ضرورة التراث
العدد 49 - التصدير
التراث فى أبسط رؤية يمكن أن ينظر بها الباحثون فى الألفية الثالثة له هو خلاصة إبداع الشعوب ومحصلة تراكم الخبرة فى التفاعل مع الحياة اليومية بتعقيداتها أو هو طرق ابتدعتها الثقافة للتعامل مع معطيات البيئة والإفادة منها أو على الأقل اتقاء مخاطرها أوتبرير ما يتعرض له الفرد من نوائب أو تفسير ما هو ملغز حوله ولا يقدر عقله على استيعابه، فأي ضرورة أكثر من هذا تدفع الإنسان الأعزل على اختراع سلاح يواجه به الحياة.
جاء التراث ليقدم حزمة من الحلول مقبولة من الجماعة الشعبية وطرائق للحياة تتوارثها الأجيال وتتعامل مع الكثير منها على انها حقائق مطلقة لا تحتاج إلى تبرير. فلا يوجد أقسى من عالم يحيا فيه الفرد أعزلاً من كل ما يحصنه من الغموض والعلاقات الاجتماعية التى يجد نفسه طرفاً فيها ولابد أن تستمر بها الحياة فيجد فى التراث ما يعينه على تحملها. وبهذا فإن ما ابتدعته الجماعة مثلاً من فنون قولية أو أدائية هى فى لبها طرائق للتعاطى مع الواقع وتيسير نقل الفرد من مرحلة إلى مرحلة فى حياته لتصاحبه منذ لحظة ميلاده معلنة وصوله إلى الدنيا بدقات الهون والأغاني التى ترحب به فى الحياة حتى تودعه إلى مثواه الأخير، فلا تتركه في أي مناسبة تمر بدورة حياته مهما طالت لنفسه يحيا منفرداً منقطع الصلة بتراثه مهما كان جنسه أو لونه أو طبقته الاجتماعية أو تعليمه.
وتظل المعتقدات الشعبية هي ذلك السؤال المحير، فهل هي ضرورة وما الذى يميز المعتقد عن غيره من موضوعات التراث ؟ الإجابة التى قد تصدم أصحاب دعوى الحداثة، التى يظنون أنها تقف على الطرف الأخر من التراث، هى نعم الاعتقاد ضرورة..حيث يقدم المعتقد فى كثير من الأحيان حل أسطوري يساعد على احتمال أعباء الحياة ومشاكلها ويقدم إجابات على اسئلة ملغزة وجد الناس انفسهم فى مواجهتها وقرروا أن يضعوا لها إجابات تنوعت بتنوع الثقافات وتعددها، فجاءت المعتقدات خصبة خصوبة خيال البشرية ومعبرة عن وجدان جمعي تخطى حدود المكان والطبقة والتعليم والنوع. وكم شغل المعتقد العلماء على اختلاف اتجاهاتهم فحاولوا وضع إطار لهذه الظاهرة التى تخترق كل الحدود،ألا وهي "الإعتقاد فى الغيب"، والنتيجة التى يمكن أن نستخلصها أن إستمراره وملازمته للإنسان فى كل زمان ومكان يشير بوضوح إلى ضرورته.
ومن نماذج تلك الإبداعات القولية "المثل الشعبي" الذى هو فى أبسط أشكاله حكمة مكثفة تفسر وتبرر وتقيم الحجة فى مختلف المواقف، بل وتضع للعلاقات بين الأفراد صورة نمطية يتناقلونها حتى اكتسبت شكل الحقيقة، فالأمثال الشعبية العربية التى تنمط لعلاقات القرابة بين الأفراد مثلاً كالعلاقة بالابن أو الحماة أو "السلايف" أو "أخت الزوج" أو الزوج أو الأخوة كاشفة للصورة الذهنية لكل طرف من أطراف العلاقة، فهل هى ضرورة؟ الإجابة بعد هذا الكم الهائل من الدراسات المتراكمة: نعم. فمن تشكلات العلاقات الاجتماعية يولد نمط ثقافى محدد فهمه ضرورة والتغافل عنه ضرر، وقياساً على النموذج السابق يمكن التعاطى مع أشكال الفنون والإبداعات التى تفرزها الثقافة كضرورة.
وعادات الشعوب هى ضرورة قصوي للعيش فى جماعة؛ فهي التي تخلق الرابط وتلزم الأفراد تجاه بعضهم البعض بأنماط من السلوك تعاقب من يتجاهلها أو ينكرها وتحقق الضبط الإجتماعى المطلوب للعيش فى جماعة، فأنت فرد فى المجتمع مادمت ملتزماً بعاداته وأعرافه وتخرج من مظلة حمايته إذا قررت تحديها.
