فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
30

التراث الشعبي وحداثة النص الشعري المعاصر

العدد 30 - أدب شعبي
التراث الشعبي  وحداثة النص الشعري المعاصر
كاتب من الجزائر

 

أ.بدأ البدء

لم يحتدم النقاش حول مسألة التراث والمعاصرة مثل ما احتدم بعد ظهور القصيدة المعاصرة، وما حفز النقاش والاحتدام والصدام، هو الشكل الفزيائي الذي اعتمدته القصيدة الجديدة فضاءا لتشكلها، وهو تشكل غير ثابت ولا مستقر، وانما هو في تغير دائم، وتحول مستمر، وكأنها بهذا النعت هي ضرب لمسألة التفضية الشعرية الكلاسيكية، فتبتعد بذلك عن الذاكرة الشعرية العربية ، مما اتكأ عليه  البعض في اتهام رواد القصيدة المعاصرة بتخريب التراث، وبأنهم متصلون بالنفوذ الأجنبي.

  إلا أن ما يمكن ملاحظته على هؤلاء، هو أنهم فهموا التراث فهما ضيقا محصورا في القالب الشكلي دون مراعاة الجوانب الأخرى من التراث والتي تتصل بالقيم  والأبعاد والرموز والإشارات ، وكيف حولها الشاعر المعاصر فأصبحت متحركة ودالة ونابضة في العصر،أي أن الشاعر المعاصر حينما يتعامل مع التراث لا يتعامل معه كقيم جامدة ولا يستلهمه أشكالا وقوالب ، وانما يستوحيه مادة لها أبعادها الفكرية والجمالية، وعناصر فعالة في تشكيل بنية القصيدة المعاصرة  ولم يقتصر الشاعر الجديد في تعامله مع التراث على التراث العربي فحسب، بل ارتبط تعامله مع التراث الانساني عموما مما يتطلب من المتلقي أن يكون مثقفا ثقافة عامة وشاملة ومطلعا على التراث العربي والإنساني، حتى يتسنى له معرفة عالم القصيدة المعاصرة ،كما يتطلب أن يكون مطلعا على كل التطورات التي لحقت الفن عامة، والأدب خاصة، لأن القصيدة المعاصرة لم تعد مستقرة على قواعد محدودة ومحددة، بل هي في تغير دائم، فالمعايير القبلية لم تعد تتماشى وطبيعة الإبداع المعاصر، وكأن المشاعر التي كان يلتقطها الشاعر الكلاسيكي من مظاهر واضحة ومعينة، لم تعد صالحة ولا قادرة على ترجمة مواقف الشاعر المعاصر، ولا على ترجمة أفكاره ومواقفه، لذلك راح يتلمسها في ما يتشكل منه التراث، من مواقف، وأحداث، وأمكنة وشخصيات، وأقوال، وهو الأمر الذي نبحثه في نماذج شعرية عند رواد القصيدة المعاصرة، ولما كان التراث موزعا على مصادر متنوعة سوف نكتفي بالبحث في التراث الشعبي، وأثره في بنية القصيدة المعاصرة فكرا وأسلوبا، وقبل أن نبحث ذلك، لا بد من الوقوف على ماهية التراث، وما طبيعته وعلاقته بالواقع والقيم والدوافع التي أغرت الشاعر الجديد الى تبني قيم التراث والتعبير من خلالها

 

 

•    ب.البدأ/مفهوم التراث الشعبي

 يتصل مفهوم التراث الشعبي بالإنجاز الثقافي العام للشعب من عادات وتقاليد وحكايات وأمثال شعبية، ورقص وغناء شعبي، بحيث استطاعت الذاكرة الشعبية أن تعبر عن ملامحها وتكوينها الفكري والثقافي من خلال هذه الألوان  الأدبية الشعبية السائدة في الوسط الشعبي، كما استطاع الناس التعبير عن متطلباتهم الفردية والجماعية  سواء أكانت متطلبات ثقافية أو سياسية أو اقتصادية أم اجتماعية  عن طريق الأغنية والمثل والحكاية الشعبية... في مغزى إيحائي رمزي.

