فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
46

تعقيب على مقال «مشروع توثيق التراث الشعبي في المصادر العربية»

العدد 46 - أصداء
تعقيب على مقال «مشروع توثيق التراث الشعبي في المصادر العربية»
كاتب من البحرين

مع ما فرضته العولمة من تغييرات سريعة وعميقة في سلوك المجتمعات؛ برز الإهتمام المتزايد بدور الشعوب المختلفة بما تحمله من تجارب ومفاهيم متنوعة تمنح البشرية فسيفساء تحمل كافة الألوان؛ فنشأت العديد من المؤسسات الأهلية والخاصة بهدف «حفظ وحماية التراث والثقافة الشعبية».

لا شك أن اللغة العربية حفظت الجزء الأعظم من تراث شعوب العالم القديم كافة، من اقصى الغرب في الأندلس لأدنى الشرق متجاوزةً سور الصين العظيم؛ وبناء عليه يُعد «مشروع توثيق التراث الشعبي في المصادر العربية» مهمة إنسانية وقعت بجبر التاريخ على العرب دون سواهم.

لا شك ان نشر «الثقافة الشعبية» لفكرة المشروع أعلاه ضمن العدد 39 للكاتب الدكتور مصطفى جاد بذرة طيبة نأمل أن تحظى بالرعاية والاهتمام الباحثين بكافة تخصصاتهم، وهو الواقع القائم على تنوع «الثقافة والتراث الشعبي» لتشمل كل المعارف الانسانية والعلوم التطبيقية؛ لا تبدأ وتتأثر بالأديان ولا تنتهي وتؤثر في سلوك المجتمع وممارساته كالطب؛ وهذا ما يفرض مناقشة المقال من عدة زوايا وعرض لبعض إشكالياته –كما يقر المؤلف الكريم- لتتحول فكرة المشروع من أمل إلى خطة عمل، ومن ذلك:

إشكاليات المصادر العربية

المصادر العربية، شعبية ام نخبوية:

لعل أهم اشكالية تعترض الباحث في مجال «التراث الشعبي» هو العلاقة بين التقاليد والسنن الشعبية و«العلم» الرائج في زمانٍ ما؛ لهذا من الواجب أولاً تصنيف محتوى المصادر العربية من هذه الناحية؛ لعل ملخص نظرية الباحث بَسَراب نيكولسكو Basarab Nicolescu حول الفرق بين خصائص السنن والعلم (جدول 1) مُرشد مناسب لمناقشة هذه الإشكالية1.

المعيار السنن العلم
طريقة الانتقال شفهي مكتوب
كيفية المعرفة كشف، إدراك مباشر أسس منطقية
العامل البنائي مبني على العواطف والاحاسيس مبني على الأدوات والتقنيات
قدرة الانتقال صعوبة الانتقال؛ انتقال فردي قابل للتكرار؛ انتقال جماعي

بهذه الرؤية؛ لن تمثل كتب العلوم العربية نموذجاً مناسباً لدراسة التراث الشعبي؛ فكتب الطب العربي –كمثال- مبنية على أسس منطقية قائمة على المشاهدة؛ مجردة من أي عواطف وإحساسات؛ وعليه نعتقد أن كتب الطب المذكورة في قائمة المقال تمثل تراثاً نخبوياً لا يمثل الشعب وفكره وممارساته؛ ونرى أنه لا يمكن لغير المختصين فهم التعقيد الفلسفي والمنطقي فيها، بل حتى الإحاطة بجزء كبير من شموليتها.

يمكن عرض عشرات النصوص التي تبرأ فيها النخب العلمية –الطب مثالاً- من التراث الشعبي في الطب بذكر جزئيات الممارسة مثل تقرير الزهراوي «واحذر كل الحذر من التغرغر أولا بما يحلّل، فإن ذلك تلف العليل بسرعة كما شاهدنا من فعل الجهال. وكثيرا ما تعرض هذه العلة فيبادرون إلى الماء السخن ويحملونها على العنق ويأمرونهم باستعمال الغراغر بالرّب والماعدس فيقتلون العليل بسرعة وقد شاهدت ذلك مرات» او بشكل عام دون ذكر جزئيات الممارسة مثل «واعلموا يا بني أنه قد يدّعي هذا الباب الجهال من الأطباء والعوامّ ومن لم يتصفّح قطّ للقدماء فيه كتابا ولا قرأ منه حرفا، ولهذه العلة صار هذا الفن من العلم في بلدنا معدوما، وإني لم ألق فيه قط محسنا البتّة»2.

