فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
35

الهلالية من السيرة إلى المسرح

العدد 35 - أدب شعبي
الهلالية  من السيرة إلى المسرح
كاتب من مصر

الدخول إلى عالم السيرة مسرحيًا

هذه التجربة حصاد عشر سنوات من السعي وراء السيرة الشعبية ورواتها، بحثًا وتنقيبًا ومعايشةً واجتهادًا للوقوف على ظاهرة الأداء الشعبي الحي وعناصره وقدرته على البقاء مهما تعرض من مزاحمة حداثة الصورة وتقنياتها.

على مدى عشر سنوات من عام 1984 حتى 1994 تعاملت خلالها مع شعراء السيرة ورواتها والمداحين الشعبيين وفناني الموال والمؤدين التقليديين مرورًا بشمندي القناوي من الأقصر، هذا الفنان الذي كان يصر دائمًا أن يُطلق عليه صفة الشاعر، وفَريدة مازن مَدَّاحة غجرية من الأقصر أيضًا وكانت تنشد السيرة على الدف، ومحمد صبرة ومحجوب صبره (مداحان من القليوبية)، وعلي الوهيدي منشد من الدقهلية، وخضرة محمد خضر من القليوبية، وفاطمة سرحان من الغربية، وعزت وشوقي القناوي من قنا، وصولًا لتجربة جمعت فيها اثنين وخمسين فنانًا تقليديًا من مختلف مناطق الجمهورية شعراء ومداحين ورواة وفناني موال وموسيقيين شعبيين في عرض شاركت به على هامش مؤتمر السيرة الشعبية الذي عقد بجامعة القاهرة ومركز حضارات البحر المتوسط بباريس في الفترة من 2 : 7 يناير 1985، والذي قُدم على مسرح السامر لثلاث ليال متواصلة، جمع حوله العديد من الباحثين والدارسين والعاشقين للفن الشعبي، خرجت من هذه العروض بثلاث تجارب هي:

الأولى سنة 1985 تحت عنوان: تنويعات على فنون الأداء لشعراء السيرة (جامعة القاهرة).

الثانية سنة 1985-1986 مسرحية السيرة الهلالية للكاتب يسري الجندي (وكالة الغوري - مسرح السامر).

الثالثة سنة 1991 دار الأوبرا المصرية (شاعر السيرة الهلالية منفردًا).

خلافًا لتجربة رابعة قدمت فيها ليلة بني هلال للمؤلف يسري الجندي للمسرح الحديث عام 1994، وافتتح بها ملتقى المسرح العربي بالمسرح القومي في العام نفسه.

وسأقتصر فيما هو آت على تجربة السيرة المسرحية عام 85 - 86 التي حازت على جائزة الدولة التشجيعية في الإخراج المسرحي عام 1986.

1. الولوج إلى عالم مسرح السيرة دراميًا:

نحن بصدد التعامل دراميًا مع سيرة شعبية ظل ينشدها رواة محترفون سنوات طويلة، استطاعت أن تستولي على وجدان الجماعة، وظلت مخزونًا حيًا داخل الذاكرة الجماعية تستعيدها الشعوب العربية كلما مرت بهم محنة أو انكسار، فقد ازدهرت السيرة الهلالية في مصر أيام انهزام الثورة العربية، وتغنى بها الفلسطينيون أثناء ترحالهم الدائم في رحلة الشتات والنضال، وتنتشر من اليمن جنوبًا إلى تونس على الأرض العربية غربًا تحاكي هذا الانكسار البغيض في البنية العربية المعاصرة، وعلى الوجه الآخر فإنها الصبر والسلوى، فمازال رواتها حتى الآن يروون حروب الفريقين (قبائل بني هلال مع الزناتي خليفة)، (فرسان زناتي ويا هلايل)، فنرى كيف أن الخيال الشعبي قد برع في وصف المعارك وخيالها وبسالتها، وهناك من يأخذ السيرة الهلالية من باب متعة القص والإبحار في عالم الخيال والشوق إلى البطولات الشعبية التي يتحمس لها والتباس شخصياتها وتقمصها وتقليدها في أدائها وأزيائها وسلوكها وهيأتها، وأخذ مواقف من أحداثها.

1.1 . المعالجة المسرحية للكاتب يسري الجندي:

إنها لمهمة صعبة أن يتعرض كاتب مسرحي لسيرة مثل السيرة الهلالية بما تضمه من أحداث وشخوص بكل زحام أحداثها وتنوع في الأماكن والزمن في حيز الـقالب المسـرحـي بحـدوده المعروفـة، لـذا فقـد أراد الكاتب يسري الجندي أن يتعرض للسيرة بكامل خطوطها وأحداثها وشخصياتها الرئيسة ليصل إلى رؤيته التي رأى أنه لا يمكن أن تنجلي إلا بتناول كل مراحل هذه السيرة كاملة، ذلك أنه كان يرى السيرة انعكاسًا لواقعنا المعاصر بكل تناقضاته وشعاراته. لذا حاول أن يصوغ السيرة في قالب مسرحي يعتمد على لعبة الأقنعة والرواة المحدثين والتشخيص داخل أطر متنوعة الأمكنة والأزمنة في مضمون يدور محوريًا حول التناقضات القبلية وما سوف تؤدي إليه هذه التناقضات مستعيدًا تقديم السيرة منذ مولد (أبي زيد الهلالي) انتهاءً بالمذبحة الجماعية بعد غزوات أرض تونس وما آلت إليه من هلاك الجميع وحصاد الهشيم.

وباعتبار أن المسرح لغة تكثيف وتعبير، فقد لخص يسري الجندي العديد من أحدث السيرة وصولًا إلى الهدف المراد تحقيقه، بلغته الشاعرية الخاصة التي جمعت بين الفصحى والعامية، والشعر والنثر في نسيج متجانس من مسرحية رائدة في مجال المسرح الشعبي العربي، فجاءت رؤيته على النحو التالي:

الفصل الأول:

المقدمة (ديوان الجحيم) الذي ابتعث فيه المؤلف كافة شخصيات العرض.

ديوان الغراب – أمنيات خضرة وميلاد أبو زيد.

ديوان القحط – ما جرى لنجد من جفاف عيون المياه وما أصابها من قحط وجوع.

ديوان الريادة – رحلة أبو زيد ومرعي ويونس ويحيى للبحث عن أرض خضراء.

الفصل الثاني:

ديوان التغريبة - الحرب والاتجاه ناحية الغرب.

ديوان الفتح - فتح تونس.

ديوان القتل المتقابل - ما وصلت إليه من نتيجه لقتل للجميع.

النهاية.

1. 2 . التجربة المسرحية (دراما السيرة الهلالية):

1. 2. 1 . الرؤية الإخراجية: منهجان للعرض:

كانت محاولة دخول السيرة عالم المسرح شاقة بكل المقاييس، فقد كانت تتطلب الوعي بكل تفاصيل وعناصر العرض الشعبي، وذلك لأسباب متعددة، منها:

أولًا: يجب أن أطرح هنا رؤيتي، بوصفي مخرجًا للسيرة الهلالية، بمفهومي الخاص عن الإخراج المسرحي، الذي أراه عملية إبداعية لا تقل عن التأليف، فالإخراج إعادة خلق للنص خلقًا جديدًا وليس نقل كلمات النص من أسطر مخطوطة أو مطبوعة إلى ألسن المؤدين داخل مساحة زمنية ومكانية محددة، وإنما هو عمل إبداعي بالضرورة يبحث عما وراء الكلمات معتمدًا على فكر المخرج وتفسيره، الذي تم على أساسها اختيار هذا النص، مُعيدًا طرحه من جديد كي يصبح النص تكأة الدخول إلى عالم جديد زاخر يشيده المخرج مستعينًا بفنون العرض المسرحي وأدواته، كي يخلق منها حياة كاملة خاصة، لا تقل عن حياتنا المُعاشة، بل تتفوق عليها بالتكثيف وعمق الدلالة، وبُعد المعنى، يكثف عالمًا كاملًا في سويعات قليلة، يقدمه في عرض واحد يحمل المتعة والفكر معًا.

ثانيًا: انطلاقًـا من هـذا الـفهم جاء تنـاولـي لـدراما السيـرة الهـلالية حـيث كان أمـامـي طريـقـان للعـرض:

1. التوسل بتقنيات المسرح الغربي وأدواته التي شاعت وتوفرت أدواتها، ويلجأ إليه الكثير من المخرجين باعتباره قالبًا جاهزًا ومضمونًا وبخاصة أن النص المسرحي المؤلف الذي نحن بصدد التعامل معه متسع الإطار، ومتعدد الأحداث والشخوص وكثيف الأحداث مما سيقودنا حتمًا إلى هذا الاتجاه.

2. اختيار العرض الشعبي بكل تقنيات عناصره التي سيأتي ذكرها بعد.