إلا أن ما تجدر الإشارة إليه هو أنها «أشكال يختلف بعضها عن البعض الآخر اختلافا جوهريا، وإن كانت صفة الشعبية تجمع بينها. ويرجع سبب الاختلاف إلى أن كلا منها ينبع من مجال محدد من مجالات الاهتمام الروحي الشعبي، وهذا المجال هو الذي يحدد شكل كل نوع ووسيلة التعبير فيه»(1)، عن طريق المضمون الذي يتناوله كل لون أدبي شعبي وعن طريق الوسائل الفنية التي يعتمدها الأديب الشعبي في تقنية عمله الإبداعي، فالأغنية الشعبية مثلا تختلف حتما عن الحكاية الشعبية بما تنفرد به من حس موسيقي ولاعتمادها كذلك على لغة خفيفة ذات نغمات متواترة ومتتالية، إلا أن ما يجمع بينهما ويربطهما هو أنهما معبرتان عن نفسية الإنسان الشعبي ومطامحه وتكوينه النفسي، محاولا بذلك تجسيد طموحاته ورغباته ومتطلباته الروحية والفكرية في أشكال أدبية شعبية.

إن ما يزخر به الأدب الشعبي من أجواء فنية في التعابير، والوسائل التي اعتمد  عليها الأديب الشعبي هي التي دعت الشاعر المعاصر إلى الارتباط بهذا النوع الأدبي محاولا بذلك استغلال طاقاته وأبعاده وأجوائه فتتوسع بذلك رؤى القصيدة، وتتشعب بنيتها الفنية وتتوسع رقعتها الفكرية، كما  أن التراث الشعبي أضفى الكثير من المناحي الفنية على القصيدة  المعاصرة، كاللغة التي هي منحى إضافي وفني وشعبي، مكن القصيدة من التطور نحو أجواء مجازية شعبية تجاوزت ذلك المنحى اللغوي المعتاد، فقربت ذهنية القارئ المعاصر إلى عالم شعري شعبي يشكل لحمة فنية تتواءم  في الطرح مع القصيدة المعاصرة.

ولعل عودة الشاعر المعاصر إلى الحكاية الشعبية ليس من باب العزوف عن عالم اللغة المعاصرة وعوالمها التعبيرية، وإنما هو من جهة التلوين الفني والاقتراب من أصالة الطرح المعاصر الذي يجعل عملية الإبداع تركز على كل ما هو أسطوري وشعبي وإنساني في تراثنا العربي بخاصة ،والإنساني بعامة، وهذا ما يتجلى طرحه عند شعرائنا المعاصرين، إذ أن الحكاية الشعبية عندهم التي استعملت في ثنايا قصائدهم أملتها تلك الظروف العربية نحو العودة إلى تحريك مواطن وخبايا وجدان الإنسان في التراث العربي، ومن ذلك ما نجده عند الشاعر البياتي في قوله من قصيدة «فسيفساء»(2):

كان وياما كان

في سالف الأزمان

يداعب الأوتار، يمشي فوق حد السيف والدخان

يرقص فوق الحبل، يـأكل الزجـاج، ينثــني

مغنيا  سكران

إلى أن يقول:

يسألني عن الذي يموت في الطفولة

عن الذي يولد في الكهولة

رويت ما رأيت

رأيت ما رويت

كان ويا ماكان(3)

لقد أفاد التراث الشعبي الشعر المعاصر في الكثير من المصطلحات ذات النحو التكويني للحكاية الشعبية، فاستعار الشاعر المعاصر جملة من الصيغ التعبيرية من فضاءات الحكاية الشعبية نحو هذه الافتتاحية التي نجدها عند الشاعر عبد الوهاب البياتي، ذلك أن ما استخدمه في بداية المقطع الشعري هو (كان وياما كان).

إن هذه الصيغة هي افتتاحية لكل تفاصيل أحداث الحكاية الشعبية فقد توحي بالبعد الزمني، إذ أن (كان) تعني المضي الزمني للفعل في الحكاية الشعبية، كما أنها تعني أيضا حدوث ما جرى في سالف العصور الغابرة. لذا نرى أن الشاعر المعاصر استخدمها ليدلل من خلالها على أسطورية الأحداث التي جرت، أي أن ما يأتي بعد هذه الافتتاحية (كان ويا ماكان)، هي الافتتاحية التي تنفذ خارج حدود الزمن الاعتيادي، وخارج الفعل غير المعقول.

