فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
46

دور المرأة في الحكاية الشعبيّة الجزائريّة

العدد 46 - أدب شعبي
دور المرأة في الحكاية الشعبيّة الجزائريّة

حكايات المرأة في التراث السردي الجزائري: تحديدات عامّة

نقصد في هذه الدراسة إلى معالجة مدوّنة من الحكايات التي موضوعها المرأة، وترويها النساء في البيوت في ظرف زمكاني معيّن. نعثر في هذه الرّوايات على ثلاثة أشكال من الحكايات:

- شكل الحكاية الخرافيّة (العجيبة)؛ تكون فيها المرأة بطلة ضحيّة.

- شكل الحكاية الخرافية (العجيبة)؛ تصبح فيها المرأة معتدية أو تكون منتمية لعالم الوحوش المعتدين.

- شكل حكاية الواقع الاجتماعي (وهي من بين أشكال الحكاية الشعبية بمعناها الخاصّ)؛ تخرق فيها البطلة قيم النظام الاجتماعي السائد (الأبوي)، وتلعب دور المعتدي أو البطل-الضديد1.

1) الشكل الأول:

يندرج الشكل الأول فيما يسمّى في تفريعات التّصنيف العالميّ للحكايات الشّعبيّة بالحكايات الــخــرافــيّــة الــخــالــصــة contes merveilleux proprement dit، وهي من النّمط الثّاني من الحكايات الخرافيّة الّتي حدّدها «فلاديمير بروب Vladimir Propp»، دارس الفولكلور الروسي المشهور، لمّا قال في كتابه «مورفولوجيّة الحكاية الخرافيّة» ما يأتي، وهو بصدد الكلام عن الوظيفة التّاسعة المسمّاة «وساطة، لحظة انتقال» والمنعوتة بالحرف B:  «ينتمي أبطال الحكايات الخرافيّة إلى نمطين مختلفين 1) فإذا ذهب إيفان [الإسم المسند لبطل عدد من الحكايات الخرافيّة في رواياتها الرّوسيّة] في البحث عن فتاة مُخْتَطَفَةٍ اختفتْ من أفق أبويها (وكذا من أفق المستمعين) كان هو بطل الحكاية الخرافيّة، لا الفتاة ويمكن تسمية هؤلاء الأبطال بـ«اَلْمُتَحًرِّينَ Quêteurs». ) وإذا اُخْتُطِفَتْ أو طُورِدَتْ فتاةٌ أو طفلٌ صغير، واقتفت الحكاية الخرافيّة أثرَهما دون اهتمام بالباقين، كان البطلان هما الفتاة أو الفتى الصّغير المختطفان والمطاردان. ففي هذه الحكايات الخرافيّة لا يوجد مُتَحَرُّونَ Quêteurs، ويمكن تسمية الشّخصيّة الرّئيسيّة هنا بـ «البطل الضّحيّة». وسنرى بعد حين ما إذا كانت الخرافات تتطوّر على نفس الشّاكلة، سواء عرضت النّمط الأوّل أو النّمط الثّاني من الأبطال. أمّا الحالة التي تقتفي فيها الخرافة أثر الباحث تارة، وتارة أخرى أثر الضّحيّة (راجع: «روسلان ولودميلا») فلا أثر لها في متننا. وفي الحالتين، نعثر على لحظة الوساطة، ومعناها هو إحداث انطلاق البطل»3.

ويعود للحديث عن هذا النمط كما وعد سابقا، وذلك في معرض تفصيله للكلام عن الوظيفة الحادية عشرة في خطاطته وهي «انطلاق» المنعوتة بـ ↑ فيقول: «..فانطلاق البطل الباحث متباين عن نظيره لدى البطل الضّحيّة. إنّ هدف الأوّل هو البحث، أمّا الثّاني فيخطو خطواته الأولى في الطّريق دون بحث، حيث تنتظره كلّ أنواع المغامرات. ويجب ألاّ يَغْرُبَ عن بالنا الأمر التّالي: وهو أنّه إذا اُخْتُطِفَتْ فتاة، وانطلق البطل باحثا عنها، فهناك شخصان قد غادرا البيت. غير أنّ الطّريق الّذي يتّبعه المحكيّ، أي الطّريق الّذي تتطوّر بمقتضاه الحبكة، سيكون طريق البطل الباحث. أمّا إذا كان الأمر خلافا لذلك، وطردت فتاة، مثلا، ولم ينطلق أحد للبحث عنها، فإنّ المحكي يتّبع انطلاق ومغامرات البطل الضّحيّة»4.

يحدّد هذا النص شكلا فرعيا للحكاية الخرافية (أو العجيبة) لم يعالجه كتاب فلاديمير بروب، وقد فضّلنا أن نميّزها بطبيعة بطولتها فندعوها: «حكايات البطلة الضحيّة»؛ وهو الشكل الذي نزعم أنه يغلب على حكايات البيوت في الثقافة المغاربيّة، ترويه النساء، ويمثل تراثا مشتركا لجميع بلدان شمال إفريقيا، تنتشر روايته في الوسط الفلاحي، وهو يعود إلى فترات تاريخية موغلة في القدم، تربطه صلات وشيجة بنوع الأسطورة، سوف نتطرق إليها تاليا. يخضع للتحليل وفق خطاطة فلاديمير بروب، المكوّنة من 31 وظيفة. من دلالاتها الأنثروبولوجية الأساسية تصويرها للصراع ما بين القيم الأسرية المنتمية لكلّ من نظامي القرابة؛ الأموسي Matrircat والأبوسي Patrircat. تنتصر في النهاية للأخير على حساب الأول. تقوم الحبكة القصصية فيها أساسا على الصراع بين عالمين؛ عالم بشريّ معلوم موسوم بالثقافة وعالم آخر ما ورائي ومجهول موسوم بالطبيعة.

2) الشكل الثاني:

وهناك شكل ثان؛ ينتمي بدوره للحكاية الخرافية (أو العجيبة)؛ يُسْنَدُ فيه دور البطولة لشابّ مُتَحَرٍّ، يكون بصحبة أخته أو أمه، في بداية الحكاية، ويكشف مسار الأحداث وتحوّلاتها عن انتقال المرأة (الأخت أو الأم) من معسكر الظّهير للبطل إلى معسكر المعتدي. نكون حينئذ أمام امرأة تبدو في البداية ضحيّة لوضع تصوره المتواليات الأولى في الحكاية؛ ثم تُصبح معتدية تُعَرّض حياة البطل للخطر في المتواليات الأخيرة من الحكاية، فهي لا تلعب دور البطولة، لكنها تكون في البداية ظهيرا للبطل الذكر (الذي يكون عادة مَحْرَمًا) بفعل صلة القرابة، ثم تنفصل عنه لتلتحق بالمعتدي، وتبني مع هذا الأخير صلة قرابة جديدة (زواج)، وتتسبب في أضرار بليغة للبطل، ويتم القضاء عليها في النهاية باعتبارها معتديا. تقابلها روايات أخرى لحكايات تتعلق بامرأة من وسط متوحّش ومعادي للبشر تنتقل أثناء سير الأحداث إلى المعسكر المقابل لتصبح ظهيرا للبطل (ذكر بشري) وتساهم في القضاء على والدتها المتوحشة. يصور هذا الشكل صراعا بين العالمين المعلوم (البشري) والمجهول (المتوحّش). تنتقل فيه المرأة من العالم الأول نحو العالم الثاني. ويكون العكس فتنتقل فيه البطلة من عالم الوحوش إلى عالم البشر. وفي الشكلين الفرعيين من الحكايات، تصبح المرأة في نهاية القصّة معادية لأهلها (سواء كانوا بشرا أو وحوشا).

3) الشكل الثالث:

أمّا الشكل الثالث فيتعلق الأمر بالحكايات التي تصور الواقع الاجتماعي والنفسي، وتتّبع خطاطة مختلفة كثيرا عن خطاطة فلاديمير بروب؛ فإذا ما أُخْضِعَتْ للتحليل وفقها، وجدناها تقتصر على تحقيق عدد محدود جدّا من الوظائف، وتكاد تخلو من عنصر العجيب المتوفر بكثرة في الشكل السابق، وتعتمد البطولة فيها على القدرات البشريّة المحضة، التي لا تسندها القوى الأخرى (قوى العالم الآخر). أما العالم الآخر (العالم المجهول، الميتافيزيقي) فيختفي تماما من مسرح الأحداث ويكون الصراع بين القوى البشريّة؛ أو بالأحرى بين الذكورة والأنوثة.

 

 

4) الراوية:

تروي الشكلين السرديين؛ الأول والثاني، المرأة، ليلا، أمام جمع من الأطفال الموجودين في محيط الأسرة، ويكون هناك حضور للبالغين في محيط دائرة الحكي التي تتصدرها المرأة الراوية، يكون هؤلاء البالغين عادة من النساء وإن كانوا من الرجال فهم بعيدون نسبيا عن دائرة الحكي، ويتظاهرون بعدم الاهتمام بما يُرْوى. تُحْضَرُ روايتُها نهارًا، ويُعتَقَدُ أنّ من يرويها في وضح النهار يتعرض لمرض قد يصيبه هو نفسَه أو أولاده، وقد يُشار إلى نوع المرض، ويتمثل عادة في فقدان الشعر(الصلع) أو بعض الأمراض الأخرى. أما الشكل الثالث فيروى عادة مساء من طرف المرأة لتتلقاه نسوة في مختلف الأعمار، ولا يَحْضُرُ الرجال عادة للاستماع لمثل هذه الحكايات.

5) خطوات الدراسة:

سوف نتّبع في دراستنا لهذه المدوّنة المشكّلة من حوالي سبع روايات منهجا يعمل في البداية على بيان الخصائص العامة للحكاية والمتعلقة بطبيعة دور المرأة فيها، ونوعية انخراطها في مسار الصراع القصصي، ووسمها بالانتماء إلى الطبيعة أو الثقافة، ودلالتها على نوعية القيم الأسرية التي يكشف عنها موقفها، ثمّ تفكيك الوحدات الشّكليّة المكوّنة لكلّ مسار سرديّ في كلّ رواية على حدة، ثمّ المقارنة بين مجموع الرّوايات وبيان ما هو مشترك وما هو مختلف بينها. ننتقل بعدئذ إلى دراسة طريقة تشكّل مضامينها ونظام المعنى فيها جميعا، لنصل في النّهاية إلى بعض التّحديدات المتعلّقة بسياقاتها الثقافيّة والتّداوليّة والنّفسية والاجتماعيّة، وذلك من خلال الاقتراب من بعدها الأنثروبولوجي باعتبارها نصّا ثقافيّا متجانسا يجسّد مرحلة من مراحل تطوّر الإنسان في المجتمع المغاربيّ، وهي مرحلة مازالت قيمها مؤثّرة في حياة أفراده إلى اليوم.

 

 

الدور الذي تلعبه المرأة وطبيعة الصراع الذي تصوره الحكاية

1) في الشكل الأول:

ويمكننا هنا تسمية الشّخصيّة المقصودة في بحثنا بناء على هذا التّقسيم الضحيّة، بـ «البطلة-الضّحيّة»؛ وتكون عادة فتاة غِرَّة في بداية الحكاية وامرأة ناضجة في نهايتها. تتميّز بكونها لاتكون هي المبادرة بالفعل القصصيّ المرويّ في الحكاية والمقرّرة له كما هو الشّأن بالنّسبة للنّمط الأوّل من الحكايات الخرافيّة الذي يشير إليه «فلاديمير بروب» ويجعله الهدف الأساسي في دراسته للحكاية الخرافيّة الرّوسيّة، بل تكون غرضا لاعتداءات متكرّرة وعمليّات إيذاء متواصلة، وتنجو في كلّ مرّة بفعل قدراتها المعنويّة العالية على التّحمّل والصّبر، ومساعدة الطّبيعة والحيوان لها، وتدخّل الكائنات الخارقة لمساعدتها. تتعرّض في مسار الحكاية لتجربة قاسية تتمثّل في نفيها واضطهادها وضياعها ومسخها وتعذيبها واغتصابها وتقطيع أطرافها وتشويه جمالها وسمعتها، لكن يتمّ إنقاذها أو إنقاذ خلفها وتحسين صورتها ومصيرها فتتجلّى في نهاية الحكاية في أبهى صورة لتصنع النّهاية السّعيدة للحكاية المرويّة. تكون في المتواليات الوظيفية الأولى موسومة بالطبيعة، وتوسم في نهاية الحكاية بالثقافة؛ إذ تُدْمَجُ في التنظيم الاجتماعي وتصبح أما راعية للأطفال وزوجة مثاليّة.

2) في الشكل الثاني:

في هذا الشكل تظلّ المرأة تلعب دورا رئيسيا لكنه ليس دور البطولة الذي يُسْنَدُ عادة للأخ أو الإبن، فتكون ظهيرا له في بداية الحكاية، منتمية لعالمه البشري، لتنقلب عليه بصفة تدريجية، عبر مراجعة لعلاقتها به، وتَنْظَمُّ لخصمه، وتصبح ظهيرا للبطل الضديد (المعتدي)، ولتنتقل من الثقافة إلى الطبيعة ومن السلوك الأخلاقي إلى السلوك الغريزي. وقد يكون المسار عكسيّا، فترتبط المرأة بشخصية رئيسية تنتمي لعالم الوحوش (الطبيعة)؛ كأن تكون أمها أو أبوها، ثم تعبر إلى عالم البشر، لتنحاز إليه، وتعادي عالمها المتوحش وتساهم في القضاء على أصولها (والدها أو والدتها) في نهاية القصة، ويكون انتقالها من الطبيعة إلى الثقافة، وتندمج في النظام الاجتماعي، فتنجب الأطفال، لتصبح أما مثاليّة.

3.2. في الشكل الثالث:

تقوم المرأة في هذا الشكل بدور البطولة، غير أنها بطولة من نوع خاصّ، فيقع عليها التبئير، وتبدو ذات ذكاء وحيلة؛ لكنها تلعب دور معتد من منظور القيم الاجتماعية السائدة. تغوي الرجال وتستدرجهم عن طريق استثارتها لغرائزهم، فيرتبط بها الرجل، ويسعى لدمجها في النظام الاجتماعي، غير أنها سرعان ما تتمادى في مسارها المعادي لقيم النظام الاجتماعي، وتنتقم من الرجل الذي يمثل هذا النظام، فتعدمه أو تمارس على أهله عنفا أو تتخلّى عنه، فينفصل عنها.

 

 

المسار السردي

نفترض أن يتحقق تطور المسار السردي في جميع هذه الروايات وفق الصنف الوظائفي المركب من خمسة مراحل:

- وضعية مستقرة نسبيا.

- تدخّل قُوى معادية تتسبب في اضطراب ينتج عنه فقدان للتوازن.

- تدخل قوى مساندة للبطل من أجل إعادة التوازن.

- نجاح التدخّل من أجل استرجاع التوازن.

- وضعية مستقرة نهائيا. وهي المراحل التي حددها دارسو البنية القصصة والتي تتجسد في البناء الأدنى لكل قصة.

سوف نحاول أن نرصد كيفية تحقيق هذه المراحل في كلّ حكاية من هذه الحكايات، ومدى هذا التحقّق، من خلال الجدول الآتي الذي يلخص الأفعال والمواقف والحالات:

5 4 3 2 1 الحكاية الشكل
تعيش مع زوجها حياة هانئة تعود إلى هيأتها البشرية ويستبعد الخطر الذي يتهدّدها. -يسمع فلاح شكواها. -يخبر السلطان فيسعى لإنقاذها. -تُبَلَّغُ بأنها سَتُجْبَرُ على زواج المحارم. - تهرب بصحبة خادم. -يعاقبها أخوها فيشوّهها ويقطع يديها بتواطئ مع عجوز شريرة. -تتزوج ولد السلطان في بلاد بعيدة. تغار منها زوجتي ولدي السلطان السابقتين، فتعيّرانها. -يتدخل الجنّ فتعيدها إلى هيأتها ويزينانها. -تغار منها الضرتان فتدبران خدعة لاستبعادها. -تتحول إلى حجر ملح مرمي في بئر. فتاة جميلة تعيش حياة مستقرة بين أهلها، تلقى عناية خاصة من أمها. ١ I
تعيش حياة هانئة وقد أصبحت أما لابن السلطان.. يتم إنقاذها واستخراجها من قاع البئر بمعية ولدها، ويتم القضاء على الضرّات الحقودات. -يستمع السلطان إلى شكواها فيسعى إلى إنقاذها. -تُبَلَّغُ بأنها سَتُجْبَرُ على زواج المحارم. - تهرب بصحبة أخيها الأصغر. -يتحول أخوها إلى هيئة حيوانية، تتكفل بحمايته. -تتزوج بسلطان بلاد بعيدة. تغارمنها زوجاته فيرمين بها في قاع البئر، حيث يتخذ ثعبان من حجرها مقاما. وتلد ولدا. -يقرر ولد السلطان ذبح أخيها المتحول في هيئة حيوانية. فتاة جميلة تعيش حياة مستقرة بين أهلها. ٢  
يقيم السلطان الأفراح ويسعد بزواج ولده من لونجة بنت الغولة التي تحولت إلى كائن بشري. يعود أحمد ولد السلطان بمعية لونجة إلى بيت السلطان ويتحولان إلى هيأتهما الطبيعية (البشرية). -يتلقى مساعدة من الفتاة، وينجو من خطر الإلتهام. -يتم استبعاد الخطر والقضاء على الغولة. -يتدخل أبوه السلطان في النهاية لإنقاذه -تتصل به عجوز مؤذية، تنبهه إلى ضرورة الخروج وخوض مغامرة خطرة. -يذهب للبحث عن فتاة تنتمي للعالم الآخر (بنت غولة). -يتعرض لخطر الالتهام من الغولة والدة الفتاة. -يهرب من بيت الغولة بمعية ابنتها، وتتعقبهما الغولة الأمّ. -يقع ضحية لخطئه في اتباع تعليمات الغولة. يرتكب المحضور ويتم اختطافه من طرف صقر. -يتخذ هيئة طائر. -تتخذ الفتاة هيئة خادمة. أحمد بن السلطان شابّ مُدلَّل من والدته، يعيش وضعية مستقرة تعوّد عليها. ٣ II
يعيش الشاب حياة هانئة بصحبة أصدقائه من الحيوانات. يتم استبعاد الخطر بالقضاء على الغول وعلى الأخت الخائنة -تتدخل الحيوانات صديقة الشاب لتنقذه وهو يصارع الغول، ولما أشرف على الموت بفعل سريان السم في جسده. -يتعرض الولد للخطر، بسبب وجود غول يرتاد الغابة. - تتخذ الأخت من الغول عشيقا. -تدبّر الأخت مكيدة للقضاء على أخيها بتواطئ مع الغول. -يوشك الولد على الهلاك في معركته مع الغول، وبسبب غياب أصدقائه الحيوانات. -يوشك الشابّ على الهلاك بفعل السم الذي وضعته له أخته في مرقده. يلجأ ولد يتيم مع أخته ليعيشا في الغابة حياة مستقرة نسبيا بصحبة الحيوانات ٤  
عاش الأبناء وزوجاتهم حياة هانئة. انكشفت نوايا الأم القاسية والمتصابية، ووجدت نفسها ضحية أوهامها. -تم الانتقام منها وعقابها -دبّر الإخوة حيلة لمعرفة نوايا الأم، فادّعوا بأنهم يريدون تحقيق رغبتها في الزواج من جديد -توفى الأب، ولم تصرح الأم بمبلغ الثروة الحقيقي، وادّعت أنه ترك الشيء القليل. -كانت الأم تقسو على كنّاتها. -صدرت عن الأم سلوكات لا تليق بوضعها كأم لأبناء كبار متزوجين، أصبحت تبدو في مظهر غير وقور، تتصابى، تبدي رغبتها في إعادة الزواج من جديد. تعيش أسرة حياة عادية مستقرة نسبيا ٥ III
عادت الفتاة لحياتها المتحرّرة من قيود قيم المجتمع. قام بتطليقها، واستبعادها من حياته بفعل خضوعها لنزواتها. -لم تصبر على ممارسة الرقص كما كانت من قبل، وأصبحت تفعل ذلك خفية. -اكتشف تمرّدها على الحياة الجديدة التي أصبحت تعيشها. -سعى رجل غنيّ إلى إنقاذها من حياة الفقر وممارسة الرقص، تزوجها، وأخضعها للقيم الأسرية المتعارف عليها في المجتمع. كانت هناك فتاة فقيرة، تشتغل رقّاصة. تعيش حياة مستقرة نسبيا ٦  
تنتصر على جميع من تحدّتهم من الرجال. وتواصل حياتها في انسجام مع ذاتها. تتغلّب على جميع الرجال الذين ترتبط بهم وتكشف عيوبهم -تستخدم ذكاءها وقدراتها اللغوية لتتغلب على خصومها. -تعترض طريق شاب وتغريه بالزواج منها، لكنها تتعامل بفضاضة مع محيطه الأسري وجيرانه. يتم تطليقها. - تتحايل على القاضي وتحصل على حكم طلاق لصالحها دون أن تمكنه ممّا كان ينتظر منها من رشوة وتستهزئ به. -تتحايل على شيخ وتغريه بالزواج منها، لكنها لا تمكنه من نفسها، وتسلبه ثيابه وتجعله ضحية لألاعيبها. -تتحايل على شيخ ورع، وتدعي معاونته، وتسلبه أثاث بيته. -تغري رجلا بالزواج منها؛ تتحايل لتتخلص من والديه وتستحوذ على ثروتهما. كانت هناك امرأة لعوب سليطة اللسان، عنيفةتتحدّى كلّ من يعترض طريقها، وتحصل منه على ما تريد عن طريق الحيلة والكلام الجريء. ٧  

من خلال هذا الجدول يتبين لنا أن مسار شخصية المرأة الموسومة بالجمال الخارق، والتي تلعب دور البطولة في الحكايتين المنتميين للشكل الأول، يبدأ بحالة توازن هشّة تتعرّض للاختراق بفعل سلوك غريزي صادر من مَحْرَمٍ يريد إجبارها على الزواج منه. غير أنها تفلتُ من قبضة المعتدي، الذي قد يمارس عليها فعل تشويه (وهو هنا اَلْمَحْرَم)، وتغادر بيت أهلها لتلجأ إلى مملكة أخرى تتزوج فيها على ضرّات غيورات وحقودات، فتتعرض مرّة أخرى للاستبعاد القسري من المحيط الأسري والتشويه. ويأتي الاعتداء هنا تأكيدا للاعتداء الرئيسي وبيانا إضافيا للقدرات المعنوية والقيم المثالية التي تتمتع بها المرأة البطلة. تتدخل قوى خيرة، متمثلة في الزوج ولد السلطان لكي يعيد المرأة البطلة إلى هيأتها البشرية، ويتخذها زوجا وأما لخلفه، ويعود التوازن النهائي في حياة الشخصية الرئيسية. تظهر المرأة البطلة هنا خاضعة للقيم الأسرية في المجتمع الذكوري تتعرّض لاختبارات من أجل أن تتعلم كيف تكون زوجة وأما تقوم بوظيفتها في هذه الأسرة بصفة مثالية.

في الحكايتين المنتميتين للشكل الثاني؛ يقوم التوازن الأوليّ على علاقات توافقية بين البطل (الذكر) والطبيعة، ويرتبط بامرأة تكون له سندا في تقوية أواصر هذه العلاقة. سرعان ما تظهر قوى متوحّشة تنتمي للطبيعة أيضا تضرّ بهذه العلاقة، وتعرّضها للتهديد وتؤدي إلى اختراق حياة البطل والمرأة المرتبطة به والتي تلعب دور الظهير للبطل. في الحكاية الأولى يحدث تحول في حياة هذه المرأة فتتعلّق بالقوى المعتدية، وتتخلّى عن دور الظهير للبطل وتصبح ظهيرا للمعتدي، تقوم بتعويضها قوى من الطبيعة (حيوانات) خيرة، وتنحاز المرأة للقوى المعتدية بصفة نهائية، ويتم القضاء عليها من قِبَلِ البطل ومساعديه من الحيوانات الخيرة. في الحكاية الثانية تكون المرأة تابعة لقوى الطبيعة المعتدية، لكنها تنسج علاقة ودّية مع البطل الذكر الذي ينجذب نحوها ويخوض مغامرة الحصول عليها وافتكاكها من القوى الطبيعية المتوحشة، وتصبح ظهيرا له ويتزوجها في نهاية المسار السردي، وتساعده على دحر القوى الشريرة، فينجح في القضاء على هذه الأخيرة وبناء علاقة زوجية مع المرأة القادمة من عالم الوحوش (العالم الآخر).

أما الحكايات الثلاثة المنتمية للشكل الثالث، فهي تختلف تماما في مسارها السردي عمّا سبق من حكايات. تسلّط الضوء على المرأة، لكنها تقدمها على أنها متمردة على القيم الاجتماعية التي تمنح للرجل الأفضلية، فتستعمل ذكاءها وتنسج حيلها من أجل خرق القيم الاجتماعية السائدة، وتحقيق ذاتها من خلال مواهب تتمثل في الذكاء غير العادي واستعمال اللغة. تتخذ البطولة مفهوما مختلفا عن مفهومها في الشكلين السابقين؛ تصبح تبئيرا على شخصية رئيسية تتحدّى مجموعة من الشخصيات الممثلة للنظام الاجتماعي وتنتصر عليها، يساعدها في ذلك جمالها وقدرتها على الإغواء واستخدام الأسماء والكلام؛ سواء الكلام المجازي الذي يحيل إلى أكثر من معنى واحد، أوالكلام المسكوت عنه في المجتمع بفعل الطابوهات.

يختلف المسار السردي في حكاية الشكل الأخير عن المسار السردي في الشكلين السابقين، في كونه لا يشير إلى اختلال في الوضعية الأوليّة، ولا إلى عودة توازن من وجهة نظر دور المرأة الرئيسية، بل تحافظ المرأة على توازنها من بداية الحكاية إلى نهايتها. تتعرض لمحاولة الإيذاء غير أنها تنجح في إفشالها، وتنتصر في الأخير. نستثني من هذا الحكاية الأولى التي تنتهي بعقاب قاس وعنيف، وتدهور لمصير المرأة-البطلة . أما الحكايتان الثانية والثالثة فتعرفان نفس الموقف عند بداية المسار السردي وفي نهايته، تتم المحافظة عليه لأنه يكشف عن صورة نمطيّة ثابتة للمرأة ونزوعها السلوكي.