والنموذج الصارخ لضرورة التراث يتجسد فى المعارف الشعبية ففى مجتمعات الندرة توفر المعارف التقليدية الحلول المعيشية التى لا حياة للإنسان بدونها، فهى طريقته لاستخراج المياة الجوفية والحفاظ عليها وتعظيم الإستفادة منها وتداوي أمراضه بمواد وأدوات من البيئة هى أقرب اليه من النمط الرسمي للعلاج وتمده بطرق للصيد والزراعة وتتبع أثر من مروا من أناس أو زواحف أو دواب وتمده بطرق وأدوات محلية لقياس ما تنتجه البيئة تتفق عليها أفراد الجماعة أو تخبره عن طرق لحفظ الطعام كالتجفيف أو التمليح أو التسكير علاوة على معارف خاصة باستخراج المواد الأولية للطعام من البيئة كالملح أو الزيوت... القائمة تطول لتشمل كل مناحي الحياة فى المجتمعات التقليدية، وهى معارف يمكن ان تعتبر فى بعض منها أساس لبعض الممارسات الحداثية فيمكن النظر إليها على أنها مرحلة من مراحل المعرفة الإنسانية التى تجاوزتها بعض المجتمعات ومازالت مجتمعات تقليدية تفيد منها وتحرص على تناقلها، بل إن كفاءتها فى بعض الأحيان أصبحت تجذب مجتمعات بعدت عن استخدام التراث فى الحياة اليومية؛ فظهرت فى الغرب اليوم صرخات تدعو إلى العودة إلى الطبيعة والطرائق التى أهملها الإنسان فى حياته.
فالتراث هو ذلك الصاحب الضرورة في رحلة الإنسان، يحاول أن يبتعد عنه متحصناً بالعلم والتكنولوجيا وكل مدخلات الحداثة فيحاصره فى أوقات الشدة ويستدعيه وتعينه الجماعة على الإستعانه به فيجيبه ويقدم له الإجابات التي إن لم تحل له المعضلات فإنها تبرر له وجودها فإشباع نفسي هو أضعف الإيمان.
ولعل فى اهتمام ثقافات تخطت قضية الانتفاع العملي بالتراث إلى الإهتمام به فى زمن الرفاهية والحداثة دليل على ضرورته لخلق التوازن النفسي وتحقيق الرابط الحيوي بين الإنسان ووطنه والذي أدركت الشعوب أهميته؛ مؤمنة ان الهوية الثقافية ليست ترفاً يمكن الاستغناء عنه وإنما هي ضرورة للعيش فى عالم انفتحت فيه السموات أٌزيلت فيه الحدود الثقافية بتبادل ثقافي غير مشروط وفى كثير من الأحيان هو أيضاً غير عادل. وفي التسابق على تسجيل التراث لدى المنظمات الدولية من دول تركت التراث كطريقة حياة واستبدلته بطرائق عصرية من أساليب للتفاعل اليومي ونمط المأكل والزي وطرق التداوي فنجدها تحرص على إثبات حقها – المشروع – في طرائق الأجداد بل وتدعو المنظمات إلى مساعدتها على صون ذلك التراث وهى فى آخر الأمر طريقة لإثبات الحق في الهوية التي بات طمسها أمراً لا يمكن إنكاره.
فتجد الثقافات نفسها مضطرة إلى استنهاض عناصر كانت في وقت من الأوقات شديدة المحلية وتروج لها ترويج المؤمن الذي يدعو الأقوام إلى مشاركته الإيمان، فتجوب العالم تروج للبديل الآمن من التراث في كثير من ممارسات الحياة اليومية.
فإذا كان خلق التراث واستهلاكه ضرورة فإن تلك الضرورة تكون ملحة فى مجتمعات تعاني من مشكلات يمكن التعاطى معها من خلال التراث، فعادات ومعتقدات الشعوب وفنونها هي المدخل الضروري الذى لا غنى عنه فى الدول النامية وهو الملاذ من اغتراب تعاني منه دول استطاعت أن تجد لها مكاناً متقدماً في ركب الحضارة.فإذا كانت الحداثة ضرورة للعيش فى مجتمع اليوم بمتغيراته فإن التراث – بنفس المنطق – ضرورة لتثبت الإنسان على الأرض وهو عناية بالجذور التى نبت منها والتى هي ليست بالضرورة في كل الاحيان شديدة النقاء لكنها رابط في الإنفصام عنه مخاطرة كبرى.