كما أن هذه الصيغة أيضا تفتح شهية الاستماع عند السامعين قديما، وهي عند الشاعر المعاصر تجاوزت حديث الراوي وذهنية الإنسان الشعبي فهي بداية ابتكارية إبداعية عند الشاعر المعاصر، يحاول من خلالها تذليل تلك الأجواء الشعبية في ذهنية معاصرة، كما أن الشاعر المعاصر –أيضا- يحاول أن ينسج على منوالها أجواء أخرى، غير تلك الأجواء الحقيقية القديمة، إذ يولد منها فعلا وإيقاعا، فعلا شعبيا، وإيقاعا شعبيا –أيضا- ولكن في صيغة شعرية معاصرة نحو قوله –بعد افتتاحية كان ويا ماكان-

يداعب الأوتار، يمشي فوق حد السيف والدخان

يرقص فوق الحبل، يأكل الزجـاج، ينثــني

مغنيا سكران

إن ما جاء بعد  تلك الافتتاحية التراثية الشعبية في الحكايات، ينسج فيه الشاعر عالما من الأفعال التي تتجاوز سير الفعل المعقول «يمشي فوق حد السيف والدخان- يرقص فوق الحبل- يأكل الزجاج، ينثني».

إن حركات المهرج التي يجسدها الشاعر في حضرة السلطان تذكرنا بتلك الأجواء الشعبية في حكايات ألف ليلة وليلة حين ترصد لنا أجواء من الحكايات عن الملوك والسلاطين وهي في هذا –أيضا- تنقل إلينا أجواء تقترب في الطرح، مما يحاول الشاعر أن يرصده لنا، زيادة على هذا نجد الشاعر يروي عن طريق الشعر نسقا شعبيا آخر كقوله:

رويت ما رأيت

رأيت ما رويت

كان ويا ما كان

إن هذه الصيغ تقترب من نفس الصيغة للبداية في الحكاية الشعبية فهي تشبه تلك اللازمة المعتادة التي يجدها الشاعر، والنبرة الإيقاعية أو الفعل الذي له بعده الإيقاعي في الحكاية الشعبية، أو في السير الشعبية كالذي نجده عند الشاعر بدر شاكر السياب في قصيدة (أرم ذات العماد)(4)حين يقول:

وانفرج الغيم فلاحت نجمة وحيدة

ذكرت منها نجمتي البعيدة

تنام فوق سطحها وتسمع الجرار

تنضح (يا وقع حوافر على الدروب

في عالم النعاس، ذاك عنتر يجوب

دجى الصحاري، أن حي عبلة المزار)

إلى أن يقول:

أعد بالخطى مداه (مثل سندباد

يسير حول بيضة الرخ ولا يكاد

يعود حيث ابتدأ

حتى تغيب الشمس، غشى نورها سواد،

حتى إذا ما رفع الطرف رأى.. وما رأى؟)(5)

يستقي الشاعر بدر شاكر السياب لقصيدته أجواء من التراث الشعبي، فهي أشبه بالرؤى ذات التجليات الواسعة في الطرح، والتي تنفتح على أدبنا المعاصر.

يستقي لقصيدته من سيرة عنترة الشعبية ما ينسجم مع جو القصيدة فعنترة يوحي فعله بالحركة والوقع، فهو حين يجوب أو حين يطارد أو حين يدافع أو يحيي عبلة فتلك أجواء وجد فيها الشاعر بدر شاكر السياب جملة من الرؤى الفعلية التي تتساير مع فعل القصيدة، فهي اللبنة المكملة –وإن كانت تختلف- مع سياق الجو الفعلي والحركي في القصيدة، فهي –أيضا- تفتح الرؤيا من عالم أرم ذات العماد، التي يحاول الشاعر أن يجليها.

فالأثر المتجسد في ذاكرة الشاعر عن أرم ذات العماد، يجد فيه الشاعر من سيرة عنترة ما يحرك به سكون هذا الاختفاء. إن أرم ذات العماد هي أثر مكاني ساكن، في حين أن سيرة عنترة في ذاكرة الأجواء الشعبية، هي فعل إنساني متحرك، وهنا ينسجم التراث الشعبي المتحرك مع الأثر المكاني الساكن، ثم يمضي الشاعر بعد هذه الوقفة التراثية الشعبية إلى عالم السندباد، فيحرك به ذلك العالم الأسطوري الخفي حين يسافر السندباد إلى عالم عجيب، ولعل الشاعر هنا لا يريد من عالم السندباد سوى تحريك ذلك العالم العجيب الخفي، فهو ينسجم في عالمه مع جنة (أرم ذات العماد)، إذ إن عالم السندباد هو عالم كله غرائب وأفعال تتجاوز فعل الإنسان العادي (حتى إذا ما رفع الطرف رأى، وما رأى) أن هذه الصيغة استقاها الشاعر من التراث الشعبي كي يجلي عالما خفيا من عوالم (أرم ذات العماد) من هنا يبدو أن الشاعر بدر شاكر السياب ما استقى هذه الأجواء إلا ليحرك ما استتر من تلك المناظر اللامرئية من عالم جسدته الحكاية الشعبية في (ارم ذات العماد) وغيرها.