نظام المعنى

1) تجسّد نظام المعنى:

يتجسّد نظام المعنى في حكايتي الشكل الأول من خلال تضادّات سرديّة وزمنيّة ومكانيّة. يتعلق التضادّ السردي بمسارين موضوعاتيّين؛ أحدهما تتكفّل به البطلة الضحية، بينما تتكفل القوى المناوئة، والمتمثلة في أسرة المنشأ وأسرة الزوج (الضرّات) بالمسار الموضوعاتي الضديد. ويمكن بيان علاقة التضادّ هذه من خلال الترسيمة الآتية:

- فتاة عزباء يرغمها أخوها على الزواج منه، فتهرب من بيت أهلها لتقصد مملكة أخرى تتزوج فيها وتنجب

- أهل يتخلون عن الفتاة، ومرافق يسيء لها، وزوجات ضرّات لها يكيدون لها، يتم تشويهها واستبعادها

ويتوزع زمن إنجاز الفعل السردي بين ثلاثة أزمنة هي: الماقبل والأثناء والما بعد. تمثل الوضعية الافتتاحية الدالة على التوازن المؤقّت الزمن الأول، ويمثل إنجاز الأفعال السردية والمتمثلة في التحولات الجارية في المسار السردي الزمن الثاني، بينما يتجسد الزمن الثالث في الموقف الختامي الذي عبر عن التوازن النهائي. وهو مسار خطّيّ يجعل من فقدان التوازن منطلقا للأداء السردي وإحداث التوازن النهائي غاية:

الماقبل --- الأثناء --> المابعد

يتمفصل المكان الذي تجري فيه الأحداث إلى مكان تتدهور فيه وضعية البطلة ويتمثل في مسكن المنشأ والطريق وبعض المواقع المائية والعالم الآخر، بينما تتحسن وضعيّة البطلة في بيت ولد السلطان وبعض المواقع المائية. نشير هنا إلى أن المواقع المائية تكون مزدوجة الدلالة، فهي أحيانا موضعا لتدهور وضعية البطلة وأحيانا أخرى موضعا لتحسن وضعيتها، ويعود ذلك إلى اقتران هذه المواقع بظلمة الليل أو بنور النهار. فالأماكن المائية ترتبط بتدهور مصير الشخصية ليلا بينما تكون موقعا لتحسين المصير في النهار.

في حكايتي الشكل الثاني يتجسد التضادّ في المسار السردي بين صيرورتين؛ تتمثل الصيرورة الأولى في مُنْجَزِ شخصية البطل ومن يكون ظهيرا له في تحقيق ذاته وتجاوز النقص الذي يعانيه، وخوض مغامرة البحث عن تحسين للوضعية المشتركة، والحصول على ما يرغب فيه البطل. أما الصيرورة الثانية فهي تتمثل في اشتراك الظهير مع البطل في معاناة لنقص ما أولفقدان التوازن، ثم التحول إلى معسكر الخصم والسعي إلى إيذاء الأهل سواء كانوا بشرا أو وحوشا، بعدما تظهر احتياجات جديدة ومعاناة لاختلال في التوازن عند شخصية الظهير خاصّة به مختلفة عن تلك التي يعيشها البطل:

- بطل باحث تسنده شخصية امرأة (محرَم)، يعيش توازنا هشّا، يخوض مغامرة تحسين مصيره، يعقد تحالفات مع قوى خيرة تنتمي للطبيعة، يحصل على ما يريد، بسترد توازنه نهائيا ويقضي على خصمه.

- مساعد للبطل أو للمعتدي يسنده ويعيش في عالمه، يعيش توازنا هشا، تنشأ عنده احتياجات مختلفة عن احتياجات من كان ظهيرا له أو منتميا له. يسعى إلى التحالف مع خصم البطل أو البطل نفسه، يصطدم بالبطل أو بالمعتدي، ويفشل إن كان قد تحول إلى معتدي، وينجح إن كان قد تحول إلى صف البطل.

ينقسم زمن السرد إلى المراحل الثلاث المتمثلة في: الماقبل- الأثناء- المابعد. يتوحد مسعى البطل وظهيره في المرحلة الأولى، بينما تحدث التحولات في المرحلة الثانية وتدفع إلى أن يتخذ كل من البطل والمعتدي (أو البطل الضديد) وظهيره مسارا زمنيا مختلفا وموازيا للآخر. فيصبح ظهير البطل خصما له، منحازا للقوى المعتدية، وتتحول بنت الغولة إلى ظهير للبطل وخصما لأصولها. في المرحلة الثالثة ينجح البطل ومن ينحاز إليه في القضاء على المعتدي وسدّ النقص، ويهلك خصم البطل ومن ينحاز إليه. يتّسم الزمن السردي بالخطية؛ يكون في البداية موحدا ثم يتفرع إلى زمنين متوازيين؛ زمن فعل البطل وزمن فعل الخصوم. يداول السرد بين الزمنين إلى أن يصل إلى نقطة النهاية، حيث يتوحد الزمنين في نقطة انتصار البطل على خصومه.

   

تتوزع الأمكنة التي تجري فيها الأحداث بين أمكنة مغلقة وأمكنة مفتوحة. في الحكاية الأولى؛ بين غرفة البطل والعالم الآخر، وفي الثانية بين كوخ اليتيمين والغابة.

في حكايات الشكل الثالث يأتي المسار السردي للأحداث على شكل مواجهات بين المرأة-البطلة ومن يعارض طريقها من رجال، وهي بمثابة اختبارات يتعرّض لها شباب وشيوخ، يتم تكرارها بنفس الطريقة تقريبا. فهو بناء حدثي تراكميّ، لا تخضع العلاقة بين وحدات الأصناف الوظائفية فيه إلى السببية، كما هو الحال في حكايات الشكلين السابقين، بل يكون بناء الأحداث تراكميا؛ فنحصل على مجموعة اختبارات، تمثل أحداثا وبرامج سرديّة مستقلة عن بعضها حدثيا ولا يربط بينها سوى شخصية المرأة-البطلة، ولكل اختبار شخصياته الخاصة. تطرح المرأة تحدّيا على الرجل، فيقبل قواعد اللعبة، وتقوم بخداعه لتبتزّه وتأخذ ممتلكاته، وتفضح عيوبه المسكوت عنها. يبدأ المسار بفعل الغواية ثم الحصول على الثروة عن طريق التحايل والادّعاء والاستعمال المراوغ للتسميات ولغة المجاز. تعتمد المواجهة على القدرات البشرية مثل الذكاء والمراوغة اللغوية، ولا يظهر أيّ أثر للعالم الآخر. يمثل الانفصال عن الثروة والاتصال بها مدار الصراع الدرامي في مجموع البرامج السردية. يقوم النظام الموضوعاتي للمسار السردي على خطتين متواجهتين كالآتي:

- امرأة جريئة تتعرض للرجال لتتحدّاهم وتغويهم وتعدهم بالزواج الموفق وتلبية رغباتهم المكبوتة. تنجح في ذلك وتسلبهم ممتلكاتهم.

- شباب وشيوخ يقعون في حبائل امرأة لعوب تغريهم بعروضها، فينساقون وراء وعودها الكاذبة وتجرّدهم مما يملكون وتتعامل بعنف مع أهلهم ومحيطهم الاجتماعي.

يجدر بنا بخصوص بيان طبيعة المسار السردي في هذه الحكايات الرجوع إلى دراسة كمال عبدو الذي جمع هذا الصنف من الحكايات من الميدان، وقدم تحليلا لها سنعود فيما بعد إلى بعض استنتاجاته بخصوص دلالتها الأنثروبولوجية. يقول بهذا الصدد: «في محتوى الخطاب، تعتمد هذه القطيعة على حضور متضخّم للأنثى، وبروز لدورها، وتسليط للضوء عليها. في حكايات المدوّنة السبع تتصدّر المرأة الموقف وتلعب الأدوار الأساسية. في ثلاث منها هي البطلة، جامعة للأدوار، ومخالفة بذلك لخطاطة فلاديمير بروب في توزّعها على حقول الفعل ؛ فهي في نفس الوقت البطل والمرسِل والمعتدِي معًا. إنّها الوضعية في حكاية «عيشة أم الزبايل» و«ملهاط» و«عقاب الأمّ»، حيث الشخصية المركزية الأنثويّة، تقوم هي نفسها بالتحرّي (البحث عن السلطة) لفائدتها، مُنَاهِضَةً لكل مَنْ يُعَرْقِلُ تحقيقَ مشروعها»5.

يأتي الزمن خطيا يصل بين الماقبل والأثناء والمابعد. تتفق مرحلتا الماقبل والمابعد، وتأتي مرحلة التحول لتكشف عن محاولة فاشلة في إخضاع المرأة لإرادة الرجل التي تدعمها الأعراف الاجتماعية.ينتهي زمن الحكاية الأولى بمعاملة عنيفة وتدهور لمصير المرأة-البطلة، بينما تنتمي الحكايتان الثانية والثالثة بزمن دائري يعيدنا لنقطة الانطلاق:

  

أما بالنسبة لتوزع الأماكن في حكايات الشكل الثالث، نجدها تميّز بين البيت العائلي (بيت الزوجية) من جهة والأماكن العامة مثل الطريق والمحكمة والحمام من جهة أخرى. يتمّ إدراك النقص في الموضع الأول المغلق، وتخوض المرأة-البطلة مغامرتها لسدّ النقص وتحسين مصيرها في الموضع الثاني، ويحدث الصراع بين الطرفين الخصمين في هذا الأخير. بعد نجاح المرأة البطلة في المحافظة على وضعيتها السابقة تتم العودة إلى المكان المنفتح، تستثنى من ذلك الحكاية الأولى التي تنتهي بانتصار الذكر الخاضع للعرف الاجتماعي وهزيمة المرأة المتمرّدة.

2) الدلالة الأنثروبولوجية:

في القراءة الأنثروبولوجية لحكايتي الشكل الأول، يتضح بصفة جلية دلالتهما على انتقال المرأة-البطلة من نظام أسري أموسي (ماترياركي) إلى نظام أسري أبوسي (بطرياركي). فالتركيز على اعتبار زواج المحارم خطر يتهدّد كيان الأسرة، يندرج في طبيعة النظام الأبوسي، وانتقال الزوجة إلى فضاء الزوج، وكذلك التأكيد على أن الزوج في البلاد البعيدة هو سلطان، ودوره في التدخل من أجل إنصاف الزوجة الطارئة ومعاقبة الأزواج السابقين، دليل على سلطة الزوج على بقية أفراد الأسرة، والتي تميز هذا النظام. إضافة إلى أن المرأة-البطلة-الزوجة تُقَدَّمُ في نهاية الحكايتين على أنها وُهبت بمولود ذكر من السلطان، يؤكد وظيفتها في المجتمع الأبوسي الذي يتمثل في الإنجاب وتوفير الغذاء للأبناء، وتأتي الإشارة إلى جنس المولود (ذكر) لتؤكد هذا الانحياز للذكورة الذي تقوم عليه طبيعة النظام الأبوسي. كما تحتفي الحكايتان بدور المرأة-الزوجة في إبراز أنوثتها أمام الزوج الذكر، ويرمز الشعر الطويل والزينة التي تتخذها بصفة واضحة لهذه الوظيفة. كما تتوقّف الحكايتان عند وظيفة العناية بالأعمال المنزلية وإتقانها باعتبارها من المواصفات المميزة للزوجة في النظام الأسري الذكوري. يأتي اختيار الحكايتان للأخ الأصغر (ح2) والخادم (ح1) للهرب بمعية المرأة-البطلة المهدّدة بالخضوع للنظام الأموسي السابق، باعتبارهما شخصيتين غير مندمجتين في هذا النظام الأسري، وهما المؤهلين أكثر من غيرهما للالتحاق بالنظام الجديد الذي تبشر به الحكاية . فالأخ الصغير مازال في مرحلة السلوك الغريزي، لم يندمج في النظام الثقافي الأسري السائد، وهو الأموسي، يدل ذلك إقدامه على شرب الماء المسحور دون التفكير في العاقبة، مخالفا نصيحة الأخت التي جاءت في الحكاية كمبشّرة بالنظام الأبوسي الجديد. بينما لا تندرج الخادم في علاقات الزواج المميزة للنظام الأسري القديم.

تشترك حكايتا الشكل الثاني في تقديم النظام الأسري الأبوسي على أنه النظام المثالي؛ فتبشّر به. تركز الحكاية الأولى (رقم 3) على انتقال الزوجة إلى بيت زوجها، كما تؤكد سلطة الزوج بوصفه «ولد السلطان»، إلى جانب ما قام به من دور في خوض المغامرة في العالم الآخر من أجل الحصول على زوجة خاضعة لسلطته بعد انحيازها لعالمه وتمردها على عالمها السابق (عالم الوحوش الخرافية). مع التأكيد على كونها آية في الجمال الذي لم تكن تبديه سوى لزوجها. وقد اطلع عليه حموها عن طريق الصدفة وبإيعاز من الخادم. وكان سببا في موافقته على زواج ابنه من لونجة. أما الحكاية الثانية (ح4)؛ فهي لا تقدم النظام الأبوسي بقدر ما تبرز نواقص النظام الأموسي، وهو من الدلالات المنبثقة عن مثل هذه الحكايات المبشرة بالنظام الأبوسي فتركز بصفة واضحة على النظام الأموسي لتبين فشله في تنظيم المجتمع وأثره الكارثي على حياة شخصية بطل الحكاية (وهومن جنس البشر) وقوى الطبيعة الخيرة. لقد جاء الغول من عالم الآخر ليرتبط بعلاقة جنسية مع أخت البطل في موضع إقامتها، وهي سمة من سمات النظام الأموسي الذي جاء في الحكاية مصدرا للخطر الذي هدد حياة البطل وأصدقائه من قوى الطبيعة الخيرة (حيوانات الغابة). لهذه الحكاية ميزة أنها تقدم المرأة (الشخصية الرئيسية) كعنصر خاضع للنظام الأموسي السائد عند الأغوال، وهو موقف مناقض لموقف المرأة كشخصية رئيسية في (ح3)، حيث تغادر الفتاة موضع إقامتها (عالم الأغوال) إلى موضع إقامة زوجها (عالم البشر)، وتساهم في القضاء على رموز الأول وتجديد الثاني وتخليصه من التهديدات.

في الشكل الثالث تُبْرِزُ الحكايات الخاضعة للدراسة مسألة القيم الأسرية على أنها قيما اجتماعية مقيّدة للحرّيّة الفرديّة للمرأة؛ وتتّخذ من موضوع التناقض القائم بين الخضوع للقيم الأسرية الأبوسية وقيمة حريّة المرأة الفرديّة. تنحاز الحكاية لحرّية المرأة، حيث نجدها تكلل ما حققته المرأة البطلة في مواجهتها للرجل بالنجاح في النهاية. (باستثناء (ح5) التي تنتهي نهاية مأساوية بالنسبة للمرأة). وهو أمر يجعل من هذه الحكايات استثناء في مدونة الحكايات التي تبرز دور المرأة في المجتمع الجزائري. فهي تخرق المعايير الاجتماعية السائدة، وتُبرز إلى السطح ما هو مسكوت عنه ومكبوت.

يشير كمال عبدو إلى أن هذه النماذج من الحكايات تقوم على ما لاحظه من قطيعة مع الخطاب الاجتماعي السائد بخصوص وضعية المرأة في المجتمع الجزائري؛ وهي قطيعة تستند إلى موقفين أساسيين هما: «الاختراق، التمرد». يستند العنصر الأخير على شكلين من التمرد؛ تمرد بخصوص الحياة الجنسية للمرأة وتمرد يتعلق بحياتها الاقتصادية. يقول في استنتاجاته حول الاختراق الذي تكشف عنه هذه الحكايات: «إنّ هذا الاختراق للعنصر الأنثوي للفضاء الذكوري في العالم الداخلي للخطاب، يمثّل في حدّ ذاته قطيعة بالنسبة لما يفرضه المجتمع. إنّ حضورها في الفضاء الاجتماعي يمثّل خَرْقًا لما يفرضه هذا المجتمع. بحضورها وحده في الفضاء الاجتماعي، امرأة الحكاية تخرق الأعراف الاجتماعيّة، وهي بذلك تمثّل تهديدا للنظام. فحضورُها ابتداء من الوضعية الافتتاحيّة، في فضاء يُعَدُّ خارج الفضاء الذي عليها أن تبقى في حدوده، وهو الفضاء المنزلي والمغلَق، يتطلّب خَرْقًا. لقد تمّ تجاوز الحدود التي تَرْسُمُ المجالَ الممنوع عليها. هذا الاختراق هو اعتداء صارخ على الضوابط الاجتماعيّة والأخلاقيّة، ويُنظر إليه على أنّه دون جدوى. إنّه يتعلق في الواقع بمحضور راسخ في الأذهان إلى درجة كبيرة بحيث يؤثّر في الصيرورة النظمية للسرد، ويجعل التحقيق السيميائي لوظيفة «اعتداء» بدون جدوى. وهو دليل إضافيّ، إن لزم الأمر، على تحديد ما هو نظمي في السرد من طرف العلاقات الاستبدالية لما هو خارج السرد، وكذلك اندراج وضعية السرد في نسيج تواصلي أكثر تعقيدا من كونه عملية تركيب سَنَن وفكِّه. فالخرق، طبعا، موجود من قبل في ذهن الساردة وجمهورها، منذ أن أصبح الكشف والبوح يميزان شخصية الأنثى»6. يثير الباحث هنا مسألة علاقة الحكي بالمحيط الذي يروي ويستقبل هذه النماذج من الحكايات. لفهمها لا بدّ من المراوحة بين النظام السيميائي للخطاب وتداوله من طرف باثّيه ومستقبليه، ونذكر هنا بما قلناه في مستهل هذه الدراسة حول رواية عذا الشكل الحكائي من كونه يخص النساء رواة ومتلقين، ولا يُروى عادة في محضر الرجال. يشرح ذلك نفس الباحث فيقول:

«هذا التمرّد والانقلاب على الضوابط الاجتماعيّة غير مقصورين فقط على العالم الخيالي واللاواقعي للتخييل. في الواقع، هما متجذّران في الواقع، في نفس اللحظة التي تنشأ فيها وضعية السرد. وهو أمر، في الواقع، يجب ألاّ يدهشنا، فنحن نعلم أنّ فعل السرد مُكوّن أولا وقبل كلّ شيء من عناصر (مكان، زمن، جمهور، صيغ طقوسية...) من خارج السرد، سابقة على وضع الخطاب. فالمرأة الراوية ما أن تشرع في الحديث حتّى تقلب نظام المواضعات الاجتماعيّة؛ أولا وقبل كل شيء لكونها تتحدّث، وتُسمع صوتَها للآخر. فصوت المرأة في المجتمع التقليدي المغاربي الإسلامي يُعتبر مندمجا في مناطق الجسد المُثيرة لغريزة الذكر، والتي لابدّ من إخفائها. ثمّ إنّ الصوت بطبيعته، حسب تزومتور: «بعمقه الفضائي، ينأى عن الخضوع للنظام، من الطبيعي أن يثير الفضيحة». إنّ ظروف إقامة الزمكان السردي الذي له مؤشّراته الطقوسيّة ودلالاتُه الأنثروبولوجية، تمثّل بنيويّا فضاء انقلاب شامل لتوزيع الأدوار الاجتماعي كما وضع سَنَّنَهُ النظام الذكوري، في نفس الوقت هي إعادة تحديد للفضاء، للوظائف، وللمراتبيّة.

ستبيّن الخطاطة الآتية كيف أنّ المرأة التي تمّ تشييئها، اختزال وجودها إلى ظلّ مُطيع لصالح رفاهية ومسرّة الرجل، تمكّنت من استعادة تملّك الفضاء المنزلي، الذي حبسها فيه المجتمع المحلّي، من خلال إصباغ الطابع الطقوسي على كلامها، لتتّخذ مكانها المركزيّ والمحوريّ، ليس فقط كَمُتَحَكِّمَة في الكلام، لكن أيضا كمراقبة لحضور الرجل، الذي أصبح أعزَلاً أمام الكلمة النسوية، عاجزا أمام قدرتها على التعالي على الواقع وولوج عالم العجيب والمجهول»7.

حكايات تنتمي للشكل الأول

1) دلالَّة8:

حَاجِيتَكْ9.. عْلَى وَاحَدْ اَلَمْرَاة لها ولدان وبنت، هذه البنت زينة10؛ سبحان من خلقها! منذ أن ولدت وهي عزيزة على أمها، حتى أنها كانت لا تسمح لها بالخروج مع البنات، وكانت نِدَّاتُهَا إذا أردن أن يذهبن إلى الوادي للعوم يترجّين الأمّ أن تسمح لدلالّة بالذهاب معهنّ، غير أنها كانت تمتنع عن الموافقة!.. ذات يوم قالت البنت لأمّها: «لماذا لا تسمحي لي بالخروج مع البنات إلى الوادي لكي أغتسل؟!. أريد أن أذهب هذه المرّة..». سمحت لها ذلك اليوم بمرافقة صاحباتها إلى الوادي.  

هذه دلالّة كان لها سالف طويل لا تملكه امرأة أخرى!. عندما نزلت تغتسل في الوادي سقطت إحدى شعرات رأسها في الماء، فحملها نحو ساقية. مرّت مع سيل الساقية إلى أن وصلت عند الموضع الذي كان أخوها يورد فيه حصانه. عندما رأى أخوها الشعرة دفع بعصاه في الساقية وجعلها تلتوي عليها. جذبها إليه يتملاّها ويعجب من طولها وجمالها!. حَلَفَ وعاهد نفسه على أن يتزوّج صاحبة الشعرة حتى ولو كانت دلالّة أخته!. وكان العهد يومئذ واعرٌ11، قال لأمّه اجمعي كلّ البنات وأقيمي التويزة12، ليخدمن معك الصوف.

عندما جاءت البنات قاس عليهن جميعا تلك الشعرة، لم يجدها على مقاس شعرهنّ، ولم تبق منهن سوى أخته دلالّة!. فقاسها عليها فجاءت على المقاس. حينها قصد الطُّلْبَة13، يستفتيهم في قراره بالزواج منها!. قالوا له: هَذَا الشَّيْء مَا هُو مْلِيحْ.. هًذِه أُخْتُكْ!. قال لهم: وَاَلْحَلْفْ14!. قالوا له«أًحْنَا مَا اَنَجَّمْشْ نْقُولَّكْ تَدِّيهَا!» 15. «ذهب إلى أمّه وقال لها: سأتزوّج دلالّة!. قالت أمه: إنها أختك!. قال لها: حْلَفْت!»16. بكت الأم .. غير أنه صمّم على تنفيذ قراره. سمعت الخادمة، فخبّرتها؛ قالت لها: «أَخُوكْ بَاغِي يَدِّيكْ»17. قالت لها: «اَسَمْعِي.. وَكَّلْتْ عْلِيكْ مَا اَعْطِيتَكْ مَنْ يَدِّي.. وَكَّلْتَكْ وْشَرَّبْتَكْ.. كِي نَبْدَا نَمْشَطْ فِي رَاسِي.. أَخَطْفِي اَلْمَشْطَة وَاَنَا نَلَحْقَكْ بَاشْ نُهْرُبْ!»18.

عندما حدّثوا دلالّة في الأمر، تظاهرت بالموافقة قالت: »أتركوني لأمشط رأسي !؟« . خطفت الخادم المشطة من يدها وجرت. جرت دلالّة من ورائها متظاهرة بمحاولة اللحاق بها لِتَفْتَكَّ المشطة منها. لمّا اقتربت منها قالت لها: »إِجْرِ..إِجْرِ.. « . ذهبت الخادم ولم تعد. أما دلالة فوصلت عند صخرة، طلعت فوقها وقالت: »اَطَلْعِي بِيَ يَا اَلْحَجْرَة.. اَطَلْعِي بِيَ.. خُويَا وَلْدْ أُمَّا بْغَى يَاخُذْنِي.. أَطَلْعِي بِيَ.. أَطَلْعِي! «19. بقدرة ربّي وجدت نفسها بين السماء والأرض!.

جاءت أمُّها، ألحّت عليها بأن تنزل: «يَا دْلَالَّة بَنْتِي هَوْدِي عَنْدِي نْشُوفَكْ؟»20. قالت لها: «لَا..لَا.. مْنِينْ كُنْتِ أُمَّا كُنْتْ بَنْتَكْ.. وَمْنِينْ وَلِّيتِ عْجُوزْتِي وَاَنَا كَنْتَكْ.. لَا..لَا!»21. جاء أخوها؛ قال لها: «يَا دْلَالَّة .. يَا بَنْت أُمَّا.. هَوّْدِي نْشُوفَكْ؟..»22. قالت: «مْنِينْ كُنْت خُويَا.. كُنْت أُخْتَكْ، وَمْنِينْ وَلِّيتْ حْلِيلِي وَأَنَا عْيَالْ خُوكْ لَا..لَا، لَا..لَا! ..»23 . وجاء والدها. قال لها: «يَا دْلَالَّة بَنْتِي؛ هَوّْدِي لْعَنْدِي نْشُوفَكْ؟»24. قالت له: «مْنِينْ كُنْت أُبَّا كُنْت بَنْتَكْ.. وَمْنِينْ وَلِّيتْ حْمَايَا وأَنَا عْيَالْ وَلْدَكْ.. لَا..لَا!..»25.

لمّا أصرّت على عدم النزول، ذهب أخوها إلى عجوز، قال لها: «لُو كَانْ تَقَبْضِيلِي دْلَالَّة نَغْنِيكْ غِيرْ إِلَى مَا غْنَاكْ الله!»26. كانت الصخرة التي اعتلتها دلالّة على حافة ساقية. كانت كلما عطشت تقول للصخرة: «هَوّْدِي بِيَ»27؛ تهبط بها تلك الصخرة لكي تشرب، ثم تقول لها: «أَطَلْعِي بِيَ»28، تطلع!. جاءت العجوز، وانحنت على الساقية، وشدّت القربة 29 مقلوبة، وفتحتها من خلف، وأخذت تصبّ فيها الماء، وهو يخرج من فتحتها الأمامية!.

كانت دلالّة ترقب ما يجري في الأسفل، شاهدت ذلك، قالت لها: «يَادِيكْ اَلَعْجُوجْ.. مَاكِيشْ تَسْقِي مْلِيحْ.. رَاكِي حَالَّة اَلْقَرْبَة عُوجَة!»30. قالت العجوز: «يَا بَنْتِي يَرْحَمْ وَالْدِيكْ.. عَمْرِيلِي؟»31. طلبت دلالّة من الصخرة أن تنزل، فهبطت بها إلى أن بلغت حافّة الساقية، حزمت القربة وشرعت في ملئها. خرج أخوها حينذاك من مكمنه، حيث كان يترصدها، وأمسك بها. قال لها: «عوّلت على قتلك، لكن لكونك عزيزة علي سأكتفي بقطع يديك!». قطع يديها ووضعهما فوق خيمة والديه.

أصبحت دلالّة منذ ذلك الحين تخرج للمرعى مع الغزلان، وتقضم الحشائش بأسنانها مثل الحيوان، وكان شعر رأسها الطويل يكسو جسدها. ظلت كذلك ترافق الغزلان عندما تقصد العين للورود، فلاحظها خدّام السلطان، فقالوا له: «إننا نرى هيئة أشبه بالإنسان تسير بين الغزلان، ويبدو ذلك من أثر أقدامها». قال ولد السلطان: «لي يقبضها نغنيه؟»32، ثمّ أشار عليهم بأن يضعوا طعاما من الكسكسي33 عند عين الماء، فإن كانت آدمية سوف تتقدم لتأكل الكسكسي، وإن كانت حيوانا سوف تكتفي بتشمّمه. وضعوا الكسكسي وظلوا يراقبونها لما أقبلت الغزلان؛ وإذا بها تُقْبِلُ على الجفنة34 وتأكل بشراهة. حينذاك تيقنوا من أنها بشر، وتقدموا منها وأمسكوا بها وأخذوها عند ابن السلطان. قال لها: «ما هي حكايتك؟»، قالت: «هَا كِي صَارْلِي.. هَا كِي صَارْلِي.. وخُويَا قْطَعْ يَدَّيَّا وهَا كِي دَارْلِي.. وهَا كِي دَارْلِي!»35.

