خطاب الكرامة الصوفية مقاربة سيميائية
العدد 49 - أدب شعبي
اولاً: تحديدات أولية1:
نقومُ في هذه الدراسة بتحليل خطاب الكرامة الصوفية وذلك بالوقوف عند المسار التوليدي للخطاب لوصف المكونات التي يتشكلُ منها بنيويا ولإبراز اشتغالها لإنتاج المعنى .
1) الكتابة الصوفية:
لقد بين رولان بارت في تنظيراته أهميةَ اللسان (بمفهوم فردناند دوسوسير) بالنسبة للكتابة 1، فهو الجسد المحملُ بالعلامات التي يُمكن أن تكون قاسما مُشتركا بين كُل الكتاب خلال فترة من الفترات التاريخية، لذلك فإنها تُعد وسيلة وظيفية بالنسبة لكل أنواع الكتابة. نجدُ في سجل الثقافة العربية الإسلامية تعددَ أنواع الكتابة الصوفية التي تشتركُ مع هذه الأنماط الأخرى في اللغة بصفتها نَسقا دالا مُحددا.هذه الفرضية تجعلُ أن التمييز بين أنواع الكتابة يتمُّ على أساس الخَصائص الخطابية التي يتميزُ بها نمط كل كتابة. تتحددُ الكتابة الصوفية مثل أنواع الكتابات الأخرى من خلال مجموعة خصائص يجب توافرها. لنتمكنَ من الحديث عن الكتابة الصوفية لا بد من أركان ثلاثة تتحقق في هذه الكتابة، وهي: الغرض، والمعجم التقني والمقصد2، وهي أركان تُكونُ وَحدة غير قابلة للتجزئة.
يتحصلُ من هذا التحديد أن الكتابة الصوفية مثل أنواع الكتابات الأخرى (الشعرية أو التاريخية) تعتمدُ اللغة التي تقوم بتحويلها إلى مُتتالية من الأفعال اللغوية وما يمكن أن يميزها من الكتابات الأخرى التي تشتركُ معها في وسيلة اللغة هو المعجم الخاص بها والتيمة الأساسية التي تدورُ حولها والمقاصد التي تُوجهها .غير أن الكتابة الصوفية أنواع3، فهي تتوزع بين الشعر الصوفي والطبقات الصوفية وغيرها.
2) الكرامة:
تُعدُّ كلمة " كرامة" من بين الوحدات المعجمية التي يستندُ إليها معجمُ كتب طبقات الصوفية، فهي ترتبطُ بالعنصر الفاعل الذي تُترجِمُ له هذه الكتب وهو الولِي. وقد اهتم بعضُ مؤلفي هذه الكُتب بتحديد دلالة هذه الكلمة. يقولُ أبو يعقوب يوسف بن يحيى التادلي المعروف بابن الزيات: "اعلم أن كرامات الأولياء جائزة عقلا ومعلومة قطعا.وممن قال بها إمام المتكلمين القاضي أبوبكر بن الطيب فقال: إن المعجزات تختص بالأنبياء والكرامات تكون للأولياء. وذكر الإمام أبو حامد رحمه الله تعالى كرامات الأولياء، فقال: ذلك مما لا يستحيلُ في نفسه لأنه ممكن لا يؤدي إلى محال"4،
يعدُّ هذا النص أساسيا، فهو وارد في باب بعنوان: "في إثبات كراماتهم"، هدفهُ العام الاستدلال على ثبوت كرامات الأولياء؛ فهو يؤكدُ أنها مقبولة عقلا ويستند في ترسيخ ذلك على أقوال الأئمة وهم الباقلاني وأبوحامد الغزالي .كما يشير النص إلى نوعية الفروق بين الكرامات والمُعجزات.فإذا تمثلت الكرامة في كل أمر خارق للعادة، فإنها تكون غير مرتبطة بدعوى النبوة، لذلك اختصت بالأولياء، أما المعجزة فهي كل أمر خارق للعادة مرتبط بالنبوة، لذلك اختصت بالأنبياء."فلا تكون الكرامات قادحة في المعجزات بل هي مؤيدة لها، دالة عليها"5.
إن هذا التمييز وظيفي على مستوى الثقافة العربية الإسلامية، فهو يبينُ أن كرامات الأولياء تأخذ مرجعية ثقافية لها معجزات الأنبياء ولا يمكن أن تخرج عن نسق هذه المرجعية، لذلك فهي كرامات تابعة تؤكد على صدق المعجزات وصدق الدعوة بالنسبة للأنبياء.
3) النص:
سنشتغلُ بنص عنونه المحقق بـ: عبدُالله بنُ حسين الأَمغَارِي، وهو نص مأخوذ من كتاب دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر6 / ق 16 الميلادي لمحمد بن علي بن عسكر الشفشاوني المتوفى سنة 1592. يندرجُ النص ضمن جنس الطبقات الصوفية، أي الكتب التي تؤرخُ لمجموعة أعلام التصوف والأولياء الصالحين، حيث ينصبُّ الوصف بالخصوص على كراماتهم وخوارقهم والفضاءات التي كانوا يقيمون بها وينتقلون إليها ونوعية طعامهم ولباسهم وعلاقاتهم بمختلف فئات المجتمع. يقول المؤلف: "هذه فهرسة أذكر فيها جميع من لقيته بالمغرب من مشايخ وأخذت عنه رواية أو قرأت عليه علما أو استفدت منه بركة منذ نشأت إلى تاريخ كتبه"7.
يتحصلُ من النص أن الغرض العام في الكتاب هو الإخبار عن مشايخ المغرب في القرن 16، وإن كان اهتم بمشايخ الشمال الذين التقى المؤلف بهم أو استفاد منهم كأن يأخذ عنهم رواية أو علما أو بركة، لذلك حرص في الكتاب على عرض كرامات الأولياء وكل ما يتعلق بممارساتهم اليومية في المجتمع وقد اعتمد طريقة خاصة على مستوى الخطاب هدفها ترسيخ دلالة عند المخاطب هي دلالة "أثر حقيقة" الخطاب8 الذي يرويه وقد تحققت هذه المسألة بفضل خصائص خطابية سنحيلُ عليها.
ثانياً: تنظيم النص:
سنحاول أن نبين في هذه الملاحظات نوعية المقاربة المنهجية التي ستوجهُ تحليلنا لهذا النص.يمثلُ النص بالنسبة لهذا العمل أساسا نصا سرديا وذلك لكون الخصائص الخطابية التي تحددهُ تتحقق في الخطاب السردي:
يشمل النصُّ بعض الصيغ التعبيرية الأساسية التي يُبنى عليها الخطاب: " حدثني الرضي الشيخ أبو العباس" قال لي : تشيرُ هذه المعينات إلى العناصر الأساسية في النص وهي وجود: سارد يستثمر ضمير المتكلم لإنجاز وظيفة السرد، نص مسرود يتكون من الشخصيات والأفعال ومسرود -له يتلقى النص السردي. يندرج النصُ، إذا، ضمن بنية سردية تتكونُ من كل الترهينات الناقلة للنص والتي تُسهم في تحقيق المحكي .
