فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
58

الجاثوم: المخاوف الكابوسية في الخيال الشعبي

العدد 58 - أدب شعبي
الجاثوم: المخاوف الكابوسية في الخيال الشعبي

ترجمة وإعداد: عبدالقادر عقيل

في عام 1781 رسم الفنان (هنري فوسيلي)(1) لوحة اشتهرت باسم (الكابوس). تصوّر اللوحة امرأة على السرير مستلقية على ظهرها، عيناها مغلقتان، تبدو شبه نائمة، أو أنها مستغرقة في نشوة عميقة.

ترتدي المرأة رداءً ملتصقاً بجسدها، في حين ينسدل شعرها على طرف السرير. نرى في الصورة مخلوقاً بشعاً، أسود البشرة، يجثم على صدرها، ويحدّقُ، بشكل مقلق، فينا. ونرى فرساً مبتسماً يطلّ من وراء الستارة، ليعزز عندنا فكرة أن ما نراه ماهو إلا كابوس، ناجم عن شيطان، أو مخلوق ما، جاثم على صدر المرأة.

إن تصاوير وأوصاف «الجاثوم»(2) كانت موجودة قبل لوحة (فوسيلي) بوقت طويل، ولا يزال يتردد صداها حتى يومنا هذا. لكن ماهو «الكابوس» تحديداً؟.

عندما نصف «الكابوس» بهذه الشروط، تعطينا التجارب معنى مختلفاً تماماً عن كونه نتيجة لحلم مخيف، أو نوم مضطرب. في حين أن «الكابوس» يشير تحديداً إلى تجربة محددة واحدة وهي أن النائم يتعرض في نومه إلى شيء ما ثقيل يجثم ويضغط على صدره، ويمنع عنه قدرة التحرك أو النطق.

وأولئك الذين عانوا من «الكوابيس» واجهوا تجربة الشعور بثقل على الصدر، شعور أن يكون في كامل وعيه ويعي ما حوله، وإن كان نائماً في نظر الآخرين. لكنه لا يستطيع تحريك طرف واحد من أطرافه، ويصاب بالخوف والتوتر وبنوعٍ من الهلوسة البصرية أو السمعية والخوف من الموت.

ويحدث «الكابوس» في كثير من الأحيان عندما تكون الضحية مستلقية على ظهرها، وهذا ما أظهره (فوسيلي) في لوحته الشهيرة (الكابوس).

هذه التجارب وُصفتْ بأنها (الجانب المظلم) من الأحلام، الذي يجعلنا نغوص في أعماق ذواتنا الداخلية.

فيما مضى كان من المألوف جداً عزو حدوث «الكابوس» إلى الشيطان أو السحرة. وفي الواقع بدأ اهتمامي لأول مرة في هذه المحن الليلية أثناء بحثي في كتب السحر الإنجليزية في القرن السابع عشر.

بالنسبة للبعض كان «الكابوس» يمثل شيطاناً جنسياً مثل الحضون(3) أو السكوبوس(4)، وللبعض الآخر عززت الهلاوس الناجمة عن «الكابوس» الاعتقاد بأنهم كانوا يتعرضون للتعذيب من قبل ساحرة تعيش في الجوار.

لكن هذه المواجهات الكابوسية لم تقتصر على وقتنا المعاصر، بل إنه من المدهش أن المؤرخين وعلماء الأنثروبولوجيا وعلماء النفس وجدوا تشابهاً بين الكوابيس المعاصرة وتلك التي تمتد إلى 2000 عام من تاريخ البشرية. وقد دفعت هذه النتائج العديد من المؤرخين إلى وصف «الكابوس» بأنه شكل من أشكال «شلل النوم»، وهي حالة بيولوجية يبدو أن لها نفس الأعراض أو مشابهة للغاية مع تلك التي تصاحب أعراض «الكابوس» في وقتنا المعاصر.

وهذه النتائج أدت إلى وصف «الكابوس» بأنه ظاهرة «متصلة بكل البشر» وبإمكانها تجاوز الزمان والمكان، والكشف عن المخاوف الثقافية المتغيرة. وكان الخوف هو العنصر الأساسي في جميع التجارب الكابوسية المعاصرة والمبكرة.

