فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
58

الحكاية الشعبية ما كان وما ننتظر أن يكون

العدد 58 - التصدير
الحكاية الشعبية ما كان وما ننتظر أن يكون

« كان يا ما كان» كلمة سحرية تأخذ جمع المنصتين، إلى عوالم بعيدة وأزمنة غابرة وأحداث غريبة وشخوص عجيبة ؛ هي النسج الذي يؤلف الأكوان الآسرة للحكاية أو الخرافة أو الحزاة. أكوان تهفو إليها أرواح الأطفال ويزهو الآباء والأجداد - فيما كانوا- بالاستجابة إلى ما يتطلع إليه أطفالهم منها. فالحكاية هي أبدا عابرة أجيال. لا تستطيع أن تنسبها إلى فرد بعينه. وإنما هي إبداع الجماعة في حلها وترحالها وأحوالِ كدّها وراحتها وسلمها وحربها وصراعها في سبيل حياتها. وهي تحمل أخلاقها وتصوراتها وقيمها وأنحاء سلوكها وما ينبغي أن يكون عليه الفرد منها وما لا ينبغي أن يكون. وهي بحكم كونها أدبا شفاهيا، تتسم بخصال راويها، يضفي عليها من ذاته ويخرجها على النحو الذي يبرز مهارته ؛ ويشد الجمهور الذي يحيط به. فالحكاية نص حي يواكب المتغير في حياة الجماعة ويحمل بصمة الفرد وهو يرد إلى الجماعة المختزن من إرثها. ومن ثم كان المعطى السردي فيها ثابتا لا يكاد يتغير. أما الأداء فهو فردي لا يكاد يتكرر. يختلف باختلاف صاحبه، شخصيته موهبته ومهارته في الاستجابة إلى تطلعات المقام الذي يجد نفسه فيه. فهو في الساحات العامة غيره في بلاط الملوك وهو يحدث أحفاده غيره وهو يخاطب حلقة المستمعين في إحدى المقاهي. نبرات صوته، تعبيرات وجهه، حركات جسمه، سعيه إلى تجسيد الأحداث بنغمات صوته، ترسم جميعا مدى براعته وقدرته على أن يأخذ من حوله إلى العوالم التي يرسمها. والحكاية في نهاية أمرها، إبداع الإنسان الذي مهما كانت خصوصيته الثقافية يبقى إنسانا يعتريه ما يعتري الإنسان في كل مكان. وبسبب من هذا لاحظ الدارسون وجوه الشبه بين الحكايات في بيئات اجتماعية متباعدة جغرافيا. وأحسب أن ذلك كان دافعا للظهور المبكر لهاجس تصنيف الحكاية الشعبية. فقد اندرج ذلك ضمن رؤية مقارنية تسعى إلى التقاط المشترك الذي يجمع بينها في مختلف أصقاع المعمورة. في هذا السياق أصدر الفنلندي آنتي آرني عمله الذي اشتهر فيما بعد بـ تصنيف آرني – طومسون للحكايات الشعبية سـ 1910. وقد حظي باهتمام العلامة الأمريكي ستيث طومسون Stith Thompson فوسعه في أكثر من مناسبة، أهمها س 1927 و1961. ولقد مثل هذا التصنيف أداة منهجية اختصرت الطريق على الباحثين. فقد مكنتهم من الوصول إلى العناصر التي تمثل محور اهتمامهم في الحكاية الشعبية من أيسر طريق كالجزيئ Motif والطراز Type والجنس (النمط) الأدبيGenre والمادة التراثية . ولقد كان هذا التصنيف منطلقا لأعمال أخرى عديدة نحت منحى عالميا أحيانا أو محليا أحيانا أخرى. لكنه ظل إلى اليوم مرجعا أساسيا لمن كانت غايته الجمع والتصنيف وفق رؤية تراعي السمات المشتركة التي تؤلف بين الحكايات في مختلف أنحاء العالم. ولقد بذل الأستاذ حسن الشامي جهدا مشكورا في التعريف بهذا النوع من الأعمال. ونشرت له «الثقافة الشعبية» ترجمته لتصنيف آرني - طومسون الثقافة الشعبية العدد 10. كما عرفت بتصنيفه القيّم «المكونات الموتيفية للتقاليد الفولكلورية العربية الإسلامية » الثقافة الشعبية، العدد 37.

ولم يكن جمع الحكاية الشعبية منفصلا في أذهان كبار الدارسين عن مشاغلهم الفكرية ولم يكن في كل أحواله جمعا لمجرد الجمع. سبق أن وقفنا عند ما أنجزه الأخوان قريم (Brothers Grimm) من جمع للحكاية الشعبية الألمانية. فقد كان عملهما رائدا نبه الشعوب الأروبية على وجه الخصوص إلى إيلاء جمع الحكاية في بلدانهم أهمية خاصة. ولقد غطى جمعهما فترة زمنية طويلة، مكنت يعقوب قريم من الانتباه إلى طبيعة التغيرات الصوتية الطارئة على اللغة الجرمانية في لهجاتها المختلفة. ومكنه ذلك من الوصول إلى ما بات يعرف في علم الأصوات بـ قانون قريم. ولقد مكنت الحكاية الشعبية والتراث الشعبي بصفة عامة علماء الاجتماع والإناسة من مدونة بحث، أتاحت لهم الوصول إلى بناء تصورات نظرية لما كانت عليه حياة الإنسان في مختلف مراحلها. ولقد ذهب عالم الاجتماع الأستاذ عبد الوهاب بوحديبة رحمه الله في دراسته عن المخيال المغاربي إلى أن الدراسة العلمية للحكاية الشعبية، نشأت مع علم الانتروبولوجيا المعاصر. ولقد انطلق هو نفسه من حكايات محددة ليمضي في تحليلها بما مكّنه من ضبط أهم الخصائص التي تسم ما أطلق عليه «المخيال المغاربي» في إدراكه لطبيعة الحياة ورؤيته للآخر وتفاعله مع معطيات الوجود وسائر مؤسسات المجتمع(2).

