سردية الزواج في بلدة بيت فوريك: المفهوم والدلالة
العدد 58 - عادات وتقاليد
تمهيد:
يُعتبر الزواج من المُمارسات الاجتماعية الرئيسية في المجتمعات كافة، فهو فعل «ترابطي» يجمع بين الذكر والأنثى، يقول ابن منظور: «وكلُّ شيأين مقترنين، فهما زوجان»(1)، ولأن القيام بذلك الفعل سلوك اجتماعي جماعي مشترك، فإنّه مرتبط بعادات وتقاليد وطقوس خاصة وعامة، وذلك وفق البيئة التي ينشأ فيها ذلك الفعل. والمطلع على الثقافات العالمية يجد أنّ الزواج عبارة عن «طقس» مرتبط بالدين والثقافة البدائية، بتعبير إدوارد تايلور، أي الثقافة المرتبطة بالتكوين الحضاري للمجتمع نفسه، ولذلك، فهو يُعرّف الحضارة بأنّها: «الكل المعقّد الذي يحوي المعارف والمعتقدات والفنون والقوانين والأخلاق والتقاليد وأية طاقة أخرى أو عادة اكتسبها الإنسان من خلال كونه عضواً في مجتمع»(2)، في إشارة إلى أنّ التطور البشري قائم على «احتواء» العادات والتقاليد واحترامها ودعمها؛ بهدف الازدهار من خلالها، وذلك ما يمكن ملاحظته في أوروبا، على سبيل المثال، فكل قرية لها عاداتها «المُقدسة» التي يحافظون عليها، ويجعلونها وكأنها «جزء» من تكوينهم «الذاتي».
إنَّ التطور الذي يشهده العالم أجمع، لم يثن المجتمعات من الحفاظ على بعض سلوكياتها البدائية التي تسهم، بشكل مباشر وغير مباشر، في ترسيخ «هويتها» الوجودية، ومع ذلك فقد كان لذلك التطور دور في «تغيير» التعامل مع التراث الثقافي لتلك المجتمعات؛ فلم يعد الزواج في فلسطين، على سبيل المثال، مقترنا بالسهرات الليلية وحفلات «المشاعل» والمشي على الأقدام، والغناء الوحودي... وغيرها، وإنما أصبح هناك غناء موسيقي معاصر، ولباس تقليدي عالمي مشترك، الفستان الأبيض للعروس، والبدلة السوداء للعريس، وصالات الأفراح الضخمة، والدعوات الكبيرة... الخ، وفي ظل هذا التشارك يبقى هناك نوع من «التضمين» لبعض ما تبقى من العادات والتقاليد القديمة للعرس الفلسطيني، مثل: طقوس تناول طعام الغذاء، وحمام العريس، وبعض الأهازيج والأغاني الشعبية، وبالتالي فإنّ التطور المعاصر لا يعني هدم التراث وإزالته، وإنما يعني تغيير في كيفية إقحامه في هذا الزمن.
ولذلك، تأتي هذه الدراسة «لتوثيق» طقوس العُرس في بلدة بيت فوريك، التي لها طقوسها المشابهة بطقوس أعراس في القرى الأخرى، مع تغيير بسيط في بعض عاداتها وتقاليدها، وسيورد الباحث، بالتفصيل، كل هذه الطقوس، بهدف التعرف على ذاكرة القرية الفلسطينية، والاطلاع على الكيفية التي كان يُسعد فيها الناس أنفسهم في زمن يختلف كلياً عن الزمن الذي نعيشه، إنه «زمن الأطلال»، وفق تعبير مارك أوجيه، الذي يسهم في إعطاء التاريخ «حدساً» وقيمة(3)، تجعل منه «أيقونة» محملة بالدلالات والمعاني، التي تعبّر عن قيمته، وأهميته في زماننا.
تمتاز بلدة بيت فوريك، الواقعة شرق مدينة نابلس، مثل غيرها من البلدات والقرى الفلسطينية الأخرى بتراث ثقافي مدهش، يوثّق جزءاً مهما ًمن ماضيها، ويُعد الزواج عنصراً من عناصر ذلك التراث، الذي يعكس جانباً آخر من جوانب الحياة المعيشية في زمن من الأزمان، وتكمن أهمية دراسته في «توثيق» ما أطلق عليه «المرويات الشفهية» التي كانت تُستخدم في تلك المناسبة، والكشف عن «وقائع» حياة الفرح التي كان يعيشها الناس، والبحث في ذاكرتهم الجمعية، في السعي للحفاظ على هويتهم. وسنخصص هذه الدراسة للحديث عن عادات ذلك الزواج، بالاستناد إلى «الوثائق المروية» التي قمتُ بجمعها من كبار السن، وتحديداً من جدتي، حفظها الله، فاطمة أحمد عقل مليطات، ومن الحاج طاهر قاسم خطاطبة، رحمه الله، الذي توفي قبل شهور(4).
العُرس الفوريكي، عادات راسخة، وأهازيج تُغنّى
إنّ مفردة «العُرس» بضم العين، مفردة فصحية، وردت في لسان العرب بمعنى: اشتد، ولزم، وأدام(5)، وهي معانٍ دلالية تشير إلى المعنى المقصود للمفردة وهو الزواج والارتباط، بتأكيد دوام العلاقة والتزامها بين العروسين، الزوجين. وتلفظ مفردة «عُرس» في منطقة بيت فوريك بكسر العين وليس بضمّها «عِرِس»، وهي كلمة وصفية يُراد بها فعل الفرح نفسه، ولقب كل من الزوجة والزوجة، العروس والعريس، وهي الصفة التي ستلازمهما فترة شهر أو شهرين بعد الزّواج، وترتبط في مخيلة «الآخرين» بالسعادة والفرح والصفاء والنقاء، ولذلك نجد أن العريس في القرية يلازمه الطيب في حله وترحاله، فيقول الناس: مرّ العريس (فلان) من هنا، وها هو العريس، أو العروس... وهكذا.
إنّ طقوس الزواج تمر بمراحل مختلفة، توثق «بقاء» و«فناء» بعضها، ويرتبط ذلك، بشكل مباشر، بعامل «الزمن» الذي يعيشه الإنسان، فكلما تطور الإنسان وتقدم، فإنه يستغل تطوره وتقدمه في سلوكياته وتعاملاته مع إرثه، إما بإقحام ذلك التطور والتقدم فيه وإما بتجاهله، وهذه حقيقة جليّة في زمننا المعاصر. وفي بلدة بيت فوريك، ووفق الصور الفوتوغرافية التي حصلتُ عليها، والمرويات الشفوية التي دوّنتها من كبار السن، استنتجت أنّ طقوس الزواج الفوريكي شهدت تغيّرات واضحة بين فترة زمنية وأخرى؛ فطقوس الزواج مطلع القرن العشرين ليست هي نفسها في منتصف القرن أو في نهايته أو مطلع القرن الواحد والعشرين.. وهكذا، وإنما هي طقوس مختلفة وفق الحالة التي كان يعيش عليها الناس، وفي هذه الدراسة سنوثق مراحل الزواج الفوريكي التي شهدت «بقاءً» في الفترات الزمنية كلها تقريباً، ويمكنني أن أقسم تلك المراحل إلى ما يلي:
مرحلة البحث والاختيار «الطُلبة»:
هي المرحلة الأولى التي تبدأ مع بلوغ الشاب سنّ الزواج، الذي كان ثمانية عشر عاماً فما فوق، ليبدأ أهله بالبحث عن زوجة مناسبة تليق به، فتتولى والدة الشاب وشقيقاته مسؤولية الاختيار، حيث يذهبن إلى بعض البيوت المعروفة بالنسبة لهنّ؛ للبحث عن الزوجة المناسبة، والتي ينبغي أن تتسم بالصفات التالية: أن يكون ثمها زي خاتم سليمان (أن يكون فمها كخاتم سليمان)، أن تقول للقمر غيب تا اقعد مطرحك (أن تقول للقمر غيب حتى أجلس مكانك)، وأن تكون مثل عود الخيزران (أن تكون نحيفة)، .... وغيرها من الصفات التي توثق معايير اختيار الزوجة.
وإذا تم العثور على فتاة تنطبق عليها بعض هذه الصفات، تبدأ والدة العريس وشقيقاته بجس النبض، أو بما يعرف بــ «التعسعس»؛ أي محاولة معرفة القرار الأولي لأهل الفتاة، فإذا شعرت الوالدة والشقيقات بتجاوب إيجابي من أهل العروس، يقمن بالحديث مع والد العريس؛ حتى يُخبر كبير العائلة «المختار»، وبعض وجهاء العائلة نفسها والبلدة، للذهاب إلى بيت والد العروس؛ بهدف القيام بــ «قراءة الفاتحة»، وهناك يجتمع أفراد العائلتين _عائلة العروس والعريس- مع عدد من كبار البلدة، ويقرؤون الفاتحة، ويحددون موعداً زمنياً لــ «الجاهة».