في عام 1753 نشر الطبيب الإنجليزي المعروف جون بوند JOHN BOND مقالة عن (الحاضنة) أو (الجاثوم)، وذكر عن أحد الذين عانوا من هذه المخاوف في القرن الثامن عشر، الذي كان مذعوراً من هجمات الكوابيس التي لا تطاق، لدرجة أنه نام طوال الليل على كرسي، في وضع أفقي، حتى لا يسمح للجاثوم بمهاجمته.

ضحية أخرى شاهد الشيطان يقترب من سريره، ويضع كلتا يديه على رقبته ويبدأ في الضغط حتى كاد يختنق، وفي اليوم التالي لاحظ بقعاً سوداء على رقبته جراء ضغط أصابعه عليها، ونتيجة لهذه المخاوف طلب الرجل من خادمه أن يراقبه ليلاً أثناء نومه كي يوقظه في الوقت المناسب، وبالتالي ينقذه من «مخالب الشيطان».

يمكن ملاحظة تأثير الخوف في هاتين الحالتين، حيث تخيل المصابان «الكابوس» كوحش متجسد يمكن أن ينزل الأذى الجسدي بهما.

في هذه المواجهات المبكرة كان الخوف البيولوجي، الذي هو جزءٌ من «الكابوس»، يمثل القلق المتزايد الناجم عن الإيمان بالحضور الشيطاني. في حين أن الذين يعانون في وقتنا الحاضر من «الكابوس» أو «شلل النوم» هم أقل افتراضاً بالحضور الشيطاني، وأن كان ذلك ليس في كل الحالات. وعوضاً عن ذلك يخشى العديد من الضحايا من فكرة اختطافهم من قبل الكائنات الفضائية، وهو خوف مصدره العالم المعاصر أكثر من صلته بالشياطين.

بعض الضحايا عندهم مخاوف أكثر دنيوية، أحد الضحايا الكنديين، الذي أجريت معه لقاءً في عام 1973، أدعى بأن (السناجب في التلفزيون) احتضنته في الليل، وهي عبارة تستخدم لوصف مواجهة (الجاثوم).

إذن كيف يمكن تفسير هذه الظواهر الخارقة للطبيعة للوصول إلى جوانية الشخص الذي يعاني؟ هل يمكن أن نساعده؟ أو أن الأمر لا يعدو إلهاءً وكل الأمور على ما يرام؟

من الواضح أن المواجهات الكابوسية تسمح لنا بإلقاء نظرة ثاقبة على الحياة الجوانية، ومن خلال الهلوسة المرتبطة بهذه الظواهر على وجه الخصوص نتمكن من تسليط الضوء على أحلك مخاوف البشر (سواء أكانت من الشياطين، المخلوقات الغريبة، أو الأشخاص المثيرين للريبة).

إن الجذور البيولوجية للجاثوم تساعدنا أيضا على فهم الاعتقاد الخارق للطبيعة، في الحالات التي ادعى فيها رجال ونساء أنهم اختطفوا من قبل ساحرة الحي ، التي سحقتهم وتركتهم غير قادرين على الحركة، قد يكون من الجيد أن المنكوبين هلوسوا، وشاهدوا بالفعل ظهور الشخص الذي اشتبهوا في أنه ساحر. وهكذا فإن «الجاثوم» سيعمل على تأكيد الاشتباه، وأيضاً على التذرع بالإرهاب. ومن خلال المواجهة نستطيع النظر في المخاوف الحقيقية التي يشعر بها الرجال والنساء تجاه أشخاص محددين، أو ظواهر، أو كائنات معينة، وبالتالي نتعلم كيف هذه الظواهر تتصرف في العالم.

ومن خلال هذه الأعراض الفريدة يسمح الجاثوم لنا بالقاء نظرة حقيقية على كيفية بناء ظاهرة بيولوجية ثقافياً، وبالتالي السماح لنا بالنظر في الحياة الجوانية.

الهوامش

* تشارلوت روز ميلر: دكتورة أكاديمية تدرس في جامعة كوينزلاند بأستراليا، متخصصة في دراسة الظواهر الكابوسية والأحلام والحكايات الخرافية في التراث الشعبي.

1. هنري فوسيلي Henry Fuseli : فنان تشكيلي سويسري/إنجليزي (7 فبراير 1741 – 16 أبريل 1825) تتناول معظم أعماله، ومنه لوحته الأكثر شهرة « الكابوس» The Nightmare مواضيع خارقة للطبيعة، وقد رسم أعمالاً لمعرض (جون بويدل) الخاص بأعمال شكسبير، كما أنشأ معرضه الخاص (معرض ميلتون). وقد شغل منصب أستاذ الرسم والقيّم في الأكاديمية الملكية البريطانية.