 اللغة الشعرية واللغة المحكية:

من أقدم الدراسات التي تناولت القصيدة المعاصرة بالدراسة والمتابعة، وأشارت إلى الاهتمام الشعري بالمسألة اللغوية واقترابها من الكلام العادي الذي يمارسه الناس في واقعهم وحياتهم هي دراسة محمد النويهي «قضية الشعر الجديد»(6).

من البداية يطرح النويهي منهجه واهتمامه، حيث يحصر نفسه في الاهتمام بقضية الشعر الجديد لا نصوصه «المسألة النظرية» ولذلك لا نجده يهتم كثيرا بالنصوص وإنما يهتم بقضايا معينة ولاسيما المسألة اللغوية.

يرجع النويهي اهتمام الشاعر المعاصر باللغة الحية(7)كما سماها إلى طبيعة الشكل الجديد، وهو الأمر الذي كنا نفتقده مع القصيدة الكلاسيكية، ولذلك «لما تخلص شعراؤنا الجدد من الشكل القديم وحدوده الخانقة، استطاعوا أن يتجهوا إلى حياتنا الواقعة النابضة وأن يلتقطوا عددا لا بأس به من أنغامها الحية، وأن يقتنصوا مجموعة طيبة من صورها وتجاربها المتدفقة، الزاخرة، وأن يستجيبوا لروح الشعب ويتعاطفوا مع تجارب الناس البسطاء العاديين، وهو أمر لم يكن مستطاعا في نطاق الشكل القديم»(8).

بهذا يشير النويهي إلى التطور الذي يصيب شكل الشعر وهو التطور الذي يتطلب تغير الحساسية الشعرية، وهو الأمر نفسه الذي بنى عليه إليوت رأيه فيما يخص التعامل مع اللغة حين قال :«تظل لغتنا تتغير وطرائق معيشتنا تتغير تحت وطأة التغيرات المادية في بيئتنا من جميع النواحي. ولولا تلك القلة من الناس الذين تجتمع لديهم الحساسية الفذة والقدرة الفذة على الكلمات لانحطت قدرتنا لا على التعبير وحسب بل على أن نحس شيئا سوى المشاعر الجافة»(9).

ومن جهة أخرى أشار ت.س .اليوت إلى الهاجس الذي يدفع الشاعر إلى التعامل مع لغة الناس، وهو هاجس الاقتراب منهم والاستفادة من تجاربهم ولغتهم ولذلك يقول: «... صحيح أيضا أن خصائص شعرنا تعتمد على الطريقة التي يستعمل الناس  فيها لغتهم، لأن الشاعر يجب أن يتخذ لغته مادة له، لغته حسبما يتكلم بها الناس من حوله، فإن كانت تتحسن  استفاد من ذلـك، وإن كانت تتخلف وجب عليه أن يبذل وسعه فيها. الشعر يستطيع -إلى حد ما- أن يحفظ على اللغة جمالها أو حتى يعيده إليها»(10).

إن إليوت يقف بالظاهرة اللغوية في الشعر والاستفادة من التجربة اللغوية الدارجة على أساس التطور الذي يلحق الشعر من فترة لأخرى «فترة ابتكار – فترة تطور»  ولكل فترة مميزاتها ومهمتها، ففي الفترة الأولى تكمن فيها مهمة ملاحقة التغيرات في لغة دارجة وهي في أساسها تغيرات في الفكر والإحساس، وفترات تكون المهمة فيها هي استكشاف الإمكانات الموسيقية في العلاقة بين مصطلح الشعر ومصطلح الحديث العادي، تلك العلاقة الناجمة عن وجود سياق تعبيري مؤثل مألوف»(11).