تجدر الإشارة إلى أنّ عملية البحث والاختيار قديماً كانت مقتصرة على فتيات البلدة فقط، أي أنّ الزواج كان زواجاً «داخلياً» بين عائلات البلدة، وحتى أنه كان بين أبناء العائلة نفسها، والفتاة التي تأتي من خارج البلدة، يطلقون عليها اسم «غريبة»، أي أنها غريبة في عاداتها وتقاليدها عن أبناء البلدة، كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ طقوس البحث والاختيار التي أشرت إليها سابقاً شهدت تغيراً واضحاً؛ فلم يعد اختيار الزوجة مقتصراً على أم العريس وشقيقاته، بل أصبح العريس نفسه هو صاحب الاختيار، وهو الذي يقول لذويه أريد فلانة بنت فلان. بالإضافة إلى أنّ التطور التكنولوجي أسهم في «الحد» من استخدام مفردة «غريبة»، حيث أصبح التعارف بين الشبان أسرع، ما جعل الكثيرين من شباب البلدة يتزوجون من خارجها، والكثير من فتيات البلدة يتزوجن خارجها أيضاً.
الجاهة:
من المصطلحات الشعبية التي تدلل على الموروث الاجتماعي في العالم العربي تحديداً، وهو مشتق من الاسم «جاه»، أي «المنزلة والقَدْر»(6)، وقد يكون مستمداً من «الوجه»، الذي يدلل على تقدم خيرة الناس وأفضلهم، وبالتالي، فإنّه ينتمي إلى المصطلحات الرمزية المحمّلة بالدلالات الإشارية إلى «التقدم» بما هو حسن، من أصحاب الرفعة وعلية القوم، ولذلك يقولون «جيناكم جاهة» (أتينا إليكم بجاهة) بنبرة الفخر والاعتزاز بالذات، في إشارة إلى أنني أتيت إليكم ومعي خيرة أبناء عائلتي وبلدتي.
يبدأ القيام بطقوس الجاهة في بيت فوريك بعد «قراءة الفاتحة»(7)، حيث يُحضّر والد العريس جاهة رسمية تليق بمقامه ومقام ابنه وعائلته، فيقوم بعمل «عزومة»(8) لمخاتير البلدة، ولكل أفراد العائلة، ولأصحابه، ليذهبوا جميعاً إلى بيت والد العروس، الذين، بدورهم، يرحبون بهم، ويهللون ويسهلون، ويكون في استقبالهم والد العروس نفسه وأعمامها وأخوالها وأشقائها وباقي أقاربها؛ بهدف استقبال الجاهة بما يليق بهم أيضاً. وبعد ذلك يقوم أفراد من عائلة العروس بتقديم القهوة للحاضرين، إلا أنّ أهل العريس يمتنعون عن شربها، حتى يقوم أحد وجهاء الجاهة، من أهل العريس، ويقول: «جينا نطلب ايد بنتكم (فلانة) لأبنّا (فلان) على سُنّة الله ورسوله»، فيقف مقابله والد العروس أو أحد كبار عائلتها، ويرد قائلاً: «هي لكم، واشربوا قهوتكم»، لتُقرأ الفاتحة مرة أخرى، وتوزّع الحلويات، التي كانت من قبل عبارة عن «حلقوم» و«ملبس»، واليوم عبارة عن «كنافة» أو «شكولاته»، ويبدأ الحاضرون بعد ذلك بمبادلة المباركة للعريس وأهله.
بعد المباركة يبدأ موكب أهل العريس، من النساء، بالغناء، الذي يتضمن معنى «الشكر» إلى والد العروس وعائلته، لموافقتهم على تزويج ابنتهم إلى ولدهم، وتكوين علاقة «النسب» بينهما، أما مضمون الأغاني في هذا السياق فهو مدح كرم عطاء والد العروس، ومن الأمثلة على أهازيجهنّ، قولهنّ:
يا الله يخلف على أبوها يخلف عليه خطرتين(9)
طـلـبنـا النـسب منـه أعطانـا بناتـه اثنتين
وفي قولهن: «أعطانا بناته اثنتين» تعبير كنائي عن كرم والد العروس، وفضل عطائه.
ويواصلن مدحهنّ بالعروس ووالدها وأقاربها، قائلات:
نسايب، نسايب ديروا بالكم ليّ
وحنا(10) ما تبعنا الزين دوّرنا(11) على الأصيلة
نسايب، نسايب ديروا بالكم لينا
وحنا ما تبعنا الزين دوّرنا على الأهلية
نسايب، نسايب ديروا بالكم لينا
وحنا ما تبعنا الزين دوّرنا ع الفوريكية
وفي هذا المقطع الغنائي تعابير إيحائية إلى «قصدية» الزواج من هذه العائلة دون غيرها، فهم لا يبحثون عن الجمال وإنما عن الأصالة والحسب والنسب، الذي ربطنه كله بــ «الفوريكية»، تفاخراً بابنة البلدة.
عقد الزواج «كتب الكتاب»:
يُعرف عقد القران في بلدة بيت فوريك وفي غيرها من القرى الفلسطينية باسم «كَتب الكِتاب»، وهو ميثاق الزواج الرسمي الذي يوثق «ارتباط» الزوجين مع بعضهما، وفيه تُحدد شروط والد العروس المطلوب على العريس وأهله القيام بها، وتتمثل تلك الشروط بــ «المَهْر» (المُقدَّم والمُؤخّر)، وإضافة ما يُعرف بـ «هدم الخال» أو «هدم العم»، أي ثوب مخصص للخال أو العم؛ إشارة إلى إعلاء قيمتهما من منظور العريس وأقاربه، فالخال أو العم من العناصر المكوّنة لشخصية العروس، فهما الموكلان بتمثيل العروس وأهلها أمام الآخرين، وبالتالي، فإنّ شأنهما مهم في حفل الزواج، إلا أنّ هذا الطلب اندثر منذ عقود طويلة، وأضيف لعقد القران شروطاً أخرى، مرتبطة بطلبات العروس نفسها، مثل: استكمال دراستها إذا كانت طالبة جامعية...
أما مكان عقد القران فتغيّر بناء على المراحل الزمنية المختلفة؛ ففي البداية كان يتم في بيت العروس في البلدة نفسها، وبداية العقد الأخير من القرن الماضي وحتى 2008م تقريباً أصبح العقد في المحكمة الشرعية في نابلس، حتى تم تعيين آذن متخصص في البلدة بعد عام 2008م وحتى اليوم، والذي يأتي إلى بيت أهل العروس رفقة «الجاهة» ويعقد القران هناك. وبالعودة إلى الماضي، فبعد الانتهاء من «كَتبِ الكِتاب» يذهب أهل العروسين إلى مدينة نابلس، على اعتبار أنها قريبة جداً من البلدة؛ بهدف شراء صيغة الذهب، وتحديدا ما يُعرف بــ «الذُّبل»، وهما خاتمان صغيران، المخصص للعروس مصنوع من الذهب، وللعريس مصنوع من الفضة، ويعتبران رمزاً من رموز «الارتباط المقدس» بين الزوجين، وعلامة على علاقتهما أمام الآخرين، وبعد الانتهاء من شراء الذهب والثياب الجميلة، يذهبون إلى محال «الكُنافة النابلسية» العريقة، كعربون على بداية جميلة بين العروسين وذويهما أيضاً.
أما فيما يتعلق بــ «المهر»، فقد اختلف مقداره وتطور عبر الزمن، وذلك وفقاً للوضع الاقتصادي الذي كان سائداً في البلدة؛ ففي بداية القرن العشرين، كان المهر يُقدّر بــ خمس مجيديات، أي خمسة دنانير ذهب، أو رأسين من البقر، أو فدانين من الأرض، أو ما تيسر من ممتلكات، لمن افتقر النقود(12)، أما في فترة الثمانينات فقد تراوح مقدار المهر بين 1000-2000 دينار أردني تقريباً، وفي التسعينيات، تراوح بين 2000-3000 دينا أردني تقريباً، وحالياً يتراوح مقداره 3000-5000 دينار أردني، ونادراً ما يزيد عن هذا.