تزوجها ولد السلطان، وكان متزوجا من امرأتين، ولما رأتاها عايرتاها قالتا: «تزوج علينا بمقطوعة اليدين ويريد منا أن نخدمها!». لمّا علم السلطان كلّف خادما بخدمتها باستمرار. ذات يوم قصدت عين الماء برفقة الخادم، قالت لها دلالّة: «رونيلي الطين!»36. فات عليها غراب، قالت له: «يَا اَلَغْرَابْ..جِيبْلِي يَدِّيَاتِي مَنْ خَيْمَةْ اُبَّا؟. نَعْطِيكْ جَجَّة صُوفْ فَاشْ تْرَقَّدْ اَوْلاَدَكْ!»37. حمل لها الغراب إحدى يديها. فاتت حدأة؛ قالت لها: «يَا اَمَّا اَلْحَدَّيَة جِيبِيلِي يدّي الباقية من خيمة ابّا الظهرانيّة ؟ نعطيك ججة صوف!»38. حملت الحدأة إليها يدها الثانية، فشرعت تلصق يديها في كتفيها بعجينة الطين!.. غير أنهما كانتا تسقطان. كان هناك في عين الماء جنيّ يسكنها لم يتكلّم في حياته ولا ضحك!.. عندما شاهد منظر المسكينة وهي تلصق يديها بالطين فتسقطان، تملّكته نوبة من الضحك!.. سمعه أهله فخرجوا وتوجهوا للفتاة المسكين وقالوا لها: «ما دمتِ قد أضحكتِ هذا الجنّي الأبكم، نحن مستعدّين لقضاء حاجتكِ!». قالت لهم: «أريد منكم أن تعيدوا يديّ لمكانهما؟!». فعلوا ذلك ورقّموا39 اليدين بالذهب مكافأة لها. عادت إلى البيت في هيئتها الأولى، وكانت قد طلبت من البغلة التي تمتطيها بأن تهتزّ عند وصولها إلى فناء البيت أمام الضرّتين، فيسقط ما تحمله من صوف، فتشاهد النسوة يديها المذهبتين!. فعلت البغلة ذلك، وانبهر سكان قصر السلطان لمّا شاهدوا دلالّة وهي تجمع الصوف المتساقط بيدين تلمعان، فانبهروا واستغربوا الأمر!.. وظلوا يتحدثون به لفترة طويلة.

ظلّت الجنّ برفقتها تخدمها وتسهر على راحتها. قالوا لها: «منذ اليوم ما عليك سوى استدعائنا لخدمة أي شيء تريدين.. غسل الصوف ونسجه، تنظيف البيت!». غير أن المرأتين الحقودتين دبّرتا لها خدعة، واتفقتا مع عجوز ساحرة، فحوّلتاها إلى حجر ملح.

قامت المرأة برميه في الحاسي40. جمعتا ثيابا ممزّقة وربطتاها حول عصا، وقامتا بإلباسها كفنا، وادّعتا بأنها ماتت!.. ثم قاموا بدفن الخرق المكفّنة في المقبرة. لما عاد السلطان من رحلته، ادعتا بأنها مرضت وتوفّت. فطفق يبكي عليها قالتا له: «هذا قدر من الله وما علينا سوى الصبر!». كان هناك فلاّح يقوم باكرا، يقصد الحاسي ليسقي الأرض، لما يؤذن المؤذن لصلاة الفجر، ينبعث صوت من قعر البئر يقول: «وَدَّنْ يَا اَلْوَدَّانْ فُوقْ رَاسِي وَدَّنْ.. خُويَا بْغَى يَاخُذْنِي.. وَاَلَعْجُوزْ غَرَّتْ بِيَ، واَلنّْسَا زَلْغُوا بيَ، وْدَارُونِي حَجْرَة مَلْحْ فِي اَلَقْبُورْ اَلْمَنْسِيَّة!»41.

كان الفلاح يسمع هذا الكلام كل صبيحة، تحيّر وذات يوم حادث المؤذن وروى له ما يسمع كل صباح بعد أذان الفجر. قال له المؤذن: «لنجمع نفرا من الرجال ونترصّد لمن يردّد هذا الكلام!». قام نفر من رجال السلطان بمراقبة المكان، واستمعوا للكلام المنبعث من قعر البئر. ولما بلغ الخبر السلطان شكّ في الأمر، وأمر بحفر القبر فوجدوا فيه خِرَقًا بالية، واستدعى زوجتيه وأجبرهما على البوح بجريمتهما. أخرج حجر الملح من البئر واستدعى الساحرة فأعادت المرأة لهيئتها الأولى. أنزل أقسى العقاب بالنسوة الضالعات في الجريمة وأحرقهنّ.

2) لُونْجَة بَنْتْ اُمَّا42:

شادة يا مادة ويدلنا ويدلكم الله على طريق الشهادة! صاحب الدبير يدبّر.. والنبيّ (ﷺ) شاو مقدّر! حاجاتكم يا ما جاتكم!43

كان هناك رجل عنده بنت وسبع أولاد، هذيك البنت؛ سبحان الله! يخلق ما يشاء! مزيانة ياسر!44، شعرها طويل. ذات يوم ذهبت إلى البئر لتملأ الماء، التصقت شعرة من رأسها بحبل الجرارة45، عادت إلى البيت. ثصد أخوها البئر قصد أخوه البئر ليورد حصانه، ولمّا شاهد الشعرة الطويلة الملتصقة بالحبل؛ أقسم بأن يتزوّج البنت صاحبة الشعرة الطويلة حتّى وإن كانت لونجة بنت أمّه!. قاس الشعرة على جميع بنات تلك البلاد، فوجدها من شعر رأس أخته لونجة!. قرّر أن يتزوّجها!. بدأ يهيّئ للعرس. في يوم زواجها نادت لونجة لأخيها الأصغر، وقالت له: أهرب بالمشط، وعندما يلاحقونك، قل لهم: : «لا أسلمه إلاّ لصاحبته لونجة»، فعل الطفل ما أمرته به أخته، وقالت لأهلها: «سوف ألحق به إلاّ لصاحبته بنفسي، لكي أسترجع المشط». ثم التحقت به. هربا معا إلى قمة جبل، ودعت ربّها فارتفع الجبل أكثر! جرى أهلها في إثرها، وعندما وصلوا إلى سفح الجبل، نادى أفوها: «يابنيّتي .. أعطيني سالف الدلال، لكي أصعد معك رؤوس الجبال؟!». ردّت عليه قائلة: «لو بقيت أبي لأعطيتك سالف الدلال لتطلع معي رؤوس الجبال.. أما وقد أصبحت عمّي.. أطلع بي يا جبل.. أطلع!». جاءت أمها وقالت: «يا لونجة.. أعطيني سالف الدلال، لكي أصعد معك رؤوس الجبال؟!». قالت لونجة: «مْنِينْ كُنْتِ اُمِّي نَعْطِيكْ سَالَفْ الدّْلَالْ وْكِيفْ عُدْتِ عْمِيمْتِي!.. أَطْلَعْ بِيَ يَا جْبَلْ.. أَطْلَعْ !»46 جاءها أخوها وقال لها: «يا لونجة.. يا بنت أمي.. أعطيني سالف الدلال نطلع معاك رؤوس الجبال». قالت له: «مْنِينْ كُنْتْ أَخِي، نَعْطِيك سَالَف الدّلَال تطلع به معي رؤوس الجبال.. وكيف عدت زوجي!.. أطلع يا جبل.. أطلع!..».

عادوا جميعا إلى البيت حَزَانَى يبكون. نزلت لونجة وأخوها الصغير وأخذوا طريقا أخرى. مشيا.. مشيا.. إلى أن قال لها أخوها: «عطشت.. أريد أن أشرب من هذا البئر..». قالت له: «هذه بئر الخيل، ومن يشرب منها يتحول إلى حصان.. لا تشربْ منها.. ». مَشَيَا.. مشيا.. إلى أن لقيا بئرا آخر. قال: «أشرب من هذا البئر». قالت: «لا تشرب.. إنه بئر الغزلان، ومن يشرب منه يتحول إلى غزال». اشتدّ به العطش، فنزع حذاءه وتركه عند حافّة البئر دون أن تتفطن إلى حيلته. وبعد أن سارا مسافة في الطريق، قال لها: » نسيت حذائي، أعود أدراجي لأجلبه». قالت له: «لا أسلمه اذهب.. لكن حذاري من أن تشرب..». راح وشرب وعاد غزالا ينطّ. قالت: «انخدعتُ فيك يا أخي.. ». ثمّ ربطته إلى حزامها وسارت في الطريق. اعترضها ابن السلطان فقال لها: «أَنْتِ جَنْسْ وَاَلاَّ وَنْس؟»47. قالت: «وَنْسْ كَانْ لْقِيتْ لِي يْوَانَسْنِي»48. أخذها معه وتزوّجها.

كان ولد السلطان متزوجا سبع نساء. لمّا تزوّج لونجة قصد الحجّ. في غيابه اتفق النسوة السبعة على أن يتخلصن من الزوجة الجديدة برميها في البئر. كان يوجد في قاع البئر ثعبان. لم يلتهمها الثعبان بل اتخذ من حجرها مقاما له يلجأ إليه. لمّا عاد السلطان وسأل عن زوجته؛ قالت له النسوة لقد اتضح أنها غُولية49، فرميناها في البئر. قال: «ما دامت كذلك لنذبح الغزال الذي كان يرافقها ونأكله..». ولمّا همّ السلطان بذبح الغزال، طلب منه أن يمهله لكي يطوف بالبئر. طاف الغزال بحافة البئر مناديا: «يا لونجة بنت امّا.. الأمواس مضات والبرم غلات وعلي ولد امّك راح يذبحوه»50. ردّت عليه لونجة من قاع البئر قائلة: «عْلِي يَا وَلْدْ اُمَّا.. صَبْرِي وْصَبْرَكْ لِلَّه!.. اَلشَّعْرْ عَامِي عِينَيَّ، واَبْنَ اَلسُّلْطَانْ وَاَلثُّعْبَانْ مَتْوَسّْدِينْ رُكْبِيَّ»51. استغرب ولد السلطان الموقف وطلب من الغزال أن يعيد النداء.. عند ذاك شكّ في أمر موت زوجته، ونادى زوجاته السبعة وأجبرهن على الإقرار بالحقيقة. قام بعد ذلك بذبح كبش، شواه وملّحه، ووضعه في قفة ودلاّه في البئر. أطعمت لونجة الثعبان، ولما عطش نزل من حجرها ليشرب. حينذاك وضعت صغيرها في القفة ثم لحقت به، لمّا دلّى ولد السلطان حبلا تعلقت به وخرجت من قاع البئر، وروت للسلطان ما حدث لها. حينذاك أعاد الغزال إلى هيأته الطبيعية، ثمّ سَيَّرْ اَلْبَرَّاحْ يْبَرَّحْ52: «لا يقعد لا خايب لا مليح، الناس الكل تجي.. تحمل الحطب..»53. قام بإحراق زوجاته السبعة. وبقي يعيش مع زوجته لومجة وأخيها.

خرّافتنا خشّت الغابة، صلّوا على النبيّ وأصحابه54.

حكايات تنتمي للشكل الثاني

3)لونجة بنت الغولة55:

هذه حكاية عن امرأة وولدها. لم ير الدنيا في الخارج، منذ أن ولد وضعته أمّه في غرفة وأقفلت عليه، لا يرى أحدا ولا يراه أحد سواها. ذات يوم جاءت السَتُّوت56، إلى منزل المرأة، نظرت في جميع الغرف، واحدة فواحدة، وفي غفلة من الأمّ ولجت الغرفة التي يوجد فيها الولد. وجدت شابّا جميلا، ذا هيئة مكتملة. سألته: «ماذا تأكل؟». قال لها: «آكل تمرًا منزوعَ النوى ولحمًا منزوعَ العظم!». قالت له: «لكي تحسّ بلذّة اللحم عليك أن تأكله وهو ملتصق بالعظم، ولمّا تنتهي منه اضرب العظم بشبّاك الغرفة لينكسر، سوف تحصل على النخاع الذي لا يوجد ما هو أطيب منه!». ذهبت الستّوت إلى منزلها. وظلّ الشابّ يلحّ على أمّه بأن تأتيَه باللّحم بعظْمه إلى أن خضعت لرغبته وجاءته بما يريد. ولكي يكسر العظم جعله يرتطم بشبّاك الغرفة!، فانكسر زجاج النافذة.

انفتح عالمُه وشاهد السوق ممتلئا بالناس وبالحركة وبالخيل!. أبدى رغبته بالخروج من غرفته. قالت له أمّه: «ماذا تفعل في الخارج؟.. لا أحد يعرفك وليس هناك من هو في حاجة إليك!». امتنع عن الأكل لعدّة أيّام، وظلّ يلحّ في طلبه إلى أن وافقت والدتُه على طلبه. لما خرج جاءوه بحصان، ركبه، لم يتحمّل الحصان ثقله!، استبدلوه فحدث نفس الشيء!، جيء له بحصان آخر وُلِدَ في نفس تاريخ ميلاده!، كان نحيفًا، بَدَا أنه لن يقوى على حمله، غير أن الولد ما أن امتطى ظهرَه حتى لمع جلدُه، وبدا قويّا!. سار به في السوق، لم يكن قد جرّب الحياة، لا يعرف عنها شيئا.

لمّا رأته الستوت يركب الحصان معتدّا بنفسه، سمعها تقول عنه: «ماذا يحسب نفسه؟ وكأنّه ذاهب للزواج من لونجا!».

احتار في الأمر وعاد إلى البيت، تمارض وطلب من أمّه أن تستقدم الستوت لِتَدْهَنَهُ، وأن تضع قِدْرًا فيها المرق على النار. ولما جاءت الستّوت طلب منها، قبل دَهْنِهِ، أن تُحَرِّكَ المرق، وما أن أمسكت بِالْغُنْجَايَة57 دفع بيدها في المرق الحارّ، فصاحت من الألم: «آي يدي تحترق!» قال لها: «لن أتركك حتّى تقولين أين أعثر على لونجا؟». قالت له «اذهب واقطع سبعة جبال، توقّف عند الجبل السابع واعزف بـالْغَايْطَة58، ستأتي لُونْجَة لترقص أمامك». حينئذ أطلق صراحها قائلا: «اذهبي الآن لست في حاجة إلى شيء آخر منكِ!».

امتطى أحمد جوادَه في الغد، سار حتى تعب، ولما وصل إلى الجبل السابع وبدأ يعزف على الغايطة، جاءت لونجة وشرعت في الرقص، كانت بارعة الجمال والظرف، لعب معها، وأخذته إلى منزلها، عندما جاء الليل وحانت عودة أمّها الغولة، لَفَّتْهُ في حصير، ولمّا وصلت أمّها قالت: «رِيحَةْ وَلْدْ السُلْطَانْ فَي دَارِي؟!»59. تظاهرت لونجا بالغضب. أردفت الغولة: «دُورُوا بِيَ حْوَايَجْ بِيتِي!»60، أحاطت بها جميع الأواني والأدوات والأفرشة والأغطية، ما عدا الحصير الذي ظلّ في مكانه لا يتحرّك!. قالت: «وهذا الحصير واش بيه؟!». قالت لها لونجة: لقد غضبتُ منه وضربتُه، ظلّ هكذا لا يستجيب للنداء.

في الغد لما خرجت الغولة ظلّا يلعبان معا إلى أن حان موعد عودة الغولة، اختبأ أحمد داخل الزير61، وجدت ابنتها متظاهرة بالغضب، نادت كالعادة على معدّات البيت فاستجابت جميعا، وأحاطت بها، ما عدا الزير الذي ظلّ في مكانه لايتحرّك، ولما سألت ابنتها: «ما به لا يتحرّك؟» قالت لها: «ضربتُه اليوم فغضب منّي». ثمّ سألت لونجا أمّها قائلة: «متى يا أمّي تكونين مستغرقةً في نوم عميق؟!». قالت الغولة: «عندما تعوي الذئاب وتقرقر الضفادع في بطني، وأشخر وأضرت، حينها أكون في نوم عميق!..»

عندما استغرقت الغولة في النوم وسُمِعَ شخيرُها وضريطُها وصوتُ عواء الذئاب وقرقرة الضفادع في بطنها، قامت لونجا وبَصَقَتْ عدّة مرّات ما بين مرقد أمّها وعتبة الباب، ثم هربتْ مع أحمد من المنزل. كانت كلما أفاقت الغولة وتحسّست مكان ابنتها أجابت البصقة الأقرب إليها بدل ابنتها، لتقول: «أنا هنا!»، حتى جاء دور البصقة الأخيرة عند عتبة الباب. عندئذ تفطنت الغولة إلى هرب ابنتها، فقامت تجري لتتعقّبها. تنبّهت لونجا إلى خطوات أمهما، وهي تتعقّبهما، حرّضت أحمد على الجري أكثر، لما وصلوا إلى واد قالت له لونجة: «يا واد العسل، اسمح لنا بالعبور!». غارت مياهه، وسمح لهم بالعبور، ولما وصلا إلى الضفة الأخرى، وكانت الغولة قد بلغته؛ قالت لابنتها ماذا قلت للواد؟ قالت: «قلتُ له: يَاوَادْ الَاوْسَاخْ.. زِيدْ فِي هْبَالَكْ!»62. كررت الغولة القول فهاج الوادي وتلاطمت أمواج مياهه، ومنعها من العبور، قالت لها لونجة: قولي لي كيف نسلك طريقنا؟!.. ذكرت لها أن يواصلا الطريق وكلما وجدا طائرين زوجين معا يفرّق أحمد بينهما وحذّرته من أن يفعل ذلك مع زوجي الصقر، ثمّ رمت بنفسها في الوادي فغرقت.

واصل أحمد ولونجا طريقهما، وعمل بنصيحتها؛ ففرّق بين كلّ طائرين يجدهما مجتمعين، غير أنه نسي لمّا اقترب من زوجي طائر الصقر، فحاول التفريق بينهما، فاختطفه الصقر وعلا به في الجوّ. تنبّه لما فعله وترجّاه أن يعيده للوقوف لحظة عند لونجا ليعطيها نصيحة، ثمّ ليأخذه أينما شاء. سمح له الصقر بأن يعود إليها. قال لها: »اذهبي إلى الجهة التي يوجد فيها منزلنا، تجدين عين ماء، انتظري عندها إلى أن تأتي الخادمة لتملأ الماء، اذبحيها، والبسي جلدها ثمّ عودي إلى المنزل لتأخذي مكانها!».

قامت لونجا بما أوصاها به أحمد، دخلت المنزل ورتبته، وتهيأت للنوم في مرقد الخادم. أما أحمد فقد تحوّل إلى طائر، حطّ فوق المنزل وشرع يتغنّى قائلا: «لونجا يا لونجا ماذا تعشّيتِ؟!». ردّتْ عليه: «تعشيت مع الكلاب ورقدت مع الدوابّ.. خَدَعْتَنِي يا احمد بن السلطان!». ظل المشهد يتكرّر يوميا إلى أن مرّ الوزير ذات يوم في نفس الوقت فسمع الحوار.. استغرب وأعاد ما سمع على السلطان. جاء السلطان واختبأ، وسمع الطائر يقول: «لونجا يا لونجا ماذا تَعَشَّيْتِ؟!»، فتردّ عليه: «تعشيت مع الكلاب ورقدت مع الدوابّ.. خَدَعْتَنِي يا احمد بن السلطان!». وأضاف هذه المرة قوله: «قولي لأبي يذبح بقرة حمراء، يأخذها إلى شاطئ البحر، ويمنع أيّ شخص أو حيوان من الاقتراب منها إلى أن يأتي الصقر ليأكل منها، وعندما يشبع، يقول له: «خَلِّ سَبِيلَ مَا عِنْدَكَ!». في الغد فعل السلطان ذلك، ولما انتهى من توجيه كلامه للصقر، عاد أحمد لهيئته الآدميّة. فرح السلطان بعودة ولده، وأراد أن يزوّجه، فطلب منه أن يختار فتاة مناسبة لمقامه، غير أن أحمد أصرّ على الزواج من الخادمة، غضب أبوه في البداية، لكنّه قبل في آخر الأمر على مضض.

كان أحمد يختلي بزوجته في الغرفة، يزمّرُ لها وهي ترقص، ولما يحين وقت الأكل، تأتي الخادمة بالطعام، لكنها تُسْقِطُ الآنية التي بين يديها بمجرّد ما تشاهد المشهد.. يسطع في نظرها نور جمال المرأة الراقصة!.. شكى أحمد لأمه بأن الخادمة لا توصل لهما الطعام في غرفتهما، لما بلغ الأمر سمع السلطان رافق بنفسه الخادمة، وما أن فتح الباب حتى بهره جمال المرأة، سارعتْ لتلبس جلد الخادم، غير أنه أوقفها وقال: «لتبقي في هيئتك.. هكذا أجمل!». أقام السلطان العرس من جديد ودامت الأفراح سبعة أيام وسبع ليالي.

4) الصيّاد والمرأة وحيوانات الغابة الثلاثة63:

كان هناك رجل اختار أن يعيش وسط الغابات، في كوخ، مع أخته التي كان يحبّها كثيرا. كانا يتيمان؛ بسبب فقدان والديهما والمجاعة، أصبحا لاجئين لم يرضيا أن يظلاّ يتسولان على قارعة الطريق أو في التجمّعات السكانيّة؛ وكانت الأشجار تجذبهما منذ طفولتهما النضرة، مثلما تجذب الطيور التي تُقبل عليها من بعيد. كانا قد ولدا في السُهُوبٍ العليا، ترتادُها الرياح، قاحلة وجدباء. يعلمان أنّ الأشجار لا تنمو سوى وهي مجتمعة، وحدها اَلْجَنْبَاتُ وأدغالُ الْعِلِّيق، تنبت هنا وهناك في شِعَابِ الوديان، غير أن الأشجار، الأشجار الكبيرة، أشجار الفلّين والتي تثمر البلّوط، لا تحيا منعزلة. ويروي الصيادون أنّ ظلالها الوارفة، المنسجمة، تلفّ الإنسان مثل غشاوة ليل تظهر في عزّ النهار، تخفي الشمس دون أن تحجب السماء، فَتُطِلُّ علينا عبر ومضاتها الزرقاء ونجومها الخافقة. كان الطفلان يمسكان بيديهما ببعضهما لمّا بلغا الغابة،كَبُرَا فيها، كانا يتغذّيان من البلوط والنباتات، تحميهما الغابة بأجنحتها، تجعلهما يتيهان في شعابها، تمسح خدودهما بأوراقها المزغّبة، تطرح عند أقدامهما ألف وردة حمراء والدعسوقات وأعشاشا مليئة بالبيض. أصاب النحولُ الطفلين، وهما يتعرضان للشمس الحارقة، ويطآن أرضا يابسة، تخشخش تحت أقدامهما، فيمتصهما الظلّ، فتشفي غليلهما بِالْخُضْرَة. كانا يناديان على العصافير ذات الأصوات السماويّة. كَبُرَ الطفلان وأصبحا رجلا وامرأة –أخا وأختا- بين الأشجار، بين الحيوانات.

ملاحظة: نصّ الترجمة إلى الفرنسية، منشور دون إشارة إلى اسم الجامع أو المترجم، كما لم تُذكَر اللغة التي تُرجمت عنها إن كانت لهجة عربية دارجة أم لهجة أمازيغيّة. وهي اللهجات المستعملة في الجزائر والحاملة للتراث السردي.

كان يذهبُ للصيد، ممتلئا حيويّة، خطاه خفيفة، بيده القوس والسهم، عينُه يقضة، وتقبض كَفُّهُ على أداة الموت، تُعْلِنُ عُرْفَ الرجل. ثمّ إنّه كان له إخوة من بين طرائده، عثر عليها بالصدفة وهو يسعى، حيوانات صغيرة، مقرورة من الخوف، تكشف عن أنيابها، تَصْدُرُ عنها أصوات ضعيفة وهي تجثو عند جثث أمهاتها. رغم أنها من حيوانات الغابة، فهي مازالت صغيرة، مُنْتَفِشَةُ الزغب، تميل إلى البشاعة: ذئب وخنزير وأسد. عَلَّمَهَا الصياد لغة البشر وكان يدعوها بإخوته، كَبُرَتْ معه. ولأنه علّمها لعب أَرُومَتِهِ، اعتبرتْه أخًا لها، وكانت تقول له: أخينا. كانت هناك صداقة غريبة تجمع بين الرجل والحيوانات عبر لحظات صمت، وآفاقٍ مُتَقَاسَمةٍ، وكانت أصواتها متمايزة عند الطراد. كان لا يرغب في أن تفقد الحيواناتُ الثلاثة كرامتَها، ما تثيره أصواتُها من رعب، ومن ازدراء للإنسان لمّا يكون غير صديق لها. وجميع هذه الحيوانات: الأسد والذئب والخنزير كانت تعيش في محيطها، في الغابة القديمة، مع سيّد لها أحبّته وكأنه من صنوها لا يتميّز عنها.

في هذه الأثناء كَبُرَتْ الأخت لتصبح امرأة مكتملة، كعنفوان جارف، تفجّر شبابُها على مرّ الفصول، وفي الصيف على الخصوص، لما يقطر الصمغ المنبثق من الأشجار الجافّة. في سنّ المراهقة كانت تقارن أعضاءها النضرة بأغصان الربيع، وكان جسدها المتمرّد يحتكّ بلحاء الشجر، يتدحرج على الكلأ الجافّ، دافنةً رغباتِها في المستنقعات. كان الكوخ يعبق برائحة القنص اللاذعة والدم الفائر؛ حيوانات؛ جلودها متغضّنة معبّأة بنداءات الاستغاثة لمّا كانت يد الفتاة المرتعشة تلمسها. فجأة أحسّت بالوحدة تنهشها. توقّفت الغابة عن إرسال غنائها إلى آذانها التي كانت تسترق السمع؛ لم تعد ترى النبت ينمو، ولا الورود تنفتح، ولا العصافير تُغرّد على الأغصان، وهي التي كانت ثرثارة مثلها، وأصبحت منذ اليوم لا تُغَرِّد. بدأت تَعُدُّ الأشجار التي بدت لها مثل قضبان سجنٍ. هناك منها الكثير والكثير، وجعلها ضجرُها لا ترى منها سوى سِيقَانَهَا. لم تكن لتجرأ على رفع عينيها نحو الأغصان العالية التي كانت تغار منها. تلمسها الريح برفق، فتتمايل من الرضا، ويحتكّ بعضُها ببعض. وهي امرأة ناضجة، كان جسدها الناضج يؤلمها، وتغزو الحلاوة الآسرة جميع أجزائه بالكامل، دون أن تجد مُتَنَفَّسًا. كان أخوها مشغولا بأعماله الرجاليّة، بِشِرَاكِهِ التي ينصبُها، لا يمكنه أن يلحظ هذا الحزن الوليد. كانت تنتظر عودته بفارغ صبر، تحتفل به كلما عاد مع الحيوانات الثلاثة، أصدقاءه، جَارِّينَ خلفهم، عنزات غارقة في الدم والروث، ذات عيون ذابلة، وأيائل شُقْر، قرونُها متشابكة. نسور نصف ميّتة. من بينها على الدوام ضَبُعٌ تشمّ رائحة الجثث الأخرى، فهي غريبة عن الغابة، قدمت غازية. كان يأتي لأخته بسلاحف حيّة، عصافير تجرّ خلفها ريشها، تبحث عما تلتقطه في كلّ زاوية من زوايا الكوخ، أرانب وَجِلَة يكسو البياضُ بطونَها. غير أنّ جميع هذه الحيوانات وهي تَعْبُرُ العتبة، تكون قد فقدت أصواتَها، تَسْكُنُ فجأةً بعيون ثابتة، متشمّمة بخياشيمها هذا الهواء العطن مثل عفونة مجزرة.