واخترت الطريق الثاني الذي يعبر عن روح الشعب المصري، لذا اتجهت إلى البحث والتجريب في فنون العرض الشعبي الذي يستند إلى مكونات أساسية هي: فضاء العرض، جسد المؤدي، الامتداد الزمني، الإيقاع، التداخل بين المؤدين والجمهور الذي يلعب دورًا أساسيًا في شكل العرض ويعطي للمتلقي خصوصيته.

ثالثًا: إن للسـيرة الـهـلالـية لـغتها وصـورتها الفنيـة وموسيقاها الخاصة بها، وطرائق أدائها، وشكل عـرضهـا وتشخيصـها، الأمر الـذي يختلـف كل الاختلاف عن الأشكال الفنية للملاحم الغربية.

ولذا فإن التعامل مع هذه السيرة إخراجيًا - بعد التعامل معها تأليفًا في نص يسري الجندي - جاء متجاوزًا احتمالات اتجاهي الخاص للمدرسة الغربية بشكل واضح، ومعتمدًا على محورين أساسيين هما:

1. الرجوع بالعمل إلى أصله الموروث المروي من خلال عدد من رواة السيرة (شعراء الرباب) وخلق علاقة غير تعسفية بين النص المكتوب والنص الشفاهي.

2. الخروج بالعرض من دائرة الخشبة المسرحية التقليدية التي تحاصر المخرج في مفردات العرض الغربي، إلى لقاء شاعر الربابة بجمهوره، لتحقيق لقاء فني يتم بين العرض والجمهور في شكل حلقة يحيط بها المشاهدون.

وهكذا تركنا المجال فسيحًا بين طرفين أساسيين يتنافسان في تقديم العرض: «الممثل»، «شاعر الربابة»، فوق خلفية معمارية تراثية من لون العرض هي وكالة الغوري فنشأ جسم العمل بالغ البساطة، لا يتنافر مع إطاره المعماري، بل اتحد معه بفضل مفردات مادية بسيطة، من ملابس وديكور وأثاث وأدوات مسرحية، ولم يكن هناك تأثير مستقل لأي من عناصر العرض، بل تضافرت جميعها في هدوء وانسجام، بعيدًا عن أي محاولة للإبهار أو الإلحاح، إنما في خدمة المضمون الذي تقودنا إليه السيرة حول طبيعة الشخصية العربية والواقع العربي في صراعاته وتمزقاته المدمرة التي تحاصر دومًا حلمنا العربي.

لقد اعتمد عرضنا هذا على المنهج التالي:

1. التخلص من الخشبة التقليدية للمسرح والنزول بـالعـرض إلـى قلـب صـالـة وكالـة الغوري إلى وسط الجمهور.

2. كسر الخط التقليدي للمسرح الغربي باللجوء إلى التخلص من الأقنعة، ليحل محلها فن التشخيص حيث لم يعرف المسرح العربي استخدام الأقنعة، بل كانت الكلمة والتشخيص هما عماد المسرح العربي.

3. استخدام الموروث الشعبي الحي من خلال شعراء السيرة الشعبية ليقترن النص الشفاهي والنص المؤلف في تناغم.

4. التأكيد على قدرة الشاعر الشعبي تفجير ذاكرته وإعـادة طرح النص الـمروي مـن خلال معتقداتـه وتنوع أدائه والسيـطرة على الأدوات المخـتارة مـن السيرة لصالح فكرة نص المؤلـف حين يبعث الـراوي أبطالها عـبر الصياغة الشعبية من جوف الماضي وليجسدهم العرض أمـامنـا في الـزمـن الحاضر، لنحاكمهم مسرحيًا داخـل الـوجـود الحقيـقي الـذي نعيشه.

5. المزج بين الماضي والحاضر معًا في إطار زماني ومكاني واحد.

6. التأكيد على فن التشخيص لشاعر السيرة حيث يقوم بالحكي عن شخصية ما، ثم يقوم في اللحظة التالية بتجسيدها والتحدث بلسانها دون أن يرتدي قناعًا أو يغير من ملابسه أو مكانه ليدخل أحيانًا في حوار مع بعض شخصيات العرض من الممثلين.

7. هناك مستويان للرواة، رواة محدثون ورواة شعبيون كل يتحدث بلسان زمنه تأكيدًا على العلاقة بين الماضي والحاضر في مباراة ساخنة ساخرة.

هذه العناصر كلها اندمجت في بوتقة واحدة وكيان وموقف واحد، والعرض في مجمله عرض خشن يندرج تحت مسمى المسرح الشعبي، فن المواجهة لا فن الرشوة، إنها محاولة أيضًا كي نعيد إلى الأذهان أمجاد مسرح الكلمة التي هي أهم مرتكزات تأصيل المسرح العربي وخصوصيته.

1. 2. 2 . عناصر العرض:

كان لابد من الرجوع إلى متن السيرة بداية من الكتب التي تحمل اسمها عناوين كثيرة ومختلفة، والتي حملتها الكتب الصفراء لمطبعة صبيح بالأزهر والـجـمـهوريـة بـكلوت بك وباعة الـكـتـب الـقـديمة، والدراسات النقدية والتاريخية والأدبية للسيرة، ثم الاتكاء على شعراء السيرة الأحياء منهم، ونصوصهم المسجلة على شرائط كاسيت، للوقوف على أحداث السيرة وتنوعات الأداء وقدرات الشعراء الشعبيين، ثم الاختيار الدقيق لأجزاء من النصوص الشفاهية التي تتناسب مع النص المؤلف الذي نحن بصدد التعامل معه، لخلق نسيج من النصين يتم استكماله بالأداء التمثيلي والغنائي والموسيقي والحركي والإطارين التشكيلي والمعماري والذي سيتشكل من حلبة يتحلق حولها الجمهور لتدور أحداث العرض وبذلك تتكون عناصر العرض من:

1. عرض فني شعبي بكل أدواته مكون من نصين:

نص المـؤلـف يسـري الجندي بـرؤيته وقراءته الـجـديـدة للسـيرة.

نص شفاهي مختار بدقة من السيرة الشفاهية للشاعر عزت القناوي.

2. إطار شعبي شكل بكل أدواته (مكان - ديكور - أزياء - اكسسورات - ملابس).

3. أداء شعبي ممزوج بين القص والتجسيد غناء وتمثيلًا.

4. جمهور مشارك متفاعل يتحلق العرض دون انعزال.

5. ممثلين قادرين على أداء.

ولـذلـك تشكلـت عناصر العـرض المسرحي مـن الآتـي:

نص مسرحي مؤلف للكاتب يسري الجندي (سبق الحديث عنه).

نص شفاهي عن السيرة الهلالية (راوي السيرة).

مكان العرض.

الممثلين.

الموسيقيين.

السينوغرافيا (ديكور - ملابس - اكسسورات وخلافه).

الأداء التمثيلي.

الأداء الغنائي.

الحركة - الإيقاع (رسم الصورة على المسرح).

2. محاور العمل: (مكان العرض)

2. 1. 1 . الإطار المادي المعماري والتشكيلي

وكالة الغوري:

هي واحدة من المعالم الرئيسية في الطراز المعماري الممـلوكي العتيق بـحـي الأزهر الشـريف، أنشـأها السلطان الغوري في القرن التاسع الهجري، تتوسطها مساحة مستطيلة هي صحن الوكالة، يتربع في منتصفها نافورة إسلامية مثمنة الأركان يبلغ ارتفاعها حوالي 40 سم، وحول هذا المستطيل تقف مجموعة من الأعمدة الإسلامية الشامخة تحمل مجموعة من المشربيات والبواكي أسفلها عدد من الأبواب الصغيرة لأماكن كانت تستخدم لمحلات التجار أيام السلطان الغوري تعلوها ثلاثة أدوار تستخدم لإقامة هؤلاء التجار الوافدين من كافة الأنحاء، حيث يقيمون بالقرب من تجارتهم، كانت ساحة لسوق عربية شهدت أيامًا مجيدة واحتفالات وليالي عربية مزدهرة. تعرض من عبق هذا المكان سيرة بني هلال لعرض شعبي عربي، ويشارك المتلقين في صنع تلك الليلة. من أجل هذا كان منهج العرض هو الإطار المفتوح باستخدام ارتفاع النافورة بشكلها المثمن (دون أن نطمس معالمها الأثرية) فقط سيتم تغطيتها لتصبح منصة للعرض عارية تمامًا تتوسط صحن المكان الذي هو ساحتنا المكانية للعرض - يخرج منها طريقان أحدهما يمين والآخر يسار تستخدم بين الحين والآخر في دخول وخروج شخوص العرض من وسط الجمهور، يغطي منذ بدايته، مجموعة من الدكك الخشبية حول هذه المنصة من الجانبين يجلس عليها الشعراء الشعبيون وشخوص العرض، وأيضًا جمهور الحاضرين، الذي يتـحلقـها من كـافة الاتجاهـات، ويخـتـرق الممثلون الحضور أحيانًا دخولاً وخروجًا بل جلوسًا وتحاورًا أحيانًا أخـرى، وهكـذا ستصـبح صالة الحضور محيطًا يلتف حول المنصة لتتوحد منطقة الأحداث والأداء بمنطقة التلقي، إننا هنا نسعى إلى إلغاء التقسيم المتعارف عليه في المسرح التقليدي.