التلبيسة :
بعد «كَتب الكِتاب»، وعودة أهل العروسين من مدينة نابلس، وقبل غروب الشمس، تبدأ النسوة بالقدوم إلى بيت والد العروس للمشاركة في «حفلة تلبيس الذُّبل»، وعادة ما يُكنّ من المقربات، من الدرجة الأولى لكلا العروسين، وسميت هذه الحفلة بهذا الاسم «التلبيسة»؛ لأنه يتم فيها فعل تلبيس الخواتم، وهي حفلة تعريفية، تُعرّف أقارب العروسين على بعضهما البعض، وبمجرد دخول العريس، والبدء بتلبيس الذهب والذبلة، تبدأ قريباته بالغناء:
لبِّس يا عريس لبّس ما لك زعلان
غزالك على حدّك طلق(13) الريحان
لبِّس يا عريس لبّس ما لك مغموم
غزالك على حدّك طلق الليمون
لبِّس يا عريس لبّس ما لك زعلان
غزالك على حدّك لابس كردان(14)
وبعد ذلك يبدأن بالتعبير عن رأيهن بالعروس، وذلك في ألوان مختلفة من الغناء الشعبي، ومن ذلك، قولهنّ:
دليني ع دار أبوك يا بيضة يا نشميّة(15)
دليني ع دار أبوك يا بيضة يا مزيونة
وعدا عن صفات العروس: النشمية والمزيونة، فإنهنّ يصفنها أيضاً بالقمح المغربل الصافي، الذي يسهل طحنه، يقلن:
ما أخذتلك(16) يا شاطر لا صفرة ولا معلولة
إلا قميح مغربل حلاك للطاحونة
وأرى أنّ ربط الجمال بالقمح لم يأت للتعبير عن النقاء فحسب، إنما للتدليل على «النماء» والخصوبة أيضاً.
وفي خضم أوصافهن للعروس، يخصصن جزءا من أغانيهن لوصف والدها وأقربائها، كتوثيق لتقريب النسب بينهم، يقلن:
ما توخذه(17) يا ناس إن كانت منا
والقمر أبوها والهلال ابن عمها
خالتها يـا نـاس مـا هـي مثلهن
عمتها يا ناس مثل نجوم الطواري
وتبارك النساء للعريس بحظّه القوي في اختيار هذه العروس التي تمتاز بالجمال والطيبة، وذات الحسب والنّسب، فيقلن مُشبهّات العروس بالغزالة الجميلة التي يصطادها الصيّاد في البراري، في تعبير استعاري عن شدة جمالها ونقائها:
وسّعوا الميدان وصلوا ع النّبي
صادها محمد أبو الحظ القويّ
وسّعوا الميدان وصلّوا ع الرسول
صادها محمد أبو عيون السّود
وبعد مدح العروس وأهلها، تنتقل النسوة لمدح والد العريس، فيقلن:
جينا(18)ع دارك يا بي محمد جينا ع دارك
ورّينا(19) رجالك يا بي محمد ورّينا رجالك
جينا ع سهلتك يا بي محمد جينا ع سهلتك
ورّينا عزوتك يا بي محمد ورّينا عزوتك
ويواصلن غناءهن ممسيات على والد العريس:
يا مساء الخير من الحارة مرّينا
مسا أبو محمد عنّه من أهلينا(20)
يا مساء الخير من الحارة مركنا
مسا أبو محمد عنه من يركنا(21)
أي أنهن يعتززن بنسب أبو محمد وأنه من عائلاتهن ومن أصلهن، تجدر الإشارة إلى أن الفخر والاعتزاز بالذات من الموضوعات الشائعة في الأغنية الشعبية الفلسطينية كما سنرى.
والمُلاحظ أنّ صورة الأب جليّة في الأغاني الشعبية السابقة، وفي غيرها من الأغاني الشعبية الأخرى، كما سنرى، وذلك يعود إلى «أبوية» المجتمع العربي عامة والفلسطيني خاصة، فالأب هو «عمود البيت» و«السند» الذي يوكل إليه الأمر كله، وبالتالي فهو «أساس العائلة وبطلها»(22)، والمسؤول عن كل ما يتعلق بأمور البيت سواء الداخلية منها أو الخارجية أيضاً. وفي الزواج، تحديداً، تتجسد صورة الأب داخل المجتمع، حيث «الاعتماد عليه» في تمويل الزواج مادياً ومعنوياً أيضاً، وذلك بحثّ أقاربه وأولاده وإخوانه على تقديم العون والمساعدة في كل الترتيبات المتعلقة بفرح ابنه.
وقبل الانتهاء من «التلبيسة»، يختمن بأهزوجة حماسية، يقلن فيها:
ليمون يمّه ليمون مدلّى ع علاينا
لا تقولوا محمد غريب هذا من أهالينا
فكوس يمّه فكوس مدلى ع أمه جنوس جنوس
لا تقولوا محمد غريب هذا في حدّ العروس
وبعد الانتهاء من «التلبيسة»، يعود أقارب العروسين إلى بيوتهم، ويبقى الأهل المقربون، والد العريس ووالدته وأخواته وإخوانه؛ لتناول طعام العشاء، كعربون النسب، وبعد ذلك، تبدأ «فترة الخطوبة» التي تُحدد مدتها، عادة، مدى جاهزية العريس في تجهيز منزله وتأثيثه بكل ما يلزم، ولكن، وبعد الاستفسار من كبار السن، أكدوا لي أن فترة الخطوبة، قديماً، كانت تتراوح، في الأعم الأغلب، مدة أسبوع إلى شهرين أو ثلاثة تقريباً، وفي حال أعلن العريس جاهزيته، تبدأ ما أطلق عليه «ليالي الفرح».
ليالي الفرح :
تبدأ ليالي الفرح فور الإعلان عن جاهزية العريس، وتحديد موعد الزواج، والبدء بدعوة «المعازيم»/ «المدعوين» لحضور مراسم الزواج البهيّ، إذ يحدد والد العريس أسماء المدعوين، ويكلف بعض شبان عائلته بدعوتهم، وقديماً، كانت الدعوة تشمل أهالي البلدة كافة؛ بسبب عدد السكان القليل، أما اليوم، فأصبحت الدعوة مقتصرة على المُقرّبين والأصحاب والجيران، أما والد العروس فيتكلف هو الآخر بدعوة أقاربه على ما يُسمى في البلدة بــ «طَلْعِتْ البنت/ العروس»؛ أي استقبال أهل العريس فور القدوم لأخذ العروس إلى بيت عريسها، وتكون الدعوة على هذه الصيغة: «عليكم جيرة ع طلوع البنت»، وعادة ما يعطي المدعوون مالاً نقدياً كــ «نقوط» للعروس.
وقبل العرس بأيام (قديماً كانت التعليلة قبل العرس بأسبوع، واليوم، بيوم أو يومين فقط) تبدأ النسوة بــ «التعاليل»، جمع «تعليلة»، وهي مفردة مرتبطة بالموروث الشعبي، يُقصد بها إعلان مراسيم الزواج في بيت والد العريس، وهو اسم دلالي يمكن أن أفسره بمعنيين اثنين: المعنى الفصيح، والذي يقصد به «التلهي»، لقول ابن منظور: «تعلل به أي تلهى به»(23)، وهو معنى متوافق «وحالة» الفرح التي تعيشها النسوة، على اعتبار أنّ التعاليل عبارة عن مكون لمظاهر السعادة وإعلان لبدء مظاهر الفرح، أما المعنى العاميّ، فأرى بأنه اسم مشتق من معنى «العلوّ» الذي يرتبط بمعنى «السعادة»، ولذلك، كانوا يسألون أحداً: كيف حالك؟، يُجيبهم: «عال العال» أو «فوق الريح»، وإذا أرادوا أن يستفسروا عن الوضع الاقتصادي لشخص ما، يأتيهم الردّ بأنّ وضعه «فوق، فوق» أو «فوق الريح» أيضاً، وبالتالي، فإنّ التعاليل عبارة عن طقس دلالي، يتضمن معنى السعادة، والقيام به «إشارة» إلى فعل الفرح المولّد لتلك السعادة، ويمكنني أن أسميه «افتتاحية العرس».
وفي فترة «التعاليل» يبدأ الرجال والنساء بجمع «الحطب»، وجلب أواني طهي الطعام «الوليمة»، وطلب اللبن «الرايب» من ملاّكي الأغنام في البلدة؛ وذلك بهدف التحضير لإعداد أكلة «المنسف» للمدعوين على الفرح، وهناك قسم آخر يحضّر الحطب ويضعه بالقرب من الساحة المخصصة لإحياء حفلة سهرة الرجال؛ بهدف إضاءة المكان، على اعتبار أن الكهرباء «القُطرية» لم تكن موجودة في البلدة حتى عام 1995م، فكانوا يعتمدون في توليد الكهرباء لمنازلهم على «مواتير» الكهرباء، التي لا تطيل فترة الإضاءة الليلية، فكان على صاحب العرس أن يحضر البديل، حال إطفاء هذه المواتير، فكانوا يجلبون كميات كبيرة من الحطب ويوقدونها بجانب تلك الساحة، كما أشرت آنفاً.