كلّما حضر أخوها، تظهر الفتاة ممتلئة حبورًا، عاطفيّة يغزوها الإحساس بالحضور البشريّ. بعد فترة من الزمن، تحوّلت عزلة الغابة القاتلة، وما يأتي به النهار من أحزان والمشاعر المؤلمة إلى إحساس بالسكينة عذب، إنه حبّها لأخيها، حنينها إلى أيام الطفولة. لكنه كان يغادر الكوخ عند الفجر، حين يبزغ ضوء النهار في العشّة، وتتساقط الأغصان العالية، لمّا يسطع النور والشمس. لم تعد تُنْصِتُ منذ ئذ سوى للصراصير. كان حسّ جسدها بدمها الفائر في الصيف وتقاطر الصمغ من لحى الشجر الجافّ يبعث فيها الْخَدَر.

ذات يوم، سمعت صوتا قريبا، لعلّه حفيف، تنهيدة، صوت بشري لغير أخيها. دارت حول نفسها، كانت خطاها المرتعشة تلعب فوق العشب، تختال بدافع الرغبة؛ اصطدمت بالشجر، قطّعت فستانها، نادت؛ قالت لمن كان يسير نحوها:

من أنت؟ هل أنت من هذا العالم أم من العالم الآخر؟ يا من تشبه الإنسان، وتبدو لي عيونك مجهولة، وهذه الهيئة وهذا القدّ... قال لها: لستُ من العالم الآخر، لكني موجود الآن، لستُ من الإنس ولا من الجنّ. يدعونني الغول ولد الغول؛ لكن اطمئنّي فلن آكلك. إنّه العطش الذي ألجأني لهذه الغابة وهاهو ريقي يجفّ في حلقي من جديد. لقد أفرغتُ مُسْتَنْقَعًا، هناك، وكان للماء مذاق اللحم، مذاق عذراء، له عطر الْعَنْبَر والْعَرَق. طلبتْ أحشائي المزيد والمزيد، وهو ما جعلني أتتبع أَثَرًا. لحى الأشجار والعشب الأحرش والحصى والخشب الميّت المفتّت عبر الطرقات، في كلّ الغابة؛ كلّ ذلك جعلني أروي عطشي وأعثر على عِطْرِ المرأة.

تحدّثتْ بدورها، ثمّ جلسا على الحشيش الأحرش وتمدّدا على الكلإ الطريّ. لم تخش أبدًا من هذا الوحش الماكر، كانت الرغبة قد تَمَلَّكَتْهَا، فكانت تلهث ببطء. كان ذلك في أوت، شهر الوفرة. أزيز الصراصير يملأ سمعها، قمم الأشجار تطقطق تحت احتدام الضحى وأيدي الغول، فجأة لم تظلّ بشرا، وجدتْ نفسَها في السبل التي يهوَى كلُّ طفل أن يتيهَ فيها. جميع السواقي التي جفّتْ انبجستْ من جديد في عروقها وحملتها بعيدا عن نفسها. أصبح الغول سيّدًا لها وهاهو خَوَرُهَا يعصف بها كامرأة سعيدة، استهلكها ضعفُها، أنّتْ تحت وطأة اللذّة، وأصبحت تتبع خطوات الغول حتى غروب الشمس. اختفى لمّا أقبل الليل وعندما خرج الصيّاد في الغد، التحقت بعشيقها، كانت في كلّ مرّة تتزيّن بزينة جديدة. أصبحت، منذ ذلك اليوم، تميل إلى العزلة، التي كانت لفترة طويلة تخشاها، كلّ شيء، فيما عدا الغول، أصبح يبدو لها غير ذي قيمة. ها هي سعادتها كامرأة قد صيّرتها قاسية. لكي تغرق في تحقيق نزوتها تمنّت الموت لأخيها، ثمّ حرّضت عليه، فوعدها الغول بتحقيق ذلك. لم يبق هناك شيء يشدّها للطفولة، للأشياء البشريّة. اتفقا فيما بينهما على أن تستبقي، أثناء غياب أخيها، أصدقاءه: حيوانات الغابة. لمّا يكون الصياد لوحده بدون رفقته سوف يكون ضحيّة سهلة للغول.

ذات مساء، ادّعت الخدّاعة أمام أخيها بأنها مُصابة بمرض لا دواء له. كانت تئنّ بصوت واهن وكأنّها تَحْتَضِر. في الصباح تظاهرت بأنها تحسّنت لكنّها شكت من العزلة، وافتكت من الصياد وعدا بأن يترك لها إخوته الثلاثة من ذوي الشعر ليظلوا بمعيّتها: أسد وذئب وخنزير. وقالت له: أمّا أنت، فاذهب إلى قلب الغابة لتأتيني بالعشبة التي تشفي من جميع الأمراض. إنها العشبة التي أحتاجُها.

رحل الرجل، أغلقت أختُه جميع الأبواب وأحكمت أقفالَها، ولأوّل مرّة في حياتها شعرت الحيوانات بأنها مسجونة، بعيدا عن أخيها. العشبة السحرية لا تنبت في الطريق الذي يقطعه!. ظلّ سائرا لمدّة طويلة، عَبَرَ مستنقعات، تاه في الشِعَاب. كانت فجوات مجهولة تنفتح أمامه: بدا لعينيه أنّ الغابة ضاعفت من عدد أشجارها، مما ينبت في أرجائها، هشيم النباتات، حشرات لم ير مثلها في حياته، جميعها لا تُبْرِئ مرض أخته. استبدّ به قلق منبعث من حُبٍّ نَضِرٍ، باحثا عن عشبة نادرة. كم كان بإمكان الرجل أن يستمتع بهذه الغابة، القريبة من نفسه، لكنه يشعر اليوم اتجاهها بالاضطراب، ولأنّها كانت موطن الطفولة، لمّا كان قلبه يتفجّر نضارة، تنبعث الفرحة من كل أرجائها، وتُطِلُّ السماء من خلال الأغصان. حدث نفسه مصمّا على أن لا يصرف كلّ وقته في الصيد؛ فليصد فقط من حين لآخر ما يحتاجه للعيش، قائلا: «لاشكّ أن أرواح جميع الحيوانات ودمها الذي سال هو ما أحزن أختي وسَيُنَكِّدُ عليّ حياتي غَدًا...».

وما أن انتهى من مناجاة نفسه حتى ظهر أمامه وحش شبيه بالإنسان، واعترض طريقه.

من أنت؟ إنس أم جنّ؟ من هذا العالم أو من العالم الآخر؟

لست من العالم الآخر، لكنني موجود في الحاضر؛ لست إنسا ولا جنّا! يدعونني الغول، ولد الغول، وسوف آكلك!

لم يكن الصياد حاملا للسلاح المناسب تقبض يده الخاوية على ظلّ مقبض وأصابعه ترتعش ماسكة بوتر قوس غير موجود، يؤلمه كتفه لم يعد قادرا على تعمير الْكِنَانَة. لم يكن إلى جانب الصياد، ككلّ يوم، الرفقة الوفيّة. كان الغول يضحك من حركاته، قال له:

هيا! استعدّ للموت. لنتواجه لوحدنا.

قال الصياد: يا غول ولد الغول، أنا تحت رحمتك. لكن باسم من خلقك، آذن لي أن أنادي ثلاث مرات من أعلى هذه الشجرة، لأتمكن من توديع ثلاثة أصدقاء لي.

قَبِلَ الوحش، لأنّه كان يعلم بغطرسة الأخت وبالأقفال والأبواب الغليظة، إضافة إلى بعد المسافة. قام حينئذ الصياد بالتسلق من غصن إلى آخر إلى أن بلغ أعلى شجرة الفلّين العظيمة وبدت قمم الغابة ممتدّة عند أقدامه كحقل مستو، كمرج بدون حدود، تصلح للسباق. تصوّر فجأة الكوخ، أخته المحتضرة وحيوانات الغابة، إخوته، ثمّ إنه نادى. تردّد صدى الصيحة في جنبات الغابة: قطع الآفاق ليرنّ حوالي الكوخ كسهم مسحور. سمعه الأسد، فقد تردّد اسمُه، تعرّف على صوت الرجل وزأر بغضب مكبوت، وكان الذئب قد شرع في تشمّم الباب، أمّا الخنزير فَنَخَرَ بصوت خافت. ترجّوا من الأخت أن تفتح لهم، لكنها سعت إلى تهدئتهم. قالت لهم: لاشيء، لقد توهمتم سماع صوت أخي، لكن ليس هناك من نَادَى. لعلّها الريح تَعْوِي.. إنّه عصفور جريح...

افتحي يا أختنا! افتحي الباب.

إنه نداء الفراق الذي يَصَّعَّدُ من قلوبكم...

إفتحي... إفتحي- لنا...

لكنها ادّعت إصابتها بألم مفاجئ، ولَوَتْ ذراعيها، حلّت شعرها وشرعت تئنّ، بينما كانت الحيوانات تدور حول نفسها.

حينئذ قال الذئب للخنزير: أكسر الباب لكي نخرج.

هجم الخنزير على الباب مُنَكَّسَ الرأس، ولكن الباب الغليظ، ما أن ضربه حتى أصدر صريرا. ضربه مرّة أخرى، مندفعا نحوه، غير أنه ظلّ مثل الصخرة. للمرّة الثالثة أعاد الحيوان الكرّة، وعند النداء الأخير الصادر من الصياد، وقد ذكر فيه اسم الخنزير، انكسر الباب إِرَبًا. اندفعت حيوانات الغابة الثلاثة حينما كان النداء يتردّد في أرجاء الغابة، ممتدّا مثل أنفاس مُحْتَضِرٍ. مرّت على جسد الغابة، وكان قفزها لا يكاد يلمس الضباب، شجر الْخَلَنْج، الأدغال، وحتّى الْجَنْبَات. قطعت الطرقات المتشابكة، تجاوز المرج الأخضر، تعدو متتابعة، تجري إلى الأمام وكأنها تطارد الأرانب. فالغضب الذي يحتدم في داخلها كحيوانات غابة أوصلها سريعا إلى شجرة الفلّين العظيمة. وكان الصياد متنقّلا من غصن إلى آخر، نازلا نحو حتفه. كان الغول في أسفل الشجرة، ينتظر ضحيّته. وكانت التردّدات الأخيرة لصدى الصوت البشري الآتية من بعيد تَخْفُتُ شيئا فشيئا. لمست قدما الصياد الأرض؛ ثم تقدم ببطء نحو الوحش. لكن ما الذي حدث؟ سُمِعَتْ جَلَبَة ملأت الغابة، جعلت الأغصان تنحني. هل ستنفتح الأرض؟ كان الرجل في متناول الغول، لقمة سائغة يسدّ بها جوعه، في متناول يديه الطويلتين. وبسرعة البرق: حدث الهجوم المفاجئ، فتسرّبت إلى هذا الموقع المعتّم حزمةٌ من الضوء، وبرز الثلاثي الْمُغًطَّى بالشعر الكثيف، تنعكس الأشعّة على الجلد، قافزا في اتجاه جذع شجرة الفلّين. قالوا بأنفاس متقطّعة:

ها نحن هنا. ها نحن هنا. ها نحن هنا.

إخوتي ماذا تنتظرون؟

حينئذ، أُنْشِبَتْ الأضافر، والمخالب، والأنياب في جسد الوحش، فتم دوسه ورفسه، وتفجّرت الدماء من كلّ جهة، وطقطقت العظام. ولم يبق على الكلإ سوى لباس الغول مرتسمة وفق هيئته قبل وقت قصير، الأذرع متباعدة، وطيّات الدّثار والشاش: مرمية على الحشائش وعلى الحصى. ظهر الوحش مقطعا إربا إربا؛ توزعت أطرافه وأحشاؤه على الأرض، وبدأت الكواسر تقع على الأغصان العالية للأشجار مترصّدة، وكذلك الغربان.

ثمّ إن الصياد عاد بمعيّة إخوته الثلاثة، التي سارعت إلى جانبه، فرحة بسلامته. لكنّه كان مغتمّا، فهو رغم شعوره بالأخوّة وبالامتنان اتجاه حيوانات الغابة الثلاثة سألهم:

لماذا لم تقبلوا عند ندائي الأول؟

أغلقت علينا أختك: لقد كسرنا الباب.

أَعْذُرُهَا فقد كانت تشكو الوحدة، لم ترد أن تنفصل عنكم، ولم تكن تقدّر الخطر الذي كان يتهدّدني.

لمّا رأت عودة الأصدقاء الأربعة، لم يراود الشكّ الأخت في أن الغول، عشيقها، قد لقي حتفه. استطاعت حينذاك أن تخفي ألمها، أن تتظاهر بالابتهاج، أن تبدي استغرابها من وجود وحش في الغابة.

أريد أن تدلّوني على بقايا هذا الغول الذي كان سيحرمني من أخي حبيبي.

أخذتها حيوانات الغابة عند جذع شجرة الفلّين العظيمة، كانت الْخَدَّاعَة، وهي تمسك بدموعها، وأسنانها تصطكّ ببعضها، تبحث بدون جدوى عن صورة المعشوق. وقد انبعث في نفسها صوت عميق يحرّض على الانتقام. كانت تستدير حواليها، ثمّ إنها التقطت خلف إحدى الأشجار، في غفلة من حيوانات الغابة الثلاثة، سبع شضايا رقيقة مثل الشعرات. لأنّ عظام الغول كانت مسمومة، وقد حملتها المرأة معها. عند عودتها إلى الكوخ، كانت تنتظر الوحي من شيطانها. إن طبيعتها كامرأة صيّرها أكثر شراسة بفعل عطشها للحبّ، وقد جعلها موت الوحش تخطّط لجريمة نكراء. أرادتها أن تكون أكثر ضراوة.

ما أن جاء المساء، شرعت في تهييء فراش أخيها، رشقت بعناية على وجه المخدّة ثلاث عظام صغيرة، ثمّ على المرقد، في مستوى الجذع، في مكان الرجلين، غرست البقيّة. كانت العظام دقيقة دقّة الشعر، مستقيمة مثل إبر، ولمّا كان الصياد مُجْهَدًا من العياء، ألقى بنفسه على سريره، مدّ رجليه إلى الأقصى، ملأ صدره بالهواء؛ لمّا كان الأخ السليم الطويّة ينتظر النوم جاءه الموت. أصابت سبع وخزات لحمه الطريّ أوالناتئ؛ في القفا، في تجويف الرقبة، في الساعد الأيمن، في المرفق الأيسر، في الورك، على الجنب الذي يرتكز عليه عند القيام، وفي أقصى الأسفل عند ثنية الفخذ وفي العُرْقُوبِ والإصبع الكبيرة للرِّجْل. كان الرجل، لسبع مرّات، يغلق فاه ليئنّ، ويرفع سبّابته للتشهّد.

قامت الأخت في الصباح الباكر لتبدي سرورها بموته. قالت: تعالوا جميعا، خذوا هذه الجثة. إنه أخي وأخوكم، لكنه أخوكم أكثر منّي...

اشتدّ غمّ حيوانات الغابة الثلاثة، وازدادت ظهورُها انحناءً، صدورُها تئنّ، مثلما كانت من قبل، لمّا بدت أجسادُها متضائلة أمام جثث أمّهاتها، حملت الصياد بعيدا عن الكوخ. هاهي تضعه فوق أكمة مُطَحْلَبَة لكي ترفعه. ثمّ إنها حفرت القبر وأنزلت أخاها في الحفرة ووارته بالتراب الناعم وبسيقان العشب. عادت حيوانات الغابة الثلاثة إلى البيت، وكلّ منها له طريقته في التأسّي؛ فسقطت دموع الأسد، وسالت دموع الخنزير، وجرت دموع الذئب. وحدها الْخَدَّاعَة كانت تنظر إلى هذه الدموع بعيون منفتحة لامرأة يدت وكأنها في عرس. كانت الحيوانات تأتي كلّ يوم لتتشمّم ما بقي من أخيهم: أسلحته، ألبسته، أثر ملمسه على الأشياء.

غير أن الأخت لم تعد تحتمل رؤية حيوانات الغابة الثلاثة التي تذكّرها محبّتُها الوفيّة وألمُها بخيانتها لأخيها. ذات يوم بصوت حادّ ونظرة متغطرسة قالت لهم: لماذا تستمرّون في إفساد جوّ هذا الكوخ؟ لقد مات أخوكم، لست في حاجة إلى رفقتكم...

أجابتها الحيوانات الثلاثة قبل أن تنسحب: لو لم تكوني أخته، كنا قد قتلناك بسبب هذا الكلام.

ها هي الحيوانات كاليتامى وقد أضناها الغمّ تحمل ألمَها إلى أرجاء الغابة. كانت تنام على الأكمة وتقضي وقتا طويلا في البكاء، صدورها تئنّ. ذات يوم وهي هكذا حوالي القبر، سمعت صوتا ينبعث من أعماق الأرض. كان الذئب هو من سمعه أولاً. استرق السمع وقال: «أسّس» لأصدقائه. ولمّا توقّفوا عن الأنين، قال لهم: استمعوا إنّه أنين...

اقترب الأسد، التقطت أذناه الصوت الأصمّ الصاعد من الأرض. استمرّ في الإنصات وسمع بتؤدّة شكوى بشريّة، إنها نداء ضعيف صادر عن الصياد، إنه النداء المختنق المنبعث من أخيهم. لم يكن بمقدور الخنزير أن ينتظر أكثر؛ فشرع يحرث الأرض الْمُطَحْلَبَة بِفَنْطِيسَتِهِ. رمى سيقان الشجر والتراب الناعم، والتي تحولت إلى غبار. ثمّ إنّه فتح القبر، بينما كان الذئب يستخرج الجسد بيده الناعمة، سحبه الأسد. أرقدوه على الأرض المطحلبة؛ نظروا في عينيه المنغلقتين، في يديه المتصلّبة. كان يئنّ باستمرار. حينئذ قال الذئب: لنقم بتسخينه..

وحمله الثلاثة بين سواعدهم، ليبثّوا فيه شيئا من حرارتهم عن طريق احتضانه، لكنّه ظلّ يئنّ. قام حينئذ الذئب بنزع دثاره وبدأ يتلمّسه بيده ويَرْبُتُ على اللحم العاري، كان يمسح بيده بِتَؤُدَّةٍ على جسد الأخ النائم. وهاهي يدُه الرفيقة تتوقّف فجأة. وخزه شيء حادّ في الإصبع. انحنى فرأى الشوكة فجذبها وإذا بها عظم أدقّ من شعرة. تنفس الرجل طويلا. نزلت قدم الذئب إلى أسفل وصعدت مرة أخرى، فكانت أصابعه اللطيفة تبعث الراحة في الجسد المشرف على الموت. فعل ذلك مرّة واثنين وثلاثا: تم استخراج عظم ملطّخ بالدم من القفا، من الساعد، من الرقبة. مرة واثنين وثلاثا: شعرة وردية اللون مخيفة تم استخراجها من الورك، من اليد، من وسط ثنية الفخذ. عند اقتلاع الشوكة السابعة فتح الميّت العينين. رأى قبل كل شيء إخوته، ثم الأشجار، وأخيرا جسده، الذي بعثت فيه الشمس شيئا من الدفء. حملته حيوانات الغابة على أكتافها وقصدت الكوخ.

ما أن رأتهم الأخت من بعيد صاحت: ماذا تفعلون؛ حملتم إليّ الجثّة؟ لتعودوا من حيث جئتم.. عودوا!

تركوها تتكلم وتابعوا طريقهم. حينئذ شاهدت المرأة أخاها ليس ميتا مثل الجثث، لكنه حيّ، الرأس مرفوعة، العيون تلمع. قالت حينئذ، وهي تُذرف دموع التماسيح: أخي!. أخي يحيا في هذا العالم. شكرا لله.. ألف ألف شكر.

كانت قد تقدّمت نحوه بأحضان مفتوحة، مبدية البهجة. غير أن الآخرين صمتوا؛ بدت القساوة على ملامح الأخ، ولم تبق هناك مشاعر أخوة. قال لحيوانات الغابة: اذهبوا إلى الغابة وآتوا بأغصان تنزّ صمغًا وأعشابا كثيرة وبالعسالج...

هاهي الْخَدَّاعَة أمام أخيها الآن؛ كانت تترجّاه وزال ادعاء الفرحة مثل قناع، وظهرت على وجهها تجاعيد قاسية، حوّلت عينيها نحوه. كانت تصيح، ليس في داخلها بل كان الخوف ينبعث من فيها ويجعل خطواتها تضطرب. كانت تريد الهروب، حينئذ كانت الأرض تشدّها. لمّا أُعيدت إلى الكوخ كان كلّ شيء جاهزا. كلما سالت قطرة من الصمغ تلتهب النار وتخترق الحطب. تمّ سحب الباب، وتُرِكَتْ الْخَدَّاعَة تحترق بألسنة النار، على الحطب الذي كان يطقطق.

هل كانت تصيح؟ لا أحد يعلم. ثمّ إنّه لاجدوى من الصياح الموجه نحو الخارج إذا لم نتمكن منه من الداخل؟ كانت الغابة نفسها متواطئة في موتها، وليس هناك من ينقذ المكر الشرس. إنه مصيرها.

أما الصياد فقد قال لإخوته، الأسد والذئب والخنزير؛ هيا نعيد اكتشاف الغابة من جديد.

والتحقوا بالغابة الأمّ، بدون أسلحة، في هذه المرة، ما دامت صداقة البشر هي قوّتهم التي تَحْضَى بثقة أكثر.

حكايات تنتمي للشكل الثالث

5) عِقَابُ الْأُمّ64:

إنها حكاية عجوز لها أربعة أولاد ذكور؛ ثلاثة متزوّجين: محمد، سعيد، مسعود، والرابع أعزب: بوجمعة. توفّي زوجها، وكانت هي الوحيدة التي تعرف ماترك من ثروة، ومكان وجودها. أراد الأولاد أن يعرفوا مقدار الثروة التي ورثوها عن والدهم المتوفَّى. لم تُصرّح لهم إلاّ بربع المبلغ، وخبّأت الباقي. كانت تعامل كَنَّاتِهَا بِقَسْوَة. تظلّ طوال اليوم تُكَلِّفُهُنَّ بالأعمال الشاقّة، بينما تقضي هي الوقت في التسبيح. لمّا توفّى زوجُها زادت في تصرفاتها الخرقاء، وأصبحت تهتمّ أكثر بزينتها، تعتني بلباسها، وتتكحّل. تَعَجَّبَ ولدُها محمّد من سلوكها، واستغرب هذه العناية الفائقة باللباس والكحل والسواك، أسرّ بالأمر لأخيه بوجمعة.

شكّ بوجمعة في كون أمّه قد صرّحت بالقيمة الحقيقيّة للثروة التي تركها أبوهم!.. وكلّمها في الأمر، فقالت له: «هذا ما خَلَّى أبوكم!». لم يصدّقها، وقال لإخوته: «لابدّ من أن نتأكّد من صحّة كلامها!». ذات يوم بينما كانت الأسرة مجتمعة، نطق بوجمعة موجِّها الحديث لإخوته: «ما هو رأيكم لو نُزَوِّجُ أمَّنا؟!». قال الإخوة: «الأولى بك أن تتحدّث عن نفسك... فأنت من يجب أن نزوّجه أوّلا!». قال: «لا.. سيكون زواجي بعد زواج الوالدة». تظاهر الإخوة بعدم اقتناعهم بالفكرة. نطقت الأمّ قائلة: «استمعوا لأخيكم الصغير، فكلامه عين الحكمة! ». قال بوجمعة: «هاهي أمّنا ترغب في الزواج قبلي.. عليكم بطاعتها». قامت الأمّ وسلّمت السبحة لإحدى كنّاتها لتعلّقها على الجدار!.. توجّه لها ابنُها الكبير بالسؤال: «هل تقبلين أن نُزَوِّجَكِ؟». قالت: «نعم يابنيّ، إنّ الزواج سترة، وقد تعوّدت على العيش في كنف والدكم وتدليله لي، ومحنّته عليّ ومحبّته لي.. ثمّ إنّ كَنَّاتِي أصبحن لا تَطِقْنَنِي وتُسِئْنَ معاملتي.. إذا ما وجدتم لي رجلا سيكون حلاًّ مناسبا لي ولكم». قالوا لها: «الأمر سهل.. من الغد سوف نبحث لك عن شيخ تتزوّجينه». أسرّ محمد لإخوته: «مادامت تريد أن تتزوّج، لابدّ أنّ معها نقودا أخرى تركها والدُنا ولم تُصَرِّحْ لنا بها.. لنحاول أن نُوقِعَهَا في الفخّ مادامت مصرّة على الضَلَال!».

في الصباح، اشترى الإخوة كبشًا، ذبحوه وسلخوه، ثمّ نادوا زوجاتهم، وطلبوا من واحدة منهن بأن تذهب للعجوز وتقول لها بأنّ الرجل وصل وهو موجود في الغرفة ينتظرها، غير أنه أبكم!. ردّت العجوز: «أَقْبَلُ به مهما كانت صفاتُه، مرحبا به!». ثم إنها شرعت تتزيّن وتَمْضَغُ اللُّبَان65 وتُغَنِّي «هذه رحمة.. يا فرحتي!». عندما جاء الليل، لَفَّ الأولادُ الكبش في بَرْنُوس66 ووضعوه على السرير، واختبأ بوجمعة، الولد الأصغر، في أحد أركان البيت. ونادى أولادُها عليها لتدخل الغرفة، شرعت في الرَبْتِ على البرنوس، ضمّه إلى صدرها، وهي تقول بصوت يرتعش من الفرحة: «اسمع يا الشيخ!.. يا الشيخ!.. يا الشيخ!.. أنت محظوظ.. ستعيش في النعمة.. عندي الزيت، عندي الفضّة، عندي النقود، وهي مخبّأة في المكان الفلاني!.. نسيتُ أنّك لا تنطق.. لابأس أن أتكلّم أنا، خبّأتُ الجزء الأكبر من الثروة، لكي نعيش بها وأتخلّص من الغيرة من كنّاتي، فلهنّ أزواجهنّ ولي زوجي!». سمع بوجمعة كلامَها، ولمّا نامت، عاد إلى إخوته وذكر لهم ما سمع عن الثروة المخبّأة. في الصباح لمَّا نهضت من نومها واجهوها مستنكرين سلوكَها: «يا أمَّنا كيف تُخْفينَ عنا الثروة، وأنتِ في هذه السنّ، وتريدين معاودة الزواج ورِجْلُكِ على حافة القبر؟!». وَلْوَلَتْ باكية واستعطفتهم، وترجّت العفو منهم!.. غير أنهم لم يلينوا!.. قطّعوا الكبش وطبخوه وأكلوا حتى شبعوا، وحرّضوا نساءهم على الإساءة إليها.

أدخلنها في غرفة، وبدأن في تعذيبها. قالت الكنّة الصغرى: «اتركنها لي سأتكفّل بها وأعذّبها لأثأر لنفسي ممّا فعلتْه فيّ لِكَوْنِي عاقرًا. سَأَحْرِقُ أطرافَها بالنار». قامت بتعذيبها حتى ماتت.

6) مَلْهَاطْ67:

في قديم الزمان كانت هناك فتاة لا تملك شيئا تعيش به، تلبس دْرَابَلْ68. كبرت على هذه الحالة، يستُر جسدها فستان قديم ممزّق.. دَرْبَالْ!.. كانت ترقص للناس الْمُرَفَّهِين.. وهي تقول: «أنا اسمي ملهاط.. والزمان يطلع ويهبط». سعى الناس إلى معرفة معنى ما تقول، ولكنهم عجزوا!..قالت لهم هذا هو كلامي!.