يشمل النص نسقين : نسق لغوي، يتمظهرُ من خلاله النص، ونسق حكائي، أي مجموع العناصر الحكائية (الشخصيات التي تتأطر داخل فضاء وتنجز مجموعة من الأفعال كما تدخل في علاقات مع بعضها البعض، كما أن الشخصيات تتحولُ من حالة إلى حالة).وتتباينُ هذه العلاقات بين علاقات التوافق التي تساعد شخصيةٌ بموجبها شخصية أخرى أو علاقات التقابُل بين الشخصيات التي تؤدي إلى نوع من التعارض والجدلية .تبين هذه العناصر أن خاصية السردية تتحققُ في هذا النص، لذلك يمكن اعتماد المقترحات النظرية التي قامت سيميائيات السرد بصياغتها لتحليل النص السردي كيفما كانت طبيعته التجنيسية، سواء تعلق الأمر بالحكاية الشعبية أو بالقصة القصيرة أو بالأسطورة المتوفرة على الملامح السردية وقد تجلى ذلك خاصة في النموذج النظري الذي شيده ألجرداس جوليان كريماس مستلهما في ذلك تحليل عالِم الفولكلور الروسي فلاديمير بروب أو تنظيرات كلود ليفي ستروس بخصوص الأسطورة9.
ثالثاً: تقطيع النص:
لتحليل النص، سنقوم بإجراء أولي يهدفُ إلى توزيع النص من خلال مجموعة مقاطع بناء على معيار للتقطيع10 يتمثل في وحدة التيمة في كل مقطع، ذلك أن كل الملفوظات ترسخُ تيمة موحدة.
يفتتحُ المقطع الأولي (أ): بالملفوظ "ومنهم أعجوبة الدهر" .( دوحة الناشر، ص. 95)، يعدُّ هذا المقطع استهلاليا، ذلك أن التيمة التي تُوحد بين عناصره المعجمية هي: مركزية الشيخ في النص وقد أورد المؤلفُ مجموعة وحدات تحيلُ على مقومات ترسخُ هذا التشاكل مثل : الشيخ، المناقب، أعجوبة الدهر، وهي وحدات تعزز هذه التيمة .
أما المقطع الثاني (ب): فيُستهل بالملفوظ الآتي: "حدثني الرضي الشيخ أبو العباس قال لي" (دوحة الناشر، ص.95.)، تترابطُ الملفوظات في هذا المقطع لترسخ تيمة موحدة : مرافقة عبدالله بن حسين للشيخ أبى محمد الغزواني .وتعد هذه التيمة وظيفية لأنها تبينُ بداية اكتساب الشيخ عبدالله بن حسين "للبركة" التي ستُؤهله لأن يقوم بإنجاز مجموعة كرامات.
أما المقطع (ج): فيعمل على تخصيص التيمة الأولى (مركزية الشيخ)، ذلك أن الملفوظات السردية المكونة له تحددُ بعض مظاهر بطولة الشيخ، ومنها قدرته على استرداد "بقرته" التي استحوذَ عليها عمالُ السلطان مستعينا ببركة الشيخ الغزواني.
أما المقطع (د): الذي يستهلهُ المتلفظ بـ " فما كان إلا برهة من الزمن" (دوحة الناشر، ص. 96 )، فيعمل على تخصيص نفس الدلالة، حيث يحيلُ على حصول الشيخ على البركة وإنجاز كرامة إخصاب المرأة التي لا تَلِد.
أما المقطع (ه): فتعملُ ملفوظاته السردية على تحديد مكونات البرنامج السردي الثالث، نقرأ في المقطع: "انتشر صيت الشيخ عبدالله بن حسين وقصدتُه الوفود وظهرت على يده الخوارق التي لا تُحصى، منها أن الطير المؤذي كالبَرطال والجَراد ونحوها إذا نزل بفَدان زَرع أو بالكرم من الجنانات يكتب دعوته إلى الشيخ في رقعة وتجعلُ في قصبة وترفع في الفدان فإن الطير يرحلُ من حينه" ( دوحة الناشر، ص.97.)، تدلُّ ملفوظات هذا المقطع على قدرة الولي / البطل على إنجاز أفعال تُحقق قيمَ السرور للأفراد.
أما المقطع (و): فيمثلُ المقطع الاختتامي الذي ينتهي به النص. يُستَهلُّ كالآتي: "وبالجملة فمناقبه كثيرة لا تحصى، ولو تتبعناها لكانت تستدعي إلى ديوان مستقل" ( دوحة الناشر، ص.97.)، إذا كانت المقاطع السابقة تُخصص المقولة التي استهل بها المتلفظ النص وهي "مركزية الشيخ" من خلال وصف الأفعال / الكرامات، فإن هذا المقطع يتميزُ بمرحلة الجزاء كما تُحددها خطاطة السرد، وهي التي يقدمُ فيها المتلفظ "حكما" حول فعل البطل من حيث إنجاز المسار السردي وتحقيق الموضوع .
1) منهجية التحليل:
إن محاولة الاقتراب من بعض كرامات الأولياء هو تناولٌ لنوع من الكتابة التي تؤرخ لبعض الرجال الذين يرتبطون بالمعيش الاجتماعي والثقافي، لذاك لم يتم الاهتمام بهم على مستوى التاريخ الرسمي والعام.
تمثلُ الكراماتُ جزءا من الثقافة المغربية الشعبية، فطبولوجيا الجُغرافية المغربية على الساحل أو في الداخل تتميزُ بانتشار أضرحة أو أمكنة ترتبط باسم ولي تُحكَى عنه مجموعة كرامات ويقصدُه الناس للاستِشفاء من مرض يرتبطُ بالإنسان أو بالحيوان أو المساعدة على قضاء حاجة من الحاجات11.
يهدفُ تحليلُ الكرامة إلى الوقوف أولا عند مكوناتها التي تتحكمُ فيها من أجل إبراز كيفية اشتغالها على مستوى الواقع، فالكرامة لا تحيلُ على عناصر واقعية وإنما تعتمد على عناصر أسطورية غير مُحتملة. وعلى الرغم من أنها تحتوي على عناصر أسطورية، فهي تظلُّ حاضرة مثل عنصر من عناصر تأويل الواقع.