لكن دراسة الحكاية الشعبية لم تقف عند اختصاص بعينه. ذلك أن الخصائص التي تسمها جعلت منها كونا آسرا يتجاوز لحظة الحكي. لذلك كانت مدار اهتمام مشاغل فكرية ومعرفية عديدة لسانية وعرفانية وسردية ودلالية وأدبية. وقد لا يرى الباحث من الحكاية إلا الجوانب التي تتصل باختصاصه ولا ضير من ذلك في رأيي. ولكن ينبغي ألا يكون ذلك مدخلا إلى الغض من المشاغل التي تشد اهتمام غيره من الباحثين ضمن هواجس معرفية أخرى. فمن حق كل اختصاص أن يهتم منها بما يستجيب إلى التساؤلات المهمة لديه. وتبقى الحكاية الشعبية من المجالات التي يمكن أن تلتقي في مباشرتها الاختصاصات المتعددة. ويحسن بنا أن نتذكر في هذا السياق - ولعل هذا أن يكون من أبرز وجوه الفتنة فيها - أن المدون منها ليس إلا وجها من وجوهها. فهي ليست مجرد نص. وإنما هي في الأساس شفاهية ومقام وسياق وسينوغرافيا وإخراج وأداء. هي جميع ذلك وأكثر. ولو تبسطنا في كل وجه من وجوهها فإنه يمكن أن يستقيم مجالا من البحث قائما بذاته. قد نتوسل في استقرائها بما يتجاوز المنهج الواحد ويبرز ثراء الحكاية وامتدادها إلى جوانب عديدة من حياة الإنسان وقابليتها إلى أن يباشرها الدارس ضمن سياق المشاغل الفكرية المتعددة.

إن أهميتها باعتبارها أداة في تربية الطفل لا يمكن تجاوزها يجعلها جديرة بكل عنايتنا. ويمكن أن نذكر في هذا السياق بالعمل الذي قام به برونو بتلهايم Bruno Bettelheim في مصنفه «التحليل النفسي للحكاية الشعبية» (3). فقد أبرز الأهمية التربوية والنفسية للحكاية من حيث استجابتها إلى الحاجات البيسكولوجية للأطفال. تجيب عن أسئلتهم. تبدد من حيرتهم. وتهيئهم إلى مواجهة الحياة بكل ما تحتمله من خير وشر. تخاطب خيالهم وتدغدغ مشاعرهم وتسمح لهم بالتفاعل مع الشخوص والأحداث التي واجهوها من الحكاية بما يناسب سنهم وطبيعة اللوحة التي عرضت عليهم. الحكاية لحظة رائقة في يوم الطفل ينتقل معها من اليقظة والنشاط والحركة إلى الدعة والراحة والطمأنينة. وكلما كانت الحكاية شائقة، كان نومه هانئا سعيدا مما يؤكد أهميتها في تصالحه مع نفسه ومحيطه. وذاك ما يفسر راحته وخلوده إلى النوم عند سماعها. ولعل البعد الساحر فيها أنها لا تغصب الطفل على فهم محدد للأحداث التي ترويها. فهي تسمح له بمساحة من الحرية تتيح له الفهم بما يناسب سنه وخياله. فالحكاية بعبارة ج. قرفيتش G. Gurvitch «تكشف وهي تحجب وتحجب وهي تكشف » وتدع مخيال الصغير محلقا يدرك من فهمها ما يرى أنه يناسبه. وهي في الوقت نفسه تلتفت إلى الآباء تحلل جوانب من شخصياتهم وتنبههم إلى مواطن الخلل في تربيتهم حتى لا يسيئوا إلى أطفالهم من حيث يظنون نفعهم .

ولا يفوتنا أن نذكر في هذا السياق بالجهود التي بذلها رواد كبار من طراز عبد الحميد يونس ونبيلة إبراهيم وأحمد مرسي ومحمد الجوهري. فقد كان لها دور حاسم في انتباه الثقافة العربية إلى الأبعاد المعرفية التي تندرج هذه الجهود في سياقها. وضعوا الأسس المنهجية لجمع الحكاية ووجهوا دراستها الوجهة التي تستجيب إلى منهجية البحث العلمي المتعارف عليها أكاديميا .

في هذا السياق من الوعي بأهمية الحكاية الشعبية وما تطرحه في درسها من آفاق، اخترنا نص فرج الفخراني لباب آفاق، نموذجا لما ينبغي أن تكون عليه الدراسة من تأسيس منهجي متماسك. وهو وإن كان يندرج ضمن منهج في التناول بات قديما فإن الأسئلة التي يجيب عنها مازالت راهنة والقضايا التي يتناولها مازالت مطروحة.

1. انظر في تعريف هذه المفاهيم : حسن الشامي، فهرست الجزيئيات للمأثورات الشعبية الشفاهية، الثقافة الشعبية ، العدد 10، 2010. وانظر الهامشين عدد 1 و2 من نص آفاق لهذا العدد .

2. BOUHDIBA A. : L’ imaginaire maghrébin , Cérés Edition ,Tunis ,1994.

3. Bettelheim B. : Psychanalyse des contes de fées , Pocket, France , 2008.

أعداد المجلة