ذات يوم التقت برجل ذي مال.. أشفق عليها، فطلب منها أن تتزوّجه، فقبلت. بدأت حياة جديدة، تبدّل حالها وأصبحت تعيش معزّزة، في بيت كبيرة، يدلّلها زوجها، يحضر لها كلّ ما تطلبه. في يوم من الأيام ذهبت مع أخوات زوجها للحقل للعمل فيه. تذكرت حينئذ ما كانت تقوم به في السابق من رقص أمام الْمُعْجَبِينَ من المرفّهين وهي ترتدي الخرق، وحَنَّتْ لذلك. قررت مع نفسها أن تجرّب الرقص بالدربال، لوحدها سرّا. وهكذا أصبحت كلما خرجت مع لُوسَاتْهَا69 إلى الحقل، تعود لوحدها، تغلق على نفسها باب الغرفة، وتقطّع أحد فساتينها ليصبح دَرْبَالًا؛ فترتديه وتشرع في الرقص، قائلة: «أنا اَسْمِي ملهاط.. والزّْمَانْ يَطْلَعْ ويَهْبَطْ!».. إلى أن تتعب!.. فتنزع الدَّرْبَال، وترتدي لباسها وتعود إلى الحقل.

في يوم من الأيام، لما لاحظت لُوسَاتْهَا غيابها المتكرّر كلّ يوم، وعودتها المفاجئة، شكّوا في أمرها، وبلّغوا زوجها بما يحصل!.. ادّعى الزوج انه سيتغيّب في سفر، وكَمَنَ في الغرفة ينتظر عودتها المفاجئة من الحقل.. راقبها .. شاهدها وهي تلبس الدربال وترقص وتغني. تملّكه العجب!.. ولما انتهت وهمّت بالخروج خرج من مكمنه وقبض عليها وقال: «ما الذي كنت تفعلين بهذا الدربال؟!.» فوجئت به، وقالت مُحْرَجَة: «تأتيني هذه الحالة، وأفقد عقلي وأشعر بالرغبة في الرقص بالدربال».

حينذاك قصد يشكوها لشيخ القبيلة، فوجدها الشيخ قد عادت ولبست من جديد دربالَها، قائلة: «أحبّ أن أكون هكذا». نَهَرَهَا زوجُها، قائلا: «يبدو أنك تَطَبَّعْتِ على حياة التسوُّل، البسي الدرابل واخرجي من بيتي ولا تعودي إليه مرّة أخرى.. أنتِ مُحَرَّمَة عَلَيَّ!»70.

7) عيشة أمّ الزبايل71:

ذات يوم خرج رجل قاصدا عمله، وجد في طريقه عيشة، قال: «أمْم!»72، ردّت عليه قائلةً: «أمْم.. يَا عْوِينَات أُمُّه.. يا حْوِيجْبَات أُخْتُه..هذا الْقَاطْ 73 مَادْيَالَكْ والاّ سَلَّفْتُه؟!». أجابها قائلا: «رُوحِي لْعَنْدْنَا وشُوفِي اَحْوَالْنَا!»74. عشيّة ذلك اليوم طلب من أمّه أن تذهب لتخطب له تلك الفتاة، ردّت عليه، مستنكرة كلامه: «أُوبَاشْ..دَاَشِي بَلَقْمَلْ!»75. في الغد، وهو ذاهب في الصباح اعترضته الفتاة وكررت على مسامعه نفس الكلام. أعاد عليها نفس العبارة: «رُوحِي لْعَنْدْنَا.. وشُوفِي حْوَالْنَا !». تبعته لما عاد إلى منزله، خفية، دون أن يتنبّه لوجودها، لتتصنّت على ما يجري بينه وبين أمّه. نادى أمّه: «أشعلي الضوء!»، ردّت عليه: «القمر مصباحنا!»، قال لها: «ما هو أكلنا؟»، قالت: «كسرة وبصل يا بني!»، قال: «هل قمتِ بترقيع قميصي!»، قالت: «نَزَعْتُ مِنَ الْأَطْرَافِ وثَبَّتْتُ عَلَى اَلْأَكْمَام!». استمعت عيشة لكلامهما ثمّ انصرفت. في الغد لمّا لَقِيَهَا في الطريق، وعندما قال لها: «روحي لدارنا، وشوفي احوالنا!»، ردّت عليه قائلة: «رُحْت لْدَارْكُمْ وشُفْت اَحْوَالْكُمْ.. الْقْمَرْ مَصْبَاحْكُمْ وَالْبْصَلْ تَفَّاحْكَمْ، تْقَطّْعُوا مَن اَلْاَطْرَاْف وتْرَقّْعُوا الْاَكْمَامْ!». قرّر أن يتزوّجها، أرسل أمّه لتخطبها

من أهلها.دقّت الباب، سمعتْ صوت عيشة تقول لها: «مَنْ؟». قالت: «افتحي»، قالت عيشة: «ضعي رجلك على الأرضية وارفعي الحديد وادفعي اللوح!». عادت الأمّ، وذكرت أن عيشة لم تفتح لها الباب، وقد قالت لها كلامًا غير مفهوم، وأعادت على سمعه ما قالته!. قال لها: «لابدّ أن هناك ما منعها من القيام بفتح الباب، وقد قالت لك ما معناه: اصعدي فوق العتبة، وارفعي المزلاج، وادفعي بالباب».

عادت الأم مرة أخرى وعملت بما ذكره ولدُها فانفتح الباب وولجت الدار. قالت لعائشة: لماذا لم تقومي لفتح الباب. أجابت عائشة: «لم تسمح لي الوردة الحمراء76 بالمشي السريع لفتح الباب!..». قالت الأمّ: « أين هي أمّك؟». قالت عائشة: «ذهبت تأتي بمن لم تأتِ به أبدا!». سألتها: «أين أبوك؟». قالت: «ذَهَبَ مَعَ مَنْ لَنْ يَعُودَ أَبَدًا!». عادت الأمّ إلى المنزل بدون أن تُدْرِكَ كُنْهَ ما قالته عائشة، وعندما كررته على مسمع ولدها، ذكر لها أنها كانت تقصد كونها غير قادرة على المشي السريع بتأثير حالة العذرية، وأن والدتَها ذهبتْ لِتُوَلّدَ أَتَانًا حَامِلًا، وأنّ والدَها خرج في جنازة.

أصرّ على الزواج منها، وافق أهلُها وأقيم العرس. في اليوم الثاني بعد الزواج، جاءتها بنت حولاء، وقالت: «صباح الخير يا عروس؟». ردّت عليها: «صباح الخير يامن إحدى عينيها تطهو الطعام والثانية تصبّ الزيت؟»77. عادت البنت باكية إلى أمها تعيد على مسامعها ما سمعته من عيشة. غضبت أم الفتاة، وذهبت عند عائشة مسرعة يتبعها صغارُها، وقالت: «صباح الخير يا عروس». ردّت عائشة: «صباح الخير يا الكلبة مولات الكليبات!». اشتدّ غضب المرأة، وراحت تشكو العروسة لحماتها، وأعادت على مسامعها ما قالته. ذهبت أم العريس عند عيشة، وقالت لها: «صباح الخير يا عروس.. هل صحيح أنك قلت كلاما مسيئا لجارتنا؟!»، ردّت عليها: «أقسم بالموضع الذي جاء منه أولادُك أنّي لا أقصد الإساءة لأحد!». غضبت أم الزوج من هذا اَلْقَسَم الجريء، وراحت لزوجها تشكوها. ولما واجه الحمو عيشة سمع منها كلاما جريئا، فأقسم بأغلظ الأيمان أن لا تبقى ليلة أخرى في المنزل، وقرر تطليقَها. قصد الرجل مجلس القاضي؛ وعندما تهيّأ القاضي لإصدار الحكم، أشارت عيشة من موقعها بين الحضور، وسط القاعة للقاضي بهزّ كفّي يديها مفتوحين إلى أعلى ومتحاذيين إلى بعضهما. فَهِمَ القاضي بأنها تشير عليه بالوقوف إلى صفها لكي ينال حظّه من الذهب والجواهر التي حصلت عليها كمهر. نطق بالحكم، مستنكرا سلوك أهل الزوج وسعيهم تطليق المرأة مباشرة بعد العرس، مؤكّدا على أن أهل الزوج مُلْزَمُونَ بالتعويض وبدفع ما يلزمها من المال، وبتمكينها من كلّ ما نصّت عليه شروط المهر من أثاث وحلي وحقّها في الهدايا التي جاء بها المدعوون. عندما انفضّ الجمع بعد إعلان الحكم، توجه القاضي إلى عيشة منتظرا مكافأته على موقفه، ولما صارحها بأنه فهم من إشارتها هذا الأمر، أنكرت، وذكرت أنها قصدت أن ينتبه لنفسه ويسدل لباسه على أطرافه السفلى، لأن عورته كانت مكشوفة للحاضرين وهو يجلس في مواجهتهم لإصدار الحكم!78.. قال لها: «كيف تقولين لي هذا الكلام وأنا ألبس البرانس؟!»، قالت، وهي تحرّك رأسها ساخرة: «جلبت لنا العار بجلستك تلك؟!».

بينما كانت تتجوّل، وجدت رجلا أمام داره الجديدة يُدخل الأثاث. حزمت بطنها بألبسة قديمة، مُتَظَاهِرَةً بأنّها حامل، وشرعت في معاونة الرجل في إدخال الأثاث للدار، ولما انتهى، سارعت إلى الكرسي الوحيد الموجود أمام طاولة وجلست فيه لتستريح.

كان الرجل ورعا، ظنّ بأنها إحدى الجارات سعت لمعاونته، فسمح لها بالجلوس لمدة طويلة، وسألها عن إسمها. قالت: «زَغَرْتُو!» 79. تَعِبَ الرجل وأراد الجلوس، فلم يجد كرسيًّا، استلقى على الحصير، وأخذه النعاس فنام. قامت عيشة بنقل جميع أثاث داره إلى بيتها ولم تترك إلا الحصير الذي كان ينام عليه!.. عندما نهض في الصباح ووجد داره فارغة من الأثاث، خرج ينادي: «زَغَرْتُو؟». سمعتْه الجارات فَطَفِقْنَ يُزَغْرِدْنَ جميعا!.. غضب وقال لهم: «ماذا تفعلن؟.. أنا أسألكنّ عن امرأة سرقت أثاث بيتي اسمها زَغَرْتُو، وأنتنّ تزغردن فرحات!». التفتت الجارات لبعضهنّ مستغربات!..، وقلن له: «كانت تبدو حاملا، تساعدك في نقل الأثاث، اعتقدنا بأنها زوجتك، ولما صحتَ في الصباح: زَغَرْتُو؛ زَغْرَدْنَا لأننا اعتقدنا أنها وضعتْ مولودًا، فرحتَ به، وطلبتَ منّا أن نزغردَ وأن نشاركك فرحك!».

التقت عيشة ذات يوم بشيخ في الطريق، قالت له: «ما رأيك في أن تتزوّجني، وأردّك شابّا صغيرا؟». رفض في البداية قائلا: «أنا شيخ كبير ولي كنّات وأحفاد، يراعي الناس وقاري، وأعيش بينهم محتَرَمًا، تريدين مني أن أقوم بفعل مشينٍ لسمعتي؟». كررت القول على مسامعه، ووعدته بالعودة إلى سنّ الشباب. استبدّ به الطمع وقبل عرضها، تبعها..، أخذته للحمّام، حلقت له شنباتِه ولحيته. قال لها: «ما اسمك؟». قالت: «بزغتشين»80. وتساءل متعجّبا: «بزغتشين؟!». أكّدت: «نعم». ولج الشيخ للحمام نازعا لباسه. جمعته عيشة وهربت به. لما انتهى من الاستحمام نادى عليها بصوت مرتفع: «بزغتشين؟.. يا بزغتشين؟». لم يردّ عليه أحد سوى عسّاس الحمّام فقال له: «نادي المرأة التي بين يديها ثيابي ؟». ردّ عليه: «لا توجد امرأة هنا.. الحمام فارغ!». قال الشيخ: «يا للمصيبة!. أعرني جلاّبيّة81 أعود بها إلى البيت؟». لمّا عاد إلى المنزل، لم يتعرّف عليه أهله بسبب تغيّر هيئته!، وصاحت كنّاتُه: «من هو هذا الرجل الغريب الذي يتجرأ على دخول حرم غيره؟!..». عَرَّفَهُمْ بصعوبة على نفسه واعترف لهم بما حدث له مع الساقطة!.

ذات يوم التقت عيشة رجلا، فأقنعته بالزواج منها. في يوم من الأيام تمت دعوة عائلته كلها إلى عرس. تمنّعت عيشة في البداية، وادّعت أنّها امرأة يستغرق وقتها شغل البيت، وليس لها رغبة في حضور المناسبات الاحتفاليّة. ألحّ عليها الأهل إلى أن قَبِلَتْ، لكنّها أكدت بأن تعود سريعا لكي تطبخ وتغسل.. عند عودتها، وضعت قدرا من «الزرمين» 82 على النار. لمّا دخلت حماتُها دورة المياه سارعت وأجبرتها على فتح فمها لتملأه بـالزرمين سُخْنَا!. اشتدّ ألمها وسقطت ميّتة. لما عاد أهل الزوج إلى المنزل وجدوا أمهم ساقطة على الأرض بدون حراك، تفاجأوا وسألوا عيشة، قالت لهم: «استروا أمكم، لو يسمع الناس بأنها سرقت زرمينا لتأكله خفية في دورة المياه تسوء سمعتُنا ونصير مضغة للأفواه؟!».

مضت أيام أخرى، ودُعِيَ أهل المنزل لعرس آخر، بقيت عائشة لوحدها مع حماها الشيخ العاجز عن الحركة، أخذت سبعة عيدان يابسة وضربته على لسانه حتى سَقَطَ فُتَاةً. لما عاد الأهل من العرس ووجدوا والدهم في تلك الحالة، سألوها: «ما الذي حدث لوالدنا الشيخ؟!». قالت: «اسألوه هو عما حدث له؟!». أشار بيده إلى عيشة، وكان يتألم شديد الألم على وشك الموت!. قالت: «إنّه يقول لكم، سأموت وأترك ثروتي لعيشة!».

 حكايات شعبية جزائرية حول المرأة

1) زواج الولد المدلّل83

هذه حكاية ولد وأمّه. كانت تحبّه كثيرا فوق اللازم، إلى أن أصبح بَهْلُولًا84، لا يطلب منها شيئا إلا وأحضرتْه له في الحال. عَلَّمَتْهُ عادة سيّئة لا يستطيع التخلّي عنها!.. من حين لآخر يطلب فُولًا لِيَقْضِمَهُ. وأصبح كلامُه بفعل التدليل مُعوجّا. كبُرَ على هذا الحال، إلى أن صار رجلاً كاملَ البنية جميلاً، وكانت أمُّه تحاول، أمام الناس، أن تُغطّي على طبائعه السيئة. قالت له ذات يوم: «لا بدّ أن تتزوّج.. مازلتَ صغيرًا.. لكن من الأحسن أن تُكَوِّنَ أسرة». قال لها: «إيه.. زوّجيني يا أمّي». قالت: «سأزوّجُك أجمل البنات من عائلة ذات حسب ونسب». شرعت في البحث عن الزوجة المناسبة؛ ورفضت العائلات التي قصدتْها في البداية، لأنّها كانت تعرف شخصية الشاب غير السويّة؛ لكنها في النهاية وجدت أسرة لها بنت وحيدة، لا تعرف عنه شيئا، قبلت تزويج ابنتها للشاب المدلّل. قالت أمّ الشابّ: «عائلتانا تليقان لبعضهما، ولا أجد أحسن من ابنتكم لولدي». أبدت أمّ الفتاة ترحيبها، وطلبت منها أن تذكر لها خصال ولدها. قالت: «إنّه ذومال وأراضي وأبقار وأملاك لا تُحصى». قالت أم الفتاة: «الله يبارك.. هذا يُفرحني.. ولكن لا بدّ أن نلتقي به لنتعرف عليه».

عادت الأمّ إلى دارها وخاطبت ولدَها قائلة: «وجدت لك زوجة يا بني». قال: «أين هي؟». قالت: «فتاة بديعة الجمال ذات مال، لكنهم يريدون رؤيتك.. حذار أن تُعطيهم فكرة سيئة عن طباعك». ذات عشية رافقت الأمّ ولدها إلى بيت الفتاة، دخل الشاب وجلس بجانب أمّه. نظروا فيه أعجبهم قدُّه وجمالُ وجهه وهيئتُه. أَسَرَّ لأمّه يطلب منها أن تُحضِرَ له فولا يَقْضِمُهُ. أسكتته بإشارة منها. لم ينتبه أهل البيت لما حصل بينهما.

بعد قليل قال: «أمّي انظري ذيل الكلب إنه يشبه شنبات حماي!». أسكتته مرّة أخرى، ومن حسن حظّه لم يسمع الجلوس ما كان يقولُه. أبدى أهل الفتاة الموافقة على تزويج ابنتهم للشاب.

هيأت الأمّ حفل الزواج، ودخلت العروسة إلى الغرفة في انتظار أن يلتحق بها العريس، لكنّه تبع أمّه وترك العروسة لوحدها، وألح على أمّه أن تحضر لها الفول ليقضمه: «هاتي الفول يا أمي.. أريد الفول!». التفت المدعوون متسائلين عمّا يبحث عنه العريس. قالت: «لاشيء.. لاشيء»، أخذت الأم ولدَها جانبًا قائلة: «اهدأ.. لاتذكر هذا أمام المدعوين.. سوف آتيك بالفول عندما ينصرفون». لمّا انصرف المدعوون وبقيت العروسة لوحدها، كانتْ ترتدي الْقْفَاطَن85 مُغَطَّاة بالـبرنوس86. ناولته أمُّه سرّا حبّات فول يابس، شرع يقضمها وهو مُمَدَّد على السرير بجنب العروسة، غير آبِهٍ بها. سمعت صوت القضم، ولم تفهم شيئا، كشفت عن وجهها ونظرت في العريس، وجدته مكبوبا على وجهه فوق السرير، لا يُسْمَعُ منه سوى صريرُ أسنانه وهو يقضم الفول!. قالت: «يا ربّي.. ماهذا الزواج؟!». نزلت من السرير، ووضعت اَلْقَعَّادَة87 على السرير، أحاطته بالقفاطين والبرنوس، خرجت من الغرفة وهربت عند الجيران وعادت إلى بيت والديها.

لما انتهى من قضم الفول، راح يبحث عن العروسة، فوجد قعاّادةً مُغَطَّاةٍ!، بدأ يصيح: «أمّي.. أمّي أتيتِ لي بقعّادة، وليس بامرأة!». جاءت أمُّه تجري، وعندما تبيّن لها ما حدث قالت: «يا للكارثة.. التي حدثت في هذا المنزل.. رقد ولدي مع امرأة ولمّا نهض وجد نفسه جنب غُرْبَال!».

2) يحيى88:

إنها حكاية ولد كان يعيش مع أمه. ذات يوم قالت له: «عليك أن تغيّر سيرتك.. تحرّك.. أطلع.. أهبط89 دبر حالك واحصل على ما تقتات به، وكفّ عن العطالة». ردّ عليها: «ماذا تريدين مني أن أعمل؟!». قالت له: «وكيف أعرف أنا!.. المهم أطلع.. أهبط.. لعلّك تجد ما يكفل عيشك». جاء بسلّوم، وأسنده إلى الجدار، وشرع في الطلوع والهبوط! قالت أمه: «ماذا تفعل!؟» قال لها: «أنت من طلب مني أن أطلع وأهبط؟!». قالت: «قصدت أن تسعى لجمع الرزق والإتيان به». راح يجمع كل ما يصادفه في الطريق من أمتعة مرمية غير صالحة للاستعمال. عندما حزمها وعاد، جاء بها إلى البيت. فرحت أمه لأول وهلة لما رأته قادما يحمل شيئا محزوما، فرحت وزغردت من شدّة السرور، غير أنها سرعان ما تبيّنت أن ما يحمله ليس سوى خِرَقًا بالية. قالت له: «ماذا فعلت؟!.. ما هذا؟» قال لها: «طلبتِ مني أن أجمع ما أجده من رزق، وأن أجيء به، ففعلت!» غضبت وطلبت منه أن يتخلّص سريعا ممّا جاء به من سَقْطِ المتاع، وأن يرمي به بعيدا. قال لها: «قولي لي ما يمكنني فعله؟» قالت له: «افعل أيّ شيء مفيد». قال لها شاكيا: «طلعتُ وهبطتُ وجمعتُ وجئتُ كما قلتِ لي.. هذا ما عرفتُ عملَه!».

ذات يوم أرسلته ليشتري من السوق دجاجة. في طريق عودته رغب في النعاس فنام. مرّ به رعاة البقر، فأخذوا الدجاجة وحلقوا شعر رأسه وشنباته ولحيته. تَحَسَّسَ رأسَه ووجهَه فوجدهما حليقين. تساءل إن كان هو نفسُه يحيى!. ولكي يتأكّد قرّر أن يعود إلى البيت ويسأل أمّه إن كان يحيى موجودا في البيت أم لا!. نادى أمه يسأل عن يحيى، لما قالت له إنه في السوق، اطمأنّ وقال لنفسه: إذن أنا هو يحيى!.».

قصد منزل أخته، وكانت متزوّجة، تسكن بعيدا عن منزلهم، وجدها تفتل الكسكسي90، بعد أن سلّم عليها، طلبت منه أن يمنع الدجاج من نَقْبِ حبات الكسكسي، خلال ذهابها إلى البئر لجلب الماء. لمّا بقي لوحده، رفع رأسه فرأى شكوة لَبَن معلّقة على الجدار، أراد أن يشرب منها، فوقعت على الكسكسي وتدفّق اللبن، وأقبلت الدجاجة تنقب الطعام، جرى وراءها يحيى ورماها بحجر، فقس رأسها فوق الكسكسي، جرت فراخ الدجاجة، واعتلت الكسكسي تنقبه. وصلت أختُه، غضبت مما حدث ونادته، وجدته يَحْضُنُ بيض الدجاجة، قالت له: «ماذا تفعل؟ !». قال لها: «قُوقْ..قُوقْ أحضن البيض بدل الدجاجة التي ماتت!» قالت له: «يحيى.. تسبّبتَ لي في كارثة!.. اخرج من داري.. ماذا أقول لزوجي عند عودته؟!».قال لها: «كيف؟!.. أنقذتُ الفراخ من الموت وتقولين بأني تسببتُ في كارثة؟!»

خرج يحيى مطرودًا من دار أخته، ووجد في طريقه سربًا من النمل، راح يسدّ بيوتَه بالطمّين91 إلى ان لحق إلى الوادي. واحتار أين يذهب!. حينئذ قرر العودة إلى منزل أمّه. لما التقته، لم تتعرّف عليه لأنّه كان حليقًا، ظنته غريبًا يسأل عن ولدها!.. قالت له: «يحيى خرج من الدار منذ عشرة أيام ولم يعد!». قال لها: «أنا هو يحيى يا أمّي!»، وروى لها ما حدث له في الطريق، عندما حلق الرعاة شعر رأسه وشنبه ولحيته!. أردفت: «أين كنت طوال هذه المدّة؟» ذكر لها ما لقيه عند أخته التي طردته لأنه دفّق اللبن وقتل الدجاجة. قالت له: «أنت لا تفلح في أيّ شيء تقوم به!» قال لها: «هذا أنا يحيى أفعل ما يحلو لي، سواء أحببتم ذلك أم كرهتم!». قالت: «سنرى.. اذهب واشتر لي قطعة كبد من السوق»

خرج يحيى إلى السوق، شاهد ذبابة واقعة على الكبد عند الجزار، ضربها فقلّب الرفّ الذي يعرض عليه الجزار اللحم!.. صاح الجزار يزجره قائلا: «أنت مجنون؟!.. ماذا تفعل؟!». قال يحيى: «أنا أضرب الذبابة». قال له الجزار: «اترك الذباب وشأنها!.. ». حطّت الذبابة على شدق الجزار.. حاول يحيى ضربها، فضرب الجزار وراح يتبعها أينما وقعت على جسده.. في رأسه.. في كتفه.. اشتدّ غضب الجزار، وأوسعه ضربا وطرده من محلّه!. لما عاد إلى المنزل سألته أمه عن قطعة الكبد؟ قال لها: «كنتُ أريد ضرب الذبابة فضربني الجزار وطردني!».

هذا هو يحيى!..

3) ذياب ولد السلطان92:

هذه خرافة أحد السلاطين، وما سلطان إلاّ الله، إذا أخطأت يسامحني الله. هذه الحكاية عن سلطان له ثلاث نساء؛ ذهبية وفادية وتركية. ولدت كلّ واحدة منهنّ ولدا ذكرا. ذات يوم خاطبهن قائلا: سألقي عليكن لغزا، لتطرحه كلّ واحدة منكنّ على ولدها ليفسّره: ما هو خيار الزناد؟، خيار الشجر؟، خيار الطيور؟. عادت فادية لتقول له: خيار الزناد هو الحجر!، وخيار الشجر هو الصنوبر!، وخيار الطيور هي الحمامة!. قال لها السلطان: «من اليوم يامرأة، لا أعترف بولدك!». وأعادت تركية نفس الإجابة. قال السلطان: «من اليوم يا امرأة، لا أعترف بولدك!». أما ذهبية، فقد كان السلطان لا يحبّ ولدها!، جاءته وقالت: «هذا جواب ولدي ذياب؛ خيار الزناد هو المكحلة93، وخيار الشجر هي النخلة، وخيار الطيور هي النحلة!».

طلب السلطان من وزرائه أن يُحضروا الحطب وأن يشعلوه، وأن يأتوه بذياب!.. قال السلطان لذياب: «ما الذي يغلب النار؟». ردّ ذياب: «صدر الخيل !». قال السلطان: «من يغلب صدر الخيل؟». قال ذياب: «يغلب صدر الخيل فرسانها!». قال السلطان: «من يغلب الفرسان؟». قال ذياب: «يغلب الفرسان أولادُهُم!». قال السلطان: هذا الحلّ الصحيح هو الذي يجعلني لا أرمي بك في النار، ولكن اذهب فأنا لا أعترف بك!.

خرج ذياب، سار في الطريق إلى أن وصل عند بْحِيرَة94 الغول. دخلها. لم يطأها بشر من قبله!.، تصايح الناس من بعيد: «إياك ودخولَها. سوف يأكلك الغول، ويأكلنا معك!؟»، إلاّ أنه تمادى في تهوّره!. وجد الغول يدخّن الحشيش!. قال له الغول: «مرحبا بك يا ابن السلطان، لولا واجب الضيافة، لأكلت لحمك ورميت بعضمك وراء هذه الجبال لتتهشّم!». قال ذياب: «لستُ خائفا منك!.. أنا جئتُ أبحث عنك لأبارزك؟!». قال الغول: «بالسيوف أم بالْكُفُوف95؟!». قال ذياب: «كما تريد!». بدأت المبارزة بالسيوف، كلّ منهما يضرب الآخر بأقصى قوته، كثر الزعيق والصياح، وأصيب الغول بجروح بليغة، هرب والدم يسيل منه بغزارة، تبعه ذياب، ولج باطن الأرض حيث مسكنه!.