رابعاً: أصوات السرد:
يُفتتحُ النص كالآتي: "ومنهم أعجوبة الدهر الشيخ الولي ذو المناقب التي لا تُحصى كثرة أبو أحمد عبد الله بن حسين الحسني، من شرفاء بني أمغار أهل عين الفطر"( دوحة الناشر، ص.95)، نلاحظ أن عملية التلفظ تعتمدُ ضميرَ الغائب لإنتاج الخطاب، وهذا الاختيار له انعكاسات فنية على مستوى وضعية السارد ؛ فهو يبدو خارج الحكاية، كما أن اعتمادَه على ضمير الغائب يمثلُ سمة من سمات إضفاء "أثر الحقيقة"12 على الخطاب، فالسارد يُقنِع، استنادا إلى هذا الاختيار، بموضوعية الخطاب .
يعدُّ هذا الاستهلالُ وظيفيا، إذ قام السارد بتحديد الإطار العام للنص وهو الذي يشملُ عنصرا (شخصية عبدالله بن حسين الأمغاري) سيتمركزُ حولَه السرد يرتبطُ تحديد الإطار برسم السمات العامة لهذه الشخصية: أعجوبة الدهر –الشيخ –الولي- ذو المناقب، وهي سمات تكشِفُ صورة الشيخ، تقدمهُ هذه الصورُ مثل شخصية خارقة في زمنه بفضل ولايته ومناقبه.إن تبئير الشخصية منذ الاستِهلال يبرز أن نموَّ النص سيصفُ مسارَ الشخصية من حيث الحالات التي يكونُ عليها والتحولات التي يمر منها إلى حالات جديدة، بمعنى أنه سَيصورُ المسار السردي لشخصية الولي.
بعد المقطع الاستهلالي في النص، ستتميزُ عمليةُ التلفظ بحدوث لا-اندماج تلفظي، وهي آلية تلفظية يتم بموجبها إسقاط ضمير الغائب وإبداله بضمير آخر مغاير هو ضمير المتكلم، حيث يقول:
" حدثني الرضي الشيخ أبو العباس قال لي: لما مر الشيخ سيدي أبو محمد الغزواني بضريح الشيخ أبي ابراهيم المدفون بقرية تامصلوحت"13 ( دوحة الناشر، ص.95)
نلاحظُ في هذا المقطع الثاني أن السارد الذي هو المؤلف الفعلي يتجاوزُ القاعدة السردية التي افتُتِح بها النص ويُدرِج نفسه داخل السرد اعتمادا على ضمير المتكلم "حدثني"، غير أنه لا ينجِزُ السرد بصفة مباشرة، فهو يسرد بواسطة سارد ثان هو الشيخ أبو العباس "الرضي الشيخ أبو العباس قال لي:"، غير أن الفرق بين الساِردَين هو أن الشيخ أبا العباس يُؤدي وظيفتين في النص : فهو سارد ثان ويُعد في الوقت نفسه شخصية من بين شخصيات الحِكاية، إنه سارد داخل الحكاية. تبينُ خاصية وجود السارد الثاني حرصَ المؤلف – السارد على مصدر الحكاية؛ فهو يدمِج الشيخ أبا العباس ليستند إليه بصفته سلطة يستقي منها ما يحكيه. وتظهر وظيفة هذه الآلية التلفظية في كون السارد يستند إلى الشيخ أبي العباس الذي يحمل سمة أساسية وهي أنه ابن الشيخ، لذلك فإن خطابَه سيكون مُقنعا. وتلتقي هذه الصيغة الفنية في الكتابة مع آلية السند في الثقافة العربية الإسلامية، فصحة المتن تقترنُ بالسند14، أي بسلسلة الرواة الذين تتوفر فيهم الثقة.
إن التغيير الذي يُميز عملية التلفظ من حيث تنويعات الضمائر في السرد يرتبطُ باستراتيجية السارد؛ فهو يحاول أن يشيدَ خطابه معتمدا على مجموعة من الصيغ من بينها تفويض السرد لسارد ثان يمكن أن يكون حُجة هو الشيخ أبو العباس الذي كان مُلازما لأبيه. ترمي هذه الصيغة في التلفظ إلى إقناع المسرود له بموضوعية الخطاب الذي يرويه، أو "بحقيقانيته"15، وهو السبيل للإقناع بالكرامات التي سينسِبها للشيخ أبي عبد الله الحسني الأمغاري .تتضحُ وظيفية هذه الآلية من خلال هيمنة صوت السارد الثاني في النص، فهو يظلُّ ناقلا لأخبار الولي كما تبرز ذلك الملفوظات: "وكان والدي في جملته، فالتفت إليه الشيخ وقال له ...قال: فارتحل والدي". تدلُّ استراتيجية التلفظ على أن السارد له مقصِدية الإخبار وإقناع المخاطب – المسرود له الذي يوجدُ في الطرف الآخر من عملية التواصل.
خامساً: المسار التصويري:
إن ما يميز هذا النص من النصوص الأخرى الشعرية أو التاريخية هو المُعجم الذي ينبني عليه، فهو معجم يرتبط بالتيمة الأساسية،لذلك سنعملُ على تحليل هذا العنصر انطلاقا من مفهوم المسار التصويري الذي يُحللُ الوحدات المعجمية في نسقيتها، فإذا كانت "الوحدات المعجمية تظهر، مبدئيا، في إطار الملفوظات، فإنها تَتعالى على هذا الإطار وتكونُ لنفسها مسارا تصويريا علائقيا ينمو وفق مقاطع كاملة ويكونُ مجموعة من الأشكال الخطابية"16. يُعد مفهوم المسار التصويري إجرائيا؛ فهو يجعلنا نتجاوز تحليل الوحدات المعجمية كوحدات منفصلة لأنه يؤكدُ على ضرورة تحليلها من منظور علائقي. حين يحددُ الخطاب تشاكلا دلاليا17 عاما، فإنه يعمل على تكوين مسار عام يتشكلُ من وحدات معجمية تُخصص هذا التشاكل .
يمكن إذا، تحليل المعجم مثل نسقٍ تربط بين عناصره مجموعة علاقات تفضي إلى تكوين دلالة عامة .نحدد في البداية جملة الوحدات المعجمية التي تميزُ المعجم في النص:
- "والقرية المذكورة خالية متعطشة لا ماء بها".
- و"الأرض خالية مقفرة لا أنيس بها" .
تتميز هذه المجموعة بآلية خطابية هي التراكم لوحات تتكرر أو تكون متقاربة؛ فالوحدات "خالية" تدل على الفراغ، وهو نفس المقوم الدلالي الذي تحيل عليه الوحدة "مقفرة". أما الوحدات "متعطشة" و"لا ماء بها" فتدل على نضوب الماء. إن توارد هذه المقومات يفضي إلى دلالة منسجمة هي: الجفاف.
- "المرأة العقيمة إنما تلد إذا أكلت طعاما مسته يدك".
- "إن الله يحيي عمرانه على يديك".
تشتملُ المجموعة على وحدتين معجميتين: "تلد، يحيي"، تُسهمان في الانتقال من حالة العقم إلى الولادة ومن الموت إلى الحياة، لذلك فإن التجانس الدلالي للمقومات يُسعفُ في بناء دلالة: الخصب.
