فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
46

أسطورة «ليش وتشيخ وروس»

العدد 46 - أدب شعبي
أسطورة «ليش وتشيخ وروس»
كاتبة من بولندا

إن أسطورة ليش وتشيخ وروس هي واحدة من أقدم الأساطير البولندية المشهورة. تتحدّث عن قصة ثلاثة أخوة سلافيين قرروا جميعهم ترك وطنهم المكتظّ بالسكان حيث لم يعد بامكانهم تأمين الغذاء لقبائلهم، وانطلقوا بحثاً عن أماكن جديدة يستطيعون الاستيطان فيها. الأخوة الرمز في هذه الأسطورة كانوا ليخ (مؤسس بولندا) وتشيخ (مؤسس التشيك) وروس (متعلق بروسيا السلافية الشرقية).

كثير من العلماء الباحثين يحاولون تحديد الحقبة الزمنية والفترة التاريخية لأحداث هذه الأسطورة مشيرين إلى الفترة المبكرة من القرون الوسطى حوالي القرن السادس الميلادي، لكن بداياتها ربما تمتد إلى أبكر من ذلك بكثير. تؤكد الأسطورة البولندية بأن ذلك تم في الحقبة الزمنية التي كان يتكلم فيها جميع السلاف لغة واحدة وكانوا يسكنون في أرض واحدة.

تم تدوين هذه الأسطورة لأول مرة باللغة اللاتينية في السجل البولندي المجري الزمني للأحداث التاريخية الذي يعود تاريخه بحسب المؤرخين إلى عام 1222 م. سجل الأحداث هذا يتناول رحلة ثلاثة أمراء سلاف : تشيخ وليخ وروس، تركوا أراضي كرواتيا قديماً وتوجهوا إلى الشمال وأسسوا الدول السلافية : التشيك وبولندا وروش.

في بولندا الكثير من صيغ هذه الأسطورة وهي إحدى الروايات السلافية الأولى، التي يتعلمها الأطفال البولنديون في صغرهم. وعلى الرغم من وجود الكثير من الاختلافات البسيطة بين الصيغ المختلفة إلا أن هناك خيطاً واحداً مشتركاً يجمعها وهو يبدأ من الحديث عن ثلاثة أخوة تفرقوا في اتجاهات مختلفة من العالم.

في البداية ودّع روس واتجه إلى الشرق باتجاه السهول الواسعة حيث تهب الرياح دون أي عائق. تشيخ بدوره اتجه إلى الغرب بعد أن علم بوجود أراض خصبة «تقول الصيغة التشكية بأنه استوطن في منطقة جبل ريب الواقع وسط السهل التشيكي». أما ليخ فهو اتجه إلى الشمال.

وتظهر أسماء الأخوة الثلاثة الأسطوريين معاً في سجل فييلكوبولسكي للأحداث المُعدّ في القرن الثالث عشر. تقول الأسطورة أن الإخوة الثلاثة أثناء رحلة الصيد سار كل واحد منهم وراء غنيمته وبهذه الطريقة استوطنوا في أماكن مختلفة وأسسوا دولاً تحمل أسماءهم.

أثناء الصيد ليخ تبعَ سهمه وفجأةً وجد نفسه وجهاً لوجه مع نسر أبيض غاضب يحرس عشه خشية من الأخطار. عندما رأى ليخ النسر على خلفية الشمس الحمراء عند غروبها اعتبر ذلك علامة جيدة وقرر الاستيطان هناك. وسمّى مستوطنته غنييزنو (نسبة الى كلمة – «عش») لاحياء ذكرى تلك الحادثة وتبنى النسر الأبيض كشعار له. النسر الأبيض بقي إلى اليوم رمز الدولة البولندية ولون النسر مع لون الشمس عند غروبها يظهران في علم بولندا.

وبحسب سجل داليميل الأول للأحداث المدون باللغة التشيكية (في بداية القرن الرابع عشر) فإن تشيخ مع الناس المرافقين له عند تسلقهم لجبل ريب نظر تشيخ الى مناظر الطبيعة وقال لاخوته أنهم وصلوا الى الأرض الموعودة : البلد الذي فيه ما يكفي من الحيوانات والطيور والسمك والنحل لتبقى موائدهم مليئة دائماً بالطعام بالاضافة الى توفر امكانية الدفاع ضد الاعداء. أما روس فقد اتجه الى الشرق واستوطن هناك مع الناس المرافقين له.