وفي موعد العرس المُقسّم زمنياً إلى يومين اثنين:
- يوم الخميس (اليوم المخصص لحناء العروس والعريس)،
- ويوم الجمعة (اليوم المخصص لحمام العريس وزفته وتناول طعام الغداء وحفلة الصمدة).
وكان هذان اليومان مقدسان في البلدة لإحياء الأعراس فيهما. ويمكنني تقسيم مراسيم العرس في هذين اليومين إلى ما يلي:
1) المشاعل
مع غروب شمس يوم الخميس، تستعد النسوة من أهل العريس للذهاب إلى بيت العروس؛ حاملات معهنّ صحن الحنّاء المُزيّن بالورود وعدد من «المشاعل» لإنارة دربهن فور حلول المساء، وعند وصولهن بيت والد العروس، يبدأن بأهازيجهن الشعبية الممزوجة بالسحجة الفلسطينية الجميلة، ويقلن:
منين جبت الحنّا محمد يا ريان
من كل عطر ويركه فريت كل الخان(24)
منين جبت الحنا محمد يا مزيون
والحنا من عنّا والبدلة من طمون
منين جبت الحنا محمد يا عريس
والحنا من عنا والبدلة من باريس
منين جبت الحنّا محمد يا فلاح
والحنا من عنا والبدلة من الشام
وللحناء «دلالة» على الألفة والمحبة، ولم تكن الحنّاء مقتصرة على العروسين فقط، وإنما كان التخضيب بها عادة عند النساء، على اعتبار أنها، كما قالت لي جدة والدي رحمها الله، تأتي بالبركة، وتولّد السعادة، وتجعل المرأة «مزيونة» في عين زوجها، إلا أن ثنائية «الحناء/ الزواج»، هي الثنائية الشائعة في المجتمعات العربية كافة، فالعروس والعريس يتباهيان بعد تخضيب أيديهما بالحنّاء، وكأنه فعل «إشاري» إلى «سعادتهما» وإلى «وجودهما» أيضاً كزوجين جديدين، كما يرى بعض الباحثين أن ليلة الحناء «تحتوي في مضامينها (وظائف كامنة) تمثلت بوظيفة إعداد العروسين وتهيئتهما نفسياً واجتماعياً لمرحلة جديدة من حياتهما، بالإضافة إلى الوظائف الظاهرة كالوظيفة الاجتماعية، حيث يشكل العروسان، على الدوام، مركز اهتمام المجتمع، وكذلك (الوظيفة التزيينية) التي يتمثل دورها بإظهار مفاتن العروس ومكامن جمالها بين قريناتها في ليلة زواجها، ناهيكم عن (الوظيفة الطبية) للحنّة في علاج بعض الأمراض الجلدية وغيرها»(25).
ومرّ تزيين العروس بمراحل مختلفة أيضاً، فكانوا قديماً يخضبون يديها وقدميها وشعرها (لاعتبارات طقوسية تدلل على قداسة الشعر في الموروث الشعبي)، ثم اقتصر الأمر على تخضيب اليدين بلفهما بقطعة من القماش، ثم أصبحت «موضة» تزيين اليد بالحروف والأشكال الجميلة باستخدام الإبرة، على سبيل المثال. وبينما تُزينّ يد العروس، فإنّ باقي النسوة يهزجن:
حنّاكي من مصر شريته
عتتشفوفه(26)البيض خضبته
حنّاكي من مصر يا زينة
عتتشفوفه البيض حطيطته(27)
حنّاكي من عمان شريته
عتشفوفه البيض حنّيته
ويواصلن غنائهنّ قائلات:
يا أم الخناقة يا فاطمة
يا أم الخناقة يا هي(28)
وخيّك في الحارة آجالك(29)
وخيّك في الحارة يا هي
يا أم عين وعين يا فاطمة
يا أم عين وعي يا هي
خيّك في الصفين آجالك
خيّك في الصفين يا هي
يا أم الشعر الأشقر يا فاطمة
يا أم الشعر الأشقر يا هي
خيّك في العسكر آجالك
خيّك في العسكر يا هي
وبعد الانتهاء، تعود النساء، من أهل العريس، إلى البيت الأقرب على الساحة التي سيتم فيها سهرة حناء العريس؛ بهدف الاستماع إلى أغاني الرجال ومشاهدة رقصاتهم الشعبية المتنوعة.
2) حفلة سهرة الحناء للرجال
عُرف قديما في بلدة بيت فوريك تخصيص عدد من الساحات للأعراس، حيث كان لكل عائلة الساحة الخاصة بها، وتتسم هذه الساحة بمساحتها الواسعة وبقربها المكاني من بيوت عائلة العريس، وقبل موعد السهرة بساعات، يبدأ أقارب العريس بتحضير الكراسي للضيوف، وإعداد القهوة «السادة» أو العصائر، بالإضافة إلى تحضير عدد من علب السجائر؛ بهدف تقديمها للحاضرين، إلا هذه العادة لم تدم طويلاً وانتهت منتصف تسعينيات القرن الماضي، وبعد صلاة المغرب يبدأ «المعازيم» بالتوافد إلى ساحة العرس، ويبدأ «الزّجالة» بالغناء، ومن أهم الزّجالة المعروفين في البلدة: محفوظ الباكير، ويوسف عبد أسعد خطاطبة، ومن أشهر الدبيكة: عبد الهادي غلمي، وعبد الرحمن مصطفى زلموط، ويوسف مصطفى صالح، وتوفيق أبو هليل، ومن الذين كانوا يعزفون على الشبابة: عبد الرحيم عوض نصر الله، وحسين اسعيد مليطات، ومحمد الخشمان مليطات.
وأشهر ألوان الغناء الشعبي المعروف في أعراس البلدة، وأعراس فلسطين عامة: الميجنا، والعتابا، والظريف في الطول، ويا حلالي ويا مالي، وغيرها، وبعد ذلك، ظهرت ألوان أخرى من ذلك الغناء، مثل: الشروقي، والفرعاوي، ولكن من أكثر أشكال التعبير الغنائي الشعبي تداولاً وشهرة في العرس الفوريكي:
السحجة:
تُعرف السحجة بأنها من «العلامات» المؤسِّسة للفن الشعبي الفلسطيني، فهي «رمز» تراثي ثقافي مهم، يُراد بها التعبير عن الفرح الكامن في وجداننا، فأن تضرب كفيّك ببعضهما، مخرجاً إيقاعاً خاصاً يتناسب وإيقاع الأغنية الشعبية المسموعة، دليل على «تأثرك»، وتفاعلك مع جوّ الفرح الذي أتيت إليه، ويتكون فعل السحجة بالاستماع إلى الأغاني المرتبطة بها، مثل: يا حلالي يا مالي، ويا هلا وحيّ الضيوف، والمربع، والمقسوم، والمثمن...وغيرها.
فتبدأ سهرة العريس بأغنية «يا هلا حي الضيوف»، وهي «اللازمة» التي ستتكرر في الأغنية كلها، كترحيب بالوافدين والمشاركين لطقوس هذا الفرح، ويبدأ الزّجال قائلاً:
يا هلا حيّ الضيوف بالرّماح والسيوف
والغالي بظله غالي وقلبي ع الغالي مشغوف
اللازمة
وضيوفك خي أبو محمد بالميّات والأولوفي
اللازمة
لجل الغالي ولجل ضيوفه ذبح ستة عشر خاروف
اللازمة
وبعد ذلك، تبدأ أغاني الميجنا والمربع والظريف في الطول، وغيرها ومن أغاني السحجة التي كانت تُغنّى في العرس الفوريكي، تلك الأغاني التي يغلب عليها طابع «التأثّر» بالموروث الشعبي الخاص بالبلدة نفسها، وبالموروث الشعبي العربي بشكل عام، ومن الأمثلة على هذا اللون من الغناء، قولهم:
نظمـت القول من المعقول
فصول، فصول وجيب بها
قولـي حـواصـل ومـتراسـل
ولا يحصاهـا كـاتـبها
لاقتني البيضة برأس العين
وقفت وحطّت حطبها
وقــالــت اسمـع يــا خـيي
وهــذه السمرة خـيّبهـا
قـال يـا سمـرة حلّـي عــنّي
الـبيضـة مــا بنخـيّبـها
البيضـة يا فنجان الـصـين
الـسمـرة قهـوة جـوبـها
الـسمـرة يـا صبي العـين
وكـل الـناس تشوفـها
فهذا النوع من الغنّاء المُضمّن بالحوارات الخارجية بين السمرة والبيضة شائع في الأغنية الشعبية الفلسطينية، وأرى أن ذلك بهدف التسلية وبث الفرح والمحبة بين الحاضرين.