- "من كان في كفالة أولياء الله لا يخاف شيئا" .
تحيلُ الوحدات المعجمية إلى مقوم الأمن، ذلك أن من كان في ضيافة الولي لا يمكن أن يساوره الخوف من العوامل الخارجية، سواء من السلطة أو غيرها من العوامل المعاكسة الأخرى.
- " تقوت العزيمة"
- "ظهرت على يديه الخوارق"
- "جعل لك الحكم على كل طير يؤذي"
تفصح وحدات هذه المجموعة عن "أثار معنى" منسجمة؛ فالعزيمة تدل على الإرادة القوية والثبات.والخوارقُ تحيلُ على الإنجاز المُبهِر والمُعجِز الذي يتجاوز الطبيعي، و"الحكم على كل طير يُلحق أذى"، يجدُ له مرجعية في القصص القرآني ويدلُّ على المعرفة بلغة الطير.تفضي آثار المعنى في انسجامها إلى دلالة منسجمة وهي : القوة .
- "الله جعل لك حكمة".
تدلُّ الوحدة الرئيسة في الملفوظ على المعرفة التي يتميز بها الولي / الذات الفاعلة في المحكي الصوفي، لذلك فهي تُحيلُ على العلم.
نلاحظ أن المسار التصويري يشتغلُ عبر آليات؛ يتميز بتراكم الوحدات المعجمية التي تربط بينها علائق، حيث تحيل على "آثار معنى" منسجمة تعملُ على تأكيد مقوم دلالي موحد. تؤدي العلاقات بين هذه الوحدات إلى ترسيخ بعض المقومات الدلالية : الجفاف، الخصب، الأمن، القوة. تُعد هذه المقومات تكثيفا لدلالة هذه الوحدات المتميزة بالتمطيط.
نلاحظُ في الوقت نفسه تراكمَ وحدات معجمية تتميز بالتقابل، و يفضي إلى بناء مقولات تتميز بالتقابل، بحيث نصبح أمام المقولات الآتية:
- الجفاف / الخصب
- الأمن / الخوف
- القوة / الضعف
- العلم / الجهل
تعدُّ هذه المقولات الاثنانية المتولدة عن المسار التصويري أساسية لأنها تحددُ عناصر الدلالة في النص.فالمقولات الاثنانية ترتبطُ بالحقل السوسيوثقافي العام:
- "الخصب / الجفاف" تحيل على مقولة طبيعية.
- "القوة /الضعف" تحيل على مقولة سوسيوثقافية.
- "الأمن /الخوف" تحيل على مقولة اجتماعية –نفسية.
- "العلم/ الجهل"تحيل على مقولة ثقافية.
ترتبط المقولات الاثنانية التي تولدت عن تحليل المسار التصويري بالشيخ / الولي / الذات الفاعلة، أي العنصر المُؤَطَّر في النص، ذلك أن وحدات المسار التصويري كلُّها مركزة حول الولي. ترتبط ُالمقومات الإيجابية في هذه المقولات بمسار البطل، فهو يحققُ الخِصب ويحاولُ أن ينفي الجفاف، جفاف الطبيعة.وهو يمتلكُ القوة وينفي الضعف، فكما يواجهُ الطبيعة، يواجه أسباب الضعف. وهو يحققُ الأمن ويبعِدُ الخوف، الخوف من السلطة أو من الطيور المؤذية.وهو يمتلكُ العِلم والحكمة، وينفي الجهل.
يمكن أن نَعدَّ هذه المقولات الاثنانية المتقابلة سننا عاما يتَحكمُ في النص. إذا كانت هذه المقولات الاثنانية تتحكمُ في النص وتُحدد عناصر الدلالة الأولية، فإنها ترتبطُ بالبنية العميقة للنص، أي الدلالات الناتجة عن تراكم المُقومات من خلال العلاقات بين الوحدات المعجمية، فكيف تتحققُ هذه الدلالة على مستوى البنية السطحية التي تتمثلُ في مجموعة العوامل الفاعلة في النص؟
سادساً: بنية العوامل في النص:
سنحاولُ في هذا العنصر تحليل التركيب العاملي الذي يبرزُ مسارَ الشخصيات في اكتساب قدرة معينة على إنجاز الأفعال وفي كيفية إنجاز برامجها السردية التي يمكن أن تنتهيَ بالفشل أو بالانتصار لأن الشيخ الولي يتخذُ في النص مسارا عاما هو المسار السردي وينتقلُ بمراحل متعددة داخل هذا المسار، حيث تعترضه "الاختبارات" قبل أن يصلَ إلى مرحلة القدرة التي يكتسب فيها صفة البطل القادر على تحقيق الموضوع الذي حددهُ لنفسه. إن الاختبارات تنتُجُ عن حركة الشخصيات الأخرى التي تعاكسه وقد تهدفُ إلى إفشال برنامجه، فغلبتها تُرجح قدرته السالبة وغلبتُه ترجح قدرته الإيجابية .إن التركيب العاملي هو المستوى الذي يقوم باستجلاء مسار الشيخ- الولي في بحثه عن الموضوع وعلاقته بجملة العناصر الأخرى الفاعلة في النص .هذه الحركة المُعاكسة أو المساندة هي التي تُولد دينامية المسار السردي وتبرز أهمية هذا العنصر على مستوى الدلالة، إنه ينتج "آثار المعنى" التي تكونُ الدلالة العامة للنص.يتم تحليل التركيب العاملي من خلال مستويين يُعدُّ كل واحد منهما مُتمفصلا مع الآخر، وهما: مستوى الفواعل والعوامل، فتحليل المستوى الأول يفضي إلى الثاني.
حسب هذا التحديد، يعد الفاعلُ عنصرا قابلا للتفريد ولاتخاذ لقب ومجموعة من السمات. تعدُّ هذه العناصر إجرائية بالنسبة للفاعل في النص السردي، فهي تمثلُ مجموعة مؤشرات تساعد القارئ على بناء مكونات الفاعل لإعطائه بعدا دلاليا داخل النص في علاقته بالشخصيات الأخرى.
يمكنُ في ضوء هذا النموذج أن نحدد مجموعة فواعل النص مع السمات التي يختصون بها لنتمكن من تحليل هذا المستوى، وهم كالآتي حسب ظهورهم في النص:
- أبوأ حمد عبد الله بن حسين الحسني.
- الشيخ أبو العباس
- الشيخ سيدي أبو محمد الغزواني .
- الشيخ أبو إبراهيم .
- المرأة العقيمة .
- عمال السلطان.
- الشيخ أبو الحسن على بن أبى القاسم.