وتشير الاسطورة الى الأصل المشترك للبولنديين والتشيك وربما الروس وتوضح حقيقة أنه حتى في القرن الثالث عشر ثلاثة شعوب سلافية مختلفة على الأقل كانت على علم بأنها ترتبط فيما بينها بصلات عرقية ولغوية وأنها تنحدر من أصل مشترك. كما وأن الأساطير تتفق أيضاً بخصوص موقع وطن الشعوب السلافية الأولى في أوروبا الشرقية.

ومما يثير الاهتمام هنا أنه لا تزال توجد إلى الآن بلدان تُسمّي الدولة البولندية باسم مأخوذ من ليخ (أو اسم لاخ). كما وأن اسم ليخ بقي أيضاً في التصنيف اللغوي – «اللغات الليخية» وهي مجموعة اللغات السلافية الغربية التي تتضمن أيضاً اللغة البولندية.

وهناك أسطورة مشابهة (لكن مع تعديل جزئي بالأسماء) تم أيضاً تدوينها في الروايات الشعبية في كرواتيا. الصيغة الكرواتية تم وصفها وتحليلها بالتفصيل من قبل س. ساكاتشا في عام 1940 م.

كِيّ، شتشيك وخورف أم ليخ، تشيخ وروس؟ التاريخ القديم يحمل الكثير من المفاجآت. وإحدى هذه المفاجآت تتمثل في الشبه بين الأساطير البولندية وبين تلك المحفوظة في الكتابات التاريخية، نذكر هنا على سبيل المثال كتابات المؤرخ التاريخي زينوب غلاك عن ثلاثة أخوة مولودين في أسرة أميرية هندوسية، المعروضة كنموذج أولي لرواية نيستور عن بدايات مدينة كييف، ويبدو أنها قريبة جداً من الكتابات حول بدايات الدولة في الأراضي البولندية.

وبحسب روايات السنين السابقة فإن كِيّ كان زعيماً لأحد شعوب بولان الشرقية. وقد أسس مدينة كييف مع أخويه شتشيك وخورف، بالاضافة اليهما كانت له أيضاً أخت اسمها ويبيج. وفيما بعد كان يذهب كِيّ مع مجموعته إلى تساروغرود وهناك كان في خدمة أحد الامبراطوريين ونال احترامه وتقديره. لم يعرف نيستور اسم الامبراطور الذي ذكره ولا زمن الأحداث التي وصفها، لكن المؤرخين الذين يرجّحون احتمال ما ورد في كتاباته يرون بأنه ممكن أن يكون الامبراطور يوستينيان الأول الكبير، حيث أنه ابّانَ حكمه خدم في الجيش البيزنطي الكثير من السلاف وبنى قلاعاً مختلفة على نهر الدانوب.

الأسطورة

في قديم الزمان كان يعيش في منطقة بعيدة ملك عجوز يُدعى الملك جيموفيت. كان ملكاً طيب القلب وحكيماً ومحبوباً جداً من قبل رعاياه. كان له أربعة أبناء هم ميسواف وليخ وتشيخ وروس. أحبهم حُبّاً جمّاً وحرص على كل واحد منهم حرصاً شديداً. لكنه كان يعاني من مشكلة ليست بالبسيطة، فالمملكة التي كان يحكمها كانت صغيرة وكان يصعب تقسيمها بين الأبناء الأربعة. فكّر وأجهدَ في التفكير بحثاً عن طريقة يؤمِّن فيها مستقبل أبنائه متجنباً في نفس الوقت حصول صراعات بينهم. وكان الاختلاف بين هؤلاء الأبناء الشباب كبيراً كاختلاف الليل عن النهار. فأكبرهم سناً ميسواف كان مُطيعاً ومخلصاً، ليخ كان شجاعاً وجريئاً، تشيخ كان مرحاً ومُعيناً للناس، أما روس فكان مثابراً ودؤوباً للغاية.