ومن الأمثلة الأخرى على أغاني السحجة، تضمين بعض الحكايات الشعبية القديمة المتداولة في البلدة، ومن ذلك على سبيل المثال إحدى الحكايات التي وقعت أحداثها في منطقة قريبة من خربة طانا (شرق بيت فوريك)، وقد رواها لي الحاج طاهر قاسم خطاطبة رحمه الله، والملاحظ في هذه الأغنية تضمينها لمفردات توثق اللهجة الفوريكية، يقول الزّجال:
وأنــا طــايـــح ع طـــانـــا
العصـر مــا هـي ماسيّة
لاقــونــي شـــباب اثنــين
لابــســــين اعـقيلــية
واحـــد قـــال اذبحــونــوا
والـثانـي قــال الخطـيّة
دبيت الصوت ع الفواركة
أصحاب البارود المحميّة
وانتــخي يــا أبــو هـيكـل
في إيـدو صواري مسمية
حشـرهـم جــوه الـربيـضة
ذيـب وحـاشـر له شليّه
وقــع سلـيـمـــان مـقتـول
وعـــبده وقــــع رمـــيّه
سلـيمـان انـخى يــا حـمــده
تــرانــي ذقــت المـنيّـة
ومن الأغاني التي عبّرت عن «واقع» فلسطين، قولهم:
وجيت أحكيلك قصيدة
عـن الحـروب الجـديـدة
فـيـهــا أمــــور عــديـــدة
للـعــرب مــع الـيـهـود
أجـتنـا جيـوش مـن العـراق
جيـوشها مـلّت الأسواق
قـالـوا مـا نــريــد الفــراق
إلا فلــسطــين تـعـــود
بــالله لا تبكـي يــا عيــني
ع عـبد القـادر الحسيـني
هــذا شهـــيد فلــسطــين
خـسـارة يـوكلـهـا الـدود
وبعد انقضاء نصف السهرة، ينزل عدد من الرجال والشباب، وهم يرتدون لباس النساء «الثوب والخرقة» (اللباس الفوريكي الخاص بالمرأة)، وهم يتغنّون بأغان تثير حماس الحاضرين، ومن أشهر هذه الأغاني ما يُعرف بأغنية (الجوفية)؛ وهو نوع من الغناء الشعبي المشهور في بلاد الشام، والمتضمن لمعاني الغزل والحب، وبالتالي فإنّ هذه أغنية تثير في نفوس الشباب الحماس وهم يسحجون. ولهذه الأغنية طقوسها في ساحة العرس؛ حيث يقوم الشباب أو الرجال المرتدين للباس النساء بالوقوف في منتصف الساحة، ويقابلهم عدد من المشاركين للعرس، ويرددون:
يـا نايمة، يـا نـايمة بالله كعدولي(30) النايمة
قولوا لها خيّك ذبح قـالـت خلّـونــي نـايـمـة
يـا نايمة، يـا نـايمة بـالله كعـدولـي النايمة
قـولـوا لها بيّك ذبح قـالـت خلّــونـي نـايـمـة
يـا نايمة، يـا نـايمة بـالله كعدولـي الـنايمـة
قولوا لها عمّك ذبح قـالـت خلّـونـي نــايـمـة
يـا نـايمة، يـا نايمة بـالله كعدولـي النـايـمة
قولوا لها صحيبك ذبح فـزّت وقـامـت ع حـيلهـا
الدبكة :
تُعتبر الدبكة من الرقصات الشرقية المشهورة في دول عربية مختلفة، وتمتاز بأشكالها المتنوعة، وحركاتها الحماسية، التي تثير المُشاهد وتحفزه على التفاعل مع إيقاعات الأغنية المتناسبة معها، ولفلسطين رقصات دبكة خاصة بها، تُحدد معالم «هويتها» التراثية، التي تميّزها عن غيرها من الدول الأخرى، ومن أنواع الدبكة المشهورة في فلسطين: الدبكة الشعبية، وهي الدبكة البسيطة في حركاتها، ويجيدها معظم أبناء الشعب الفلسطيني دون استثناء، والدبكة الشمالية، وهي دبكة «دخيلة» من شمال فلسطين إلى باقي المدن والقرى والبلدات، وربما يرتبط أصلها بالدبكة الشعبية اللبنانية، وذلك بالاعتماد على بعض الحركات المتشابهة معها، والدبكة الطيّارة، أو المعروفة بــ «الجوبي»، وهي أيضاً من الدبكات «الدخيلة» والوافدة إلينا من العراق، والدبكة الصعيدية، وهي دبكة «مصرية» في الأصل، وتمتاز برقصة، أرى بأنها «مخترعة» من الفلسطينيين أنفسهم، فإيقاعها يتناسق وإيقاع دبكة أهل الصعيد في مصر، إلا أنّ حركتها مختلفة بعض الشيء عنها، وعلى العموم، فإنّ النوعين الأخيرين، يعتبران من الدبكات المضافة حديثاً للدبكات الفلسطينية المتعارف عليها.
وعرفت بيت فوريك هذه الأنواع كلها، ومن أغاني الدبكة المعروفة في البلدة: أغنية «الدلعونا»، وهي من أغاني الموروث الأكثر شعبية في عدد من الدول العربية، ومع ذلك، فإنني أرى بأنها من الأغاني الموثقة للهوية الثقافية الفلسطينية، فكلماتها وإيقاع ترديدها عبارة عن تجسيد للذاكرة الجمعية الفلسطينية، ويعود سبب تسميتها، كما يرى الباحث جريس خوري إلى «المصدر (دَلَع)، وهو التعبير الذي تستخدمه العامة للدلالة على الغنج والدلال»(31)، أما إميل يعقوب، فيرى أن هذه المفردة، مشتقة من عبارة «دل عناة»، وهي عبارة كنعانية قديمة، تعني «أرشد عناة»، وعناة هي ابنة الإله إيل، إله الخصب عند الكنعانيين(32)، ومن الأمثلة على أغنية الدلعونا الفوريكية:
علـى دلعـونـا والقلـب مـايــل
تسـوه مـن السمره أربع حمايل
بحـب البيضـة وأم الـجـدايـل
قلـبي بحبك يــا اسمـر اللـونَ
علــى دلعــونــا لـظــل أغــني
وغـنّي لعيـوني يـا ولــف غــنّي
وعلى درب الولف وأنا مستني
وعسى الله الولف يمرك من هونا
ومن أغاني الدبكة المشهورة في كل قرى ومدن وبلدات فلسطين، أغنية «يا ظريف الطول»، وهي أغنية مرتبطة أيضاً بتكوين الهوية الثقافية الفلسطينية، وتوثيق «الذاكرة الجمعية»، التي تبرهن على أصالة التراث الثقافي الفلسطيني، ويعود سبب التسمية إلى المعنى الدلالي لكلمة ظريف، المشتقة من الفعل «ظرف»، والذي يقصد به: «البراعة وذكاء القلب، ويوصف به الفتيان والفتيات، وقيل: الظرف حسن العبارة، وقيل حسن الهيئة»(33)، ويرى إميل يعقوب أن ظريف في الطول، اسم شاب، وقع في حب وغرام شابة جميلة اسمها «عناة»(34)، بالإضافة لما تقدم، فإن ظريف في الطول من الألوان المعبرة عن مفاهيم الحب والعشق بين الشبان والشابات، فكان غناؤه مثيراً لعواطفهم وتحفيزاً لمشاعرهم المكنونة، ومن الأمثلة على ما قيل في العرس الفوريكي:
يـا ظريف في الطـول وع القنيطرة(35)
ظلّت عيونـي ع الـدروب تناطـري
ليش تضـربـني وتكسر خـاطـري
يا ظريف في الطول شو بحبّك أنا
****
يا ظريف في الطول وين رايح تروح
حـرمت قلـيبي وغمقـت الـجـروح
خايـف يـا محبوب تسافـر وتروح
وتخليـني في الــدار وتنســـاني أنــا
الحنّة:
إنَّ الجانب الوظيفي لحنة العريس يتمثل في الوظيفة التزينيية والوظيفة الاجتماعية المرتبطة بقداسة الحنة وأهميتها في الفكر الميثيولوجي الفلسطيني، ولذلك، كان لهذه المرحلة «تخصيص» زمني، وهو آخر الحفلة، باعتباره المكون التكميلي لحالة الفرح والسعادة التي يعيشها العريس، وقد خصص لهذا الجانب أغان خاصة، توثق أهمية الحنّاء في الموروث الشعبي الفلسطيني، ومنها، قولهم:
سبّل عيونه ومد إيـده يحنونه
زغنون صغيّر وبالمناديل يلفونه
سبّل عيون مـد إيـده يحنونـه
سبّل عيون ومـد إيـده يحنونـه
يا أهل الغريب ولا يجبر لكم خاطـر
وشو عامكم عن ابن العم هالشاطر
اللازمة
يا لمـي ويـا لمـي وشـديلي على حصـان
وطلعـتي يـا لمـي ومــا ودعــتي جـيران
اللازمة
وبعد الانتهاء من حفلة الحنّاء، تختم السهرة بالمباركة للعروسين ولذويهم، ويقومون بدعوة الحاضرين لتناول طعام العشاء.