وعلى هذه المنصة العارية التي يتحلقها الجمهور من كافة الجوانب تجري أحداث المسرحية في لقاء حميم بين العرض ومتلقيه، تستخدم شرفات الوكالة وأعمدتها وطرقاتها حيث تمثل المستويات العليا من شرفات المشربيات والبواكي، مستويات السلطة - على اليمين الأعلى تكون جلسة «السلطان حسن» سلطان بني هلال، بدكك خشبية وإطار من الخيش وسروج الخيل وسيوف ودروع وفي المقابل الأيسر الأعلى تقام جلسة «الزناتي خليفة» حامي أرض تونس يتوسطها كرسي حديدي لامع براق تتقاطع أمامه حربتان حاداتان سامقتان وسيفان عربيان مبالغ فيهما حد مبالغة السيرة في وصف جسارة الزناتي خليفة، بل استخدمت الشرفة العليا من الجهة اليسرى موقعًا مرتفعًا «للزناتي خليفة».

وستظل تلك الأمكنة بعلوها الشامخ حدًا فاصلًا بين السلطة والشعب ولن ينزلا إلى ساحة المعركة «السلطـان حسن والـزنـاتـي خلـيفة» إلا للـدفاع عن نفسيهما وعن مصالحهما الشخصية وليس دفاعا عن قضية الشعب، وبذلك ستظل حركتنا تتكون من هذين العنصرين: السلطة والشعب منفصلان طوال القسم الأول، أما القسم الثاني حين تصير مصلحة السلطة مهددة يلجأ السلطان إلى النزول وسط الجماهير سعيًا إلى حماية مصالحه.

تظل أمامنا مشكلة تعدد أمكنة أحداث السيرة وهي كثيرة ومتشعبة ولم يكن أمامنا ونحن نلعب على ساحة عرض عارية سوى اللجوء إلى استخدام مفردات الإكسسوارات وقطع الـديكـور المتحـركـة: مجموعة من الدروع العسكرية والحراب والسيوف والطبول، ونماذج لأقنعة الخيل صنعت جميعها بشكل عربي تنسجم مع إطار الوكالة وستكون تلك المفردات البسيطة أدوات مهمـة في التعبير عـن النقـلات المكانية يستخدمها الممثلون بين حين وآخر وكلما لزم الأمر.

هي موجـودة ومعلقة علـى الحـراب مـنـذ الـوهلة الأولـى وأمام المشـاهـد تسلط على الإضاءة حـتى قبل أن يبدأ الشاعر بالصلاة على النبي ليعلن بدء العرض، مجرد أن يقوم أحد الممثلين بلبس عمامة الأمير وهي معلقـة علـى الحراب وأمـام الجمهور سيعطينا إيحاء أنه قد تحول إلى أمير، ويقوم أحد الممثلين بحركة تمثيل سير جمل أو حصان أثناء رحلة خضرة الشريفة بطفلها الذي لم يلقب بأبي زيد بعد، وتتم متابعته معها بحركة السير، وينقلنا من قبائل نجد إلى قبائل الزحلان برغم أننا لم ننتقـل مـن علـى منـصـة الـعرض... وهـكـذا تـحـدد أماكن أحداث مسرحيتنا من خلال ممثلينا بقطع الديكور والإكسسوارات المتحركة في أيديهم.. حتى عندما ننتقل إلى مملكة الزناتي خليفة، وهي مملكة برع الخيال الشعبي في تصويرها فوصفها بالمملكة الحديدية وبأسوارها العالية وبوابتها الشامخة عند ذلك تكون كتله الدروع في أيدي مجموعة من الحراس ذات دلالات على تماسك وقوة المملكة دون اللجوء إلى أي مبالغة في الديكور - لقد أقمنا سورًا من الدروع البراقة التي يحملها الممثلون بطول جسم الممثل وتفريغ فتحة أعلى الدروع يطل منه رأس كل فارس يحمل الدرع عند ذلك تبدو مملكة الزناتي بقوة تمسكها مملكة يصعب اختراقها وفي الحركة المسرحية يتحرك الزناتي خليفة تتبعه مجموعة الدروع من الأمام والخلف في حركة متتالية متابعة لحركته من خلال حراسه وعندما يقتل دياب الزناتي تنهار المملكة فتتفكك الدروع ويسقط شكل المملكة التي كانت حلما حاول الزناتي جهد طاقته الحفاظ عليها.. وفي المقابل فإن لسعف النخيل الأسود المحترق في أيدي بنـي هـلال دلالة القحـط والجـدب، كمـا أن الحراب الطويلة الحادة والسيوف القاطعة المبالغ فيها التي تتناسب مع مبالغة السيرة من ناحية وتأكيد فروسية الفوارس من ناحية والعلاقة بينهما وبين المعمار الأثري الضخم لوكالة الغوري من جهة أخرى تؤكد وجودها ورمزيتها داخل هذا الإطار الشاهق المعمار.

إن لبعض هذه الديكورات البسيطة والإكسسوارات المتحركة دورًا مهمًا في تحقيق التجاور والتداخل بين الأمكنة والأزمنة داخـل العرض، هكذا شكلـت هـذه المفـردات إطـار العـرض المسـرحي لسيرة بني هـلال. وهكذا تم الاتفاق مع المهندس حسين العزبي مهندس الديكور على الحفاظ على الإطار المعماري للوكالة واستخدامه دون الاعتـداء علـيه وتشكـيل وحداتـنا التشكيلية من ديكور واكسسوار وأزياء من روح المكان ووحداته التشكيلية والمعمارية، وقد حقق العزبي ما نرجوه مضيفًا إليه من إبداعه وتخيله وتشكيله ولمساته الفنية ما اتفق مع روح العرض الشعبية، الأمر الذي جعل العزبي يشركني معه في معظم أعماله المسرحية وأصبحنا معًا متلازمين في رحلة الوصول إلى شكل مسرح عربي الهوية.

2. 1. 2 . الممثلون:

الشخصيات الرئيسة في العرض:

أبو زيد: شخصية قوية حازمة أداؤه بين الالتزام والثورة متعقل في كثير من المواقف، حكيم في غير موضع - شجاع - فارس - مسالم.

دياب: قوي - جبار - شرس - قابض على الواقع - مواجه - صريح - فظ - مسيطر - طماع.

السلطان حسن: ناعم كالطاووس - مخادع - يهرب من المسؤولية - السيطرة خارج إرادته.

الجازية: قوية - جبارة - جميلة - عايقة، صريحة، مواجهة - شرسة في كثير من الأحيان.

الزناتي خليفة: فارس - قوي - شجاع - حريص على مملكته ويعشقها ويدافع عنها حتى النهاية - مسيطر على مقاليد الأمور- ولولا الخيانة التي غدرت به من أقرب الناس إليه - غير مؤمن بالسحر والنبوءة وضرب الرمل.

العلام: مراوغ - مداهن - خبيث - خائن - طماع.

سعدى: جميلة - فارسة - تلبس زي الرجال - تغلبها أنوثتها على شجاعتها فتلجأ للخيانة.

مرعي: حالم - جميل - هادئ - متشائم - يغلب عليه الحزن والكآبة.

القاضي بدير: مداهم - كذاب - طماع - مراوغ - طفس - يغلب عليه سمة الفكاهة والتهريج.

رواة محدثون - شعراء شعبيون.

مجاميع - عامة - حرس - رواة - موسيقيون.

إنتاجية العرض عام 1985 فرقة السامر – وكـالـة الـغـوري:

دعوت أعضاء فرقة السامر المسرحية لتنفيذ خطة هذا العرض للبدء في العملية الإنتاجية له - كانت فرقة السامر معنية بتقديم الاستلهامات الشعبية - درامية كانت أم احتفالية في عروض مسرحية - كنت المسؤول الأول عن الفرقة عام 1971. ولقد كانت رحلة الكاتب يسري الجندي معي مهمة، فلقد بدأت فرقة السامر بتقديم مسرحية علي الزيبق للكاتب نفسه في بداية مشواها في 1972، وأجزم أنها هي التي قدمتنا سويًا للحياة المسرحية الرسمية والجماهيرية بوصفه كاتبَا وبوصفي مخرجًا، فلقد كان نصيبها من النجاح وافرًا، تلتها للمؤلف نفسه أربعة أعمال أخرى ومن إخراجي أيضًا هي: حكاوي الزمان، عاشق المداحين، سلطان زمانه.

لذا لقد ائتلفنا العمل معا كاتبًا ومخرجًا، وأعضاء فرقة، وشكلنا مجموعة البحث والتجريب في عالم الموروث الشعبي وتميز أسلوبنا ومنهجنا في هذا الطريق.