كان للغول مثل السلطان ثلاث نساء. كلّ واحدة لها غرفتها. دقّ ذياب الباب الأوّل. سمع صوت المرأة الأولى: «اشت.. هذي دار الغول!». قال: «أنا أبحث عنه!» «اذهب عند المرأة الثانية!». دقّ الباب الثاني. سمع صوت المرأة الثانية: «اشت.. هذا بيت الغول!». قال: «أنا أبحث عنه!» قالت: «اذهب عند المرأة الثالثة». ضرب الباب الثالث برجله ودخل، وجد المرأة الثالثة تداوي جروح الغول!.. نطق الغول وهو يئنّ: «مرحبا بك ذياب.. لولا أنك ضيفي لكسرت عظامك ورميت بها خلف هذه الجبال لتتهشّم!». قال ذياب: «جئت أبحث عنك لأنتهي منك!». ثم إنّه قفز على الغول وأجهز عليه. زغردت النسوة الثلاث، لأنهنّ تخلّصن من سيطرة الغول، وكانت أسماؤهنّ: ذهبية وفادية وتركية. عثر ذياب على حبل متين رمى به إلى أعلى الحفرة لتصعد نساء الغول، ثمّ يتبعهن. لمّا صعدت فادية وتركية، قالت ذهبية لذياب: «انتظر.. لو صعدتُ قبلك ورأى الناس، الذين هم فوق، جمالي، سيقطّعون الحبل لتبقى هنا ويستأثرون بي.. لماذا لا تسبقني أنت، ثمّ أصعد أنا؟!». أصرّ ذياب على أن تصعد هي أوّلا، تركت له خاتَما، وقالت له: «إن بقيتَ في باطن الأرض، أنظر فيه، إن وجدتَه قد ابْيَضَّ تأكّد بأنّك ستنجو من الموت، وإن اسْوَدَّ سيكون مصيرك الهلاك!» وما أن صعدت ذهبية، حتى انبهر بجمالها من كانوا خارج الحفرة!، وقالو: «لاشكّ أنّه تركها هي الأخيرة لكي يستأثر بها لنفسه، سوف نتركه هناك، ونأخذها لأنفسنا!» وقطعوا الحبل ليتخلصوا منه. أخذوا المرأة الجميلة عند أبيه السلطان، ليتزوّجها!..

لمّا سقط ذياب عند قطع الحبل به، نظر في الخاتم الذي تركته ذهبية، وجده قد ابيضّ، تيقّن من خلاصه، راح يتجوّل في باطن الأرض، ينتقل بين الوديان إلى أن وجد عين ماء، جفّ ماؤها، تقف عندها فتاة عزباء تحمل جفنة96 من الكسكسي، والدمع يسيل من عينيها!.. سألها ذياب: «ما بك يا فتاة؟!»، قالت: «أنا بنت سلطان هذه البلاد، واليوم جاء دوري ليقدّموني للثعبان ذي الرؤوس السبعة ليلتهمني، لأنه يحبس الماء عنّا، ولا يسمح بعبور القليل منه، لسدّ حاجتنا، إلا إذا قُدّمت له فتاة يأكلها!..». قال لها: «أنا جوعان.. عاتي جفنة الكسكسي لآكلها، وعندما يأتي الثعبان، نبّهيني لأنهض وأقضي عليه!». بقيت الفتاة تنتظر، وما أن أطلّ الثعبان الضخم ذو السبعة رؤوس، حتى أخرسها الهلع، وهطلت الدموع الحارّة من عينيها!..؛ سقطت إحداها على خدّ ذياب، أحرقته، فنهض مسرعا، ورأى الثعبان يتطاير الشرَرُ من عينيه!.. نطق الثعبان بصوت يبعث الفزع في الحجر قائلا: «مرحبا بك ذياب بن السلطان، لولا أنك ضيف عندي لرميت بعظامك خلف هذه الجبال لتتهشّم؟!». أجابه ذياب: «لستُ خائفا منك أيها الوحش، جئت لأخلص الناس من شرّك.. قَرِّبْ؟!». قال: «انتبه.. لي سبع رؤوس!». قال ذياب: «وانا عندي سبع ضربات!.. !..». بدأت المبارزة، كان يصدر عن الوحش صوت رهيب، وكان ذياب يقفز من جهة لأخرى يقطع في كلّ مرّة رأسا، ولمّا كاد أن يقطعها جميعا، قال الثعبان بصوته المُرعب: «هذه رأسي الحقيقية!». قال ذياب: «وهذه ضربتي الحقيقيّة!» ثم هوى عليه بالسيف فقطع الرأس الكبيرة. في نفس هذه اللحظة تدفّقت المياه، وسالت في المجاري تشقّ البساتين وتروي النبات. جرت الفتاة نحو منزل أبيها السلطان وقد حملت بين يديها إحدى فردتي حذاء ذياب، والتي طارت منه وهو يقفز في صراعه مع الثعبان!.

تعجّب السلطان وتساءل كيف يستطيع شابّ لوحده أن يقضي على الثعبان بينما شباب البلاد جميعا عجزوا عن هذا الفعل قبله!. وأخذ فردة الحذاء من ابنته وطلب من حراسه أن يبحثوا عن الشخص الذي تمكّن من تخليص البلاد من الوحش الرهيب ووعد بأن يزوّجه ابنته ويمنحه نصف مملكته. تقدم عدد كبير من الشباب أمام السلطان مدّعين أنهم من فعل ذلك، غير أن فردة الحذاء لم تطابق أقدامهم!. ولم يبق في الأخير سوى شاب فقير غريب عن البلاد، لم يأبه به أحد، ولم يقس فردة الحذاء!.. طلبه السلطان، جيء به، قاس الفردة، فجاءت متطابقة مع قدمه، وتعرّفت عليه ابنة السلطان!.. قال له السلطان: «اطلب ما تريد.. أعطيك ابنتي ونصف مملكتي، وإذا أردت خلاف ذلك منحتك ما تطلب؟!». قال له: «لا أستحقّ شيئا مما عَرَضْتَ عَلَيَّ.. أريد فقط بندقيّة وبارودا!». قال السلطان: «أعطيك ما أردت، كلّ ما أملك هو تحت تصرّفك!.. لكن أُحَذِّرُكَ من الاقتراب من ذلك الجبل!»، وأشار بيده لجبل كان قريبا منهم.

توجّه ذياب لذلك الجبل، وبينما كان يجول في سفحه، رأى ثعبانا يسعى متجها نحو عشّ طائر مالك الحزين، ليأكل فراخَه. أطلق عليه النار بالبندقيّة فصرعه، ثمّ تمدّد بمحاذاة العشّ واستغرق في النوم من شدّة التعب. لمّا عاد الطائر إلى عشّه، أوشك أن يفقأ عيني ذياب، لولا أن فراخه تدخّلت قائلة: «اتركه ينام، إنّه من أنقذنا من الهلاك!». ثم روت له ما حدث مع الثعبان. نزع مالك الحزين إحدى ريشاته وطفق يحرّكها ليبعد عن ذياب الحر ويجلب له الهواء المنعش. لمّا فطن ذياب، قال له الطائر: «لقد أنقذت فراخي من الهلاك، اطلب منّي ما تريد؟!». قال ذياب: «أريد الصعود إلى سطح الأرض!». قال له: «بإمكاني أن أفعل ذلك، لكن قبل ذلك، اذهب عند الراعي يعطيك معزة موشومة، اذبحها وانزع منها سبعة أطراف، هاتها معك، واترك الباقي للراعي!».

فعل ذياب ما ذكره له الطائر. وامتطى ظهر الطائر، الذي أوصاه بأن يُلْقِمَهُ في كل مرحلة من مراحل السفر، وهو يقطع سبع سموات، قطعة من اللحم، إلى أن يصل إلى سطح الأرض. فعل ذلك، غير أنه في المرحلة السابعة، سقطت منه قطعة اللحم، فانتزع قطعة من فخذه وأهطاها للطائر، غير ان مالك الحزين تنبّه للأمر وحذّره من فهل ذلك مرّة أخرى!.. وحاول لما وصل به إلى الأرض أن يعيدها إلى مكانها. سار ذياب طويلا لكي يصل إلى قصر أبيه. وصل إليه في اليوم الذي كان أهل القصر يهيئون احتفال زواج السلطان بذهبية امرأة الغول الجميلة.

أرادت ذهبية أن تتأكّد إن كان ذيابا قد خرج من باطن الأرض أم بقي هناك، فاشترطت على السلطان أن يُحْضِرَ لها دجاجة مع فراخها مصنوعة من الياقوت!. كانت تعرف أنّ هذا الأمر لا يمكن أن يقوم به سوى حامل الخاتم الذي تركته عند ذياب. لأنّ الخاتم السحري وحده من يستطيع إحضار مثل هذه الدجاجة. طلب الملك من الصائغ أن يصنع دجاجة الياقوت وفراخَها، استعان الصائغ بذياب الذي كان يعمل عنده صانعا، وأحضر الدجاجة لقصر السلطان، تأكدت ذهبية من وجود ذياب على سطح الأرض غير أنها لم تكن تعرف مكانه. اشترطت مرّة أخرى قفطانا97من ذهب يقف من نفسه ويرقص إذا ما طَلَبَ منه صاحبُه ذلك، وكانت تعلم أن ذيابا وحده بفضل الخاتم السحري من يستطيع إحضاره.

توجه السلطان مرّة أخرى إلى نفس الصائغ، الذي استعان بذياب وأرسله إلى القصر يحمل القفطان!.. تعرفت ذهبية على ذياب، لما رأت الخاتم في إصبعه، وفي رمشة عين انتقلا معا إلى القصر الذي بناه ذياب!..

حكايتي سارت مع الحريق، وجئت أنا مع الطريق98.

4) غول خشب الغابة99

كانت هناك فتاة لم تخرج من البيت منذ أن ولدت، وكانت والدتها تخشى أن يصيبها مكروه إن خرجت. وذات يوم ألحّت على والدتها في أن ترافق ندّاتها، فسمحت لها بعد تردّد. ذهبت مع مجموعة من الفتيات وقصدن الغابة لجمع الحطب. لمّا كانت تجمع ما تساقط من عيدان الأشجار، عثرت على عصا جميلة مزركشة بالألوان؛ ففكرت أن تحملها لأخيها ليلعب بها. ربطتها مع حزمة أخشاب الغابة، غير أنّ رباط الحزمة كان سرعان ما ينحلّ، وتتناثر الأخشاب. ظلّت تسعى في كل مرّة لإحكام الرباط، غير أنّ الحبل ينفرط. وصل المساء وهي في هذا الحال. تركتها الفتيات وعدن إلى بيوتهنّ. لمّا أقبل الليل نطقت العصا المزركشة وقالت: «سآتيكِ في يوم ممطر، تأتيكِ الجمال فيه محمّلة بالدقيق والصداق، وسأتزوجك!». أحكمت ربط الحزمة وعادت إلى بيتها.

في الموعد المحدّد جاءت قافلة الْجِمَال محمَّلة بالدقيق وبكل ما لذّ وطاب، أفرغت حمولتَها في فناء البيت، وتم حمل الفتاة لتكون زوجة لكائن لم تتعرف عليه بعد. في بيت الزوجية وجدت سبع غرف. سمح لها الزوج بأن ترتاد ستّ منها، وأمرها بعدم محاولة دخول الغرفة السابعة.

دفعها الفضول ذات يوم إلى اقتحام الغرفة السابعة. رأت زوجها في هيئة غول يفترس إنسانا، لم يبق منه سوى الرأس. أمرها بأن تشاركه في التهام اللحم البشري، وأن تأكل الرأس المتبقّي. قالت له: «سآكله لمّا تخرج!». أخفته في عين الماء. لما عاد الغول نادى على الرأس فأجاب: «أنا موجود في عين الماء!». كرّر أمره لها بأن تلتهم الرأس. قالت له: «سآكله لمّا تخرج!». في الصباح أخفته داخل الموقد. عاد في المساء، ونادى على الرأس فأجابه من داخل الموقد: «أنا موجود في الموقد!». في اليوم الموالي هدّدها بالافتراس إن هي لم تأكل الرأس. حينذاك حملت الرأس في الصباح وقصدت النهر لتغسل الصوف حاملة معها الرأس البشريّ. قصدها غراب وطلب منها أن تمنحه قليلا من الصوف ليفرشه لصغاره. وافقت على منحه الصوف مقابل أن يحمل الرأس ليخفيه. أخذ الغراب الرأس ورمى به وسط البحر، وعاد ليستلم الصوف فمنحته ما أراد وأوصته بأن يذهب إلى أمها ويقول لها: «ابنتك موجودة في جبل قِيرْوَانْ، تزوجها غول تحيط به سبعة أسوار من الحديد وسبعة أخرى من الخشب. في الليل يضع رجله ورجلها في خلخال واحد، ويشدّ شعرها بين أسنانه. ابعثي بأولادك لإنقاذها!..».

لمّا بلغ الخبر الأمّ؛ شرعت في نسج برنوس من حرير. دخل أحد أبنائها وقال: «لمن تنسجين البرنوس يا أمّي؟». قالت: «لمن يجتاز سبعة أسوار من حديد!». قال لها: «أنا يا أمّي!». دخل الولد الثاني، وطرح عليها نفس السؤال. قالت: «لمن يضرب الطائر بالنشاب في السماء ويقتله في رمشة عين!» . قال: «أنا يا أمّي!». دخل الولد الثالث. وكرر نفس السؤال. أجابت: «لمن يسمع صوت الندى!». قال: «أنا يا أمّي!». دخل الولد الرابع وسأل، فقالت له: «لمن هو قادر على الرؤية في الظلام الدامس!». قال: «أنا يا أمّي!». ودخل الولد الخامس. قالت له: «لمن يضرب العصا فتنفتح أبواب الخشب!». قال: «أنا يا أمّي!». دخل الولد السادس. قالت له: «لمن يستطيع أن يأخذ البيض من عشّ الحجلة دون أن تستيقظ!». جاء الولد السابع، قالت له: «لمن يستطيع فكّ الشعر من السدراية!100». قال: «أنا يا أمّي!». جمعت بعد ذلك أولادها السبعة، فحكت لهم ما جرى لأخته. قرر الإخوة الرحيل من أجل إنقاذها.

لمّا وصلوا تقدم الولد القادر على تخطّي أسوار الحديد السبعة من الحديد، حمل إخوته ودخل بهم قصر غول الغابة. التقوا بأختهم ففرحت بهم، غير أنها ارتعبت خوفا عليهم، وقالت لهم سيعود الغول من الغابة ليلا وإذا ما علم بوجودهم سوف يفترسهم!. قالوا لها: لا تخافي فقد هيأنا خطة لهربك منه. بحثت عن مكمن لهم وخبّأتهم. لمّا أقبل الليل جاء الغول، فانتظروا لمّا نام، وقام الولد الذي يستطيع أن يتسمع صىوت الندى بتنبيه إخوته إلى استغراق الغول في النوم. وبادروا إلى غرفة نومه. تقدم سلاّك الحرير من السدراية حاملا إبرة وفكّ بها شعر أخته من أسنان الغول. قام من يستطيع أخذ البيض من عش الحجلة دون أن تستيقظ، بحمل أخته من سرير الغول وخرجوا بها. عبر بهم كبيرهم أسوار الحديد السبعة، وخرجوا من القصر، وما أن قطعوا مسافة حتى استيقظ الغول، تعقّبهم طائرا في السماء. رآه القادر على الرؤية في الظلام، فوجه نحوه ضارب النشاب سلاحه فأرداه قتيلا. عادوا حينئذ إلى القصر. ضرب أحدهم بعصاه الأرض فانفتحت أبواب الخشب، وضرب آخر فانفتحت أبواب الحديد، وولجوا تحت الأرض فعثروا على كنوز الغول. حملوها وقفلوا عائدين بأختهم إلى بيتهم محملين بما خفّ حمله وغلا ثمنه. وهكذا انتهت حكايتي وحُلّتْ عُقْدَتُهَا.

5) عصفور المطر101:

يروى أن فتاة لم تخرج طوال حياتها من البيت، وذات يوم مرت مجموعة من الفتيات وطلبن منها أن ترافقهن للاحتطاب من الغابة القريبة. عندما كانت تجمع الأخشاب عثرت على عصا جميلة مزركشة. قالت: سآخذها لأخي الصغير يلعب بها!. جمعت حطبا وحاولت ربطه في حزمة مع العصا، غير أن الرباط كان ينحلّ في كلّ مرّة. ظلّت تكرر ذلك العديد من المرات إلى أن حل المساء، وغادرت صاحباتها الغابة. حينئذ رمت بالأخشاب واحتفظت بالعصا المزركشة وهمّت بالعودة. تكلمت العصا وقالت: ستأتيك جِمَالٌ في يوم مرعد ممطر محملة بالمؤونة وبالصداق وسأطلبك للزواج!..

لما عادت إلى البيت روت ذلك لأمها. جاء اليوم الموعود وتزوجها عصفور المطر. عاشت معه حياة سعيدة. ذات يوم قالت له: «أريد أن أذهب لزيارة أهلي». سمح لها بالذهاب، ولكنه أرسل برفقتها كبشا، وأوصاها برعايته وأن يبقى قريبا منها لا يفارقها. كان هذا الكبش هو نفسه عصفور المطر، وقد تحوّل في صورة حيوان. في بيت أهلها سألها أخواتُها عن حياتها بعد الزواج؛ قالت لهن: «أعيش سعيدة في قصر لا ينقصه أي شيء، وما أطلبه يحضر في التوّ، غير أني لا أرى زوجي.. يأتي ليلا، أتحسس وجوده في الظلام، يخرج صباحا، ولا يعود إلا عند قدوم ظلام الليل !». قلن لها: «قد يكون وحشا، أو متزوّجا بامرأة أخرى!.. نصنع لك سبعة مصابيح، تُشعلينها قبل أن يدخل، تُخفينها في الْقِدْر. لمّا ينام تُخرجينها لترين من يكون؟!». استمع الكبش إلى ما قلن، وفي الطريق حذّرها قائلا: «أيّتها الشقيّة ستكون مصابيح أمّك سببا في مصيبتك!». كان كلّما حذّرها رمت بمصباح في الطريق. لم يبق لها سوى مصباح واحد أقسمت أن تحمله معها إلى بيت زوجها.

عملت بنصيحة أهلها؛ وأشعلت المصباح ونظرت إليه. بهرها جمالُه!.. رأت في أصابعه عشر خواتم. وجهت الكلام لكل خاتم تسأله عمّن يخدم؟ فكان ردّ كلّ منها: «أنا في خدمتك وخدمة نفسي لِمَ أَنْتِ مُتَهَوِّرَة!». نهضت من الفراش لكي تطفئ المصباح. سقطت قطرة من زيته على شاربي زوجها. استيقظ من النوم وهرب. تبعته في الحين، لكنه اختفى عن ناظريها. راحت تتبع آثار قدميه إلى أن وصلت إلى مرج نصفه أخضر ونصفه الآخر يابس. تعجّبت!.. قالت لها الجهة اليابسة: «تلك الجهة الخضراء مرّ بها عصفور المطر وجلس عندها ليرتاح !». سرها الخبر. واصلت طريقها فوجدت شجرة نصفها أخضر ونصفها الثاني جافّ. استغربت!..

نطق النصف اليابس قائلا:  »-مرّ من هنا عصفور المطر وقطع غصنا من تلك الجهة التي اخضرّت لكي يستعمله مروحة!.. «. تابعت السير فوجدت في طريقها عيني ماء؛ إحداهما جارية والأخرى يابسة. نطقت اليابسة وقالت لها: «مرّ عصفور المطر فجرت المياه في العين التي شرب منها وغسل يديه فيها!».

تابعت الطريق متعقبة آثاره، وعندما وصل إلى بيت أمّه انتظرها هناك عند المدخل وحذّرها قائلا: «أمّي غولة.. ستجدينها وقد رمت بثدييها الضخمين إلى ظهرها، تصبّ الحبوب في الرحى تطحنها. ارتمي على الثديين وارضعي منهما لكي لا تؤذيك!». عملت بنصيحته، وقالت لها الغولة: «لو أنك لم ترضعي من حليبي لافترستك وافترست أهلك!». دخل عصفور المطر فتظاهرت الغولة بالفرح وهي تستقبلهما في بيتها. بعد أيام قليلة، قامت الغولة في الصباح وأمرت زوجة ولدها بأن تقوم بغسل الحي الذي يقع فيه البيت كله، وهددتها بأنها سوف تلحس الأرض عند عودتها وإن وجدت شيئا عالقا من تراب أو وسخ سوف تفترسها. جلست الزوجة تبكي لأنها لا تقدر على ما أمرتها به. جاءها عصفور المطر وسألها فذكرت له ما قالته أمه. ذكّرها بما فعلته من خروج عن طاعته، وقال لها مشيرا إلى تلّة محاذية: «اصعدي التلّة ونادي الأنهار لتأتي وتغسل الحي، واذكري لها أن عصفور المطر يأمر بذلك لأنه سيتزوّج ويقيم عرسا!».

أقبلت الأنهار وغسلت كلّ أركان الحيّ. لما عادت الغولة في المساء وجدت كلّ شيء نظيفا يلمع، عرفت أن ولدها هو من فعل ذلك ولم تقل شيئا. في صبيحة يوم الغد أفرغت الخوابي102 ممّا فيها من قمح وشعير وفول وعدس وحمص وغيرها.. خلطتها ثم قالت لزوجة ابنها: «أريد منك أن تقومي بفرزها، وتعيدين كل صنف إلى موضعه، لما أعود في المساء سأفترسك إن عجزت عن فعل ذلك!». طفقت تبكي وتندب حظها، وعندما عرف عصفور المطر بذلك، قال لها: «نادي النمل واطلبي منه أن يقوم بفصل الحبوب عن بعضها، لأن عصفور المطر يريد أن يقيم عرسه!». فعلت ذلك. لما جاءت الغولة ووجدت كل صنف من الحبوب في خابيته، قالت: «هذه من حيل ولدي!».

بعد أيام تمارضت الغولة وقالت لزوجة ولدها: «أريد منك أن تُحْضِرِي ريش جميع العصافير وتضعيه في مخدّتي، ولو بقي هناك طائر واحد بريشه سوف أفترسك!». جلست تبكي، جاءها عصفور المطر، وذكرها مرة أخرى بما فعلته واستوجب المحنة التي هي فيها؛ ثمّ إنّه أشفق عليها وقال لها: «اصعدي التلّة مرّة أخرى ونادي للطيور وقولي لها إن عصفور المطر مريض ويريد أن يتوسّد ريشك!». أقبلت جميع الطيور ونتفت ريشها، فجمعته زوجة ابن الغولة وحشته في مخدّة الغولة. مرت أيام وعادت الغولة لتطلب من المرأة ردّ الريش إلى أصحابه، فما كان عليها سوى أن تصعد التلة مرة أخرى لتطلب من العصافير أن ينفذوا أمر عصفور المطر وأن يقبلوا لاسترداد ريشهم لأنّه قام معافى من مرضه. فعلت الطير ذلك.

تيقن عصفور المطر بأن والدته عوّلت على افتراس زوجته. فدبّر أمرا. في المساء عاد لوحده قبلها، وهيأ غرفة، أمر أمه بأن تنام فيها لوحدها. وعندما استغرقت في النوم، قام بإضرام النار في تلك الغرفة. احترقت الغولة وعاش عصفور المطر مع زوجته في منتهى السعادة.

هكذا انتهت حكايتي وحُلَّتْ عُقْدَتُهَا.

6) بقرة البتامى103:

كان لرجل امرأة رُزِقَ منها بولدين؛ طفلة وطفلة. مرضت الأمّ وتوفّت. أوصت قبل وفاتها زوجها بأن لا يبيع البقرة الوحيدة التي تمتلكها، مهما كانت الظروف.

تزوّج الرجل بامرأة ثانية لكي تعتني بطفليه. كانت للمرأة بنت قبيحة المنظر، ذات أخلاق سيئة. أصبحت المرأة تغار من الربيبين، وكانت تتساءل على الدوام: لماذا ينمو اليتيمان بسرعة ويزدادان جمالا، على عكس ابنتها التي ظلّت ضعيفة الجسم، مشوّهة الخلقة. كانت زوجة الأب تسيء معاملة الفتاة والفتى وتمنع عنهما الطعام. كانا يلجآن إلى البقرة التي تركتها لهما أمّهما المتوفّية فيرضعان الحليب من ضرعها. كانت البقرة تتوقف لمّا يصلان بمحاذاتها، وتمرّر لسانها على وجهيهما بكلّ حنوّ وتحرّك ذنبها مرحّبة بهما وترمُقُهما بهطف وحنان، وتتركهما يرضعان من ضرعها إلى أن يشبعا. كان ذلك هو مصدر غذائهما.

ذات يوم قالت المرأة لابنتعا الشوهاء: «أريدك أن تذهبي وتتبعيهما، وانظري ماذا يأكلان ويشربان؟!.. افعلي ما يفعلان؛ لكي ينمو جسدك ويزداد جمالك مثلهما !..». تبعت البنت المشوّهة أخويها اليتيمين الجميلين، ولمّا رأتهما يرضعان من ضرع البقرة، الذي كان ينزّ حليبا دافئا وصافيا، حاولت أن تفعل مثلهما، لكنها ما أن شرعت في مصّ ضرع البقرة حتّى نزَّ في فمها دمًا أحمر قانيا وقيحًا!.. تراجعت البنت مذعورة، وعادت إلى البيت باكية، وشَكَتْ لأمّها وحدّثتْها بما حصل!..

نادت المرأة القاسية على زوجها وطلبت منه أن يذبح البقرة!.. ففعل. لم يجد اليتيمان طعاما يتقوّتان به؛ فقصدا قبر والدتهما المتوفّاة لزيارته فوجدا شجرة عنب قد نبتت عليه وظلّلته، وقد تدلّت من أغصانها عناقيدُ ذهبيّة بلّلها الندى، وانعكس عليها شعاع الشمس. أكل اليتيمان من الشجرة فوجدا حبّات العنب اللمّاعة والنقيّة حلوة المذاق ومغذّية، وأصبحا يقبلان عليها كلّما جاعا!..

طلبت زوجة الأب من ابنتها الشوهاء مرّة أخرى أن تتبعهما لكي تنظر ما يفعلان وتقلّدهما. تبعتهما البنت، ولمّا رأتهما يأكلان من شجرة العنب، جرت إليها ومدّت يدها تقطف منها.. فجأة تحوّل العنقود إلى حزمة من الأشواك وخزتها؛ فرمت بها وعادت دراجها خائبة تشكي لأمها مما حدث لها!.. غضبت المرأة الشريرة، وقصدت المقبرة وقامت بقطع شجرة العنب من جذورها!..

ازداد حال اليتيمين سوءًا، وقست عليهما زوجة الأب أكثر، وكانت تكلّفهما بالأعمال الشاقة، ولا تطعمهما، وتعاملهما معاملة سيّئة. ذات يوم قررت الرحيل على أن تتركهما لوحدهما؛ ولكي يتبعانها تظاهرت بأنها ستكلفهما مع ابنتها الشوهاء بغسل الصوف في الوادي. عندما لاحظت الفتاة اليتيمة زوجة أبيها تحزم الأثاث ترجّتها بأن تنتظر إلى أن يقوموا بغسل الصوف، ويعودوا جميعا من الوادي ليرحلوا كلّهم. طمأنتها قائلة لها: «لمّا تكونون في الوادي وتشاهدون الدخان يتصاعد من المدخنة وتسمعون الكلب ينبح، اعلموا بأننا لم نرحل ومازلنا في انتظاركم!».