وبالطبع أشادوا نادراً بصحة ممارسات شعبية لا أصل لها عند النُخب وكتبهم مثل تقرير العطار الهاروني حول ضماد يضمد به الجرح الذي يعرض للنساء في محل البول عند النفاس ويسمونه الفزر «يدهن به الجرح ويضمد بالدواء المجموع المذكور مراراً، فإنه نافع مجرب وقد عمل لجماعة وبرئوا وهو من غرائب تركيب النساء ولم أقف على مؤلفه»3.

وتبقى هذه التقريرات في المصادر النخبوية حول الممارسات الشعبية نادرة، لا تستحق تحمل عناء استخراجها مع وجود مصادر أخرى وأولويات بحث لم تُنجز بعد.

معطيات المصادر العربية، لأي الشعوب تنتمي؟

مع انتشار الإسلام في العالم القديم، أصبحت اللغة العربية لغة العلم والكتابة؛ ولأول مرة في تاريخ البشرية، تمكنت منظومة كاملة لغةً وإيدولوجيا من السيطرة على رقعة جغرافية شاسعة من الهند حتى غرب أوروبا -إضافة لعدة انظمة حكمت هذه الرقعة-؛ وترافق هذا مع انتشار صناعة الورق وامتهان الكتابة بلغة عالمية أدت في النتيجة لأعظم عملية تلاقح علمي بين الشعوب؛ وهو ما لم يحصل سابقاً مع فتوحات الاسكندر حيث لم يتمكن من فرض لغة ودين واحد على رقعة حكمه، ولا لاحقاً حينما سيطر الاستعمار على بلادنا حيث بقينا ندرس ونكتب بالعربية، بينما فقدت الامم السابقة صلتها بلغتها وتراثها السابق غالباً.

أدى هذا التبادل الثقافي إلى نتاج علمي يجمع شتات الثقافات الشعبية بين دفتي كتاب واحد، تضيع فيه ملامح النتاجات الشعبية المحلية وخصوصاً لغير المختصين او دون دراسة استقصائية؛ ومن أمثلة ذلك كتاب «ألف ليلة وليلة» والذي جمع حكايات وأساطير الشعوب التي كُتبت بالعربية وان اُضفيت عليها ملامح بغداد ولهجة دمشق وحارات القاهرة؛ بالمثل، اصبحت المؤلفات العلمية تجمع بين دفاتها كل نتاج الشعوب ومعتقداتها مثل كتاب ابن البيطار المعروف «جامع مفردات الأدوية والأغذية» مع أن هذه الشعوب لا تمارس عملياً ما دُوِّنَ في هذه الكتب، ببساطة: لعدم توفر هذه النباتات في أرضها وعدم وجود تلك المفاهيم كثقافة شعبية او نخبوية في أوساطها؛ توثيقاً لهذه الرؤية بمصداق، نستعرض حكاية وصول كتاب «القانون في الطب» أشهر مُؤَلَف في الشرق الى الغرب الاسلامي؛ حيث يُروى ان هذا الكتاب وصل للمغرب في عهد أبي العلاء بن زُهر حيث أن:

«رجلاً من التجار جلب من العراق إلى الأندلس نسخة من هذا الكتاب أجزاء قد بولغ فى تحسينها، فأتحف بها لأبى العلاء بن زهر تقربا إليه، ولم يكن هذا الكتاب وقع إليه قبل ذلك، فلما تأمله ذمه وأطرحه من يده، ولم يدخله خزانة كتبه؛ وقال: وجعل يقطع من طرزه ما يكتب فيه نسخ الأدوية، لمن يستفتيه من المرضى»4.

واضح من هذا النص ان أهم كتاب طبي في المشرق لم يحظ برضا النخب العلمية في المغرب في القرن الخامس الهجري؛ وهذا ما يفرض دراسة وتصنيف مناطق نفوذ وانتشار المصادر العربية بحسب الفترات الزمنية والرُقع الجغرافية.

إضافة لما سبق من عدم انتشار كتبٍ برمتها في منطقة ما؛ فان المصادر العربية قد تكون دالة على ممارسة ما في منطقة ما وإن لم يُصرح المؤلف بذلك؛ ومصداق ذلك -ممن صرح به- علي بن عباس الأهوازي حيث يقول في كتابه كامل الصناعة الطبية:

«وأما الأدوية فإني ذكرت منها ما يستعمله أطباء الإقليم الرابع والعراق وفارس، وما قد صحت تجربتهم له وكثرت منفعته في كل واحد من الأمراض، إذا كان كثير من الأدوية التي كان يستعملها القدماء من اليونانيين قد رفضها أهل العراق وفارس والإقليم الرابع»5.