دعوت أعضاء السامر وانضم إليها من الضيوف كل من الفنانين:

إبراهيم عبد الرازق - غسان مطر - عزيزة راشد - فاروق عيطة - مصطفى القط - سهير صبري - ميرفت مراد - نيرمين كمال - أحمد عقل - سعيد نصر وانضم إليهم من أعضاء فرقة السامر: محمد عبد الرازق - محمد الحديدي - كمال مدبولي - جمال قاسم - مجدي صبحي - هشام عبد الله - زيزي المقدم .. وآخرون.

أما التجربة الثانية التي قدمت على المسرح الحديث فقد كانت بطولة الفنانين: حمدي غيث - خليل مرسي - عزيزة راشد - فؤاد أحمد - سمير وحيد - لمياء الأمير - رمزي غيث - رحاب الغراوي - صلاح حفني - أحمد الشافعي - فؤاد عطية - مجدي محجوب - صافيناز - أحمد خليل.

بدأت بروفات القراءة الأولى والتفسير لما نحن مقدمون عليه. لقد استلزم ذلك ثلاثة أشهر في شرح السيرة الأصلية، وهالني أن كافة العاملين معي في هذا العرض لم يكونوا على دراية أصلًا بالسيرة الهلالية فقط هم قد سمعوا أحيانًا عن سيرة أبي زيد!!! واستلزم الأمر الرجوع إلى المصدر الأصلي للسيرة وصولًا للمنتج المراد الوصول إليه، وقضينا معًا ليالي طوال في سماع تسجيلات السيرة وتحليلها وتناول مدلولاتها وفك رموزها، سعيًا إلى تحقيق أكبر قدر من معايشة الموروث الشعبي نفسه من خلال مبدعيه ورواته، وكذلك من خلال القراءات الكثيرة سواء من النصوص القديمة أو الدراسات ثم محاولة الوقوف بكل هذا - من أو مع - النص الذي نحن بصدد الإقدام على التعامل معه، بدأنا سماع الشاعرين التقليديين: شوقي وعزت القناوي، وعرضت عليهم مجموعة كبيرة من تسجيلات الشعراء (جابر أبو حسين - سيد الضوي - النادي عثمان - شمندي متقال - محمد اليمني - عوض الله عبد الجليل)، وناقشت معهم ما قرأته حول السيرة بداية من الكتب الصفراء عن سيرة العرب الحجازية في رحلة العرب وحرب الزناتي خليفة.. إلى دراسات: د. عبد الحميد يونس، وفهمي عبد اللطيف، وشوقي عبد الحكيم، وعبد الرحمن الأبنودي، وعبد الرحمن أيوب، حيث إنني اعتمدت أساسًا على ضرورة أن يفهم الممثل طبيعة العرض ورؤية التناول لهذه السيرة، ثم دارت مناقشات طويلة حول نص يسري الجندي ومدى اتفاقه واختلافه مع نص السيرة القديم وما يحمله من رؤية عصرية لهموم المنطقة العربية الحاضرة والأمل في حلم يتحقق، وكذلك دراسة التناقضات القبلية التي حملها النص منذ بدايته لينتهي بحلم كاذب في أمل عربي، كذا ناقشنا ضرورات الربط بين النص التراثي الأصلي للسيرة ورؤية المؤلف وأيضًا طبيعة مكان العرض. كل ذلك قد استلزم منا وقتًا ليس بالقليل ولكنه كان ضروريًا، فالدراسة والفهم كانت أساسًا مهمًا حتى يقف أي ممثل حتى لو كان دوره ثانويًا داخل هذا العرض، على وعي كامل بمنهج التناول، فلم نتهاون ولم نفرط ولم نترك أي ثغرة بموضوعنا إلا وعالجناها قدر إمكاننا.

2. 1. 3. الممثلون (الأداء الحركي)

قلنا إننا سنتعامل مع خشبة مسرحية عارية تمامًا، وهي وكالة الغوري، وقد وضعنا نصب أعيننا استخدام هذا الإطار قدر استطاعتنا، وخلق التلاؤم بـيـنه - بـطـرقاته وشرفاته وبواكيه ومشربياته وأعمدته - ومتطلبات العرض، علمًا بأن التعامل مع كل هذه المفردات المعمارية الحية يستلزم الوعي بها وتقديرها أولًا، والحرص في استخدامها ثانيًا، حيث إنها من الممكن أن تطغى على العرض كله أو أن نقوم نحن بمحاولة التعدي عليها ومسخها بديكورات مصنوعة وساذجة، لذا فضلنا التعامل على الأثـر وفي ذهننا هذان الاعتباران، واستأذنا روح المكان في اللعب والتشخيص على ساحته، وفي استخدام بعض مكوناته بحيث نصل بمسرحيتنا تلك جزءًا منه وليس العكس، وعلى استيحاء تركنا العرض في ساحة الصحن مكفولًا للجميع.

2. 2. (إطار معماري):

منصة صغيرة هي أصلًا نافورة مثمنة التكوين ترتفع 40 سم - حولها مكان محتواه داخل الصحن للمشاهدين - أعمدة الوكالة تحتضن الجميع بسموقها وبهائها - لسنا هنا في مكان تقليدي - الرؤية محفوفة بالمخاطر - قد يبتلعنا هذا الإطار ببساطة شكله وثرائه إن لم نتوحد معًا، حتى لا نصطدم بخصوصيته أو نستسلم لها.

من هنا كان لابد من الاعتماد أساسًا على ممثلي السيرة ورواتها حيث أصبحت وكالة الغوري معمارًا يتعلق مباشرة بعرضنا وهكذا أخذ الممثلون سماتهم بين النص وبين العمارة.

أيضًا جاء الاهتمام كاملًا بحركة الممثل وأدائه وعلاقته مع باقي مفردات العرض، بالمكان، بأحداث المسرحية، بمواقف السيرة، وبعلاقته بالمشاهدين، وكانت هذه هي نقطة البداية مع الممثلين.

وبعد أن تمكنا من خلق علاقة بين النص المؤلف والنص الشفاهي الموروث كان لزامًا علينا أن نحكم القبضة على العرض، فهذا إطار مفتوح يجتمع فيه الممثلون بالمتفرجين دون حواجز أو ستائر، دخولًا وخروجًا وتمثلًا.. وجلوسًا بينهم في أحيان كثيرة، ومن هنا جاء التركيز على الحركة الجماعية للمثلين حتى تلك الحركة الفردية لبعض الشخصيات البطولية في السيرة، فقد اعتمدت الحركة في منتصف منصة العرض لتحتوي هي المكان بكل جوانبه مخاطبًا إياه بجمهوره الحاضر في كل اتجاه، وكنا نلجأ في كثير من الأحيان لأن يستخدم الممثل قطعة من إكسسوار العرض مثل «سيف أو حربة أو طبلة» في تشكيل جمالي لتأكيد وجوده وحضوره.

كان التعامل مع الممثلين تعاملًا جمعيًا، فلم يتم التركيز على بطل فرد، ولم تكن هناك شخصية محورية يدور حولها العرض، فنحن إزاء مجموعة العرض ككل، فهي جميعًا محور العمل كله، وهي جميعًا لب المشكلة بأسرها، لهذا لم تكن مسرحيتنا هي حكاية البطل أبي زيد الهلالي سلامة.. بقدر ما كانت سيرة بني هلال، تلك القبيلة العربية التي تعكس بدورها حال الأمة الراهن!

وفي إطار هذه المفاهيم راعينا التأكيد على العلاقات التالية:

1. العلاقة بين الممثل والنص المسرحي والنص التراثي والتناول الإخراجي، أي دخولًا مباشرًا في ثنايا الصياغة الجديدة للعرض الذي نحن بصدده.

2. العلاقة بين الممثل والإطار العام لمكان العرض «وكالة الغوري» أي كيفية التعامل مع منصة العرض. شرفات الوكالة، البواكي، الأعمدة، المداخل، وكيفية استخدام الممثلين كافة هذه المفردات كي يتخلق التآلف بين جسم الممثل وهذا الإطار.

3. العلاقة بين الممثل والجمهور حيث المنصة والحلبة التي يلتف حولها الحاضرون فيكملون العرض باعتبارهم جزءًا مشاركًا في السيرة تلقيًا واستجابة، فعلى الممثل أن ينتبه بوعي وعناية إلى أن العرض يتم وسط جماهير لا يجب تجاهلها أو الانفصال عنها بل يجب مراعاة ذلك في حركته على المسرح تمثيلًا وإخراجًا.