أمعنَ الملك في التفكير مدة ثلاثة أيام وثلاثة ليالٍ، وأخيراً عندما بزغ فجر اليوم الرابع استدعى أبناءهُ الى حجرة العرش وخطبَ إليهم قائلاً:

«يا أبنائي، رغبَةً مني في مكافأتكم على حبكُم لأبيكم العجوز وفي تأمين مستقبلِكُم، فإني قررتُ أنَّ أكبركم سناً ميسواف سيبقى في المدينة ويتولى حكم البلاد من بعدي. والممتلكات المستحقة لليخ وتشيخ وروس سأقوم بتقسيمها فيما بينهم. فإذاً يا أبنائي خذوا ممتلكاتكم وانطلقوا في هذا العالم الفسيح بحثاً عن الأماكن التي ستستطيعونَ بناء مدنكم فيها». سُرّ الأبناء الشباب سروراً عظيماً من قرار أبيهم وكل واحد منهم كان توّاقاً للسفر والمغامرات، وكل منهم كان يحلم للغاية بمملكةً يحكمها.

«مدينتي - قال تشيخ – ستكون مشهورة باللهو والرقص». أما مدينتي – قال روس – ستكون كبيرة لدرجة أنه سيكون من الصعب وفي بحر الأسبوع قطع المسافة من أقصاها إلى أقصاها على الخيل». «في دولتي – فكّر ليخ قائلاً – سيسكن الفخورون والشجعان».

بعد قيام هؤلاء الاخوة بوضع الخطط بدؤوا بالتحضير لرحلة الحياة. كل واحد منهم امتطى أفضل حصان وضب أمتعته وأخذها معه. وأخذوا معهم من الماء والطعام بقدر ما تمكنوا من أخذه، حيث أنهم شعروا بأن الطريق ستكون متعبة. الملك العجوز ودّع أطفاله والدموع تسيل من عينيه، وباركهم ودعا لهم بالتوفيق في طريق حياتهم، وأوصاهم أن يكونوا يقظين وحذرين وأن يساعد كل منهم الآخر عند الشدائد. كما خرج رعايا الملك لتوديع الأمراء الثلاثة بالورود والأغاني. حقاً لقد كان من الصعب على ليخ وتشيخ وروس ترك موطن أبيهم والانطلاق في المجهول. وكل من تمعّن جيداً في تلك اللحظة برؤية هؤلاء الاخوة الجريئين والفخورين استطاع رؤية الدموع على خدودهم. لم تكن تلك دموع الحزن بل العلامات الأولى على حنينهم واشتياقهم لوالدهم وأخيهم وموطن أسرتهم.

ساروا طيلة الكثير من الأيام والليالي. واجتازوا بسرعة حدود بلادهم وهناك كانت بانتظارهم غابة وعرة وداكنة مليئة بالحيوانات المتوحشة الخطرة. الطريق كانت تضيق تدريجياً حتى أصبحت في النهاية ممراً صغيراً في الغابة. لكنهم لم يخافوا ولم يتركوا الطريق الذي اختاروه مؤمنين بأنهم في النهاية سيصلون الى نهاية هذه الغابة وسيجدون الأرض التي سترتاح لها أعينهم. وأخذ كل واحد منهم يشجع الآخر. تشيخ دندنَ بهتافات وأغاني مرحة كي يكون السير على وقع نغماتها أفضل وأسهل. روس تباهى باحلامه الجريئة عن حكمه مستقبلاً كملك. أما ليخ فكان كلامه قليلاً وصلّى كي تتوفق هذه الرحلة ويتحقّق هدفها. لكن في قرارة أنفسهم كل واحد منهم كان يحلم بفسحة في غابة كي يستطيعوا أخذ قسط من الراحة والنوم وتناول الطعام فيها، وكل واحد من الأبناء الشباب كان مرهقاً جداً.

حلّ الغسق ومعه بدأت تخف كثافة الغابة . وبعد وقت قصير بدت لأعين الإخوة فسحة رائعة في الغابة. العشب فيها كان أخضر وكثيفاً وكانت مكسوة بتشكيلة غنية من الزهور. وفي أماكن مختلفة منها كانت تعلو من الأرض الخصبة سنابل قمح ذهبية. «هذا بلدي»- صرخ الإخوة في وقت واحد، كلٌ منهم أراد أن يستوطن في هذا المكان الساحر. لكن للأسف واحد منهم فقط كان بامكانه بناء مدينته في هذه الفسحة ومن ثم تأسيس دولة له حولها. بدؤوا يفكرون من منهم ينبغي عليه البقاء هنا، ومن منهم عليه متابعة الطريق. وعندما أمعنوا في التفكير فجأةً ظهر في السماء نسر أبيض فائق الجمال. وعندها مباشرة ًنسي الإخوة همومهم وأحزانهم ألقوا بنظراتهم إلى الأعلى وبدؤوا يتمتعون بجمال هذا الطائر. حام النسر لفترة ثم انخفض وحطّ على كتف ليخ.