على هذا الأساس عاين إليوت شعر ملتون و»جونسون» ووقف على صفات شعرية تخص العصور التي تلت ملتون وجونسون (12).

هذا الأمر هو نفسه الذي يقف عليه النويهي مستخلصا «رؤية إليوت» في تعامله مع تجربة الشعر الإنجليزي، ويطبقها على النص الشعري العربي المعاصر، وهو الرأي الذي بنى عليه رفضه للشكل الشعري القديم، وذلك راجع لانحصار أدواته أمام المعاني الجديدة وحدوده الضيقة، بالإضافة إلى أن الشكل القديم لم يستطع أن يستوعب تجربة الشاعر المعاصر المتنوعة والمفتوحة على شتى التجارب والمعارف الإنسانية بالإضافة إلى عدم التركيز الذي يفتقده الشكل القديم وهو «التركيز الذي مكن شعراءنا الجدد من إغنائنا بعدد من  الصور الزاخرة، الدافقة بحيوية التجربة ونبض الحياة وحرارتها، وهي صور غنية في تنوعها ولكنها تجمع بينها وحدة عضوية لم نعد نستطيعها في الشكل  التقليدي»(13).

ما يمكن ملاحظته هو أن رجوع الشاعر العربي المعاصر إلى اللهجة الشعبية والتعبير بها راجع إلى جملة من الدوافع منها حرص الشاعر المعاصر على التقرب من المتلقي والتعبير من خلال لغته التي يتعامل بها يوميا وهو ما يضمن له انتشار شعره وتعميمه بين المتلقين على اختلاف درجات سلمهم الاجتماعي، بالإضافة إلى تحقيق مبتغاه وهو زيادة الوعي لدى المتلقين، بالإضافة إلى ما يحقق هذا الاتصال من رؤى فنية على مستوى التلاحم والتلاقي والتجاور بين لغتين تختلفان في مقوماتهما الفنية ومستوياتهما الأسلوبية وهو الأمر الذي يضمن الكثافة الدلالية، التي تتولد عنها شعرية خاصة سواء على المستوى الأسلوبي (التعبيري) أو على المستوى الفكري.

هذا الإغراء هو الذي وزع انتباه الشاعر العربي المعاصر على جملة الأساليب والمواضيع الذي يتوزع عليها الأدب الشعبي من أغان وأمثال وحكايات شعبية ولهجات عامية، وأصبح عنصرا فاعلا في بناء القصيدة وتشكيل رؤاها، لذلك أصبح التراث الشعبي رافدا مهما نظرا لما يحتويه من إيحاءات ورؤى ودلالات لها وقعها الخاص تتماشى مع طبيعة المجتمع الريفي.

لأن التراث الشعبي وعلى مختلف مواضيعه يعتبر المادة الأساسية التي احتوت تطلعات الريفي الفنية والفكرية، كما أنها عبرت عن البنية الاجتماعية للمجتمع الريفي، لذلك كان هو الصورة الحقيقية للإنسان لأنها معبرة عن عالمه الخارجي(محيطه)، وعن عالمه الداخلي (النفسي) ورغباته وطموحاته وتكوينه النفسي.

ما زاد من تجسيد هذا الاتصال هو أن جل رواد القصيدة المعاصرة منحدرون من بيئة ريفية مما يعني أن لهم اتصال مباشر بثقافة بيئتهم الأولى (الريف)، ولقد عبر جل الشعراء عن هذا الاتصال وما تركته تلك الثقافة من أثر على إبداعهم وتكوينهم الأول من ذلك قول البياتي «...أما أغاني القرية التي تركت في نفسي أثرا لا ينسى، فقد كانت متطابقة مع إحساسي بشعر الحياة نفسها المتجسد في الناس والبيوت والطبيعة وحزن الكائنات الأبدية والظلال الهاربة للحياة التي تجدد نفسها في تعاقب الفصول»(14).

وما عمق هذا الاتصال كذلك هو الأثر الذي تركه بعض الشعراء الغربيين الذيـن رجعوا إلى التعابير اليومية والتعبير من خلالها من أولئك ت.س. اليوت، وورث زورت وغيرهما ...».

