المولود الصغير حسب المعتقد الشعبي.

الخاتمة

وجمّاع القول أن أبرز التداعيات التي تحدثها الجوائح الطبيعية يمكن ذكر ما يشيعه الوباء من الشك والخوف والعطالة الفكرية والنزوع نحو الفردانية، في هذا السياق سقنا هذه الخطاطة والتي تتناول أساسا دور الأوبئة في تشكيل الشخصية الجمعية، سياسيا واجتماعيا. وقد اخترنا الحقبة الحسينية الحديثة مجالا للبحث، لشيوع ظاهرة الأوبئة في هذه الفترة من جهة، ومن جهة أخرى فقد بقيت تداعيات الوباء، على ذهنية السلطة والمجتمع، ماثلة حتى فترة متأخرة من تاريخ تونس. 

فمن شدة وطأة هذه الأمراض على المجتمعات درجت بعض الشعوب، ومنها تونس، بالتحقيب بالأوبئة: فيشار إلى سنة ما بالعام الأصفر، وعام الوباء، وعام الفناء، وتحتفظ الذاكرة الجماعية ببعض ملامح تأثيرات الوباء من خلال الأنوماستيكية (علم الأسامة) التي تزخر بتسمية المواليد الجدد بـ«العايش والعايشة»، والتي تكشف عن تفشي الموت في صفوف المجتمع، مما جعل السواد الغالب منهم يتوسلون للمواليد الجدد العيش والنجاة من الوباء.

وتماشيا مع ما تم ذكره، فقد هرع عموم التونسيين إلى التطبب لمعالجة الأمراض المألوفة، في حين عوّل على الميتافيزيقا والروحانيات للتخلص من كل عارض يصيبهم، مما عكس ذهنية جماعية تميل إلى الاعتقاد الميثي ومنصرفة عن التنظير والتأمل العقلي. ورغم حالة الكفاف الحضاري ولكنه بيّن كذلك قدرة السكان على استثمار الطبيعة من أجل معالجة الأمراض، مما يعكس حسن تفاعل السكان مع البيئة الطبيعية.

وقد كشفت ردة فعل السياسي زمن الوباء عن جملة من الدلالات السياسية منها التشجيع على التدين الشعبي وهو الأمر الذي يعاضد القناعات السياسية التي تريد الطبقة الحاكمة تسويقها عبر سرديات الفقهاء ومؤرخي البلاط الذين ينهضون بالتحكم في الذاكرة18. في كل مرة كان الوباء يعصف بالأرواح وينحسر دون البحث عن تفسير منطقي عقلاني، فقد كان المسلمون يأنفون من تشريح الجثث والاستفادة من الفيروسات الموجودة بها، باعتبار أن إكرام الميت دفنه حسب ما ينصّ عليه الأثر الديني، دون أن تعمل تسخر التراث لغايات نفعية دنيوية.

 

 

 الهوامش 

1.    إشراف يوسف كرباج ومنفرد كروب، تأملات في الشرق: تقاليد الاستشراق الفرنسي والألماني وحاضره، ترجمة عدنان حسن ومحمد صبح، شركة قدمس للنشر والتوزيع، بيروت 2006، ص 10.

2.    يعرض ماكس فيبر في سوسيولوجيا السيادة الأشكال الأساسية للسيادة ويدرج تحتها الظواهر التاريخية المختلفة جدا، وفي أثناء ذلك يقفز بسهولة من الحضارات القديمة المتقدمة نحو عالم الدول المتحضرة في القرن التاسع عشر، ومن ثقافات القبائل التي لم تكتشف بعد إلى تاريخ نظام الطوائف الدينية النائية، فالحدود بين الحقب والبلدان والحضارات تبدو كأنها غير موجودة. فيبر (ماكس)، الاقتصاد والمجتمع: الاقتصاد والأنظمة الاجتماعية والقوى والمخلفات: السيادة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت 2015، ص 46.

3.      Juillet saint-lager (Marcel), La régence de Tunis; géographie physique et politique ; description général, gouvernement, administration, finances, Juillet Saint Lager Editeur, Alger 1874, p 17.

4.       في هذا الصدد يمكن ذكر وصف عادات وتقاليد بربر الجزائر طوال السنة. 