«هذه أرضك يا أخي – صاحَ روس – هذا الطائر هو علامة قدر وخير نذير . أنتَ ستستوطن هنا وستجعل هذا البلد البكر آهلاً بالسكان». «استغل هذه الهبة بحكمة – قال تشيخ لأخيه – احكم بعدل وتذكرنا دائماً». مسّدَ ليخ ريش الطائر الناصع البياض وتنفس بعمق وقال : «لقد قمتَ باختياري أيها العرّاف المجنح. وقدّمتَ لي الأرض. والآن عليّ توديع أخوتي وتوطين قبيلة جديدة هنا. فلتكن هذه الأرض ودودة بالنسبة لي، ولتُثمر بسخاء، وسأحكم فيها بإخلاص وسأضحي بحياتي من أجلها». وبذلك يكون ليخ قد بقي في الفسحة، وأخواه تابعا مسيرهما. تشيخ اختار طريقاً متجهاً إلى الجنوب، أما روس فاتجه إلى الشرق.

عمل ليخ بدأب ليلاً ونهاراً حتى بنى في هذه الفسحة قصراً رائعاً. وفي وقت قصير بدأ الناس الذين كانوا الى حينها يتخذون من الغابة بيتاً لهم بالقدوم الى هذا الشاب، كي يحصلوا على مأوى تحت أجنحة مدينته . وبهذه الطريقة أصبحت الفسحة الصغيرة بداية لمدينة كبيرة اتخذت اسم غنييزنو تكريماً للنسر الأبيض. هذا الطائر بقي أيضاً في المدينة وحطّ على قمة أعلى برج في القصر ليبني عشاً له. وكثيراً ما كان يحذر سكان المدينة من الخطر كي يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم في الوقت المناسب. ومع أن ليخ كان شاباً إلا أنه كان حاكماً عادلاً وطيباً وحرص على رعاياه حرصه على أسرته. تزوجَ فنيت الفتاة الجميلة والذكية، وفي وقت قصير بدأت تُسمع في القصر ضحكات الأطفال.

مرّت السنين وأخذت غنييزنو تزداد قوة وثروةً.

كانت المنطقة خصبة وغنية بثمارها بحيث لم يشعر احد من رعايا ليخ لا بنقص في الطعام ولا في الماء. حول أسوار غنييزنو بدأت تظهر مستوطنات أخرى شكلت بتوسعها وانتشارها مدينة منفصلة. وقد أسمى ليخ بلده بولندا ووضع في شعار هذا البلد النسر الأبيض كي يذكّر دائماً الأحفاد بكيفية نشأة هذا البلد الجميل. وكما توقع الحاكم بنفسه من قبل فإن سكان بولندا كانوا شجعاناً ومتعقلين على أتم استعداد لمساعدة كل منهم الآخر وكانوا دائماً قادرين على الاتحاد عندما كان يحدق بهم أي خطر. واليوم وبالرغم من مضي ألف عام على رحلة ليخ فإن البولنديين لا يزالون يحملون في قلوبهم هذه الصفات النبيلة وهم مشهورون برجولتهم في كل أوروبا.

ربما تسألون عن مصير الأخوين المتبقيين لليخ. كل واحد منهما أيضاً وجد أرضه وبنى كل منهما مدينته وأصبحا مؤسسي دولتين شهيرتين. في الجنوب حكم تشيخ في بلد يحمل اسمه التشيك. وكما كان يحلم كانت تلك المنطقة مرحة وسكانها ميالون الى مختلف أنواع المتعة. أما روس فقد بنى في الشرق دولة كبيرة المساحة تبلغ حدودها آلاف الكيلومترات، وشعبها الدؤوب كان على الدوام يحرص على توسيع المناطق الآهلة بالسكان وبالاستيطان في المناطق ذات الطبيعة البكر. لكن هؤلاء الأخوة لم ينسوا روابط الدم والصداقة العظيمة التي تربطهم وعند الشدة على الدوام كانوا يقدمون المساعدة المتبادلة فيما بينهم.

الصور

https://www.slavorum.org/wp-content/uploads/2016/07/polish_legends-lech-czech-rus1.jpg

أعداد المجلة