معطيات المصادر العربية، هل هي واقع شعبي واجتماعي؟

تُبين دراسة العديد من المصادر العربية أنها مجرد آثار مكتوبة لا تعكس بالضرورة –بل غالباً- أي سلوك شعبي واجتماعي سليم؛ فمثلاً تعد حكايات «ألف ليلة وليلة» من أهم مصادر دراسة التراث الشعبي –وهي بحق كذلك في بعض الجوانب-؛ ولكنها خلاف ذلك تماماً في جوانب كثيرة مثل «سلوك المرأة»؛ يذكر الباحث د. محمد عبدالرحمن يونس في دراسة له حول الجنسانية في الف ليلة وليلة:

«وعرجت على أهم ملامح بعض النساء السلطويات الفاسدات الزواني، وبعض ملامح الإيدولوجيا الرجولية المعادية لهن. ولم أدرس ملامح المرأة السلطوية العادلة الورعة، الأمّ والأخت، والزوجة الوفية المستقيمة في أخلاقها وسلوكها، لأن حكايات ألف ليلة وليلة تكاد تخلو من هذا النموذج»6.

وبهذا الصدد يفرد الباحث روبرت اروين Robert Irwin فصلاً للحكايات الجنسية في كتابه «دليل الليالي العربية» يذكر فيه «يُفرد كتاب الف ليلة وليلة الكثير من المواضيع الجنسية مثل الزنا بالمحارم، الزنا، والإغتصاب الجنسي»7؛ ومع خلو الكتاب للنماذج السوية في المجتمع أي مجتمع فكيف به مسلماً، محافظاً؛ فان الصورة التي قد يتوصل لها الباحث بهذا الكتاب –وغيره- ستكون بلا شك قاتمة ولا تتواجد إلا في الورق، وكل الدلائل الاجتماعية والدينية والثقافية الأخرى لا تدل عليه.

اختيار مصادر التراث العربي: رؤية مقترحة

يفرد كاتب المقال مقداراً معتنى به من الصفحات لعرض «أهم مائة كتاب في التراث العربي»8 للباحث حسين أحمد أمين - ذكره الكاتب بإسم جلال امين؛ ويقر نقلاً عن مُعد القائمة أنها «قائمة مبدئية للكتب في التراث العربي» كـ «مجرد رأي شخصي، وفتح باب المناقشة»؛ ونظن أنها قائمة غير مناسبة لعدة اسباب، منها:

- القائمة مجرد رأي شخصي لا يبرز اسباباً منطقية لاختيار هذه القائمة دون سواها، ويذكر معدها أنها «أول خطوة في سبيل تدشين المشروع».

- الدراسة المُقترحة للقائمة قديمة تعود للعام 1997م، حيث لم تكن الأدوات المتوفرة بأيدينا اليوم مثل قواعد البيانات.

- الكثير من كتب القائمة مؤلفات نخبوية لا تعد اولوية للدارس في مجال التراث الشعبي، ولم يكن الهدف منها أساساً تقديم مصادر لدراسة التراث الشعبي.

وعليه: نقترح إعداد قائمة بأهم كتب التراث العربي تأثيراً وذلك عبر اتخاذ عدد مخطوطات الكتاب معياراً، مع التصنيف الموضوعي، ومنطقة تواجد المخطوط –وهو ما يدل على ثقافة شعبية أو نخبوية احتضنت المخطوط-؛ ويمكن بالطبع بذل المزيد من الجهد لتحديد أكثر الكتب تأثيراً بحسب الفترات الزمنية؛ بهذا المعيار ستكون لدينا صورة أوضح عن الكتب الأكثر قراءة ودراسة في كل منطقة وكل موضوع.

كتطبيق أولي لهذه الرؤية، فرزنا مخطوطات «الطب» العربية من قاعدة بيانات المخطوطات الموجودة في ايران (من 332.860 سجل من المخطوطات) ورتبنا عناوين الكتب الحاصلة بحسب عدد مخطوطاته، فكان أبرز عشرين كتاباً في الطب كالتالي:

 

اسم الكتاب المؤلف عدد المخطوطات
443 ابن نفيس، علي بن ابي الحزم موجز القانون = الموجز في الطب
298 ابن سينا، حسين بن عبدالله القانون في الطب
168 ابن سينا، حسين بن عبدالله رسالة في الهندباء
140 بقراط بثورات = علامات الموت = العلامات الداله علي الموت
112 ابن نفيس، علي بن ابي الحزم برء الساعة
84 ابن سينا، حسين بن عبدالله المائة في صناعة الطب = كتاب المائة مقالة = صناعة الطب
78 ابن سينا، حسين بن عبدالله زبدة الطب = الزبدة في الطب
63 بقراط حل الموجز = حل موجز القانون
56 ابن نفيس، علي بن ابي الحزم دفع المضار الكلية عن الأبدان الانسانية
51 ابن سينا، حسين بن عبدالله بحر الجواهر
48 ابن سينا، حسين بن عبدالله الأدوية القلبية = احكام الادوية القلبية
47 بقراط الرحمة في الطب والحكمة
42 ابن جزله، يحيي بن عيسي منهاج البيان في ما يستعمله الانسان
42 استرآبادي، حسين بن محمد شرح القانونچه
38 خجندي، محمد بن عبداللطيف أصول التراكيب من الطب
36 سويدي، ابراهيم بن محمد التذكرة المفيدة والذخيرة الحميدة
35 بقراط الفصول = فصول بقراط
35 خوئي، يوسف بن اسماعيل ما لا يسع الطبيب جهله = جامع بغدادي
33 ابن سينا، حسين بن عبدالله سياسة البدن وفضائل الشراب =الخمرية
29 رازي، محمد بن زكريا من لا يحضره الطبيب = طب الفقراء