أعطت زجّتين104 من الصوف السوداء لليتيمين، ووضعت بين يدي ابنتها زجّة بيضاء، وقالت: «اذهبوا إلى الوادي ..لا أريد منكم أن تعودوا قبل أن تصبح الزجّات جميعا بيضاء ناصعة!..». لمّا وصلوا لإبى الوادي، غطست البنت الشوهاء الزجة البيضاء في الماء وأخرجتها، وانصرفت عائدة إلى البيت. أما اليتيمان فقد ظلاّ وقتا طويلا وهما يَعْرُكَانِ105 الصوف السوداء لتصبح بيضاء دون جدوى!.. وكانا كلّما التفتا نحو البيت شاهدا الدخان يتصاعد من المدخنة، وسمعا نُباح الكلب.. فيطمئنّان ويظنّان أنّ أهلهما في انتظارهما. أقبل الليل بعد أن غابت الشمس، وقرّر اليتيمان العودة إلى البيت. لمّا وصلا وجدا أهلهما قد رحلا. كانت ألسنة النار تلتعم أعواد الحطب المتبقّي، وكان الكلب مربوطا إلى الرحى الحجريّة يدور حولها وقد تعب فأكثر من النباح!..

جاع اليتيمان فبحثا عن كسرة106 يتقوّتان بها فوجداها في الرماد؛ نفضها الولد وهمّ بقضمها، لكن أخته التي كانت أكبر منه سنّا اختطفتها من بين يديه ورمت بقطعة منها للكلب. لما أكلها الكلب سقط على الأرض يتلوّى ومات!.. لقد كانت خبزة مسمومة دسّتها زوجة الأب في الرماد لتقتلهما!.. امتنع الشقيقان عن أكل الخبزة وقضيا ليلتهما جائعين. في الصباح الباكر حملا معهما عصا الرحى ورحلا بحثا عن أهلهما.

ظلاّ يمشيان.. يمشيان.. يمشيان، وقد اشتدّ جوعُهما. شاهدا عن بعد، على حافة الطريق كدسين؛ أحدهما أصفر والآخر أبيض! قالت الفتاة: «لعلّ الكدسان ممّا يؤكَل. سوف آكل الكدس الأصفر..» قال الولد: «أما أنا فسآكل الكدس الأبيض..». لمّا وصلا؛ وجداهما بلحًا وملحا. أكلت الفتاة البلح وأعطت لأخيها شيئا منه، غير أنه رفض عرضَها وأقبل على الملح يَسُفُّه.

لقد كان غِرًّا لا يعرف عواقب الأمور!. اشتدّ عطشُه، وشرع يبحث عن نبع ماء؟. وكان اليتيمان يسيران في أرض تَمُرُّ بها وديانٌ مسحورة!.. من يشرب منها يتحوّل إلى حيوان!.. كانا كلّما مرّا بوادٍ يُقبِلُ الفتى على الماء ليشرب منه، غير أن أخته الفطنة كانت تمنعه من الشرب لكي لا يتحوّل إلى حيوان!.. اشتدّ تعبهما وجلسا على حافة الطريق ليرتاحا. نامت البنت قليلا، فقام أخوها وجرى إلى الوادي المسحور وعبّ منه الماء. لكنّه سرعان ما تحوّل إلى غزال، لأنه شري من وادي الغزلان!.. عاد ينطّ نحو أخته. أفاقت الفتاة على منظر أخيها وقد تحوّل إلى غزال؛ فضربت كفًّا بكفّ، وصرخت باكية: «لقد خُدِعْتُ فِيكَ يَا اَبْنَ أُمِّي!.. »، ثم تابعت طريقها، يتبعها أخوها الغزال.

وصل اليتيمان إلى أرض فيها نبع ماء، حوله شجر ظليل ونبات كثيف. أعجب المكان الفتاة، فأقامت فيه مع أخيها. كانت تأوي إلى شجرة كبيرة باسقة، فتصعد إلى أعلاها وتنام على أغصانها القويّة التي تحجبها عن أعين المارّة. أما أخوها فقد كان يسرح في المرج، ويعود كلّ مساء ليبيت عند جذع الشجرة حيث كانت تقيم أختُه.

في يوم من الأيّام، مرّ سلطان تلك البلاد بالمكان، وقصد النبع لكي يشرب فرسُه. لما عاد إلى قصره لاحظ بأنّ فرسه ليست على ما يرام، هَزُلَتْ بعد أيام قليلة لأنها كانت تمتنع عن الأكل والشرب!. جاء بيطريّ وكشف عنها فوجد أن شعرة طويلة التوت على لسانها. نزعها مندهشا لطولها وجمالها!. ولما حملها إلى السلطان قرر أن يرسل حراس القصر للبحث عن صاحبة هذه الشعرة ليتزوّجها؛ فراحوا يقيسونها على شعر جميع فتيات المملكة، لكنهم عادوا خائبين!.

ذات يوم من الأيام خرجت الخادمة الوصيفة السوداء لتجلب الماء من النبع. ولمّا كانت تملأ جرّتها شاهدت صورة الفتاة منعكسة على سطح الماء، ظنّتها صورتها هي!. كسرت الجرّة ومزّقت ثيابها وعادت غاضبة إلى القصر تشكو حالها للنسوة قائلة لهم: «لماذا تتخذوني خادمة وأنا على قدر كبير من الجمال، يفوق جمال حرائر القصر؟!». ضحك منها النسوة، وعرفوا من كلامها ما حدث لها عند النبع. ذهبت النسوة إلى النبع، وانتبهوا إلى وجود الفتاة ذات الوجه الجميل في أعلى الشجرة. لما عدن إلى القصر أخبرن السلطان، فأرسل حرسه إليها، غير أنها رفضت النزول خوفا من أن تتعرض لمكروه. بعث السلطان لـ«السَتُّوتْ» العجوز الماكرة يطلب منها أن تعينه في إنزال الفتاة من مكمنها.

أمرت العجوز الداهية بإحضار خيمة وعدد من النعاج إلى المرج، وتظاهرت بالإقامة فيه قريبا من الشجرة. في المساء لما آوت النعاج أمام الخيمة، تظاهرت بالقيام بحلبها، وكأنّها عمياء، فتقبض على ذيولها بدل الضرع. صاحت الفتاة من فوق: «لا يعمّة لا تُحلب الشياه من ذيولها كما تفعلين!». ترجّتها العجوز أن تهبط لتساعدها على حلب شياهها بالطريقة المناسبة مدعية العماء. أخذت الفتاة منها عهدا على أن لا تمسها بسوء. حينذاك نزلت من أعلى الشجرة، وساعدتها على حلب النعاج، ثم عادت إلى أعلى الشجرة. في الغد تظاهرت «الستوت» بأنها تقوم بقلي الحبوب ووضعت الطاجين مقلوبا. صاحت الفتاة من أعلى الشجرة لتنبهها إلى سوء استعمالها للطاجين، فطلبت منها أن تنزل لتساعدها. حينذاك نزلت الفتاة ونسيت أن تطلب منها العهد بالأمان. حينذاك خرج حرس السلطان من مخبئهم وقبضوا على الفتاة. قاسوا الشعرة الطويلة على شعر رأسها، تأكدوا من كونها هي صاحبة الشعرة التي يريد السلطان أن يتزوجها. حملوها إلى السلطان.. عرض عليها الزواج، وافقت ولكن بشرط أن تصطحب معها أخاها الغزال ليرعى في حديقة القصر دون أن يتعرض له أحدٌ بمكروه.

يعود بنا الكلام للأب وزوجته الشرسة وابنتهما الشوهاء. وصلوا إلى مملكة السلطان وأقاموا فيها. ولكي يجدوا ما يقتاتون به خرج الأب مُتَسَوِّلاً. جاء إلى باب القصر ذات يوم يطلبُ حَسَنَةً. سمعت الفتاة الحسناء صوته فأطلّت من نافذة القصر وتعرّفت عليه. أرسلت له خبزة مع الخادمة حشتها بالذهب. حملها إلى بيته دون أن يدري بما فيها. لما عاد إلى الكوخ قسم الخبزة فتناثر الذهب أمام أعين زوجته وابنتها. قالت الزوجة: «ليس هناك من يمنحك الذهب من غير ابنتك لونجا؟ !.. لنذهب إليها!». قاموا بزيارتها.. رحّبت بهم، وعفت عما بدر من زوجة أبيها في السابق من تصرفات ضارّة بها وبأخيها. استضافتهم لعدة أيام في قصر السلطان. أخبرتهم أنها حامل. ازدادت غيرة الزوجة الشرسة وابنتُها منها وعوّلا على الكيد لها.

بينما كانت لونجا تُعَرِّفُ زوجة أبيها وابنتها بغرف البيت لاحظت زوجة الأب أن هناك غرفة مغلقة نصح السلطان زوجته بأن لا تفتحها وخبّأ مفتاحها في مكان لا تعرفه!.. حرّضت زوجة الأب لونجا على أن تقتحم الغرفة وتشاهد ما فيها، وأوحت لها بأن السلطان قد يكون تزوّج عليها دون علمها. ثارت غيرة لونجا وألحت على زوجها بأن يسلم لها المفتاح. لما تسلمت المفتاح وفتحت الغرفة عثروا فيها على بئر. قامت زوجة الأب الشريرة بدفع الفتاة لتقع فيه، ثم جعلت ابنتها تبدو وكأنها هي زوجة السلطان. شعر السلطان بما حصل من تغير في صفات زوجته؛ فسألها: «لماذا تغيّر لون بشرتك؟.. بعد أن كان نقيا مورّدا، وأصبح مجدورا داكنا؟!». أجابت: «بسبب ماء بلدكم الذي أصبحت أغتسل به!». سألها مرّة أخرى: «ما به شعرك بعد أن كان طويلا مسترسلا.. أصبح قصيرا مجعّدا؟!». أجابت: من صابون بلدكم الذي أصبحتُ أغتسل به!». احتار السلطان في الأمر، وزادت حيرته لما طلبت منه أن يذبح الغزال!. ولما أراد تذكيرها بشرطها عدم التعرض له بمكروه، معتقدا أنها لومجا، قالت له أنها غيرت رأيها في الموضوع، وكانت أمها قد أوصتها بالإصرار على ذبحه وأن ترسل لها بشيء من لحمه لتأكله!.. شاهد الغزال (شقيق لومجا) حرس السلطان يهيّئون السكاكين لذبحه وسلخه ويضعون القدور على النار استعدادا لطبخه، قصد البئر الذي كانت قد ألقيت فيه شقيقتُه، حيث كانت تقبع في قاعه وكانت قد وضعت مولودا ذكرا أجلسته فوق إحدى ركبتيها، وكان هناك ثعبانٌ يسكن قعر البئر، التجأ إلى حجرها متخذا منه موقعا لإقامته لا يبرحه إلاّ لما يستبدّ به العطش فينزل ليشرب من نبع الماء في الأسفل. نادى الغزال بأعلى صوته شاكيا: «لُونْجَا يَا بَنْتْ اُمَّا السْكَاكَنْ مْضَاتْ وَاَلَقْدُورْ غْلَاتْ وْخُوكْ اَلَغْزَالْ رَاحْ يْمُوتْ؟!»107. ردّت عليه من أسفل البئر شاكية: «خُويَا يَا اَبْنَ اُمَّا.. وَلْدَ اَلسُّلْطَانْ عْلَى رُكْبَه وَاَلَحْنَشْ بُو سَبْعَه رُوسْ عْلَى رُكْبَه؟!»108. سمع السلطان وحرسُه صوت لونجا فسارعوا جميعا، وأطلّوا عليها. طلبت منهم أن يذبحوا بقرة وأن يملحوا شيئا من لحمها ويدلّوه في قفة. فعلوا ذلك، فأعطت اللحم الْمُمَلَّح للثعبان، الذي أكله ولما شبع منه عطش. غادر ركبتها ونزل إلى النبع.. حينها جلست في القفة مع صغيرها وطلبت منهم أن يرفعوها إلى الأعلى، وهكذا تم إنقاذهما من الثعبان، وروت لزوجها ما حصل!.

قام السلطان بقتل الفتاة الشريرة الشوهاء وجعل لحمها في كيس وأرسله إلى أمها فوق حمار، وعندما وصل الحمار ظنت ما وجدته في الكيس لحم الغزال، شرعت في التهامه. كان هناك قطّ يحوم حولها ولما لم ينل حقه من اللحم قال لها: «تِيسْ.. تِيسْ.. لَحْمْ اَلْعَوْرَاء فِي اَلتَّلِّيسْ.. وَكَّالَةْ لْحَمْ بَنْتْهَا!»109. نهرته قائلة: «كَسْ.. اَلْعَوْرَاء فِي خِيرْهَا وَخْمِيرْهَا!..»110 واستمرت في الأكل إلى أن عثرت على عين ابنتها العوراء. حينذاك صرخت ووقعت مغشيا عليها.

قصد السلطان «الدبّار»111، أشار عليه بكيفية فكّ سحر الغزال وإعادته إلى هيئته البشرية، قام بمعاقبة زوجة الأب الشريرة بسحلها في الطريق العام.

7) لونجة بنت الغولة112:

كانت هناك غولة وابنتها اسمها «لونجة»؛ خرجت الأم لتحتطب، وبقيت لونجة ذات الثديين الضخمين، تقوم بالعناية بهما. مرّ رجل، شاهدها فأعجبته، ارتمى على ثدييها ورضع منهما. قالت لونجة: «لوأنّك لم ترضع من ثدييّ لأكلتك.. لقد نجوتَ بفضل ما أقدمتَ عليه!». ثمّ أضافت: «لكن كيف أخفيك؟. ستعود أمي الغولة بعد قليل، وإذا ما وجدتك فإنها دون شك ستلتهمك!». أخفته في حوض طحن الزيتون113، وغطته بالطاجين114 وثقبته في الوسط لكي يتنفس، وأمرته بأن يمسكه من الداخل. حين رجعت أمها من الغابة قالت: «إنّي أشمّ رائحة الغريب في بيتي!». ردّت لونجة: «ومن يجرؤ على الاقتراب من بيتك يا أمي وأنتِ غولة يهابها الجميع !». طلبت الأم من لونجة أن تحضر لها شيئا من اَلْحِنَّاء والماء. قامت بخلطهما ثم نادت على أواني المنزل: «يا قراوجي يا حراوجي، اقتربوا مني لأحنّيكم !»115. تقدّمت إليها جميع الأواني، ما عدا الطاجين الذي عجز عن الحركة لأن الرجل كان يمسك به من الداخل؟!.. تساءلت الغولة عن سبب رفض الطاجين التقدّم؟!.. قالت لونجة: «إنه عجوز مثلك، غير قادر على الحركة.. هات الحناء لأحنيه بنفسي!». لمّا أقبل الليل سألت لونجة أمها: «متى يا أمّي تستغرقين في النوم؟ !». قالت الغولة: «حين تسمعين الحيوانات التي التهمتُها تصيح في بطني، حينذاك أكون في سبات عميق !». وسألت الأم بدورها ابنتَها: «وأنتِ، متى تنامين؟!». قالت لونجة: «عندما يَنْبُتُ الملح116 الذي أنثره في فراشي !». انتظرت الأم نوم ابنتها، وهي تنتظر ظهور النبات من تحتها !.. غير أن ذلك لم يحصل. غلبها النعاس فنامت، ولما تصايحت الحيوانات في بطنها، قامت لونجة وأحضرت سَرْجًا117 وضعته في فراشها، ثم بصقت على جنبه، وعند العتبة !.. أخذت معها الرجل ورحلت. لمحهما الديك فصاح: «كوكو.. كوكو118.. يا مهراس119.. لونجة خطفها رجل؟ !». تحرّك المهراس وأحدث جلبة أيقظت الغولة. نادت على لونجة، فأجابتها البصقة بجانب السرج: «أنا هنا بجانبك !».

تلمّست الفراش فوقعت راحة يدها على السرج، اطمأنّت قائلة: «نامي يا ابنتي وسأذبح الديك الكذاب غدًا!». عاد الديك مرة أخرى يصيح: «كوكو.. كوكو.. لونجة خطفها رجل !»، وتحرك المهراس مرة أخرى واستيقظت الغولة فنادت على لونجة. أجابتها هذه المرة البصقة الموضوعة على العتبة، فجاءها الصوت بعيدا، حينذاك شكّت الغولة في الأمر ونهضت وجرت تتبع آثارهما. وصلت عند النهر، وكانا قد اجتازاه، بعد أن توجّها له بعبارات المديح والإشادة، فغاض ماؤه وسمح لهما بالعبور. وجدته هائجا، لمّا عجزت عن اجتيازه نادت الغولة على لونجة قائلة: «ماذا قلت للنهر لكي يهدأ!». قالت لونجة: «لقد شتمته، افعلي ذلك ثم ألقي بنفسك بين أمواجه!». قامت الأم بشتم النهر وألقت بنفسها في النهر فأشرفت على الغرق، وقبل أن تموت دعت عليهما بأن تتحول الفتاة إلى طاجين وأن يتحول الفتى إلى قصعة. لكن لونجة قالت لها: «لقد قسوتِ علينا، لا تنسي بأني ابنتك؟ !». حينذاك خفّفت من دعوتها عليهما قائلة: «لتتحوّلي أنت إلى شمس، وليتحوّل فتاك إلى قمر!». ثم أضافت: «اذهبا وفي طريقكما وعندما تشاهدان صراعا بين طرفين لا تحاولا أن تفصلا بين المتخاصمين!».

في طريقهما وجدا رجالا يقتتلون. همّ الفتى بأن يتدخّل للفصل بين الطرفين، ذكرته لونجة بوصية أمها، فتجاهل الأمر. واصلا طريقهما إلى أن شاهدوا أطفالا يتعاركون، أراد الفتى أن يتدخل للفصل بينهم، ذكرته لونجة بالوصية فامتنع وتابعا طريقهما. تكرر الموقف عدة مرات، وفي الأخير شاهدا صقرين عظيمين يقتتلان. رفض الفتى الانصياع للنصيحة، وتدخّل للفصل بينهما. أطبق عليه أحد الصقرين بجناحيه وطار به عاليا، وقبل أن يبتعد به وجه كلامه للونجة قائلا لها: «واصلي الطريق ستجدين خادمة، سترشدك إلى بيتنا !». تابعت لونجة المشي، وفي الطريق اعترضتها خادمة دلّتها على بيت الفتى. قامت لونجة بنت الغولة بالتهام الخادمة، وارتدت جلدها وقصدت البيت. سألت لونجة والدة الفتى قائلة لها: «أين أعلق كيس متاعي يا لالاّ120؟!». استغربت الأمّ، وقالت لها: «كأنّك تدخلين البيت أول مرّة..لا تعرفين موضعك؟!.. سأخبرك لآخر مرّة.. إنّه في الإصطبل مع الكباش!». عاملها أهل البيت على أنها الخادمة، فكان طعامُها من النُّخَالَة121، ومرقدُها بين الكباش. أحسّت لونجة بالوحشة، غير أنها صبرت. كان يحطّ أمامها كلّ يوم طائرٌ، يتوجه إليها بالسؤال: «ماذا تعشّيتِ يا لونجة وأين بتِّ؟!»، تجيبه قائلة: «تعشّيتُ النخالة وبتُّ بين الكباش !». يردّ غاضبا؛ داعيا على والديه: «أحرق الله والديّ !» ثمّ يمضي.

ذات يوم ظلّ والد الفتى خارج المنزل لبعض الوقت، وصادف مجيئه وصول الطائر، سمعه يتحاور مع من ظنها الخادمة، وينهي كلامه بالدعاء على والديه بالحرق!. توجّه الوالد إلى «الدبار»122 وروى له ما حدث. نصحه بأن يستدعي لونجة لتقيم في غرفة العائلة وأن يطعمها مما يأكل هو وزوجته. فعل ذلك، وانتظر مجيء الطائر في المساء، فكرّر قوله موجها الكلام للونجة: «ماذا تعشيتِ وكيف نمتِ؟!». ردّت عليه هذه المرّة قائلة له: «تعشيت كُسْكُسًا123 من سميد ونمتُ مع سيدي ولالاّ!»، حينذاك دعا لوالديه قائلا: «رحم الله والديّ!». قصد الوالد مرّة أخرى «الدبّار»، وأخبره بما حدث. أمره بأن يذبح ثورا عند نبع الماء، وقال له:«ستأتي الطيور لتأكل وتشرب، ولما تشبع ستغادر المكان، ولن يبقى سوى ذلك الطائر الذي يأتي إلى الخادمة كلّ يوم، سيكون عاجزا عن الطيران، حينها اضربه برفق على جناحه، سوف يتحول إلى هيئة بشرية؛ إنّه ابنك الغائب، اعتني به ليعود إلى هيأته الأصلية!». قام الوالد بما أوصاه به «الدبار»؛ وتحول الطائر إلى إنسان شديد الهزال، صغير القامة، حمله ووضعه في القطن إلى أن نما وعاد إلى هيئته الأصلية فتى قويّ البنية.

ذات يوم أبدى الفتى رغبته في الزواج، ولما سألته أمه عن الفتاة التي اختارها زوجة؛ أشار إلى الخادمة التي تعيش معهم. استنكرت الأم الأمر، وذكّرته بـأنّ والده هو سلطان البلاد، وسيكون أضحوكة للناس إذا ما أصر على الزواج من خادمة. لما بلغ الأمر سمع الوالد استشار الدبار الذي نصحه بالقبول. في يوم العرس دخلت النسوة لكي يضعن الحنّة في كفها، فوجدنها وهي في جلد الخادمة، بشعة. ذكروا ذلك أمام المدعوين، وأصبح الناس يهزأون من ابن السلطان الذي تزوج من خادمة بشعة. دخلت أمّ الفتى على الزوجة عنوة فوجدتها ذات جمال ساحر!.. وذات يوم لما كان الفتى جالسا بين أصحابه أمام المنزل، أطلقت الأم سراح الكباش من الإسطبل، فخرجت، نادت حينذاك على لونجة لتسرع بإعادتها إلى الداخل. رأى رفاق الفتى لونجة فانبهروا بجمالها، وسألوه كيف جعل من خادمة شوهاء امرأة فائقة الجمال. أراد أن ينتقم منهم لأنهم كانوا يعيّرونه لما تزوجها. ذكر لهم أنه جعل الماء يغلي وصبه على جسدها فتحولت إلى امرأة بهذا الجمال. قام رفاقه بتطليق زوجاتهم وأتوا بالخادمات وصبوا عليهن الماء المغلي، فقتلنهنّ جميعا!.. واستردّوا زوجاتهم، وأصبحت المملكة خالية من الخادمات.

لاحظ السلطان في بيته أن عدد كباشه يتناقص كلّ يوم، ذهب إلى «الدبّار»، فنصحه بأن يضع على جسده جلد كبش وينضمّ ليلا للكباش في الاسطبل ليراقبها. فعل ذلك، فوجد أن زوجة ابنه لونجة تدخل الاسطبل في منتصف الليل لتلتهم واحدا منها، ولما وجدته قالت: «إنه كبش سمين !». نزع حينذاك جلد الكبش، ولما تعرفت عليه قالت: «كيف لي أن أتعرّض بسوء لحماي، ستصيبني اللعنة؟!». حدّث ابنه في الأمر، قائلا له: «لقد تزوّجت غولة، وسوف تأكلنا جميعا!». قرروا حينئذ أن يهربوا ويتركوها في المنزل، ادعوا بأنهم مدعوين لحضور عرس، وسيتركونها لحراسة المنزل، وخرجوا حاملين كل ما يحتاجونه، وتركوا لها الفرس. في طريقهم كانت بصحبتهم ابنتهم الصغيرة، تذكّرت أنها نسيت صحنها الذي تتناول فيه وجبات الطعام، فعادت إلى المنزل. وجدت أن الغولة لونجة قد التهمت الفرس، وفرشت جلدها وعلقت أحشاءها حول رقبتها، ووضعت قوائمها على كتفيها. قالت البنت، وهي ترتعد من الخوف: «لقد نسيت صحني الذي لا يمكنني أن آكل في غيره!». قالت لونجة بنت الغولة: «ماذا ستقولين لأهلك عندما تلتحقين بهم؟!». قالت البنت الفطنة: «سأذكر لهم بأنّ عمّتي لونجة الجميلة كانت جالسة على زربية بديعة، وقد علّقت الجواهر والحلي الذهبية على صدرها ووضعت سترة من الحرير على كتفيها!». أعطتها الصحن وسمحت لها بالعودة، ولما وصلت عند أهلها روت لهم ما شاهدت. تأكدوا حينذاك من أنهم نجوا من الموت.

8) «حَبّْ الزِّينْ»124:

كانت هناك أسرة تتكون من الأب والأم وطفل. مرض الأب فأوصى ولده وهو يحتضر بأن يتجنّب أكل ما لا يملكه. كان الولد بارّا بأبيه فعاهده على أن يعمل بوصيته مهما كانت الظروف. كبر الطفل في كنف أمّه، يسعى لتوفير لقمة العيش لنفسه ولوالدته عن طريق العناية بالبستان الذي تركه له والده. كان يقوم بسقيه وتنقيته من الأعشاب الضارّة ويعمل على زيادة محصوله. ذات يوم بينما كان منهمكا في ريّ البستان اعترضته حبّة رمّان كبيرة وناضجة، حملتها المياه في الساقية، أخذها والتهمها بنهم، فقد وجد في مذاقها حلاوة وطراوة لم يعتدها فيما أكل سابقا من رمّان. تذكّر فجأة وصية أبيه، ووقع في حرج كبير، وازداد شعوره بالندم على تسرعه في أكلها، وهو لا يعلم مصدرها !.. فمن المؤكّد أن الماء جرفها من بستان غير بستانه، ويكون قد وقع في المحضور لما تناولها وهي ملك غيره. اشتدّ به الفزع، وعاد إلى البيت مغتمّا. حاولت أمّه أن تهوّن عليه الأمر مقترحة عليه البحث عن صاحب الرمانة والاعتذار له؛ إن قَبِلَ الاعتذار يكون خلاصُه، ويزول عنه شعورُه الأليم بالذنب. جدّ في الاستقصاء والبحث عن صاحب الرمانة من بين جيرانه الفلاحين الذين تمرّ مياه السواقي بأملاكه. عثر على شيخ ادّعى أنه صاحب الرمانة. كان الشيخ من الدهاة، ورغب في أن ينسج علاقة مع هذا الشاب المصرّ على الوفاء لوالده بهذا النزوع المثالي، رغم أنّ الأمر ليس بهذه البساطة، إذ تصعب معرفة صاحب البستان الذي جرفت منه المياه الرمانة، بل يستحيل ذلك!.. اشترط عليه لكي يعفو عن فعلته ويسامحه أن يتزوّج من ابنته، التي ادّعى أنها تعاني من الإعاقة؛ عاجزة عن المشي على قدميها لكنها بإمكانها استخدام يديها لقضاء شؤونها.

طلب الشاب من الشيخ أن يمهله بعض الوقت ليستشير والدته. عاد إلى المنزل وعلامات الخيبة بادية على وجهه. بادرته أمه بالسؤال عن نتيجة مسعاه وعن سبب ازدياد غمّه؟. فروى ما جرى له مع الشيخ. استبدّت بها الحيرة، وبقيت تقلّب الأمر على شتى وجوهه وانتهت إلى الموافقة على هذا الزواج رغم ما سيحمله من حزن على مستقبل الفتى اليافع المقبل على المستقبل بكلّ عنفوان، ووافقت في نهاية المطاف على القبول؛ فهي تخشى من أن يقضي الشعور بالذنب على مستقبل ولدها أكثر مما يحصل له نتيجة زواجه بامرأة كسيحة، فرغم أن وجودَها في البيت سيجعلها عالة عليهما. قالت في نفسها: «عسى الأمر يهون عند التعوّد، ثمّ إننا سنتقاسم ثقل المعاناة مما قد يهوّن عليه!».