يُدرج الساردُ الفاعل في النص مُرفقا بالاسم الذي يُعد أول سمة تتخذُها الشخصية، وهذه السمة وظيفية لأن التسمية تميز أولا بين الفواعل في النص، غير أن السارد يضيفُ مجموعة صفات أخرى ترتبط بالاسم .بالنسبة للفاعل الأول في النص: عبد الله بن حسين، يستهلُّ السارد النص بمجموعة من السمات التي تصفهُ قبل ذكر اسمه:
"ومنهم أعجوبة الدهر الشيخ الولي ذو المناقب التي لا تحصى. أبو احمد عبدالله بن حسين الحسني" (دوحة الناشر، ص. 95).
إن التبئير الخارجي لهذا الفاعل مند المقطع الاستهلالي في النص هو للتأكيد على "وظيفية" هذه السمات في تكوين صورة الفاعل ودلالته، حيث تُحددُ هذه السمات بالنسبة للقارئ جملة الممارسات والسلوكات لهذا الفاعل. إن الوحدات التي تصف الفاعل تنتظم بشكل نسقي داخل "مسار تصويري"18.
لأنه يسمحُ بتشييد صور لهذا الفاعل نصطلحُ عليها بالأدوار التيماتيكية لأنها تصف الممارسات السوسيوثقافية للفاعل. يقدمُ النص مجموعة من الوحدات المعجمية التي تحددُ السمات العامة لهذا الفاعل.-المسار التصويري لعبدالله بن حسين الأمغاري:
- أعجوبة الدهر، الشيخ، الولي"المشيخة" شيخ، ولي.
- شرفاء بني أمغار "الشرف" شريف.
- الشيخ سيدي أبومحمد الغزواني "العلاقة بالشيخ الغزواني" الشيخ الغزواني.
- وكان والدي في جملته مرافقة الشيخ محمد الغزواني مرافق للشيخ الغزواني - ياسيدي اجعل لي سببا استعين به على هذا الشأن طلب السبب من الشيخ الطالب.
انتشرَ صيت الشيخ ... وقصدتُه الوفود تطلبُ منه البركة الشيخ المطلوب.
نلاحظ أن كُل ملفوظ يمكن اختزاله إلى تيمة تمثلُ المقوم الدلالي العام والمنسجم، وكل تيمة تشير إلى إنجازات الفاعل، أي إلى الأدوار التيماتيكية التي يُنجزها .إن هذه الأدوار التيماتيكية (شيخ، شريف، مريد الشيخ الغزواني، مرافق الشيخ الغزواني، الشيخ الطالب، الشيخ المطلوب) وظيفية؛ فهي تحددُ صورة مُكثفة لهذا الفاعل، إنها تحيلُ على أحد العناصر الفاعلة في ثقافة المجتمع المغربي خلال فترات تاريخية هو عنصر الولي الذي يرتكز، حسب التحليل، في تجذره في المجتمع على مجموعة من القيم السوسيوثقافية، فدور مرافق للشيخ الغزواني يحيلُ على العلاقة الروحية بين الولي وشيخه.أما دور مريد الشيخ الغزواني، فيحيلُ على العلاقة الروحية التي تربط الشيخ بالشيخ-المرجعية.
إن إنجاز الفاعل لهذه الأدوار السوسيوثقافية يجعلُه، من بين الفاعلين، المؤهلَ لأن يؤدي وظيفة مركزية في النص هي وظيفة العامل-الذات التي يمكنُ أن تضطلعَ بإنجاز أفعال وببرنامج سردي .هذا الموقع تعززهُ أيضا خاصية نصية، وهي أن السارد يدرجه في مُستهل النص بغرض تبئيرِه، لذلك فهو يؤدي وظيفة الذات الفاعلة.
تمكنُ قراءة النص من تحديد البرامج السردية لهذه الذات الفاعلة، ذلك أن الذات تقوم في النص الصوفي بأفعال وإنجازات خارقة مُتعددة على شكل برامج سردية سنعملُ على تحليلها جميعِها ثم محاولة التركيب بين مكوناتها.
يتحددُ البرنامجُ السردي في الوقت الذي يصبح فيه العامل-الذات مرتبطا بموضوع-قيمة، أي بموضوع تنغرسُ داخله قيم اجتماعية أو ثقافية وتكون العلاقة بينه وبين الموضوع علاقة رغبة، فنوعية العلاقة هي التي تؤشرُ على بداية برنامج سردي خاص بالعامل الذات. نميزُ هنا بين الموضوع والقيمة ؛ فالموضوع هو موقع أو فضاء تركيبي19 يحتوي على قيمة معينة، والعامل حين يحاول الحصول على الموضوع، إنما يحاول، في الحقيقة، تملكَ تلك القيمة لأن الموضوع يكتسي أهميته بما يحملُه من قيم.
نقرأ في المقطع(ج):
"...ثم إن الشيخ الغزواني تُوفي وأقمنا مُدة مديدة، فاجتازَ يوما بعض عُمال السلطان على طريق تامصلوحت، فوجدَ تلك البقرة في بعض مراعيها، فقال لأصحابه: هذه ضالة حيث هي وحدها فاحمِلوها وصَيروها في بعض مصالحِ المخزن، فلما تَفقدها والدي قيل له إن خُدام السلطان حملوها، فذهب إلى مراكش وهولا يعرف بها أحدا ..." ( دوحة الناشر، ص.96).
إن تحليل مكونات المقطع يكشف عن مجموعة ملفوظات سردية دالة:
- صَّيروها (البقرة ) في بعض مصالح المخزن .
- فلما تفقدها والدي قيل له إن خدام السلطان حملوها.
- فذهب إلى مراكش وهولا يعرف بها أحدا...
تُمسرح الملفوظات مشهدا سرديا يتكون من الذات الفاعلة (الولي عبد الله بن حسين) ومن موضوع (البقرة) ومن قيمة (مادية = أهمية البقرة بالنسبة للشيخ) ترتبطُ بالموضوع، وعلاقة الذات بهذا الموضوع هي علاقة انفصال، لذلك فإن العامل - الذات يرغبُ في استرجاع البقرة التي أخذها عمال السلطان .إن هذه العلاقة بين الذات والموضوع هي التي تُمثل العنصر الدينامي المُحرك للبرنامج السردي، فتجريد الذات من الموضوع يجعله في علاقة مُواجهة جَدلية مع السلطة. يقدمُ المشهد العناصر الآتية :
(عا 1 U موضوع- قيمة )
|
▼
(عا 2 ∩ موضوع- قيمة )
إن الانتقال من حالة الفقد إلى حالة الاتصال وتَملك الموضوع لا يتم إلا من خلال برنامج آخر يساير البرنامج الرئيس، والجوهرُ فيه هو الحصول على الاستطاعة التي تُسعف في إنجاز الموضوع لأن كل إنجاز يتطلب بشكل منطقي استطاعة .إن الذات الفاعلة تُواجَه في هذا البرنامج بعناصر أخرى تحاولُ إلحاق الفشل بالذات الفاعلة، وتتمثلُ في: عمال السلطان، خدام السلطان. يُعد هذا العامل جماعيا لأنه يُعد تمثيلا للسلطة. تشيرُ هذه الوضعية التركيبية بشكل مُحايث إلى وجود برنامجين مُتسمين بالازدواجية؛ إذا كان هناك عامل يفقِد الموضوع، فإن هذا يعني أن هناك عاملا ثانيا هو الذي يمتلِكُه، إن مواضيع القيمة تتميزُ بالانتقال من عامل إلى آخر، من الشيخ إلى عمال السلطان.