وفي صباح اليوم التالي، وهو يوم الجمعة، تبدأ النساء من قريبات العريس وجيرانه، بالتوافد إلى منزل والده؛ للمساعدة في إعداد طعام الغذاء «المنسف»، ويقسمن النساء أنفسهنّ إلى مجموعات: قسم متخصص بتحضير الأرز، وآخر لتحضير اللحم، وقسم لإعداد الحساء «الشوربة»... ويبدأن بإعداده من الصباح الباكر، حتى يكون جاهزاً مع وصول زفة العريس بعد صلاة الظهر.
تجدر الإشارة إلى أن نظام زفة العريس كان مشياً على الأقدام، من أمام مسجد البلدة، المسجد القديم، وصولاً إلى منزل «مستضيف» حمّام العريس، والعودة من بيت المستضيف حتى منزل والد العريس، وفي هذه المساحة الزمنية، تتولد عدد من الطقوس التي توثق مظاهر الفرح في الذاكرة الجمعية الفوريكية.
أما «شكل» الزفة فيكون كالآتي: صفان متوازيان من الرجال، يتوسطهم أكثر الرجال حماساً في التفاعل مع المشاركين لحثّهم على الدبكة والسحجة، كما يتوسطهم الزجّالة، وفي آخر الصفين مجموعة من قريبات العريس، اللواتي يهزجن قائلات:
يوم طحنا ع الزفة عـــدد أوراق اللـيـمـون
والـعـدوة تتفـرج والقلب من جوة مهموم(36)
يوم طحنا ع الزفة عـــدد أوراق الـتـفـــاح
والـعـدوة تتفـرج والقلـب مـن جـوة نوّاح
يوم طحنا ع الزفة عــدد أوراق المـشمــش
والـعـدوة تتفـرج والقلب من جوة يدهش
ويقلن أيضاً، داعيات مَنْ في الطريق من الشباب للمشاركة في صف السحجة أو الدبكة:
في بلـدنـا طـابت الـزّفـة
عليكم جيره يا شباب الحارة
لمحمد عريسنا أبو النظارة
عليكـم جــيرة يـا الأجـاويـد
بالإضافة إلى صفيّ الرجال، هناك عدد من الشبان يركبون الخيول ويطاردون عليها في منطقة السهل، احتفالاً وإعلاناً رسمياً ببدء مراسيم الزفة، وعندما ترى النساء موكب الخيل قادم، يقلن:
طـاردولـوا يـا عمه طـاردولـوا
ع الحمرة الأصيلة شاليشوله
شــدلــه يــا عمـه شـدلــه
ع الحمـرة الأصيلة طاردولـوا
في الميـدان يـا عمه في الميدان
ع الحمــرة الأصيلة يـا خيّـال
3) حمام العريس:
يمتاز حمام العريس في البلدة بطقوس خاصة، ما زال بعضها موجوداً حتى الزمن الحاضر، وتتمثل تلك الطقوس بــ: أولاً، يتم حمّام العريس في بيت أحد أصدقائه أو أقاربه، وذلك بعد دعوة رسمية للعريس، تتم، عادة، في الأيام الأولى من خطوبته، ولذلك يسألونه: «مين حجزك للحمام؟» فيقول: فلان، وعادة، تأتي أكثر من دعوة للعريس، إلا أنّ القبول يتم لصاحب الدعوة الأولى. ثانياً، بعد ذلك تتجه الزفة إلى بيت ذلك الصديق تلبية لدعوته، ويخرج العريس بعد حمامه، مرتدياً أجمل اللباس، وتفوح منه أجمل الروائح، وبينما يغنّي أقارب العريس:
تلـولـحي يـا دالــيــة يـا أم الغصـون العالية
تلولحي عرضين وطول تلـولحي ما أقـدر أطول
****
طل الزين من الحمـام الله واســـم الله علـيه
زهّـر يــا ورد الـرمــان كـل حبـابـه حاولـيه
يبدأ الصديق أو القريب المُضيف وأفراد عائلته بــ «تنقيط العريس»، ليبدأ بعد ذلك الزجال بالغناء على إيقاع «الجوفية»، يقول:
عريسنا زين الشباب زين الشباب عريسنا
عريسنا، عريسنا
عـريسـنا عنـتر عبـس عنتر عبس عريسنا
(اللازمة)
عريسنا ريتك تدوم ريدك تدوم عريسنا
(اللازمة)
عريسنا ريتك تدوم وانته القمر واحنا النجوم
(اللازمة)
عـريسـنا ما أبـدعـوا مثل القمر في مطلعه
(اللازمة)
يا بنت يا اللي بالقصر طولّي وشوفي أفعالنا
(اللازمة)
وانتي غواك شعرك واحنا غوانا سيوفنا
(اللازمة)
دار دعـتنــا للـفـــرح واجب علينا نزروها
(اللازمة)
وعندما يُطل العريس على النساء، المرافقات للزفة، يبدأن بالغناء قائلات:
عريسنا طاح الزفة جيعان
عريسنا طاح الزفة جيعان
وديتلو ميتين جاحه مكمّرة(37)
يوكل ويطعم كل الشبان
عريسنا طاح الزفة جيعان
عريسنا طاح الزفة جيعان
وديتلو ميتين بدلة معطّرة
يلبس ويلبّس جميع الشبان
عريسنا طاح الزفة هالساعة
عطر شعراته وعطر الشباب
ويضفن قائلات:
عـريسـنا يــا نـــاس لا تقولـوا عـنه أسمـر
أبيـض مثـل الحلـيب وأحلـى مـن السـكر
عـريسـنا يـــا نــاس لا تقولـوا عنه حـوفه
أبيـض مـثل الحليب وأحلـى مــن الـتوفــه
وبعد ذلك، تقترب منه أمه، حاملة معها «البخور»، وهو فعل طقسي شائع في الموروث الشعبي الفلسطيني، الهدف منه درء عيون الحاسدين، وبينما هي تلتف حوله، وتبخره، تغني بعض النساء، قائلات:
من يمّك شاب محمد من يمّك
كـل الشباب تقول يا فرحة إمك
من مالك يـا شـاب مـن مـالك
كـل الشـباب تقـول يــا نيـالك
وبعد ذلك، يعود الرجال إلى تشكيل صفي الزفة، وتعود النساء خلفهم، حتى يصلوا إلى بيت والد العريس، استعداداً لتناول وليمة الفرح «المنسف»، وبينما يبدأ أقارب العريس بإخراج الصحون المعبأة بالخبز المغرق باللبن الساخن، والمغطى بالأرز واللحمة، ومزين بالبقدونس واللوز والصنوبر، تغني بعض النسوة:
الـرز مـا هــو عيـش
ولا طعــام الجيـش
واللي ما يساوي مثل أبو محمد
قعاده في البلد لليش؟!
كناية عن جوده وكرمه في إطعام ضيوفه.