ويتضح من هذه التجربة أن قائمة الباحث حسين أحمد أمين؛ لا تمثل «أهم الكتب» بحسب ناسخي المخطوطات –كمؤشر للرغبة والحاجة للكتاب-؛ فمن ثلاث كتب في الطب اقترحها، نفتقد كلِ من «الحاوي في الطب» للرازي و«شرح تشريح القانون» لإبن النفيس ضمن أبرز عشرين كتاب.

اشكاليات المشروع

نتفق مع الكاتب في قوله «نحن في حاجة ملحة وضرورية لجمع الجهود التي بذلت في توثيق تراثنا» بشكل عام دون قيد «الشعبي في المصادر العربية»؛ كما يقر كل العاملين بهذه المجالات بـ«ضخامة المصادر جعل من مهمة التوثيق مسألة معقدة وتحتاج الى جهد جماعي ومؤسسي»؛ ولكن نختلف معه فيما يدعيه من «توفر الامكانيات والتقنيات والسواعد العربية المدربة التي تستطيع النهوض بهذا العمل»؛ فمشروعنا في توثيق المخطوطات الإسلامية كشف عن أعداد هائلة من مصادر التراث لم تطبع مصححة بعد وهو ما يعني صعوبة الإستفادة منها؛ كما أن فهارس المخطوطات كبداية «لحصر المصادر والتوثيق الببليوجرافي لها» تعاني من إشكاليات عديدة تبدأ أساساً من عدم وجود اي تأهيل علمي للمشتغلين بهذه العلوم؛ وعليه نقترح:

- تنبيه الباحثين بمختلف التخصصات لإشكاليات توثيق «التراث» بما يثري تجربة الآخرين، ولعل دعوة الباحثين لتقديم منهج تجربتهم تشكل فرصة لتلاقح الأفكار بما يرسم خطة عملية للمشروع؛

- مناقشة هياكل «قواعد البيانات» بشكل فني، يُمكن الآخرين من إضافة مقترحاتهم عليه؛

- دراسة المشاريع المشابهة مثل مشاريع التاريخ الشفهي، لتقديم هيكلية أفضل لقواعد البيانات؛

- دراسة وتقديم ارشيف التجارب السابقة مثل تجارب «مركز التراث الشعبي» بالدوحة؛

- دعم وتدشين مشروع التراث العربي بشكل متكامل ومترابط ضمن شبكة الانترنت بشكل مفتوح وغير مركزي بعيد التأثير عن القيود الجغرافية والسياسية والاقتصادية بين أبناء «الوطن العربي»؛

الهوامش

1. منوچهر محسني. مباني جامعه شناسي علم [اسس علم اجتماع العلم]. تهران: انتشارات طهوري؛ 1393. [فارسي]

2. زهراوى، خلف بن عباس. التصريف لمن عجز عن التأليف. صبحى محمود حمامى‏، مصحح. الکويت: مؤسسه الكويت للتقدم العلمي، إدارة الثقافة العلمية؛ 2004.

3. العطار الهاروني، داود بن ابي نصر. منهاج الدكان ودستور الاعيان في اعمال وتراكيب الادوية النافعة للابدان. بيروت: دار المناهل؛ 1992.

4. ابن ابي اصيبعة ابق. عيون الأنباء في طبقات الأطباء ج3. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب؛ 2001.

5. الاهوازي، علي بن عباس. كامل الصناعة الطبية. القاهرة: دار ركابي؛

6. محمد عبدالرحمن يونس. الاستبداد السلطوي والفساد الجنسي في الف ليلة وليلة. بيروت: الدار العربية للعلوم ناشرون؛ 2007.

7. 7Irwin R. The Arabian nights: a companion. London: Tauris Parke Paperbacks; 2004.

8. حسين أحمد أمين. أهم مائة كتاب في التراث العربي القديم. مجلة العربي (467) 1997.

- www.3rbi.info/Article.asp?ID=4343

أعداد المجلة