البحث العلمي ونكران الذات
العدد 57 - عطف نسق
كثيرا ما يلفت انتباهنا ما يعمد إليه كبار الباحثين في البلدان المتقدمة، من استهلال أعمالهم التي تُعدّ لحظات فارقة في اختصاصهم المعرفي، بديباجة شكر لكل الذين أفادوا منهم في المجال الذي عمدوا إلى الكتابة فيه. يذكرون على وجه الدقة الحوارات التي كانت والمناقشات التي حصلت والتساؤلات التي طرحت والمراجعات التي تمّت. هذا قبل أن يعرض الباحث إلى الأعمال التي تناولت موضوعه. يبرز النتائج التي وصلت إليها والمصاعب التي اعترضتها. ثم يعلن فيـم هو يريد أن يستأنف البحث من جديد: البراديغم الذي ينطلق منه، يحرك الفكرة لديه، يحدد منهجيته ويمده بالفرضيات التي ينطلق منها. فالبحث العلمي ليس انطلاقا أبديا من اللحظة الصفر. كأن المسالك المطروقة لم يطأها أحد. وكأن المشاغل التي أقضت مضاجع أجيال من الباحثين والعلماء فضاءات بكر، تنتظر على الدوام، الفاتح الذي أوتي من العلم ما لم يتح لمن سبقوه.
ومن هذا المنطلق فإن الباحث ينبغي أن يبني على ما استقام في مجاله الذي يبحث فيه من تراكم معرفي. مسؤوليته العلمية أن يتقصى البحث في ذلك، وأن يجمع عناصره وأن يتحرى على وجه الدقة وضع المسألة التي يزمع النظر فيها حتى لا يكون الأفق الذي رسمه لنفسه دون ما بلغه الباحثون قبله. وحتى يتسع له أن يستأنف النظر من حيث توقف.
وفي السياق نفسه ينبغي أن يحدد منهجه وأن يكون أمينا في نسبة المستويين النظري والتطبيقي فيه إلى أهله، وألا يتصرف وكأن الأمر انطلق معه، متغاضيا عن كل الجهود التي بذلت من أجل الوصول به إلى المستوى الإجرائي الذي وصل إليه. ولعله من الصعب أحيانا الوصول إلى كل الأعمال التي أنجزت في مجال البحث المخصوص لكن من غير اللائق ألا ننتبه إلى الأعمال الدالة التي تمثل لحظة معرفية مهمة في الاختصاص الذي ننتسب إليه. ذلك أن البحث في مجال المعرفة ليس مشغل واحد فرد أو قضية جماعة اثنية بعينها. وإنما هو كوني الأبعاد، إنساني السمات، لا يعترف بحواجز. ولا ينتهي عند قومية من القوميات. وبسبب من ذلك تداخلت الاختصاصات داخل المخابر التي باتت تضم أجيال الباحثين من طلبة الماجستير إلى كبار الأساتذة. تخطى العمل المشترك الحدود وقامت اتفاقيات التعاون بين فرق البحث من البلدان المختلفة. وضعت برامج الدراسات المتكاملة. وأقيمت الندوات المشتركة. وكان الإشراف المزدوج على الباحثين من الثمار الطبيعية لكل ذلك. لا يستنكف أحد من استفسار أحد ولا يجد غضاضة في طلب المساعدة من زميل له مهما كان قريبا منه أو بعيدا عنه.
وإنه لأمر غريب ما نجده عند بعض باحثينا من حرص على تغييب أسماء كبار الباحثين الذين أفادوا منهم. فتراهم يعمدون إلى إثارة القضايا وشرح المصطلحات والتوقف عند المفاهيم، وكأنهم أول من التفت إليها. والأدهى أحيانا أنهم يستندون إليهم دون ذكر أسمائهم. يحرصون على طمس ذاكرتهم والحال أن ما يعمدون إليه هو إساءة إلى أنفسهم قبل أن تكون لهم. ذلك أن الإقرار للباحث بنسب في مجال البحث المعرفي إنما يحتكم أول ما يحتكم إلى المصداقية والنزاهة والخلق الرفيع.
والقول بضرورة الاعتراف بفضل السابقين لا يعني تقديسا لهم وامتناعا عن مناقشتهم حيث ينبغي أن يناقشوا ومراجعتهم حيث ينبغي أن تكون ثمة مراجعة. فليس من شك في أن البحث العلمي منذور أبدا للمساءلة والتقييم واستئناف النظر. ولكن ذلك ينبغي أن يدور في كنف خلق علمي لا يتراجع عن الإصداع بالرأي دون غبن الآخرين من العلماء حقهم من الاعتراف بالفضل. وثقافتنا العربية الإسلامية تعدّ من أعرق المدارس في هذا المجال. «(...) قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يقول: إذا قال سيبويه بعد قول الخليل» وقال غيره «فإنما يعني نفسه، لأنه أجلّ الخليل عن أن يذكر نفسه معه(...)»1 . فلا مخالفته شيخه الرأي حالت دون إجلاله. ولا إكباره إياه منعه من إبداء رأيه.
وعندما نقول بضرورة المصداقية في التوثيق، والتمسك بالأخلاق في إقرار السبق لأهله كان طبيعيا أن يتوقع الباحث اعتبارا لذلك، أمرين إما أن تلتفت الجماعة إلى ما أنجز لعده لحظة من لحظات صياغة المعرفة. توليه ما يليق من اهتمام. تأخذ منه ما تراه يستجيب إلى طبيعة العلم. وتعدل منه ما تراه جديرا بالتعديل. وتناقش ما تراه جديرا بالمناقشة. أو أنها تدعه ولا تلتفت إليه.
إن التواضع والنزاهة والمصداقية والتزام شرائط الموضوعية من العناصر الأساسية التي يحتاجها الباحث قبل استفراغ الجهد في عمله الذي يتطلع إلى إنجازه.
فالبحث العلمي أخلاق قبل كل شيء ونكران للذات واعتراف بالجميل.