يحيلُ هذا المشهد على وجود تصادم جدلي بين عاملين، كلُّ واحد منهما يريد الحصول على الموضوع، فهناك البطل والبطل- المضاد، ويمكن صياغة هذه العلاقة على الشكل الآتي:
تعني حركةُ العامل المعاكس أن قدرة َ العامل –الذات سلبية وأنه سيستمرُّ في حالة انفِصال،لذلك فهو مُجبر على التماسِ المُساعدة من عامل –مساعد يوفرُ له الاستطاعة لتحقيق الموضوع. إن الاستطاعة بالنسبة للولي هي العنصر الأساسي، فهي ليست بقدرة مادية كما هي قدرة عُمال المخزن، ولكنها قدرة تنتقل عبر اللغة، قُدرة لغوية، قدرة تنتقلُ من الشيخ المدفون إلى مريده الذي يحكي عن حالته ويبكي على قبره.
نقرأ في المقطع (ج):
"فذهب إلى مراكش وهو لا يعرفُ بها أحدا سوى الشيخ أبي الحسن على بن أبي القاسم المتقدم الذكر، فذهب إليه وأخبره بما جرى، فقال له : ومن هو هذا العامل؟ فقال له لا أدري، فقال أبو الحسن: اذهب إلى شيخِك الذي أسكنكَ في ذلك القبر ليرد عليك بقرتك.قال فَخرج من عنده إلى قبر الشيخ الغزواني وبكى عليه ثم حَكى له مقالة أبي الحسن وانصرف خارجا إلى تامصلوحت، فلما خرج من الباب الجديد وجدَ البقرة واقفة والعامل راكب بإزائها" (دوحة الناشر، ص.96)
يشمل المقطع الملفوظات السردية الآتية :
- "فقال فخرج من عنده إلى قبر الشيخ الغزواني وبكى عليه ثم حكى له مقالة أبي الحسن"
- "فلما خرج من الباب الجديد وجد البقرة واقفة والعامل راكب بإزائها".
وهي تبين وضعية َالذات التي تتميزُ بعناصر جديدة:
- حصول الذات الفاعلة على القدرة، وتتمثل في "بركة" الشيخ الغزواني التي تُمكنه من تحقيق الموضوع.
- إنجاز الذات الفاعلة للبرنامج السردي، وهو الحصول على الموضوع –القيمة (البقرة)، نتيجة حُصوله على قيمة القدرة، وهي التي تُحقق له الاستطاعة.
إن وحدات الملفوظ السردي "فخرج من عنده إلى قبر الشيخ الغزواني وبكى عليه ثم حكى له مقالة أبي الحسن "تبينُ أن القدرة التي حصلَ عليها الولي والتي تستندُ على بركة الشيخ تنتقل من الشيخ الغزواني الذي يتسم بسمات:/ ميت/، / مدفون/، إلى مُريده الذي يبكي على قبره ويحكي له قصته مع العناصر المُعاكسة (عمال السلطان). وتعدُّ هذه القدرة أسطورية لأنها تنتقلُ من الشيخ الميت إلى الولِي الحي.
على المستوى الوظيفي، يشيرُ هذا الانتقال للقدرة إلى وظيفة الشيخ وهو في العالم الآخر، بمعنى أن الفعل في هذا النص لا يرتبط بالأحياء دون غيرهم، ولكنه يرتبط أيضا بالشيوخ الذين يفعلون وهم في حالة موت. فالشيخ الغزواني يستطيعُ أن يُحقق للذات الفاعلة القدرة التي تُسعفه في الاتصال بالموضوع (البقرة). إن هذه الخاصية (اشتغال الشيخ الميت) تفرضُ ضرورةَ التفكير في تصنيف خاص بالذوات الفاعلة في نصوص الكرامات، فالذات لا تتميزُ في هذه النصوص دائما بسمات: + حي، + فرد، فهو يمكن أن يتميزَ أيضا بسمة: + ميت، لكن رغم هذه السمة، فإنه يشتغلُ ويُؤدي وظائف داخل النص .يمكن، إذا، أن نلاحظ داخل نصوص الكرامات وجود طبقتين من الذوات :
- طبقة الأحياء.
- طبقة الأموات أو طبقة الأرواح .
ما تشتركُ فيه الذوات في هذه الفئات هي "الوظيفية" أي قدرة الذوات على الاشتغال، على تأدية مجموعة أفعال. إن القدرة كعنصر أساسي بالنسبة لتحقيق البرنامج السردي تنتقل من الشيخ "المدفون" إلى الولي الذي يؤدي وظيفة الذات الرئيسة.إذا كان مصدر هذه القوة هو طبيعة الأموات /الأرواح التي تنجز وظيفة على مستوى النص، يمكن أن نَعُدها "قدرة" أسطورية20 لأنها صادرة عن فئة الذوات غير القادرة على إنتاج قدرة "مادية" مُحققة تُضاهي قدرة العامل المعاكس. إن شكلَ القدرة في النص هو من بين المكونات الأسطورية في نصوص الكرامات، أي أن هذا العنصر هو الذي يُحدد المظهر الأسطوري في نص الكرامة .إن القدرة الأسطورية التي تحصُلُ عليها الذات الفاعلة هي التي تُسعِفها في الحصول على الموضوع وهو استرجاع البقرة من "عمال المخزن" الذين يُجسدون السُّلطة بمظهرها القهري و الإكراهي. ويمكن صياغة هذه الوضعية من الحكاية بالملفوظ الرمزي الآتي :
(عا ∩1 موضوع ) ---◄ ( عU 2 موضوع)
يتحصلُ من الملفوظ أن امتلاك العامل الأول للموضوع يدلُّ، ضمنيا، على فُقدانه بالنسبة للعامل الآخر.وتدلُّ هذه الحالة السردية الجديدة على انتهاء سيرورة الصراع بين العامل- الذات (البطل) ومعاكِسِه (البطل –المضاد) بانتصار العامل الأول معتمدا على القيمة الجهية : القدرة، مُستمدة من بركة الشيخ. تعدُّ "البركة" قيمة ثقافية يحصلُ عليها العامل- الذات (الولي) من خلال العلاقة بالشيخ-المرجعية .ينمو النصُّ بصيغة تبين تحولَ الولي من وضعية إلى وضعيه جديدة .فالمقطع – ج- الذي يحققُ فيه العامل الذات أول برنامج سردي ينتهي بملفوظ سردي أساسي:
" فذهب والدي مسرورا بما جرى من كرامات وقد تقوت العزيمة" (دوحة الناشر، ص .96).