4. علاقة الممثلين بأدوارهم وأدوار الممثلين الآخرين والرواة الشعبيين، أحيانًا يكمل الشاعر الشعبي ما بدأه الممثل أو العكس، حيث يتسلم الممثل الموقف من النص الشعبي للسيرة فكلاهما يكمل دور الآخر ليندفع العمل للأمام... وكلاهما يعرف متى يبدأ ومتى ينتهي وأين يتداخل كل منهما مع الآخر، فمثلًا بعض المشاهد من «النص المسرحي» الرواة المحدثون: فلتبدأ التغريبة ولنر من سيقتل من؟. «النص الشفاهي» الشاعر الشعبي: يتسلم من الرواة المحدثين هو الآخر «أبو زيد لما راح يجيب الفدية نزل على نجد جاب الهلايل زحلان ودريد وزغابه وهلايل واتجه بهم ناحية الغرب إلى قاع تونس» ثم يبدأ الغناء.

إن الشاعر الشعبي يكمل الحدث بأداء تمثيلي أيضًا بل يفسر معنى التغريبة، على سبيل المثال، الذي جاء على لسان الرواة المحدثين موضحًا أنها الاتجاه ناحية الغرب إلى تونس، بينما يؤكد النص المسرحي أنه في هذه «التغريبة» سوف تجري أحداث جسام... فمن سوف يقتل من؟

ليصبح المشهد هكذا:

الرواة الـمحـدثـون: فلتبدأ التغريـبة ولـنر من سيقـتل من؟

الشاعر الشعبي: أبو زيد لما راح يجيب الفدية نزل على نجد الهلاليل زحلان ودريد وزعابة وهلايل واتجه بهم ناحية الغرب إلى قاع تونس (يكمل غناء من النص الشعبي).

النص المسرحي: من مشهد يشير فيه أبو زيد إلى ناحية تونس... هاكم مثال آخر:

الممثلون: تلك هي الجنة.. ممكلة الزناتي

مملكة الزناتي خليفة.. تونس الخضراء

النص الشفاهي: الشاعر الشعبي:

أنا الزناتي شِديد العَزَايِمْ

وحَامي بَرْ تونس

مَفِيش حَدْ غِيري يِشِدْ العَزَايِمْ

وِبَعْدِي يِخُشْ أرض تُونس

وهكذا نجد أن الشاعر الشعبي يعمق الصراع ويؤكد الحدث الوارد في النص المؤلف، إن السيرة الشعبية تؤكد ثقة الزناتي في نفسه بل توضح مدى جسارته، ودخول المعركة معه ليست بالأمر السهل والمأمون، لذا يجب الاستعداد له حسب ما جاء على لسان أبي زيد الهلالي في النص المسرحي: «ليس الزناتي ككل من قابلت من الملوك والطغاة، فبداخله شياطين الجحيم وبجوفه سبعة أرواح تتوالد.. لن يكون انتزاع تلك الجنة لهوًا أو عبثًا».

وهنا نرى مدى توافق وتطابق الاختيار من النص الشفاهي لتأكيد ما جاء بالنص المسرحي.. وهكذا نرى أن لكل دوره سواء في السيرة الشعبية أو النص المسرحي، وكيف يتم استخدام كل منها استخدامًا دراميًـا إلـى جوار الآخـر استكمـالًا أو توضيحًـا أو تـفسيرًا، هذا بالإضافة إلى ما أضفناه للنص الغنائي المأثور من شعبية ذات أهمية كبيرة، من حيث إنها أعادت الموضوع إلى أصحابه ثانية ولكن في صيغته الجديدة، فقربُت به إلى وجدان الجماهير وحققت معها عنصر الفرجة المسرحية.

2. 3. الإيقاع العام للعرض:

إن العلاقة بين الممثل والحركة المسرحية فرضتها طبيعة المكان والحلبة وما اتخذتها من شكل دائري فرض علينا ضرورة اتخاذ الحركة نصف الدائرية صيغة للتعامل مع جمهور الحلبة تلك الحركة التي تؤكد موضوعيًا سلسلة الصراعات التي يزخر بها العرض منذ بدايته بما لا يتفق والخطوط المستقيمة فكلها إما حركات متقاطعة أو مواجهة: الممثل يواجه الآخر ويلتحم معه فوق منصة العرض في المواقف التي تتطلب ذلك أو يتقاطع معه، وكلها حركات حية نابضة مشتعلة تدور في فلك الصراع القائم والمحتدم سواء بين قبائل بني هلال بتناقضاتها القبلية أو بينهم وبين خليفة الزناتي، حتى تلك التي تطلبه بطئًا في الحركة كمشهد القحط والجفاف وما أصاب الناس من ضعف وهزال قد بدت وكأنها تغلي من الداخل تبحث عن أمل في الخلاص، كما أن التعامل مع الحلبة قد فرض استمرارية الحركة ودورانها، وحيث إن ارتفاع المنصة لم يزد عن 40 سم، فقد تم أيضًا استخدام أرضية الصالة وأعمدة الوكالة وطرقاتها ومداخلها من وسيط الجمهور، فالرواة المحدثون يقف كل منهم في اتجاه: أحدهم في اليمين والآخر في اليسار والثالث وسط المسرح، وكل منهم يخاطب جهة حضوره، ثم ليخاطبوا بعضهم البعض أو ليدخلوا في محاورات عن الأحداث مع منصة العرض ثم يقومون باستبدال أماكنهم في حركة ديناميكية دفعتها أحداث العرض ومبرراته دون افتعال، كما كان استخدام الممثلين للعديد من الإكسسورات وقطع الديكور المتحركة من العناصر الفعالة التي ساعدت في تشكيل النقلات المكانية والزمانية لأحداث العرض على تحقيق التجاور والتداخل بين الأزمنة والأمكنة. وعلاقة الممثلين معا كالزناتي والهلاليل، والزناتي والعلام والزناتي والعلام والنبوءة، فكل ممثل قد اتخذ مكانه الصحيح في إطار العرض، فالزناتي يقف أعلى شرفة المكان (أي القصر) والشاعر الشعبي اتخذ مكانه في منتصف المنصة، والعلام بينهما منزويًا مترقبًا خلف الأعمدة التي توجد بطبيعتها تحت القصر، فتؤكد الحركة دوره في التجسس من ناحية حيث أنه وجه الخيانه الأولى في السيرة، ومن ناحية أخرى حين ينظر بعينه إلى الشاعر الشعبي منتظرًا تحقيق نبوءة الرمل التي تنبأت كلها بغدر الزناتي على يد دياب: «النهاردة اللي عليه الرمل جال جاي أغدرك يا زناتي».

العلاقة بين الممثلين.. والانتقال في الزمان والمكان المسرحي حين يلجأ الممثلون إلى التقاط العمامات المعلقة على أسنة الحراب والموجودة ضمن عناصر الديكور، والتي يضعونها عندما يتطلب الأمر أن يشخصوا الأمراء في موقف ما، وكذا استخدام السيوف المهولة عند سرد فروسية الزناتي خليفة، أو دياب بن غانم، أو أبوزيد الهلالي، وعندما تكون هناك حاجة للانتقال من مكان إلى مكان يتم ذلك في ذات المنصة المسرحية دون تغيير حيث كان يلجأ الشعراء لحمل أقنعة الجمال والخيول ممثلين حركة الرحيل والسير - هم وقوف مصاحبين ما يحكيه القص الشعبي عن خروج خضرة الشريفة بولدها من قبائل بني هلال إلى قبيلة بني زحلان، ويكفي الاتفاق ضمينًا هنا، مع جماهير المشاهدين وأيضًا مع الشاعر الشعبي على إتمام الخروج والوصول بالتشخيص والرواية، فعند ما تقص الفنانة الشعبية رحلة الخروج، فإنها تتقمص شخصية خضره الشريفة فتنشد:

يانَجْد مِنِّك رَحَلْنا

تِبْكي مَدَامِعْ عِيُوني

يَارِيتْ نَفَدِتْ رُوَحْنَا

وَلَا بِشِيْعني طَلِّعوُني (بِشِيْعني: بفضيحتي)

هنا يكمل الشاعر الشعبي الحدث:

تِرْحل الشريفة عَلى الهِجِنْ

فِي المِسير والدِّمْع نَازل

بِتِبْكوُا العَقْل حَيْجِنْ

غَادروا البلاد والمَنَازل

إذن مع أداء الشعراء الشعبيين، تتم حركة الرواة المحدثين لتمثل حركة المسير حاملين أقنعة الجمالي والخيل، فيعبر عن قول الشاعر الشعبي (غادروا البلاد والمنازل) لنجد أنفسنا بين قبيلة أخرى وزمان ومكان جديدين، هكذا بكل بساطة وبكل الإيحاء والتعبير الحركي، فقد قمنا بتكوين لوحة جديدة بفضل التفاعل بين الحركة الحية لجسم الممثل، وحركة الإضاءة واستخدام الأدوات في ظل السرد الشعبي لهذا الحدث المتحرك بكل دلالاته ورموزه وهكذا تم العديد من استخدامات قطع الديكور المتحركة في حل مشكلة تعدد الأمكنة والأزمنة حفاظًا على شكل العرض المفتوح دون إفراط يخل بالإطار العام قد يذهب بالمتفرج بعيدًا عن صلب الأحداث أو يقلل ويجحف من قيمة الرواية الشعبية خيالها الجامح وصورها الشعرية بالغة الدقة والتعبير.