إن اكتشاف الشاعر العربي المعاصر ما للغة الشعبية (العاميات) من قيم فنية واقعية رفيعة دعاه إلى الاهتمام بها وإدخالها كعنصر فاعل في بناء لغته ودلالته لأنها تدخل ضمن العوامل الأخرى التي تساعده على إخراجه من نمطية التعبير المبتذل العادي، وتمكنه من تلوين لغته وتخرجه من رتابة القول المعتاد.

على الرغم من أن هذه التجربة تأخذ مساحة بسيطة وصغيرة من تجربة القصيدة المعاصرة الممتدة من نهاية الأربعينيات إلى الآن إلا أنها تشكل صورة يجب الوقوف عندها ومتابعتها، لأنها أعطت للقصيدة المعاصرة تنوعا في التعبير، وصورة أخرى تميزها عن القصيدة الكلاسيكية. ونموذجا خاصا قامت القصيدة المعاصرة باستثماره وإدخاله كعنصر في بناء «الصورة، اللغة، الإيقاع، البناء الدرامي...».

ومن هنا فإننا نستطيع القول بأن الإبداع هو ثمرة سيرورة تاريخية تتعانق وتترابط فيه تجارب  عامة وخاصة من قيم ودلالات ورموز وأزمنة تشكل في الأخير، العمل الفني الكامل المتمثل في القصيدة مثلا، وهذا التنوع هو الذي يكسب القصيدة المعاصرة التلون والتنوع في عالم المعاينة والوقوف على قيم العصر وتوضيحها.

إن تجاور التجارب بالشكل الذي تنصهر وتلتحم لتكون في الأخير العمل الفني الواحد راجع في أساسه إلى نجاعة العملية الإبداعية ودور الشاعر ولذلك يقول عز الدين المناصرة: «لابد أن نرى الموروث الشعبي في قصائدي جزء من النص ملتحم به وليس ملصقا نافرا في النص، أي أن النص الفصيح الحديث يمتص الموروث الشعبي ويحوله إلى دم النص، مثلا في الستينيات كنت أقع في الخطأ.. وهو ظهور الانفصال بين العامية والفصحى في النص. أما الآن فقد تجاوزت هذا المظهر الشكلي إلى الاندماج شبه التام، هناك قصائد استخدمت الموروث الشعبي وامتصته بحيث اختفى في النص»(15)، وهذا ما يمكن أن نستشفه في قصيدة «الخروج من البحر الميت»(16)، وهذا لا يعني أبدا أن تكون هذه الصورة هي الصورة العامة في تعامل الشاعر مع التراث الشعري، وإنما نأخذ هذه القصيدة كنموذج لنجاح تعامل الشاعر مع المثل الشعبي ولفظه العامي وتفصيحه بحيث أصبح جزءا ملتحما بالقصيدة.

 يقول عز الدين المناصرة: 

لقد قلت يا سيدي ما يقال

وما لا يقال 

ولم يبق إلا نقوش الخرائب والمدن النائمات

فماذا تقول؟

وماذا أقول؟

ماذا نقول؟

أنا أعرف البئر- يا سيدي- والغطاء(17)

«خلي البير بغطاه»، مثل يتوزع على عموم الوطن العربي، له دلالته وموقعه من الكلام، فهو يساق للتعبير عن الأمور المستفحلة في قضية من قضايا الحياة العامة، وهو يقال للرد على من يريد أن يسأل أو يعرف أكثر على قضية معيّنة فيقال له المثل، لوقفه وصده عن مبتغاه، وظفه عز الدين لمناصرة في قصيدة «الخروج من البحر الميت» وربما الشاعر هنا متأثر بالأمثال الجزائرية وما حضر إلى ذاكرته كان نتيجة اختلاطه أثناء عمله بالوسط الشعبي الجزائري لذلك نراه استوحى أكثر من مثل شعبي مستمد من التراث الجزائري والمغرب العربي.

المثل «خلي البير بغطاه» جاء معبرا، لأن الشاعر استطاع أن يدمجه وفق أبعاد القصيدة ورؤيتها، فالقصيدة معبرة عن تلاشي الذات العربية بعد هزيمة 1967، لأنها الهزيمة التي عرت جسد الأمة العربية كاملة، وكشفت كذب الأنظمة والبناء الهش لسياستها، والشاعر هنا في توظيفة للمثل يقف على حقيقة المجتمع العربي لمعرفته به، كما يقف على الوحدة التي يعانيها الشاعر رغم كثرة الخلان.