والملاحظ أن أغاني الطعام، كما سمعتها كلها من جدتي، مرتبطة بوالد العريس، وهي ظاهرة لافتة في التراث الشعبي الفلسطيني، ثنائية (الأب/ الكرم)، فالطعام، وفق المفهوم الأنثربولوجي مكون رمزي يشير إلى الحياة ورغد العيش، ووجوده بوفرة دلالة على الجود وكرم النفس، وهي الصفات التي يحاول الموروث الشعبي أن يلزمها للمكون الحقيقي للعرس الفلسطيني، الأب. ومن الأغاني الأخرى التي كنّ يقلنها أثناء تناول «المعازيم» لطعام الغداء:
يـا بـي محمــد وجـديلـة علـى الـظهــر
عـاكده الشـور انتـه يـا سـند ظـهـري
ريت من تدعي عليكم يا كلكم أهلي
تبلى بكاسات العمى وتموت مـن القهر
ويقلن أيضاً:
حلـفـــت الــــنـــاس مــا تــذبــح ذبيــاح
واذبـح يــا أبــو محـمـد والـصــــيت لــينــا
حــلفـــت الــــنــاس مـا تــدق الـقـهـاوي
شـرّب يـا أبـو مـحـمـد والـصــــيت لــينــا
حلـفـــت الــــنـــاس مــا تلبـس محـابـس
لـبّــس يـا أبـو مـحـمـد والـصــــيت لــينــا
4) زفة العروس (الفاردة) :
بعد الانتهاء من تناول الطعام، يستعد أهل العريس وأبناء عائلته لإحضار العروس من بيت والدها، ليتقدم الموكب العريس ووالده وخاله وعمّه وعدد من كبار العائلة، وخلفهم موكب آخر من قريبات العريس، مصطحبين معهم خيلاً مزينة؛ حتى تركب عليها العروس، قبل مجيء زمن السيارات والحافلات، ومن الأغاني الشائعة في الفاردة، قول النساء:
طريق الغور واحنا جينا طريق الغور
ذهب رشادي لبسها يا محمد ذهب رشادي
طريق عمان واحنا جينا طريق عمّان
ذهب عصملي لبسها يا محمد ذهب عصلمي
وعند وصول الموكب منزل والد العروس، تبدأ النسوة بالدعاء لوالدها وخالها، على اعتبار أنّه إحدى الشخصيات «المحورية» في مخيلة المجتمع الفلسطيني، فللخال مكانة مهمة بين أبناء أخواته، ووجوده في زفة ابنة اخته جزء مهم من تكوين هذا الطقس الاجتماعي، فيقلن:
يــا رب سـلـــم بيّـهــا أعطـى العطية الغالية
طلّــع الـقمــر مـن داره يـــا ربّ سلّـــم بيّـهـا
يــا ربّ كــثّر مــالــه أعطانا العطية الغالية
طلّــع الـقمــر مـن داره يـا ربّ سلّــم خـالـهـا
وبينما ينتظر أهل العريس خروج العروس، تمتزج مشاعر الفرح ببكاء والدتها ووالدها وإخوتها، فهي ستغادر البيت الذي نشأت فيه، وكوّنت ذاكرتها الأولى، الذاكرة المؤسسة لهويتها الوجودية، فحتى لو كان بيت زوجها بجانب بيت أهلها، على سبيل المثال، فإن «طقس خروجها» يوم فرحها عبارة عن «علامة إشارية» إلى الانتقال إلى «حياة جديدة»، وتكوين فعليّ لذاكرة أخرى، تسعى من خلالها لتأسيس هويتها كزوجة وأم، ولذلك، وفي غمرة البكاء، تغني أمها قائلة:
ودّيعي خالتك يا فاطمة، وديعي عماتك
ودّ سـلامـك ع طـرف عـباتـك
خيـتي يـا بنيّة وديعـي ارفيـقاتـك
وديلهن سلامك ع طرف عباتك
أما صديقات طفولتها، فيقلن وهن يبكين، في مشهد تراجيدي يتضمن معاني الألفة بين الصديقات:
امبـيرح يـا رفيقة كُـنّا في الحارة
وش قــدر رفيـقه تلـبس اسـواره
امبيرح يا رفيقة كُنّا في المحطب
وش قـدر رفيـقه تلـبس المقصب
امبــيرح يــا رفيقه كُـنّا ع المـيه
وش قــدر رفيــقـه تجـــوز خــيي
وبعد خروجها من بيتها، بفستانها المزين، رفقة والدها على يمينها، وخالها أو عمّها على يسارها، تستعد لركوب الخيل المزينة، وفي هذه الأثناء، تبدأ النساء بالغناء:
شـدلـهـا يـا أبـوهـا شـدلها
ع الـحمـرة الأصيلة ركبها
شدلهـا يـا أبـوهـا يـا خـيال
شـدلها ع الحمرة والارسـان
هودجها يـا أبـوها هـودجها
ع الحمـرة الأصيلـة ركبها
5) الصمدة:
ويعود الموكب إلى بيت العريس، حيث الطقوس الأخيرة للعرس الفوريكي، والمعروف باسم «الصمدة»، وسميت بهذا الاسم، نسبة إلى فعل الصمد، أي الاعتلاء بالعروسين، وجلوسهما في مكان مرتفع، ولذلك يقولون للشخص الذي يجلس على طاولة، مثلاً: «ما لك مصمود؟» (لماذا أنت مصمود؟) أي لماذا تجلس في مكان مرتفع، يقول ابن منظور: «الصّمد: المكان المرتفع من الأرض»(38)، وفي فعل الاعتلاء إظهار أهمية، وعلو المنزلة، ولذلك يتم التعامل مع العروسين بهاتين الصفتين.
وقبل دخول العروس منزل العريس، عليها القيام بطقس إلصاق قطعة عجينة عليها ورق التوت، ووضعها على مدخل المنزل؛ وهذا طقس شائع ليس في فلسطين فحسب، وإنما في عدد من الدول العربية المجاورة أيضاً، ويرى علي زيعور أن دلالة هذا الطقس هو «استجلاب للخصوبة والوفرة عبر ترميز للزواج، الذي يخلق ويعطي، بالقمح أو العجين أو الأرز، الذي يمثل الإنتاج واستمرار الحياة والعطاء»(39)، وما يدلل ذلك مضمون أغنية قريبات العريس أثناء وضعها للعجينة:
يـا ريتـك مباركـة علـينــا يـا زينــة
وتبكيري في الصبي ويلعب ع الحصيرة
يـا ريتـك مبـاركـة علـينـا وعلــينــا
وتبكيري في الصبي يلعب بـين أيـدينـا
يا ريتك مـباركة ع السلف والسلفة
وتبكيري في الصـبي وتكثيري الخلفة
يا ريتـك مباركـة عـن العـم والعمـة
وتبكيري في الصـبي ويلعـب عـند أمي
يا ريتك مـباركة ع مـحمـد لـحـالـه
وتبكيري في الصبي ويلعب عن أخواله
وتهزج أم العريس قائلة:
بـوابـة المـدينـة عـاليـه ورفـعهـا في الـخنصــر
خـلــو قلـيـــبي يـفـرح قـد مـا بـكى وتحـصر
وبعد دخولها المنزل، تجلس في إحدى أركانه الكبيرة، المزينة بأجمل زينة، على طاولة مرتفعة، حتى يراها عريسها جميع الحاضرين من النساء المدعوات لحضور حفلة الصمدة، وأثناء ذلك، تعتلي إيقاعات «الطبلية» مرفقة بأغان شعبية متنوعة تمزج بين الوصف الجمالي للعروس، والتغني بعمات العريس وخالاته وأمه وأخواته، ومن الأمثلة على ذلك:
واجب عليكن يا بنات عمامه
واجب عليكن ترقصن قدّامـه
مشان أمـه يـا حـبايـب واجـب
وإلـهـا علـينا واجبــين وواجـب
مـشـان عمـته يـا بناـت العيلة
مـشـان عمتـه تفرحهن هالليلة
مـشـان بيّـه يـا بنـات خـوالــه
مـشـان بيّـه تـرقصـن قـدّامــه
وقولهن، واصفات العروس:
قـومـي ع حيلـك يـا مـلكــة
والذهـب في رقبتـك شبكة
شفتها يا أختي وابـن أختها معهـا
وأربـع خواتـم في روس أصابعهـا
ما قالت يا قليل العقل طـاوعهـا
فاطمة مليحة ومفتاح السعد معها
وقولهن:
والطول طول النخل والــشعـــر زي اللـــيل
والخصـر مـن رقتـه شـد الـقــوى والحـــيل
يـا نـايمـين الـضحى مـا تنتــبهــوا في اللـيل
محمد صـاد الغـزال اللـــي علـــيه العـــين
وغيرها من الأغاني المضمنة للمعاني الاستعارية الجميلة، والتي توثق حميمية العلاقة بين أبناء المجتمع في مشاركاتهم للأفراح، وكأن «السعادة» جزء تكميلي لحياتهم كلها. وبذلك تنتهي هذه السردية التي توثق مرويات زمن مضى، ولا بد من توثيقه حتى يخلد في ذاكرتنا وذاكرة الأجيال القادمة، ليعرفوا أن «هويتنا الثقافية» عبارة عن هوية خالدة، أبدية، تشكل المكون الرئيسي لوجودنا، ولذلك لا بُدّ من «الحفاظ» عليها بتدوينها، ودراسة جماليتها.