ويجدر بنا أن نلقي المزيد من الضوء على موضوعين بذاتهما من تصميم الحركة المسرحية في عرضنا:

الموضوع الأول:

النقلة المكانية في رحلة الريادة متعددة الأوطان التي قام بها أبو زيد مع مرعي ويحيى ويونس فعبروا مسالك عديدة إلى أن وصلوا إلى مملكة الزناتي خليفة بأرض تونس الخضراء، فقد استخدما كرسيًا للعرض مزينًا ومبالغًا فيه يحمله ثلاثة رواة ويضعونه مرة في منتصف المسرح ومرة يسار المسرح ومرة أخرى يمين المسرح ويقومون بالتشخيص عليه ممثلين دور الملوك الرعية في كل بقاع الأرض مع نقلات غنائية يقوم بها الشاعر الشعبي قائلًا بعد كل مشهد:

«بَلاَوِي يا دُنْيا بَلَاوِي أَسِيبْهَا وَرَا أَلَاقِيهَا قُدَّام»

ليؤكد بهذا المعنى تشابه الملوك في الحكم مهما اختلفت الأمـاكـن والأزمان، حتـى يصـل الكـرسي للمستوى الأعلى للمسرح ليستقر ويصبح هو نفسه كرسي الزناتي خليفة هنا يختلف الأمر عما سبق، ففي الحالي يحاط الكرسي بمجموعة من الدروع المحمولة لتغطي أجساد الرجال هم حراس المملكة الحديدية، والدرع هنا مصقول ولامع يحمله الممثلون بوصفهم حراس المملكة في التصاق تام ببعضهم البعض، دليل قوة وتماسك ممكلة سوف يكون اقتحامها بلا شك صعب المنال.

لذا تلتصق تلك الكتل البشرية بعضها بالبعض في التحام يحيط بكرسي الزناتي، وعندما يظهر الزناتي على المسرح مارًا خلف هذه الدروع ناظرًا إلى حلبة العرض متحدثًا عن مملكته التي شيدها من صخر وحديد لا يلين، وأن من يجرؤ على الاقتراب منها سوف يحوله الزناتي إلى مسخ من نار، مؤكدًا ذلك بالحركة فهو عندما يتحرك وخلفه أسوار المملكة كأنها تحتضنه وتحتويه، ولقد استخدم تلك الدروع في إيجاد وسيلة تحل مشكلة تحقق المكان داخل وخارج تونس، فحين تقف الدروع المحمولة على صدور الرجال بأعلى المسرح فهم يمثلون سور تونس هذا السور البشري سوف نستخدمه أيضًا في النقلات المكانية، فعندما يقف الحراس من خلف هذه الدروع ووجوههم لمنصة العرض أمام المشاهدين إيذانًا أننا سنلعب أمام هذا التكوين باعتبارنا خارج أرض تونس، وعند اقتحام مملكة الزناتي حيث يكون المشهد داخلها نلجأ فقط إلى دوران ذلك السور، فيعطي كل من يحمل درعا ظهره لنا، أي للمنصة والجمهور، ليتحول المشهد ببساطة متناهية ليدور داخل المملكة، حيث إنه من المعتاد أن الحـارس ينظر إلـى الأمـام للخارج وظهره دائمًا للداخل فإذا تطلب الأمر تغيير الموقف فلا يستلزم ذلك سوى دوران الممثل بالدرع وهو واقف مكانه ليغير اتجاهه فقط فيتغير بدوره المنظر ككل، دون اللجوء لأي مناظر مسرحية جديدة.

جاءت عمليـة التوظيـف مـدروسـة كـي لا تخـل ببساطة العرض وثراء التناول. استوحت فكرة الدرع من المعمار الإسلامي لوكالة الغوري وليست منظرًا مرسومًا أو مصنعًا هي «أرسات حجرية وتكوينات خشبية لـوحـدات الأرابيسـك وأعمـدة حجـريـة ضخـمة تكون الدرع من نفس الوحدة ونفس التشكيل بطول 190 سم»، مستمدة من الكتلة والفراغ في عملية ترديد ليحدث توافق وتكامل مع الإطار العام للوكالة مع بعض المبالغة في اللون - كان الممثل يلبس الدرع بطول جسمه ممسكًا إياه بيديه ويقف خلفه فيكون بها أكثر من تشكيل، بحيث إذا وضع ثلاثة منهم متجاورين كونوا تشكيلًا ما، وإذا وضعوا تسعة ملتصقين ببعضهم أعطونا سورًا نتفق على أنه سور تونس العظيم، كما تم استخدام هذا الدرع أحيانًا نقالة لحمل الموتى واستخدم أيضًا في مشاهد المعارك ليكون حاجزًا هائلًا بين الجمهور والمتقاتلين تتم بداخله حركة القتال - ثم استخدام في شكل دائري مكونًا حجرة السجن في مشهد أسر دياب بن غانم... ومن هنا شكل الديكور درعًا بشريًا متحركًا بحركة الممثل ومتصاعدًا مع الأحداث وجامدًا صلبًا في حالة المعارك مشكلا حائطًا في حالة السكون... أما بالنسبة لكرسي العرش فكان نفس شكل الدرع ومتحركًا، فالكرسي يتحرك ويجب على من يتقاتلون من أجله أن يلحقوا به ليسقط عليه أو من أجله القتلى الواحد تلو الآخر واتخذ شكل الكرسي اللون الذهبي لتطمع النفوس في الوصول إليه.

أيضًا تم استخدام تلك الدروع في المعركة بين الزناتي ودياب - ولقد تحركت المملكة لتحتوي مشهد القتال في حركة دائرية كاملة لا يظهر منها سوى رمح دياب وسيف الزناتي، وأثناء سقوط الزناتي صريعًا تتفكك الدروع التي ظلت متلاصقة طوال العرض وتنهار بمقتله ويتقدم حاملوها ليرفعوا جثمان الزناتي الحديدية من عالم مسرحنا، بخروج الزناتي من دائرة الصراع، تظل الساحة مفتوحة لقتال بني هلال في مجزرة جماعية بعد أن استولى دياب على عرش تونس، لقد استبدلنا الدروع بالحراب الطويلة، فلقد كانت كتلة الدروع في مملكة الزناتي تتفق وقوة متفرقة دليل دخولنا إلى عالم ضعيف هزمته فرقته وتناقضاته، أيضًا استخدمنا تلك الحراب في مشهد أسر دياب، حيث لجأ القاضي بدير والسلطان حسن إلى ضرورة اعتقاله درءًا لشروره التي طغى بها بعد استيلائه على العرش.

ففي مشهد مبايعة دياب تحركت مجموعة الحراس بالرماح - كل يرشق حوله رمحه قائلين «نحن نبايعك يا دياب» حتى يجد نفسه في النهاية حبيس تلك الرماح التي تشكلت حوله بسور سجن يستحيل الخروج منه.

لقد تعاملنا مع مفردات العرض المسرحي من إكسسورات وديكورات في تشكيل الحركة المسرحية واستخداماتها في حل مشكلة تعدد الأمكنة والأزمنة محافظين على روح العمل منذ بدايته.

الموضوع الثاني:

مشهد المعارك الضارية والتي اشتهرت بها تغريبة بني هلال في «حروب الفريقين عربان زناته ويا هلايل ومقابلة أبو زيد ودياب بن غانم بالزناتي خليفة».

شاعر السيرة أداء غنائيًا وتشخيصًا دراميًا وأداء حركيًا:

الكلمة الحلوه فَاتُوها

وَقَعُوا في دَقْ النُقْصَان

جَالوُها وطَبَّقوا السوء

والخِيل على بَعْض تِسُوق (تسوق أي تتحرك)

اترْمَوُا على بعض

اتْبَعْترت كُلْ العَمَايِمْ (طارت وتغيرت عمائمهم)

مَن الصُبح لمَّا أذَان الظُهر

شِرِبُوا كَاسَات السَّمَايِمْ (السموم)

مِنْ العصر لمَّا أَذَان الغَرْب (المغرب)

النَّسر والحِدْ والغِرْب (الغربان)

فَرْحان فِي أبو عُمْر ضَايِعْ

لقد برع الفنان الشعبي في وصف المعركة التي قسمها إلى ثلاث مستويات:

مستوى مقـابلة الفـرسان علـى الأرض (دياب - الـزناتي).

مستوى تحليق الطيور في السماء في انتظار القليل كي يهبط لينهش جسده.

معركة الخيول في الأسفل حتى طعمت الخيول في بعضها البعض بين الفريقين.