2. الجاثوم: وهو شعور يحدث للإنسان بين النوم واليقظة، يشعر فيها بأنه واع أثناء النوم لكنه غير قادر على الحركة أو الاستيقاظ، ويشعر بالعجز عن الحركة أو الكلام، ويقترن غالباً برؤية هلاوس، ويتعرض شخص واحد تقريباً من بين كل خمسة أشخاص للجاثوم أو شلل النوم مرة واحدة على الأقل. وعلى مدار القرون الماضية أرجعت الثقافات في مختلف أنحاء العالم هذه الهلاوس إلى السحر الأسود أو الوحوش الأسطورية، أو حتى الظواهر الخارقة للطبيعة، ولا تزال هذه المعتقدات الثقافية سائدة حتى وقتنا الحاضر، ففي الأساطير الفرعونية «الجاثوم» هو كائن أسود البشرة وذو جسم ضخم وشكله يشبه القرد، ينام فوق ضحاياه ويثير رعبهم، أما الأساطير الرومانية فتصف «الجاثوم» بأن « انكوبيس» شيطان الكوابيس، وهو ملاك طرد من الجنة لشهوته الزائدة، هو الذي يزعج الناس خلال النوم، ويعتدي عليهم ليشبع ملذاته الجنسية.

وفي إيطاليا يفسر البعض ظاهرة «شلل النوم» بأنها اعتداء من مخلوق خارق يسمى «باندافيكي» Pandafeche ، وهو شبح يظهر في صورة ساحرة شريرة، أو قطة عملاقة مثيرة للرعب. وفي جنوب أفريقيا يعتقد السكان الأصليون أن هذه الحالة ترجع إلى «سيجاتي ليلو» Segatelelo أي السحر الأسود، أما في تركيا فترجع الظاهرة إلى «كاراباسان» Karabasan وهي مخلوقات غامضة تشبه الأرواح. ويعرف «الجاثوم» أيضاً بمتلازمة الجنية العجوز Old Hag Syndrome استناداً إلى فلكلور شعبي يصوّر جنية طاعنة في السن تجلس فوق صدر النائم وتسبب له ضيقاً في التنفس وعدم القدرة على الحركة. وفي اليابان يأتي مصطلح Knashibari الذي يعني «الربط بحبل من حديد» لأن فكرة الربط تأتي من الاعتقاد بأن الرهبان البوذيين القدماء كانوا يستخدمون السحر لشل الآخرين، أما في منطقة البحر الكاريبي فالمصطلح المحلي للتعريف بالجاثوم هو Kokma ويعتقد البعض أن أرواح الأطفال غير المعمدين تأتي لخنق الضحايا أثناء نومهم. وتفسر بعض المعتقدات في تونس ظاهرة الجاثوم أو «بوتليس» أو «بو براك» بجنية تتسلل إلى غرف النوم ليلاً لتجثو فوق كل من نام دون ذكر أو بسملة، وتكون الجنية غالباً ذات جناحين كبيرين أسود اللون ثقيل الحجم بحيث يخنق النائم، وعادة ما تتسلل الجنية فجراً قبل استيقاظ الناس، ولا يسلم منها أي شخص، فهي تتعرض إلى أي إنسان مهما بلغ من العمر.

3. الحضون: incubus أو الحاضن هو شيطان في صورة ذكورية، وفقًا للتقاليد الأسطورية يظهر للنساء النائمات من أجل الانخراط في نشاط جنسي معهن.

4. السوكوبوس: succubus أو السعلوة هو شيطان أو كيان خارق للطبيعة في الفولكلور، يظهر في الأحلام في صورة امرأة لإغواء الرجال.

 

 

المصادر والمراجع:

- Requiem for a Bad Dream: Fear of the Night, the Devil and the Nightmare in Early Modern England by Charlotte-Rose Millar – The History of Emotions Blog – June 13, 2017

- شلل النوم (الجاثوم) شبح يسكن عقلك – بالاند جلال – 14 أغسطس 2020 – مجلة للعلم.

 

الصور:

- من الكاتب.

1. https://i.pinimg.com/564x/31/5e/83/315e836e2a962f14cb7d2f27c141ba55.jpg

 

أعداد المجلة