لذلك لا يراوغه أحد في أن يعطيه الصورة المغلوطة والخاطئة، وهو في توظيفه للمثل وجعله رهن خطاب موجه إلى القارئ، إنما وظفه لكونه يعرف جيدا ظاهر الأمة وباطنها.

إن نصية المثل جاءت موزعة بين دلالته وألفاظه، وما يمكن ملاحظته هو أن عز الدين المناصرة قام بتفصيح المثل من «خلي البير بغطاه» إلى أنا أعرف البئر -يا سيدي -وغطاه»، حتى يذوب إذابة كاملة في النص، ويمتص امتصاصا قائما في السياق الذي ورد فيه، ويعتبر هذا الأسلوب جديدا في نصوصية النص الشعري المعاصر دون أن يفقد حركته وفعله وأثره، لأن العاميات على حد تعبير الشاعر «تمتلك حيوية ودينامية ينبغي الاستفادة منها في النص الشعري، ولا أعتقد أنني أخطئ حين ألجأ إلى العاميات وأعيد تفصيحها، إنني أضيف إلى اللغة الفصحى مفردات جديدة أكثر حيوية والمهم هو طريقة استخدامها»(18).

حينما نقارن بين ما جاء في المثل الشعبي، وبين ما قام به الشاعر في تكسير المثل، سواء على مستوى الضمائر أو الفعل أو الروابط فإننا نكتشف إبداع الشاعر للمثل من جديد.

خلي البير بغطاه         إلى          أنا أعرف البئر ياسيدي - وغطاه.

              أنت            أنا + أعرف

الخطاب بين الباث-المتلقي      أنا ضمير      أعرف:فعل+ ضمير

أترك البئر بما فيه               يا سيدي           زائدة

                       وغطاه           امتداد بالمعرفة من ما هو تحت 

     الغطاء إلى الغطاء ذاته وما فوقه

إن المثل الشعبي كان يمس الضمير أنت كما يمس البئر وحده.

المثل الشعبي في القصيدة يمس الضمير أنا «الشاعر» كما يمس البئر والغطاء فهو يمس ويدل على المعرفة الكاملة والشاملة للبئر وما يتعلق به.

إن استخدام الشاعر للضمير «أنا» منفصلا ومتصلا «لأناه» وحضوره ووجوده أهله إلى القدرة في توسيع دلالة « المثل»          ستر البئر وترك البئر بما فيه لأنه لا يصلح أو ما فيه لا يصلح        المعرفة والاطلاع الكامل والشامل بما في البئر وكذلك غطاءه.

إن موهبة الشاعر الإبداعية هي التي أهلته إلى هذا التوليد في معاني المثل وإعطائها أبعادا تتماشى وتساير أبعاد القصيدة، لذلك فالقارئ يشعر بأن مفردات المثل جزء مكون للقصيدة، وجزء من مفرداتها نتيجة التكسير والإضافات التي قام بها الشاعر، ولاسيما أن الشاعر هنا يتناص مع المثل عن وعي تام وإدراك كامل للمعنى الذي يمكن أن يضيفه المثل، وبذلك أصبح المثل إطارا رامزا ودالا وفاعلا في القصيدة.

هذه الفاعلية أكّد عليها الشاعر حين تعرض في حوار إلى «الاشتقاق من العامية أو تفصيح المفردات العامية في شعري، فهي بالفعل ظاهرة مهمة رغم أن البعض ضدها، إنني أعيد الاعتبار لبعض الكلمات العامية بنقلها من مكانها الضيق إلى مكانها الفسيح وبتغيير دلالتها عبر عملية الاختيار، العامية دينامية، حيوية ذات فعالية في الاستخدام اليومي (19).

لقد انتبه الشاعر المعاصر إلى عموم الأدب الشعبي وما يزخر به من طاقات فنية معبرة سواء فيما يتعلق بما يدل عليه من أبعاد فكرية أو ما يشتمل عليه من أبعاد فنية، ولذلك راح الشاعر يتناص مع أسلوب القصص الشعبي مستغلا الطاقات الفنية التي يزخر بها أسلوب الأدب الشعبي كالبعد الإيقاعي، الدرامي، الاستهلالي، الخاتمة...الخ» ولقد عبر بهذا الأسلوب أكثر من شاعر منهم البياتي عبد الوهاب، سعدي يوسف، عبد المعطي حجازي، محمود درويش، عز الدين المناصرة، سميح القاسم ، صلاح عبد الصبور، من ذلك ما استخدمه في قصيدة «شنق زهران» (20).