لقد برع الخيال الشعبي في وصف معارك السيرة وبالغ فيها إلى حد أنه من السذاجة أن نلجأ إلى إجـراء بعض المبارزات السطحية والركيكة على المسرح، التي حتمًا سوف تنقص من القيمة الخيالية للمعركة، خصوصًا وأنه ليس هناك من متخصص في ذلك، وليس في استطاعة ممثلينا التعبير عنها حركيًا، ناهيك ونحن نتعامل مع الفروسية الخرافية التي اشتهر بها الزناتي خليفة وأبو زيد الهلالي أو دياب بن غانم، من هنا لجأنا إلى تثبيت مشاهد القتال بأن يرفع كل منهما رمحه في وجه الرجال أيام عشقهم لفروسية أبي زيد وخليفة الزناتي، ويظل المشهد ثابتًا بينما يفصل بينهما الشاعر الشعبي ليقوم بدور القاص مفعمًا بالخيال والتشخيص بجسمه وصوته وقوس ربابته ودقه خشبة المسرح بقدميه مصورًا المعركة مع تلك الكلمات الرائعة في وصف اللقاء بين الفارسين لينطلق معه خيال المتفرج كي يتصور ما يقصه الشاعر بخصوبة تصوير السيرة لهذه المعركة، حتى لا تفقد السيرة أهم سماتها في التصوير الخيالي للقص الشعبي، ودلالاتها في تصوير حركة المعركة الماثلة بين الفارسين، بينما تلتف دروع مملكة الزناتي حول دائرة الصراع لتغطي مشهد القتل في النهاية، ويحمل المقتول إلى خارج دائرة الحلبة حيث انتهى دوره، بينما يقوم الرواة الثلاثة الآخرون بالدق على الطبول الكبيرة التي تسمى بطبول الرجوح، في حالة دوران كامل حول الفارسين وبالقرب من الجمهور لإعلان حالة الحرب والوصول إلى التعبير عنها بدقات القتال فيصبح المشهد مركبًا على النحو التالي:

وفي نهاية المشهد يخرج الراوي من بين الزناتي ودياب ليعلن للجمهور أن دياب قد صوب حربته إلى عين الزناتي خليفة وأنهى عليه لتتحقق نبوءة الرمل وما حلمت به سعدى بنت الزناتي من مقتل أبيها على يد دياب بن غانم ليسقط الزناتي فتلتقطه جموع الدروع التي أحاطته ولتحمله على أصلابها لتخرج به بينما يبدأ الراوي في إنشاد وداع الزناتي لأرض تونس وهو على أعناق الرجال في اللحظة التي يعتلي فيها دياب بن غانم كرسي العرش، بينما تصمت دقات الطبول ويخلعها الرواة ليبدأ واقع جديد ومسار آخر في أحداث السيرة المسرحية... تتغير منه نبرة الأداء الموسيقي والحركي.

الرواة المحدثون:

مات الزناتي اتهد... كل شيء انهار

ليس الحدث الهائل أن قتل الزناتي

لكن الهول بعينه أن قاتله دياب

أي تحد يا هلالي لكل كلماتك العظام

أما في المشهد الأخير وعند قتل دياب بن غانم لأبي زيد الهلالي عند طعنه من خلف يصرخ أبو زيد لضياع حلمه، فإن العرض سوف يلتقطونه ويحملونه بين أيديهم لتصبح سيرته ملكًا لرواتها وعامة الناس في مصر وتونس والجموع فتحقق شعبيتها وتصير جزءًا من موروثات هذه الشعوب.

3 . الأصل الشعبي: شاعر السيرة:

في ظننا أن الإضافة الحقيقية التي قمنا بها في إخراج السيرة الهلالية هي التعامل مسرحيًا مع شاعر السيرة الأصلي، ذلك أن سيرة بني هلال عاشت طوال هذا الزمن أو كتب لها البقاء وذاع انتشارها من خلال شعرائها الذين ورثوا إنشاءها جيلًا بعد جيل يعشقون أبطالها وأحداثها، مزيدين ومضيفين إليها من خيالهم الكثير، طوال رحلتهم الطويلة المستمرة بها، فضمنت لها طول البقاء. ويطلق على هؤلاء الرواة داخل مجتمع الفنانين الشعبيين (شعراء السيرة) فهم ليسوا من فئة المطربين أو المغنيين، بل هم شعراء كما يحلو للمجتمع الشعبي أن يسميهم.

ومن خلال رحلة البحث الطويلة عن هؤلاء الشعراء وتسجيلاتهم مثل تسجيلات الشاعر «جابر أبو حسين»، واتصـالًا حيًـا مع بعضهم مثل سيد الضوي وشوقي القناوي، وعزت القناوي، وشمندي، ومتقال، والنادي عثمان، وعنتر رضوان، وعبد الستار عبد الباري، ومحمد اليمني، وعبد الله عبد الجليل، من صعيد مصر العليا، إلى الشعراء: سيد حواس، وبكري وهبة، وعلى الوهيدي في شرق الدلتا.. وجدنا أن أصول السيرة قد ازدهرت وكتب لها البقاء على أيدي شعراء الصعيد، منهم من حفظ مرحلة طرد خضرة وابنها أبو زيد من ديار نجد، ومنهم من حفظ فقط رحلة الريادة (رحلة استكشاف الأرض الخضراء)، ومنهم من حفظ فقط قصة عزيزة ويونس أو قصة الجازية وانفصل بها عن لب السيرة الأصلي ولكن اتفق الكل في رواية التغريبة وهي قصة الحرب الطويلة التي دارت بين قبائل بني هلال والزناتي خليفة، منهم من يتحمس للزناتي ومنهم من يتحمس لأبي زيد ودياب بن غانم وتفريعات طويلة ولكل واحد منهم طريقة في الأداء واعتقاداته في صدق بما يرويه.

من هنا كان علينا الاختيار والانتقاء مع ما يتفق مع النص المسرحي المكتوب إذ كانت هناك اختلافات شديدة بين الرواية الشفاهية مجهولة المؤلف والنص المسرحي معلوم المؤلف: هناك إضافات أبدع فيها الخيال الشعبي يعجز دونها التنفيذ الفعلي للتعبير عن خصب هذا الخيال وجموحه.

من هنا كان لابد من الانتقاء وإعادة الترتيب لهذه المادة الغزيرة بما يتناسب مع رؤيتنا الفنية في تناول السيرة على المسرح وبلغة التكثيف والتأكيد بحيـث تعـبر عـن الصفات التي تنطوي عليها المسرحية أساسا، قمت بجدل ضفيرة فنية متناسقة بين أقوال الشاعر (الأصل الشعبي الشفاهي للسيرة) وبين النص المسرحي ولجأنا في كثير من الأحيان إلى استبدال مقاطـع كاملة من النـص المسـرحـي المؤلـف ليحـل محلها تعبير آخر من النص الشفاهي مجهول المؤلف من خلال أداء الشاعر بما يتسم به من تعدد وفطرة وتلقائية وارتجال نعتقد نحن من جانبنا أن جميعها قد أضاف الكثير لشعبية العرض وتلقائيته ومشاركة وجدان «جماعة المتلقين» مما ساعدنا على توصيل مضمون النص المكتوب.

وضعنا «شاعر السيرة» في الزمن الحاضر داخل العرض المسرحي، منطلقًا منها لابتعاث أبطال السيرة من جوف الماضي. وتسيد منصة العرض، ودورها في فلكه منذ الوهلة الأولى، فبدأ شعراء السيرة بالصلاة على النبي وذكر الله «أول كلامي أنا بذكر الله» وبالمقابل استخدمنا ثلاثة شعراء من نص يسري الجندي (إذن كان لدينا ثلاث شعراء تقليديين وثلاث رواة محدثين) كي يتم التحاور بين المجموعتين كل بلغته، مجموعة الشعراء الراوية الشفاهية التراثية «الرجوع إلى المورث» ومجموعة الرواة المحدثين بلغة النص المسرحي المؤلف. هنا جدلنا ضفيرة بينهما في تناسق ودون تعسف وفي تقارب وتجانس بين اللغتين: لغة النص المسرحي ولغة حكي السيرة، بحيث لا يبدو أحدهما غريبا عن الآخر، فأسهم هذا الجدل في دفع الحدث إلى الأمام. أما الشعراء فقد وقع الاختيار على كل من الشعراء «شوقي القناوي وعزت شوقي القناوي» الثاني نجل الأول ودلالة هذا الاختيار بالذات هي ذلك التوارث العظيم الذي حفز للسيرة بقاءها، الأول 52 عامًا والثاني 32 عامًا وهما من مواليد محافظة قنا، أما العنصر الثالث من الشعراء كان الفنانة الشعبية فاطمة سرحان وتبلغ من العمر 40 عامًا.

تحمل هؤلاء الثلاثة رواية السيرة حسب الاختيار المطلوب من منابعها المتوارثة ومن أصولها الشعبية - أداء وتمثيلًا وغناء، وقام بدور الرواة المحدثين ثلاثة من الممثلين هم «عزيزة راشد، مجدي صبحي، جمال قاسـم»، أداء وتمثيـل وغناء أيضا للنص المسـرحي وهكذا تمت عملية التزاوج.