    -    Servier (Jean), Tradition et Civilisation Berbères, Editions du Rocher, Monaco 1985, 520 p.

5.      Dunant (Arsène), Ethnographie tunisienne, in Bulletin de la Société d’Anthropologie de Paris, 4 eme série, Tome 7, 1896, pp 393-396. 

6.      Bardin (Pierre), Les populations arabes du contrôle civil de Gafsa et leurs genres de vie, in IBLA, 2.3.4 trimestre, Année 1944, p 23.

7.       الحشايشي (محمد بن عثمان)، العادات والتقاليد التونسية: الهدية أو الفوائد العلمية في العادات التونسية، دراسة وتحقيق الجيلاني بن الحاج يحي، تقديم محمد اليعلاوي، دار سيراس للنشر، تونس 1996، ص 37.

8.       الناصري (أبي عبد الله محمد بن عبد السلام)، الرحلة الناصرية الكبرى، دراسة وتحقيق المهدي الغالي، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية 2013، ص 113.

9.       بان (محمد علي)، أنواع الأطعمة والأشربة في بلاد المغرب العربي عصري المرابطين والموحدين، مجلة كلية التربية للبنات، جامعة بغداد، المجلد 18، سنة 2007، ص 2.

10.      Duveyier. (Henri), Sahara Algérien et Tunisien, journal de route de Henri Duveyier, publié et annoté par Charles Maunoir et Henri Schimer, précédé d’une biographie de Henri Duveyier et Charles Maunoir, Paris 1905, p 79.

11.       يمكن أن نذكر مرض ( le Varan du Désert (Varanus Grisensالذي يصيب سكان الواحات.

    -    Archive de l’institut Pasteur de Tunis, Protectorat Français, Gouvernement Tunisien, Direction de l’Agriculture et du Commerce, Janvier 1907, Tunis 7907, P 32.

12.    كربخال (مارمول)، إفريڤيا، نفس المصدر، ج3، ص23.

13.       من أغرب الشهادات الشفوية التي سمعناها من فاطمة بوزياني من سيدي بوزيد بتاريخ 21/4/2021 أن المرأة النحيلة تأخذ شحم ذيل الورل وتخلطه مع الكمون ودقيق القمح وتعجنهما وتطعمهما لدجاجة لمدة سبعة أيام ثم تقوم بذبح الدجاجة واكلها، فتسمن المرأة في مدة قصيرة. ويمكن كذلك للمرأة أن تقوم برحي حبات الحرمل ومزجه بدقيق القمح وطبخهما واتخاذه علفا لدجاجة لمدة سبعة أيام ثم ذبح الدجاجة وأكلها.

14.     Tirant. G & Rebatel. F, Notes médicales recueillies en Tunisie, Association Typographique, Lyon 1874, P 4-6.

15.       الوذح هي الدهون المتراكمة على الجلد الخارجي للشاة. 

16.       كربخال (مارمول)، إفريڤيا، نفس المصدر، ج3، ص23.

17.       الكراث هو البصل البري.

18.       لاحظ في هذا الشأن أن الانتماء العرقي لبعض مؤرخي البلاط جعلتهم لا يطنبون كثيرا في وصف الوباء في مقابل التركيز على ما قام به الحكام من الصدقات للتخفيف على الرعية: ففي عهد أحمد خوجة وقع في زمانه غلاء عظيم وبذل صدقاته للفقراء والمساكين في كل يوم من الخبز، وفي أيامه وقع فناء عظيم ودام سبع سنين. الخوجة (حسين)، الذيل لبشائر أهل الإيمان في فتوحات آل عثمان، المطبعة الرسمية بحاضرة تونس، تونس 1908، ص6...إن انحدار ابن الخوجة من اللفيف التركي جعله لا يطنب كثير ا في وصف تداعيات الوباء على السكان والتركيز فقط على تبرع الحاكم بالخبز لفائدة السكان.

 

 

الصور:

1.    https://i.pinimg.com/736x/a9/28/4e/a9284ef70b8be838f0ff5c3699bcb263.jpg

2.    https://cdn.teb21.com/thumb/1280/115/the-benefits-of-herbal-medicine.webp

 

أعداد المجلة