يشير الملفوظ السردي إلى قدرة وإنجاز إيجابيين بالنسبة للعامل الذي تحولَ من وضعية الشيخ التابع إلى شيخ له أتباع و يتميز "ببركة". فالعنصرُ الأساسي في البرنامج السردي في هذه النصوص هو القدرة التي تُحدد بهذه القيمة الجهية: "البركة"، وهي قيمة ثقافية غير مُحققة ماديا، لكنها أساسية لأنها هي التي تجعلُ من الولي قادرا على أداء جملة وظائف داخل الإطار السوسيوثقافي.
تقدمُ لنا المقاطع الأخرى في النص (د- ه) مجموعة من البرامج السردية التي يقومُ العامل-الذات(الولي) بإنجازها. يمكن أن نتبينَ ذلك من خلال تحليل الملفوظات السردية:
"فقال أبو الحسن: لي امرأةٌ لا تلِد قط وأردتُ الذريةَ فجئتُ بها إلى ضَريح سيدي ابراهيم، فقال له والِدي: هذه الحاجة تُقضى إن شاء الله بحول اللهِ ومَشيئتِه من بَركَةِ شيخي، فقال له افعل ما أمرك به، فأمر والدي بصُرة دقيق تأتيه، فأتى بها وفتحها وثَفل فيها ثلاثا، وقال لأبي الحسن: مُرها تجعلُ منها عصيدة وتفطرُ عليها ثلاثة أيام، ففعلت وحملت من حينها. فجاءت بولد ثم بآخر وثالث" (دوحة الناشر، ص.96)
يشملُ النص مجموعة ألفاظ سردية تبينُ عناصر البرنامج السردي الثاني:
1. لي امرأة لا تلد قط وأردت الذرية .
2. فقال والدي هذه الحاجة تُقضى إن شاء الله بحول الله ومشيئته من بركة شيخي .
3. مُرها تجعل منها عصيدة وتفطر عليها ثلاثة أيام، ففعلت وحملت من حينها.
بناء على هذه الملفوظات، يمكن أن نُحلل مكونات البرنامج السردي :
1. العامل المرسل في هذا البرنامج هو الحاجة النفسية –الاجتماعية والتي تتمثلُ في رغبة أبي الحسن في الحصول على ذرية تضمن له الاستمرارية .
2. العامل -الذات هو الولي الذي يستند على البركة لإخصاب المرأة العاقر، وتُمثلُ هذه البغية الموضوع- القيمة الذي يرتبطُ به العامل –الذات على محور الرغبة .كما يوجدُ تحديد واضح للقيمة الجهية التي يرتكزُ عليها برنامج الاستعمال وهي: البركة التي تكونُ القدرة الأساسية للعامل- الذات.
3. يشير الملفوظ السردي إلى إنجاز العامل –الذات للبرنامج السردي الرئيس، ويتمثلُ في نجاح وصفة الولي وقدرة المرأة على الإنجاب، وتَحَول ِالمرأة من حالة العقم إلى حالة الإنجاب .
أما المقطع (ه): فتقوم ملفوظاته السردية عل تحديد مكونات البرنامج السردي الثالث، نلاحظ ذلك من خلال النص:
"انتشر صيت الشيخ عبدالله بن حسين وقصدته الوفود، وظهرت على يده الخوارق التي لا تُحصى، منها أن الطير المُؤذي كالبَرطال والجَراد ونحوها إذا نزل بفَدان زرع أو بالكرم من الجنانات يكتبُ دعوته إلى الشيخ في رقعة وتجعل في قصبة وتُرفع في الفَدان فإن الطير يرحل من حينه" (دوحة الناشر، ص.97).
تحيل ملفوظات النص على مكونات البرنامج السردي :
1. انتشر صيت الشيخ عبدالله بن حسين وقصدته الوفود، وظهرت على يده الخوارق.
2. منها أن الطير المؤذي كالبرطال والجراد ونحوها إذا نزل بفدان زرع أو بالكرم من الجنانات يكتب دعوته إلى الشيخ في رقعة وتجعل في قصبة وترفع في الفدان فإن الطير يرحل من حينه .
يشيرُ الملفوظ السردي الأول إلى العامل –الذات وإلى قدرته التي يضاف إليها عنصر آخر يزكي البركة وهو الخوارق التي تظهرُ على يديه، فهي تُدعم قُدرته الإيجابية.
أما الملفوظ السردي الثاني، فيشير إلى الموضوع –القيمة الذي يُحققه العامل –الذات وهو إبعاد البَرطال والجراد عن الحقول لضمان سلامة المحصول، ويمثلُ تحقيق هذا البرنامج الإنجازَ الإيجابي للعامل.
3. أما العامل- المرسل فيتمثلُ في الحاجة الاجتماعية للوفود التي تقصِد الشيخَ طالبةٌ العون.
تركيب:
إن المقارنة بين هذه البرامج السردية لنفس العامل –الذات تبرز أن هناك قواسم مشتركة بين جميع البرامج السردية:
فالمرسل في خُطاطة العوامل كما حللناها هو قاسم مشتركٌ بين جميع البرامج، إذ يتمثلُ دائما في حاجات المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية.إن وحدةَ المرسل دالة، فهي تبينُ ارتباط الولي بالمجتمع في بنيته الاقتصادية والنفسية والاجتماعية. إن وحدةَ المرسل تبين ارتباط الولي بالمجتمع ليس فقط في ما هو روحي حيث يكون دائما صورة مستنسخة من شيخ آخر، ولكنها تعزز ارتباط الولي بالمجتمع في الحياة المادية اليومية.
نلاحظ أن القدرة الإيجابية للعامل المساعد تتكون في هذه البرامج من" البركة" بصفتها قيمة جهية ثابتة.
نلاحظ أن المرسل –إليه يتكونُ دائما من الأفراد الذين يمثلون عينات من المجتمع، وهذا يعني أن المستفيد من الموضوعات التي يحققها العامل –الذات هو المجتمع في كليته.
إن هذه العناصر المهيمنة في كل البرامج السردية تُمكننا من اختزال هذه الخطاطات إلى خطاطة عاملية مُوحَّدة للنص :
يمكن أن نلاحظ من خلال هذه الخطاطة العاملية الموحدة :
يستطيعُ العامل –الذات في هذه البرنامج السردية أن يُحققَ بشكل إيجابي موضوع-القيمة الذي يرغب فيه وهذا يتضمنُ فشلا بالنسبة للعوامل الأخرى التي توجد معه في علاقة صراع، بمعنى أن برنامج العامل-الذات هو برنامج انتِصار لأنه ينتهي بتملك الموضوع-القيمة .