«إذن لقد أمسكنا بالخيط من طرفين».

4. موسيقى السيرة وشاعرها:

علما أن رباب الشاعر مختلف تمامًا في التعبير عن رباب المطرب أو المغني فهناك دائمًا النغم المميز للشعر الشعبي، وهناك استخدامه لقوس الرباب كسيف مقاتل أو رمح فارس من فرسان السيرة الذي يحكي عنه وأيضا استخدامه لنبرات صوته المتغيرة مع تغير الأحداث تعبيرًا عن تقمصه للشخصية حتى إنه يقول في أحد مواقف العرض (أنا الزناتي ما يأكل السبع نايبي)، «نايبي، أي منابي أي نصيبي - حظي» حيث يتكلم بلغة «الأنا» بل إن تقمصه شخصية الزناتي ونبرة صوته تمثل فحولة الزناتي وشجاعته وإقدامه.. ويعلو الشاعر ويدق الأرض بقدميه كأنه بالفعل الزناتي خليفة الفارس المعروف ثم تتابعه طبول الإيقاع ويدق بقوس الربابة على الساعد «العمود الخشبي للربابة»، أو المصوت لها «جوزة الهند المفرغة» أحد أجزاء الربابة ليصنع لحنًا إيقاعيًا يمثل احتدام الحرب.. وتتابعه الموسيقى ليقود الشاعر زمام الحرب أمامنا وينقلنا من خلال هذا اللحن وحركته وأداء صوته وإيماءاته ووصفه للمعركة بين دياب ابن غانم والزناتي خليفة والتحاور الذي تم بينهم أثناء الحرب - ينقلنا هذا الشاعر بأدائه ومهاراته إلى مشهد كامل للحرب دون اللجوء إلى خدع سطحية مكشوفة مثل مشاهد الحروب التي تعودنا سذاجتها في العروض المسرحية - لقد كان الاعتماد على أداء هذا الشاعر وتشخيصه لشخصيات فوارس السيرة والتعبير عنهم كل بأدائه مثل مشهد المقابلة بين الخليفة الزناتي وابو زيد الهلالي.

الشاعر:

خليفة يرمج رايج «أي رايق أي يسرع وهو مرتاح»

أبو زيد ينزل بعكار «عكار أي العفار الذي يتخلف عن

جري الحصان» وأيضًا تعبير عن

غضب أبو زيد.

خَليفة يِفْتَح طَاَقة

الأسمْرَ سَدَّها بيبان «جمع باب أي سدد أبوابها»

بل إنه يعاود تحذير الخفاجي عامر من لقاء الزناتي خليفة، ويقول له:

الزناتي ضَرْبَاته عَسْرة «أي عسيرة»

يِجِيلك كما بَحْر مِسْرَة «بحر مسرة: هو شهر الفيضان»

يِصَبَّح عَيَالَكْ يَتَامي

وفي لقاء دياب بن غانم بالزناتي خليفة في المعركة الفاصلة.. تتجلى براعة القص الشعبي في هذا اللقاء الحاسم والتحاور المبدع الذي تم بن الطرفين. يقول الزناتي:

«جيت يابن غانم وجايب وراك عرب الزغابة... عَاوِزْ تِنَاْم عَلى فَرْش نَاعِمْ؟»

والأداء هنا تـمثيلـي لشاعر الـربـابة مُـتَـقَـمّـصًـا شخـصـية الزنـاتي، يستطرح ويقول:

الشاعر:

وقف الأمير دياب والزناتي خليفة

خليفة قلبه على العدا زو غابه

«زو غابه: أي وحش الغابة أو إنه أيضًا كالغابة»

قال: ليه يا دياب جَايِّني وجَايِبْ وَرَاكْ عَرَبْ الزغابة؟

رَدْ عليه خليفة: أَصَل يا زناتي اِنهاردَة حُموُلي تُقَالْ

على يَدي جَابِض زِنَاتِي

«الزان أي الرمح - جابض أي ماسك»

اليوم ده اللي عَليه الرمل قَالْ

جاي أَغْدُرَكْ يا زَنَاتِي «أغدرك أي أقتلك»

بعد ذلك يبدأ الشاعر «عزت القناوي» دق الأرض برجليه وبنزول قوس الربابة أبدو كسيف يبدأ لحن العراك وتعلو منه نغمات الرباب سريعة متتالية تمثل احتدام المعركة.

يلاحـظ أن النصـوص جميعـهـا المأخـوذة هـنا مـن النص الـشفهي للسـيرة فهي نصوص مـؤداه وليسـت مـؤلفـة.

الشاعر:

عَلى بَعْض حَشَروا الخيل

قالوها السُّبوُعة الكواسر

تِحْلِفْ تِقُول أَسدين

الاثنين قَالوُها وِلَبَكُوا «لبطوا أي أشتكبوا»

مِنْ الصُّبْح لمَّا أذان الظُهر

قُلوب الرِّجَال اتْمَلِتْ قَهْر

من الظهر لمَّا أذان الَعصْر

الخيل تِنْعِصِرْ عَصْر

عَجَجْ الخيِّلْ صَبَّح دُخْان «عجج الخيل أي غبار الخيل».

بل إن نغمة الشعر المؤدى تَتَغَيَّر عند إصابة الزناتي خليفة (غدرة على يد دياب: وعندما يحمله رجاله على دروع المملكة يقوم شاعر السيرة متقمصًا شخصية الزناتي في وداعه الأخير «هنا تتغير نبرة الأداء التي كانت منذ لحظات أداء بارعًا وتصويرًا للفوارس أثناء الحرب» يقول عزت القناوي على لسان الزناتي خليفة وهو النزع الأخير على أعناق الرجال يودع أرض تونس بأداء مأساوي ونبرة صوت حزينة:

ليه يا تونس ظُلم نَخْلِكْ «أي أسود النخيل»

طُول الليل شَايِفْيك بتودعيني

من بَعْد عِيني الهَفِيَّة دَخَلْكِي

دَاسْ الأرض ودَخَلْ المنازل

تعالي يا سِعْدا شوفي عيني أَبْكِي

شُوفِي الدمَّ مع دَمْع عِيني

إن هذا الشاعر ينقلنا إلى أحداث العرض المسرحي بأدائه الخاص وقدرته الفنية على الأداء والإبداع شكلًا ومعنى، وقدرته أيضًا على التأثير على جمهوره وسرعة بديهيته، ونقل الماضي والانتقال إليه وتعبيرات الصوتية واللحنية والجسمانية وتقمصه للشخصية إنما يرتفع بنا إلى قمة (تصور أحداث السيرة والإحساس بها) ويحلق بنا في أفق الخيال بخياله الشعبي الواسع ولكنه سرعان ما يخرجنا من حالة الاندماج هذه، ويحاول إيقاظنا بأننا لسنا سوى متفرجين «ما تصلوا على نبينا» إنه يؤكد حالة الاندماج ليتواصل مباشرة مع الجماهير أو يعاود ليقول لنا: «اصغ لمعنى الحكاية» أي لا تندمجوا في ما يُعرض أمامكم من أحداث بل كونوا على يقظة لما تحمله خلفها من معاني بل لابد من الحكم عليها. «أليس هذا هو ما استهدفه بريخت من إلغاء سحر الاندماج في دراما تحتوينا وتنسينا ضرورة الحكم عليها» (مقال نقدي للدكتور حسن عطية عن العرض، كتاب الثابت والمتغير في الموروث الشعبي).

 

المراجع:

- محمد فهمي عبد  اللطيف - أبو زيد الهلالي - دار المستقبل - مؤسسة المعارف - بيروت.

- دكتور عبد الحميد يونس - الهلالية بين الأدب والتاريخ - الهيئة العامة للكتاب - القاهرة.

- عبد الرحمن الأبنودي - السيرة الهلالية - أخبار اليوم.

- عبد الرحمن الأبنودي وجابر أبو حسين - حلقات بالإذاعة المصرية عن السيرة الهلالية.

- تغريبة بني هلال - بدون مؤلف - دار المعارف - بيروت.

- مؤتمر السيرة الشعبية - جامعة القاهرة - 1985.

- السيرة الهلالية في صعيد مصر - هوميروس العرب - إعداد أحمد الليثي - سلسلة الدراسات الشعبية - الهيئة العامة لقصور الثقافة.

- النصوص الشفاهية للشعراء الشفاهيين - سيد الضوي وعزت القناوي وشوقي قناوي وشمندي متقال.

- دكتور حسن عطية - الثابت والمتغير في المأثور الشعبي - الهيئة العامة للكتاب.

- كلود بك - لمحة عامة إلى مصر.

- ادوارد لين - أخلاق المصريين وعاداتهم.

- متابعات ميدانية وتجارب مسرحية للمخرج.

 

أعداد المجلة