أبلغ الشيخ بالموافقة، وعين تاريخ الخطوبة، وفي اليوم المعيَّن قصد بيت الشيخ بصحبة والدته. تم الاتفاق على المهر وعلى تحديد يوم الزفاف. في اليوم الموعود، وما كاد المدعوون ينصرفون، وهم يُمْطِرُونَ الفتى بنظرات بدتْ عند بعضهم هازئةً، وعند البعض الآخر مُشْفِقَةً، حتى حدثت المفاجأة!. وتبيّن للشابّ ولأمه الرؤوم أن ابنة الشيخ فتاة فائقة الجمال، هي من أجمل النساء خَلْقًا وخُلُقًا، وقد أراد الشيخ أن يكافئ بها هذا الشاب المثالي، كما أن الفتاة رغبت فيه ووافقت على الزواج منه لمّا حدّثها والده عن خصاله. كانت الفتاة تُدْعَى «حبّة الزين». أدخلت البهجة في بيت الأسرة الصغيرة، بَادَلَتْه الْحُبَّ، وأصبحتْ موضوع حديث الناس عن جمالها الفائق. عاشا في سعادة غامرة، إلى أن طرق باب بيتهما ذات يوم طارق، ولما خرج الشاب ليتعرّف على الشخص الذي قصد بيته، وجد أمامه رجلا غريبا لم يسبق له أن رآه من قبل، طلب الضيافة، واسمُه «عارب هلال». كان الناس يعرفون دهاءه ومكره، ولما شاع خبر جمال المرأة قرّر الاستحواذ عليها وافتكاكَها من الشابّ ذي التجربة المتواضعة في الحياة. حمل معه مخدِّرًا، وما أن وضعت «حبّة الزين» أمامه طعام الضيافة، حتى سكب فيه في غفلة من الشاب السائل المُسْكِرَ في الجهة التي يغرف منها الشابُّ الطعام!. أُغْمِيَ على الشابّ المسكين، وقام «عارب هلال» باختطاف الزوجة وأخذها إلى بيته في الصحاري القصيّة.

شاور الشابّ والدته في أمر الخروج للبحث عن زوجته واسترجاعها من خاطفها، وأبدى حيرته لأنه لا يعرف موضع إقامة الرجل والطريق التي توجّه إليها. فكرت الأم الحكيمة في الأمر، ونصحته بأن يبحث عن صديق لوالده، كانت بينه وبين الوالد المتوفّي مودّة كبيرة ووفاء لا ينضب، فيستعين به في محنته هذه. ولكنه تساءل: «كيف لي أن أعرف هذا الرجل ولم يسبق لي أن التقيته؟!». أشارت عليه بأن يضع فوق حصانه شواري125؛ إحداها مملوءة خبزا أبيض من القمح، والثانية مملوءة خبزا أسود من شعير، ثم يخرج إلى الطريق ويمر بالناس الذين يسكنون في الجوار ويعرض عليهم ما يحمله من خبز، سَيُقْبِلُ الجميع على الخبز الأبيض، بينما صديق أبيه الوفيّ سوف يَقْنَعُ بالخبز الأسود. بهذه الطريقة تعرّف على صديق أبيه، رحّب به وأبدى استعداده لمساعدته في محنته والخروج معه بحثا عن «حبّة الزين». رحلا معا يجوبان الفيافي ويمران بالمدن والقرى بحثا عن «عارب هلال»، وفي ارتيادهما للصحاري وجدا في طريقهما راعيا يعرف هذا الشخص، وقد سمع بما يدور من حديث عن امرأة جميلة جاء بها إلى خيمته، غير أنها بكماء غير قادرة على النطق، وهو جادّ في البحث عمّن يداويها ويُرْجِعُ لها قدرتها على الكلام، وهو مستعدّ أن يبذل كلّ ثروته في سبيل ذلك!. اتفق الشاب مع الشيخ على أن يقدما نفسيهما لـ«عارب هلال» على أنهما قادران على إعادة القدرة على النطق لـ«حبّة الزين»؛ يقوم الشيخ بدور الحكيم، بينما يقوم الشاب بدور مساعده.

أمام عتبة خيمة الرجل البدويّ، تقمّص كل منهما دوره، فرحّب بهما الرجل وأبدى استعداده لتقديم كل ما يطلبان، فهو ينتظر بفارغ صبر أن تعود المرأة لهيئتها الطبيعية لكي يتمكن من الزواج منها، فهي في حالتها الراهنة عاجزة عن الكلام، تصدّه كلّما اقترب منها، وقد جلب لها الفقهاء والسحرة، ولم يتمكن من فكّ عقدتها. حدّثهما عن الأنعام التي يمتلكها، وعن جملين يعتني بهما؛ أحدهما قادر على قطع مسافة ثلاثة أيام في مدة ساعة والثاني أسرع منه، يقطع مسافة سبعة أيام في نفس المدّة. استمع الرفيقان بانتباه لكلّ المعلومات التي أدلى بها. وعده الشابّ بِبُرْءِ المرأة مما تعاني، وعدهما بمكافأتهما على صنيعهما. أحضر البدويّ «حبّة الزين» وما أن رأت زوجها حتى اندهشت، وكادت أن تصيح من شدّة الفرح!. فأشار عليها خفية بأن تلتزم الصمت والهدوء. شرع الشيخ يخطّ الطلاسم على وريقات يقدمها له الشابّ، وكان قد أعدّها مسبقا ووضعها في جيب سترته. ثم ناولها لـ«عارب هلال» الذي وضعها بدوره في كف يد «حبّة الزين». تلقّت إشارة من زوجها الشابّ فبدأت بالحديث والترحيب بالحكيم ومساعده وشكرهما على ما قاما به من أجلها!. فرح الرجل فرحا لا يوصف وزغردت أمّه التي كانت في أقصى الخيمة ترقب ما يحصل من بعيد.

حينئذ طلب الشيخ من «عارب هلال» أن تقوم «حبّة الزين» بتحضير كُسْكُسٍ باللحم ليحتفلوا بهذه اللحظة السعيدة. لمّا حضرت المرأة الطعام قامت في غفلة من أصحاب الخيمة بسحب المخدّر الذي كان قد استعمله «عارب هلال» وسكبته في الطعام، في الجهة التي يأكل منها خاطفُها. حينذاك سقط أرضا مغشيا عليه. قام الشيخ والشاب وحبة الزين، فامتطوا الجمل الأقلّ سرعة دون أن ينتبهوا للأمر. لما أفاق «عارب هلال» روت له أمه ما حدث. امتطى الجمل الأسرع، واتبع أثرهما إلى أن اقترب من الموضع الذي وصلوا إليه. حينما رآه الشيخ من بعيد دبّر حيلة أخبر بها رفيقيه. طلب منهما أن يمضيا لوحدهما على ظهر الجمل، وسوف يقوم باعتراض طريق البدويّ ليعطّل سيره ويدبّر حيلة للتخلص منه. ارتمى في الطريق، وقد مرّغ ثيابه بالتراب، وأحدث خدوشا في وجهه، وادّعى أن شابّا وشيخا وامرأة كانوا يمتطون جملا مرّوا به وسلبوا منه متاعه وضربوه، وتركوه طريحا. أشار عليه «عارب هلال» بأن يصعد على ظهر الجمل خلفه لأنّ عدوّهما واحد ولاشكّ أنهما مدركاه إن عاجلا أو آجلا. في الطريق سلّ الشيخ الداهية سكينه من تحت ثيابه وطعن البدويّ فأرداه قتيلا، وتابع طريقه إلى أن لحق بالشابّ وزوجته. عاد الجميع إلى محلّ إقامتهم، وشكر الشابّ الشيخ ووعده بأن يظلّ وفيّا لصداقته مثل أبيه يسعى لتلبية أي طلب يصدر عنه.

مضت الأيام والسنون رُزِقَ الشابّ والمرأة الجميلة خلالها بثلاثة أبناء، ولما عرف الشيخ ذلك قرّر أن يختبر وفاء ولد صديقه للعهد الذي قطعه معه. أرسل له طالبا منه أن يسلمه أبناءه الثلاثة لكي يذبحهم ويشرب من دمهم، مدعيا أن مرضا أصابه ولا شفاء له إلا بالتضحية بهؤلاء الأطفال. اغتم الشابّ وزوجته، وأصابهم الذهول من هول ما طُلِبَ منهما، غير أن الشابّ قرر أن يوفي بالعهد وأن يستجيب لطلب صديق أبيه، مهما كانت طبيعة التضحية.

خلال بضع سنين قام الشيخ الحكيم بتربية الأولاد أحسن تربية، حتى كبروا وأصبحوا شبابا يافعين، وأخذهم مصحوبا بزوجته وقصد بيت ولد صديقه لزيارة الأسرة الصغيرة. أثار مرأى الشبان الثلاثة مشاعر الذكرى الأليمة لفقدان فلذات كبدها، وقالت في نفسها: «لو أنهم عاشوا لكانوا في سنّ هؤلاء الصبية أبناء الشيخ الذين بدوا في أحسن صورة!» . لمّا انتهى الضيفان من مأدبة الضيافة، صارح الشيخ الزوجين بالمفاجأة التي هيأها لهما بمناسبة هذه الزيارة؛ قائلا لهما: «هؤلاء أبناؤكم وما قمتُ به قصدت منه اختبار وفائكما والقيام بواجب التربية الحسنة لهؤلاء الأبناء، أعتبر ذلك وفاء مني لذكرى جدهم الذي كان من أعزّ أصدقائي!». عمّت الفرحة العظيمة أرجاء البيت وعاش الجميع في سعادة تقوم على الحبّ والوفاء.

 

الهوامش

1. لبطل الضديد anti-héro مصطلح مستخدم في الدراسات السيميائية (مدرسة باريس)، ويُقصد به الشخصية التي تمثل خصما للبطل. يقع عليها التبئير من قِبَلِ السارد، يُسْنَدُ لها برنامج سردي مضادّ للبرنامج الذي ينفّذه بطل الحكاية. يقابل عند فلاديمير بروب مفهوم «المعتدي» أو «البطل المزيف».

2. استعملنا هنا مصطلحا هو اسم فاعل من «تَحَرَّى»، والذي نرى أنه الأنسب بدل مصطلح «باحث» الذي شاع استعماله بين الدارسين، وقد جاء اختيارنا هذا مستندا إلى جهود الدارس السيميائي رشيد بن مالك الذي قدم في كتاباته النقدية مراجعة عميقة للمصطلحات الشكلانيّة والسيميائيّة المستخدمة في الدراسات العربية، مقترحا المصدر «تحرّي» كمقابل لـ«Quête»، وهي وظيفة أساسية تأتي في مجموعة الوظائف التي تُفْتَتَحُ بها الحكاية عادة، ويشير مدلولها إلى مسار فعل البطل في الحكاية ودوره في تحرّي الحقيقة واسترداد الموضوع المفقود أو المُغتَصَب. أما مصطلح «بحث» المستخدم في النص المستشهَد به، والمستمدّ من ترجمة إبراهيم الخطيب، من الأنسب أن يكون معادلا للمصطلح الفرنسيrecherche. يُنظَر المرجع الموالي.

3. فلاديمير بروب، مورفولوجيّة الخرافة، ترجمة ابراهيم الخطيب، الشّركة المغربيّة للنّاشرين المتّحدين، الرباط-الدّار البيضاء، 1986، ص 47.

4. نفسه، ص49.

5. : مخطوط. الترجمة من عندنا.

- Le discours féminin du conte : une analyse sémio-narrative du conte :

- Une analyse sémio-narrative d’un corpus de contes algériens, thése présentée pour l’obtention du doctorat d’état en sciences des textes, option « Littérature », par Kamel ABDOU, sous la direction de Mr Charle BONN ; professeur à l’Université Lumière, Lyon, France, soutenue à la Faculté des lettres et des langues, Université « Mentouri », Constantine, 2003.

6. نفس المرجع. الترجمة من عندنا.

7. نفس المرجع. الترجمة من عندنا.

8. عنوان الحكاية هو اسم البطلة. روتْها: أم الخير بوزيدي بالعربية الدارجة. جمعها وصاغها بالعربية عبد القادر خليفي، سنة 1989، من منطقة مشرية (قريبا من الحدود الجزائرية المغربية). وضع هامشَها عبد الحميد بورايو.

9. عبارة تُسْتَهَلُّ بها جلسة الحكي المسائية، رائجة في عدة مناطق من البلاد المغاربية، التي تستعمل العربية الدارجة، وهناك ما يقابلها بالأمازيغيّة، وهي عبارة «أَمَا شَاهُوسْ» (يَا مَا حَكَوْا!).

10. في منتهى الجمال.

11. معنى العبارة «كان حينذاك التراجع على تنفيذ العهد أمرا صعبا».

12. مناسبة يُدعى فيها جمع من النسوة أو الرجال للتعاون في إنجاز عمل يتطلب مجهودا جماعيّا تطوّعيّا، لا يقدر

13. معلّمو القرآن وحفّاظُه.. يُستفتون في الأمور الشرعية.

14. القسم.

15. معنى العبارة: «لا نستطيع أن نبيح لك الزواج منها».

16. لقد أقسمت.

17. أخوك يريد أن يتزوّجك.

18. تذكّري نعمي عليك.. لمّا أشرع في تسريح شعر رأسي.. اخطفي من يدي المشط واهربي لكي ألحق بك وأتمكن بدوري من الهرب.

19. ارتفعي بي أيتها الصخرة.. أخي ولد أمي أراد أن يتزوجني.. ارتفعي.. ارتفعي!

20. يا دلالة ابنتي انزلي لكي أراك.

21. كان من الممكن ذلك لو بقيت أما لي. لكنك أصبحت أمّ زوجي وأصبحت زوجة لولدك.

22. يا دلالة أختي أنزلي لكي أراك.

23. كان من الممكن ذلك لو بقيت أخا لي. لكنك اليوم أصبحت أخا لزوجي.

24. يا دلالة بنتي أنزلي لكي أراك.

25. كان من الممكن ذلك لو بقيت والدي. لكنك اليوم أصبحت حَمًا لي.

26. إن استطعتِ القبض على دلالّة أجعلك غنيّة بمشيئة الله.

27. أنزليني.

28. اصعدي بي.

29. وعاء مصنوع من جلد الماعز المجفف والمدبوغ بغرض الحفاظ على درجة حرارة الماء.

30. أيتها العجوز.. أنت لا تعرفين كيف تملئين الماء.. القربة مقلوبة.

31. يا بنيتي رحم الله والديك.. املئي لي الماء.

32. من يمسك بها أجعله غنيّا.

33. أكلة شعبية مغاربية.

34. آنية طعام.

35. هذا ما جرى لي.. قطع أخي يديّ.. هذا ما فعل بي

36. شكّلي عجينة من الطين.

37. أيها الغراب جئني بيدي من خيمة أبي، وأكافئك بجزة صوف تفرشها لأولادك.

38. يا أمّي الحدأة جيئيني بيدي الأخرى من خيمة أبي الشرقية، وسأكافئك بجزّة من الصوف.

39. نقشوا.

40. البئر.

41. أذّن يا مؤذّن عند رأسي، أراد أخي أن يتزوجني، وغرّت بي العجوز، وخدعتني النسوة، جعلنني حجر ملح وادّعين دفني في قبر منسيّ.

42. لونجة بنت أمّي. روتها خديجة بنت أحمد. جمعتها طلبة دزيرية. بالعربية الدارجة. من وادي سوف. 1979.

43. عبارة استهلالية نمطيّة تحمل معنى دينيا، فيه دعاء بالهداية إلى الإيمان، وتذكير بالرسالة المحمدية، وإشارة إلى عملية الاختلاق والانتقال الشفاهي للرواية المحالة إلى الزمن القديم جدّا، ولطبيعة التواتر السردي للحكاية.

44. عبارة نمطية تعني المرأة الفائقة الجمال.

45. عجلة من حديد أو خشب يُستعان بها في إخراج دلو الماء من البئر.

46. عمّي وعميمتي هما التسميتان اللتان تدعو بهما الزوجة (أو الكنّة) والد زوجها ووالدته.

47. جنس بمعنى جنّ وإنس بمعنى إنسان.

48. أنا إنسان إن وجدت إنسانا يتزوجني.

49. غولة (كائن خرافي متوحش، قد يظهر في هيأة إنسان)

50. يا لونجة ابنة أمي.. تم سن السكاكين وهيّئت القدور وأخوك سيُذبح ليؤكل.

51. يا علي يا ابن أمي اصبر كما أنا صابرة.. شعر رأسي الطويل يحجب عني الرؤية والثعبان يتوسّد ركبتيّ.

52. أمرالمنادي يُنادي.

53. لتقبلوا جميعا حاملين الحطب.

54. عبارة نمطيّة تُخْتَتَمُ بها حلقة سماع الرواية، وفيها دعوة إلى العودة إلى الواقع من خلال جملة تنبيهية.

55. الراوية: السيدة زبيدة عبدو زوجة: زبيلة، الجامع: كمال عبدو، مدينة جيجل-الجزائر 1977 صاغها باللغة العربية: عبد الحميد بورايو.

56. الستوت: شخصية نموذجية تظهر في الحكايات المغاربية؛ تتصف بالدهاء والمكر والفضول والقدرة على وضع الحيل.

57. الغنجاية: أصل الكلمة من اللهجة الأمازبغية، وتعني المغرف المستخدم في تحريك الأكل داخل القدر.

58. لغايطة: آلة موسيقية، مُسْتَخْدَمَة في بعض المناطق المغاربية يُعْزَفُ عليها بالنفخ فيها.

59. أشمّ رائحة ابن السلطان في بيتي.

60. أحيطوا بي يا آنية بيتي.

61. آنية فخارية كبيرة الحجم تُخَزَّنُ فيها المؤونة.

62. يا وادي الأوساخ تمادى في جنونك.

63. حكاية شعبية جزائريّة، نشرتها مُتَرجمة إلى اللغة الفرنسية، في الخمسينيات من القرن الماضي دورية «سيمون»: Simoun : Aspets de la Littérature populaire en Algerie, 6e année, Edition Baconnier, Alger.

- ترجمها من الفرنسية إلى العربيّة: عبد الحميد بورايو.

64. الراوية: السيدة يخلف زوجة تيتي، الجامع: الآنسة كريمة تيتي (ابنة الراوية) ، نقلها: كمال عبدو، مدينة جيجل-الجزائر 1978، صاغها بالعربيّة: عبد الحميد بورايو.

65. مَضْغُ اللُّبَان في المجالس في الوسط التقليدي يُعَدُّ سلوكا صبيانيّا، قد يُقْبَلُ من الفتيات الصغيرات، لكنه يُعَدُّ سلوكا أخرق بالنسبة للمرأة الكبيرة وللعجوز بصفة خاصة، وكذلك التزيّن والغناء، فهي دليل على قلّة الحياء، والابتعاد عن الوقار، والسير في طريق الغواية.

66. لباس تقليدي، من الصوف أو الوبر، اشتهر به الأمازيغ (البربر) منذ العصور القديمة، ولا يزالون بستعملونه في الريف المغاربي.

67. الراوية: السيدة يخلف زينة زوجة تيتي، الجامع: كمال عبدو، مدينة جيجل-الجزائر 1978، صاغها بالعربية: عبد الحميد بورايو .

68. درابل: خِرَق.

69. لوساتها: أخوات زوجها.

70. لجملة الأخيرة تمثل نطق الزوج لصيغة تطليق زوجته.

71. الراوية: السيدة زبيدة عبدو زوجة زبيلة، الجامع: كمال عبدو، مدينة جيجل-الجزائر 1977، صاغها باللغة العربية: عبد الحميد بورايو

72. أمْم!..: صوت يُتَلَفَّظُ به، يكون بضمّ الشفتين وتمديد صوت الميم، مصحوبا بتحريك الرأس من الأعلى إلى الأسفل عدة مرات، يُؤَدَّى في موقف التعجّب الممزوج بالاستهزاء. بقيّة العبارة تعني: يامن تشبه عيناه عيني أمه، وحاجباه مثل حاجبي أمّه (كناية على الرقّة المفرَطة، التي تُقرّب الرجل من صفات المرأة).. هل أنت فعلا تملك هذه الصدرية الثمينة التي ترتديها أم هي مُعَارَة؟؛ وهي عبارات تعني التحدّي والإعجاب في نفس الوقت.

73. اَلْقَاطْ: لباس تقليدي، عبارة عن صدرية من القطيفة الْمُطَرَّزَة بخيوط الذهب أوالفضّة.

74. إذهبي إلى دارنا وانظري كيف هي أحوالنا.

75. عبارة دارجة مجازية تعني سوء الحال والفقر المدقع (الترجمة الحرفية: بماذا.. ونحن لا نملك سوى القمل)

76. كناية على حالة العذرية، ولعلها هنا بيانٌ لوضعيتها الاجتماعية، واستعدادها لأن تكون زوجة مقبولة، وفق العرف.

77. عبارة فيها سخرية من وضعية العينين (اَلْحَوَل)، لعلها هنا في ردّها القاسي تعلن عن تطيّرها من منظر البنت، لأن العادات الاجتماعية في المجتمع التقليدي، بخصوص طقوس أيام الزواج الأولى، تولي اهتماما خاصا بالفأل في صبيحة ما بعد الدخلة، ويُعتقد في تأثير ما تستقبله العروس، في هذه الصبيحة، على عمليّة الإنجاب.

78. في الوسط الذي تُتَدَاوَلُ فيه الرواية، تدلّ نفس الإشارة بهزّ الكفين المتحاذيين والموجهين للأعلى إلى المعنيين معا؛ الثروة والأعضاء التناسلية.

79. صيغة تعني الأمر بالزغردة.

80. كلمة لا تعني شيئا ويبدو أنها تورية يُقًصد منها المرأة الساقطة، استعملتها الراوية لتتحاشى ذكر الكلمة الأصلية الدالة على الفحش.

81. جلاّبيّة: لباس تقليدي.

82. أحشاء الحيوان المذبوح.

83. الراوية: السيدة يخلف زبيدة زوجة تيتي، الجامع: كمال عبدو، مدينة جيجل-الجزائر 1978، صاغها باللغة العربية: عبد الحميد بورايو.

84. بهلول: ذو سلوك غير سويّ.

85. القفاطن: لباس نسوي احتفالي تقليدي مُستعمل في الحواضر المغاربية.

86. برنوس: لباس تقليدي مغاربي رجالي تلبسه العروس في حفل العرس.

87. القعّادة: إناء من فخار يُحفظ فيه الماء.

88. الراوية: السيدة عبدو زبيدة زوجة زبيلة، الجامع: كمال عبدو، مدينة جيجل - الجزائر 1977، صاغها باللغة العربية: عبد الحميد بورايو

89. «اطلع.. اهبط» عبارة مجازية تُستَعمَلُ في العربيّة الدارجة الجزائريّة بمعنى «كُنْ نَشِطًا وحقّق ما يُفِيدُكَ».

90. الكسكسي: أكلة شعبية مغاربية، تُصنع من الدقيق المفتول.

91. الطمّين: أكلة مغاربية تُصنع من الدقبق المحمص.

92. الراوية: السيدة زبيدة عبدو زوجة زبيلة، الجامع: كمال عبدو، مدينة جيجل-الجزائر1977، صاغها باللغة العربية: عبد الحميد بورايو.

93. المكحلة: البندقيّة .

94. بْحِيرَة: حقل.

95. اَلَكْفُوفْ: جمع كفّ، هو باطن اليد. المقصود هنا المبارزة بالعراك الجسدي، والضرب باليدين.

96. 4 الجفنة: آنية كبيرة من الطين أو الفخار تٌستعمل لأكل الكسكسي بصفة جماعية.

97. القفطان: من الحلل التي ترتديها النساء في المناسبات الاحتفالية.

98. عبارة نمطية تُخْتَتَمُ بها جلسة رواية الحكاية.

99. روتها فاطمة باعزيز من أزفون، جمعتها وترجمتها من اللغة الأمازيغية (اللهجة القبائلية) ذهبية آيت قاضي. راجع صياغتها عبد الحميد بورايو.

100. شجر شوكي.

101. روتها فاطمة بعزيز من منطقة أزفون. جمعتها ذهبية آيت قاضي وترجمتها للغة العربية. راجع صياغتها عبد الحميد بورايو.

102. جمع خابية: وعاء كبير الحجم مصنوع من الطين أو الفخار، تُخَزَّنُ فيه المؤونة من الحبوب والفواكه الجافة.

103. جمعتها جميلة فلاح من خنشلة، سنة 2007. راجع صياغتها عبد الحميد بورايو. روايات هذه الحكاية تحمل أحيانا عنوان: لُونْجَة بَنْتْ اُمَّا، وهي العبارة التي يرددها الطفل المسحور في نهاية القصة عندما يتقرر ذبحه وهو في هيئة حيوان فينادي مستغيثا.

104. زجة من الصوف: ما يغطّي ظهر واحدة من النعاج.

105. يعرك: يدلك.

106. كسرة: خبزة.

107. لقد سُنّت السكاكين، وهُيّئت القدور وأخوك الغزال سيُذبح.

108. يا شقيقي.. ابن السلطان يجلس على إحدى ركبتيّ بينما يقيم الثعبان على ركبتي الأخرى.

109. يوجد لحم العوراء في الكيس وهذه المرأة تأكل لحم ابنتها.

110. اذهب من هنا فابنتي تعيش في أحسن حال.

111. شخصية نمطية تقوم بدور الحكيم.

112. جمعتها ذهبية آيت قاضي من آزفون (منطقة القبائل)، سنة 1997.

113. أرضية دائرية الشكل تتم تهيئتُها لعصر حبّ الزيتون.

114. وعاء من الفخار يُستعمل لإنضاج الخبز.

115. قراوجي: لعبي المصنوعة. حراوجي: أواني.

116. عبارة تعني حدوث المستحيل لأن الملح غير قابل للنمو.

117. مقعد من خشب مغلّف بالجلد يوضع على ظهر الخيل ليريح الراكب.

118. صوت صياح الديكة.

119. أداة من خشب أو نحاس تُستَعمل للهرس (طحن النباتات المجففة).

120. لالاّ: التسمية التي تدعو بها الزوجة أمّ زوجها في البلاد المغاربيّة.

121. النخالة: قشر حب الشعير، يُطعم به عادة الحيوان، ويضطر لأكله الفقراء.

122. الدبار: شخصية نمطية يُقْصَدُ منها «الحكيم».

123. الكسكسي: أكلة معروفة في الوسط الزراعي والحضري في شمال إفريقيا منذ العصور القديمة.

124. جمعها بالقبائلية (لهجة أمازيغيّة)، ونقلها إلى اللغة العربيّة «بن الشريف المرابط» من منطقة البويرة. راجع صياغتها عبد الحميد بورايو.

125. الشواري: حاوية مصنوعة من الحلفاء منقسمة إلى شطرين؛ توضع على ظهر الدابة، وكل شطر ينزل إلى إحدى جنبيها ليكون هناك تعادل بينهما. تُستعمل في الوسط الفلاحي بغرض حمل المؤونة من حبوب وخضروات على ظهر الدواب.

الصور

1. http://www.sothebys.com/content/dam/stb/lots/PF1/PF1036/PF1036-15-lr-1.jpg

2. http://paintmalta.com/wp-content/uploads/2016/02/Distant-Shores.jpg

3. https://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/thumb/f/f0/WomenofAlgiers.JPG/767px-WomenofAlgiers.JPG

4. https://i.pinimg.com/originals/9a/11/40/9a1140b6f4f941dab5075a5396b4d28d.jpg

5. https://www.mfa.org/collections/object/algerian-girl-32704

6. https://artmight.com/Artists/Langlois-Jean-Charles/Langlois-Jean-Charles-Algeria-242107p.html

أعداد المجلة