وفي الختام، فإنّ طقوس الزواج في بلدة بيت فوريك نموذج حيّ على طقوس العرس الفلسطيني الشعبي بشكل عام، وما يتضمنه من عادات وتقاليد، نُسي بعضها، بتعبير الناقد الفرنسي بول ريكور، وحفظ بعضها الآخر في ذاكرة الأجيال المتعاقبة. ومن خلال ما تقدم، فإننا نلاحظ أن العرس الفوريكي يحاكي تاريخ البلدة وواقعها، ويعيش ظروف فلسطين السياسية والاجتماعية والاقتصادية فيها، بالإضافة إلى أنه يُجسد معالم التراث الثقافي، وترسيخ الهوية والذاكرة الجمعية أيضاً.
الهوامش
1. ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثاني، بيروت: دار صادر، د.ت. ص292. مادة "زوج".
2. تولرا، فيليب لابورت، إثنولوجيا أنتروبولوجيا، ترجمة: مصباح الصمد، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2004م، ص15
3. ينظر: أوجيه، مارك. الزمن أطلالاً، ترجمة: جمال شحيّد، البحرين: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2016م، ص37
4. أجريت مقابلتي معهم، ومع جدة والدي أيضاً رحمها الله في الفترة الزمنية التالية: في شهر أكتوبر ونوفمبر من عام 2010م.
5. ينظر: ابن منظور، لسان العرب، المجلد السادس، ص134، مادة "عرس".
6. ابن منظور، لسان العرب، ج13، ص487، مادة "جوه".
7. 6 من العادات التأسيسية لمرحلة الزواج في فلسطين والعالم العربي والإسلامي أيضاً، وهو سلوك إشاري مهم يدلل على فعل "المباركة" بين الزوجين، والختم الأبدي الذي يوثق صلاحية ذلك الزواج، ولذلك، يقولون: "فلان قرأ فاتحته على فلانه"، في إشارة إلى "الرباط المقدس" بين العروسين، الرباط الموثوق بسورة الفاتحة.
8. من المصطلحات المهمة في التراث الثقافي العربي عامة والفلسطيني خاصة، ويقصد بها "الدعوة"، ومفردة "عزومة" أو "عزيمة" اسم إشاري أيضاً يُدلل على الدعوة إلى المشاركة في الفرح "بإخلاص" و"إصرار"، في دلالة على حب المشاركة، والدليل على ذلك، قول ابن منظور: "العزم: الجِدّ. عزم على الأمر يعزم عزماً: أراد فعله. وقال الليث: العزم ما عقد عليه قلبك من أمر أنّك فاعله". ينظر: ابن منظور، لسان العرب، ج12، ص399، مادة "عزم". فالمصطلح هنا تأكيد على تأجيج أواصر المحبة والألفة بين الناس، فالدعوة إلى الفرح ليست عادية في فلسطين، وإنما هي دعوة نابعة من القلب ومفعمة بالحب في التأكيد على المدعوين لمشاركة أصحاب الفرح فرحهم.
9. مرتين.
10. نحن.
11. بحثنا.
12. ينظر: غلمي، محمد عودة، تاريخ بيت فوريك، نابلس: مطبعة الحجاوي، 2001م، ص293
13. الفرع الذي ينبت حديثاً في الشجرة أو النبتة، ويتسم بطراوته وخضاره، ويرمز هنا إلى الحيوية والنشاط.
14. الثوب
15. أي أرشديني إلى بيت والدك، وكتابة حرف الجر "على" بــ "ع" اختصاراً؛ وذلك حتى يتناسب ولهجة أهل بيت فوريك، الذين يلفظون على بــ "ع" في مواضع كثيرة من كلامهم، كما أننا أحافظ على الطريقة التي نطقت بها جدتي مفردات هذه الأغنية.
16. أخذتلك: أي أخذت لك، ومدمج بعض الكلمات شائع في اللهجة الفوريكية، مثل: شريتلك، أي اشتريت لك، جبتلك، أي أحضرت لك.... وغيرها.
17. أي تأخذه.
18. أتينا إليك.
19. أَرِنا.
20. مرّينا: مررنا. عنّه: لأنه، وهي مفردة شائعة في اللهجة الفوريكية، ومشابهة لكلمة "عشان" أي لأنه، فنقول: جيت هين عشان نوكل مع بعض، أي أتيت إلى هنا حتى نتناول الطعام معاً.
21. مركنا: مررنا أيضاً. يركنا: أصلنا.
22. زيعور، علي، التحليل النفسي للذات العربية "أنماطها السلوكيّة والأسطورية"، ط4، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1987م، ص52
23. ابن منظور، لسان العرب، ج11، ص469، مادة "علل"
24. الخان هو مجموعة من المحلات التجارية الموجود في البلدة القديمة في مدينة نابلس، وهو من الأماكن المهمة في الذاكرة الجمعية لأجدادنا، على اعتبار أنه المكان الوحيد الذي كانوا يستطيعون الشراء منه حاجاتهم الأساسية في مناسباتهم كافة، وما زال للخان هوية ثقافية، متجسدة في عراقة معماره، وجمال مبانيه ومحاله التجارية، لاسيما تلك التي تبيع المأكولات النابلسية الشعبية، كالكنافة والحمص والفلافل والزلابية والتمارية... وغيرها، وبالتالي، يعتبر الخان، البلدة القديمة، من مكونات "الوجود" التراثي التي لا بُد من الحفاظ عليه، كشاهد على تراث ثقافي مادي وغير مادي أيضاً.
25. عمران، كامل، الحنّة: وظائفها وطقوسها الاجتماعية (دراسة أنثربولوجية في قرية بللوران الساحلية)، سوريا: مجلة جامعة تشرين، م33، ع1، 2011م، ص176
26. عتشفوفه: أي على كفه، فالكاف في اللهجة الفوريكية تلفظ "تش"، فنقول: تشيف حالك؟ أي كيف حالك.
27. حطيطه: أي وضعته
28. الخناقة أو الخناق: طوق عريض من الخرز تزين به النساء أعناقهنّ.
29. أي جاء إليك
30. أي: أيقظوا الفتاة النائمة
31. خوري، جريس نعيم، الفولكلور والغناء الشعبي الفلسطيني "دراسة في التاريخ، المصطلح، الفن، والظواهر الخاصة"، حيفا: مجمع اللغة العربية، 2013م، ص115.
32. ينظر: المرجع السابق، ص116.
33. ابن منظور، لسان العرب، ج9، ص228، مادة "ظرف".
34. 33 ينظر: خوري، جريس نعيم، الفولكلور والغناء الشعبي الفلسطيني، ص116
35. اسم منطقة في بيت فوريك. تناطري: تترقب. ليش: لماذا، وهي من المفردات الشائعة في اللهجة الفوريكية.
36. جوة: أي بداخله، وهي من المفردات الشائعة في اللهجة الفوريكية.
37. 36 أي: دجاج مُحمّر، وذو منظر شهيّ
38. 37 ابن منظور، لسان العرب، م3، ص259، مادة (صمد)
39. زيعور، علي، التحليل النفسي للذات العربية، ص61
المصادر والمراجع:
1. ابن منظور، لسان العرب، المجلد الثاني، بيروت: دار صادر، د.ت
2. أوجيه، مارك. الزمن أطلالاً، ترجمة: جمال شحيّد، البحرين: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2016م
3. تولرا، فيليب لابورت، إثنولوجيا أنتروبولوجيا، ترجمة: مصباح الصمد، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 2004م
4. خوري، جريس نعيم، الفولكلور والغناء الشعبي الفلسطيني «دراسة في التاريخ، المصطلح، الفن، والظواهر الخاصة»، حيفا: مجمع اللغة العربية، 2013م
5. زيعور، علي، التحليل النفسي للذات العربية «أنماطها السلوكيّة والأسطورية»، ط4، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1987م
6. عمران، كامل، الحنّة: وظائفها وطقوسها الاجتماعية (دراسة أنثربولوجية في قرية بللوران الساحلية)، سوريا: مجلة جامعة تشرين، م33، ع1، 2011م
7. غلمي، محمد عودة، تاريخ بيت فوريك، نابلس: مطبعة الحجاوي، 2001م
الصور:
- من الكاتب.
1. https://i.pinimg.com/564x/19/b7/17/19b717a639569a02c98b154ea386b663.jpg
2. https://i.pinimg.com/originals/2a/87/4f/2a874f8e0bc2c2 66641d6a664f2759cb.jpg
3. https://pin.it/36MfqCg https://pin.it/36MfqCg
4. https://pin.it/5yZQgXx
5. https://pin.it/3KEMfSv