تتمثلُ القدرة الإيجابية للعامل –الذات في "البركة" بصفتها قيمة جهية، فهي تمثلُ بالنسبة إليه القدرة التي تمكنهُ من تحقيق موضوع –القيمة الذي يُحدده لنفسه.
المستفيدُ من إنجازات الولي في النسق الحكائي هو المجتمع مُمثلا في الأفراد .
خاتمة :
بعد تحليل مكونات الكرامة خطابيا وتركيبيا، يمكن استخلاص العناصر الآتية :
-على مستوى البنية.
-تعدُّ الكرامة نسقا يتمفصلُ داخله نسق لغوي ونسق حكائي، فالنسقُ الحكائي يعتمد النسق اللغوي للتمظهر والتحقق.
-تتميزُ الكرامة بمكون أسطوري يخالفُ نصوص الكتابة التاريخية مثلا، فهي تشتملُ على مستوى الفاعلين على فئات فواعل أحياء وأموات، لهم القدرة على إنجاز وظائف على مستوى النص.
-تتحكمُ في البنية العامة للكرامة ثوابت النصوص السردية، فهي تتوفر على عوامل تُنسج بينها علائق وينمو النص وفق الدينامية التي توجد بين هذه العوامل.
-تتسمُ بنية الكرامة ببعض خصائص الحكاية الشعبية، وتتمثلُ في العامل المساعد المُتسم بالطبيعة السحرية، "فالبركة" تكاد تشبه العصا السحرية التي يستعينُ بها االعامل -الذات للتغلب على البطل –المضاد كما يشير إلى ذلك فلاديمير بروب في تحليله للحكاية الشعبية.21
- تتميز الكرامة بازدواجية البرنامج السردي، فهي تشمل برنامج العامل-الذات المُهيمن أي البطل وفي الوقت نفسه برنامج العامل-الذات الذي يُعاكسه، أي البطل المضاد، فالراوي لا يحكي حكاية واحدة ولكنه يحكي حكايتين، حكاية البطل والبطل المضاد وهي من الخصائص الأساسية في خطاب الحكاية .
-على مستوى الدلالة .
- ينجز العامل-الذات (الولي) وظائف داخل المجتمع، فهو يبدو حاميا للإنسان من السلطة والطبيعة والحيوان والمرض .تحيل هذه الخاصية على الوظائف التي ينجزها الولي داخل المجتمع.
-هذه الوظائف هي التي تجعل من العامل-الذات عنصرا من بين العناصر الفاعلة في المجتمع، حيث يصبح الولي كما يقولُ النص" قِبلة للوفود التي تتوجه إليه."
- إن تحقيق الولي لمجموعة من الوظائف انطلاقا من قدرته الأسطورية ( البركة) هو نوع من التعاقد بينه وبين المجتمع، حيث يصبحُ الولي عنصرا من بين عناصر توازن المجتمع. لقد هدف التحليل بالخصوص إلى تحديد مكونات الكرامة في علاقتها باللغة وببعض النصوص كالحكاية الشعبية.كما هدف التحليل إلى إبراز المكون الأسطوري .تمثل هذه العناصر التحليلية هدف المقاربة المنهجية التي حاولنا استثمارها.
الهوامش
1. BARTHES( Roland ).Le degré zéro de l’écriture, Paris, Seuil ,1972.P.11.
2. مفتاح، محمد .دينامية النص ،الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1987، ص..129.
3. مفتاح، محمد .الخطاب الصوفي، مقاربة وظيفية، الدار البيضاء، مكتبة الرشاد، 1997.ص.21.
4. ابن الزيات، التشوف إلى رجال التصوف وأخبار أبي العباس السبتي، تحقيق أحمد التوفيق، منشورات كلية الآداب، الرباط، 1984.ص 54.
5. نفس المصدر، ص.55.
6. محد بن عسكر الحسني الشفشاوني . دوحة الناشر لمحاسن من كان بالمغرب من مشايخ القرن العاشر، تحقيق محمد حجي، الرباط، الطبعة الرابعة، منشورات مركز التراث الثقافي المغربي ،مطبعة الكرامة، الرباط، 2003.ص.95.
7. دوحة الناشر، مرجع مذكور، ص .11.
8. GREIMAS( A.J) COURTES (J) .Sémiotique. Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Paris, Hachette ,1979.P417..
- إن مسألة حقيقة الخطاب لا نتناولها هنا بصفتها التطابق التام بين الخطاب والمرجع كما كانت تذهب إلى ذلك نظرية التواصل الكلاسيكية التي تهتم بالنقل ‹الصحيح» للإرسالية، ذلك أن مفهوم» المحايثة» كما اقترحه فردناند دوسوسير جعل النظرية السيميائية تضع من بين انشغالاتها ليس مشكل الحقيقة ،ولكن «أثر الحقيقة « أو» الحقيقانية «، وهو ما يتحققُ داخل الخطاب بفضل إواليات خطابية تجعل المتلقي يقتنع « بحقيقة «الخطاب .
9. غريماس ( أ.ج)، سيميائيات السرد، ترجمة وتقديم عبدالمجيد نوسي، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2019.
10. استندت السيميائيات السردية في تحليل النصوص إلى خطوة إجرائية تمثلت في تقطيع المتن المُحلل إلى مقاطع .غير أن التقطيع لا يكون اعتباطيا وإنما يتم بناء على معايير نصية وخطابية تجعل التقطيع ملائما. أنظر :
GREIMAS(A.J) COURTES (J) .Sémiotique. Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, op.cit, P.324.
11. مفتاح، محمد، الخطاب الصوفي، مرجع مذكور، ص.29.
12. GREIMAS( A.J) COURTES (J) .Sémiotique. Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Hachette ,1979.P.417.
13. هي قرية مغربية بإقليم الحوز ،نواحي مراكش .
14. .KILITO (Abdelfattah), L’auteur et ses doubles, Paris, Seuil ,1985.P.45.
15. GREIMAS( A.J) COURTES (J) .Sémiotique. Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Hachette ,1979.P.417.
16. GREIMAS (A.J).Du sens II, Seuil, 1983.P.60.
17. GREIMAS( A.J) COURTES (J) .Sémiotique. Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Hachette ,1979.P.197.
- يعد مفهوم «التشاكل» إجرائيا في تحليل الدلالة، ويُحدد نظريا بصفته تكرارا وتواردا لمجموعة من الوحدات التي تُحقق دلالة منسجمة .
18. GREIMAS( A.J) COURTES ( J) .Sémiotique. Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Hachette ,1979.P.417
19. GREIMAS (A.J) ,Du sens II , Paris, Seuil ,1983.P.21-23.
20. GREIMAS (A.J).Du sens Paris, Seuil, 1970.P.244.
21. PROPP ( Vladimir),Morphologie du conte ,Paris ,Seuil,12970, P.96.