كان زهران غلاما

أمه سمراء، والأب مولد

وبعينيه وسامة

وعلى الصدغ حمامة 

وعلى الزند أبو زيد سلامة

ممسكا سيفا، وتحت الوشم نبش كالكتابة

اسم قرية

«دنشواي»

شب زهران قويا

ونقيا

يطأ الأرض خفيفا

وأليفا

كان ضحاكا ولوعا بالغناء 

وسماع الشعر في ليل الشتاء

ونمت في قلب زهران، زهيرة 

ساقها خضراء من ماء الحياة 

تاجها أحمر كالنار التي تصنع قلبه

حينما مر بظهر السوق يوما

ذات يوم...

كان يا ماكان أن زفت لزهران جميلة

كان يا ماكان أن أنجب زهران غلاما...وغلاما

كان يا ماكان أن مرت لياليه الطويلة

ونمت في قلب زهران شجيرة 

ساقها سوداء من طين الحياة

فرعها أحمر كالنار التي تحرق حقلا

عندما مر بظهر السوق يوما(21)

هناك صيغ ثابتة وصيغ أخرى متحركة تتكون بها ومنها الحكاية الشعبية، وهذه الصيغ لها وقعها الخاص في نفوس المستمعين أو القراء مثل صيغة «كان يا ماكان» التي تعتبر الصيغة الأكثر انتشارا لما لهذه الصيغة من ارتباط بالزمن والأحداث» فهي تدل في صيغتها وأسلوبها على البعد الزمني للحكاية ولاسيما إبطال  ذلك التعارض الكائن بين ما يجري في الحكاية وبين الزمن الحالي الذي لا يؤمن بالوفاق التام بين ما هو خيالي وبين ما هو واقعي.

كما أنها تدل في صيغها على أسطورية الأحداث التي تليها وهو الأمر الذي يفتح شهية الاستمتاع (القراءة) لدى المتلقي وبالإضافة إلى هذا كله فإن الشاعر يحاول من خلالها ترويض المتلقي على تقبل ما يحدث بعدها، ولذلك نلاحظ الشاعر صلاح عبد الصبور أعطى تمهيدا أسطوريا للقصيدة، وبعده يقف الشاعر على وصف زهران، وكلها أوصاف متعلقة بالزمن الماضي، وهي أوصاف تتعلق بشخصية «زهران» وأخرى تتعلق بما يريد الشاعر أن يقدمه للمتلقي.

كان زهران        غلاما

     بعينيه                        وسامة

    على الصدع       حمامة 

    على الزند       أبو زيد سلامة           ممسكا سيفا 

شب زهران         قويا

            نقيا

يطأ الأرض                      خفيفا

            أليفا

كان                          ضحاكا     ولوعا بالغناء 

                        سماع        الشعر في ليل الشتاء

كان يا ماكان            أن زفت لزهران جميلة

كان يا ماكان            أن أنجب زهران غلاما..... وغلاما

كان يا ماكان            أن مرت لياليه الطويلة

ونمت في قلب زهران     شجيرة

        ساقها         سوداء من طين الحياة

        فرعها          أحمر كالنار التي تحرق حقلا

الأوصاف التي أعطاها الشاعر لزهران هي أوصاف متعلقة بتلك الأوصاف التي ألفناها للأبطال الشعبيين «غلاما، قويا، نقيا، أليفا، الزواج من جميلة، الإنجاب.....». 

القصيدة مبنية على نمو الحدث، وكل ما يتعلق بشخصية زهران البطل، وهو الأمر الذي يتلاقى مع الحكاية الشعبية، وما زاد من هذا التلاحم والتلاقح والتنصيص، بين الأسلوب الشعري المعاصر وبين أسلوب الحكاية الشعبية استخدام الشاعر لصيغة «كان يا ماكان» وهي الصيغة التي تفصل البطل بين زمانين «كيف كان – كيف أصبح»، مما يدفع المتلقي إلى المتابعة واكتشاف ما يحدث لاحقا والاشتياق إلى نهاية القصة.

كما أن الشاعر عمد إلى إضفاء روح البطولة الشعبية على بطله «زهران»، وذلك قصد جذب التعاطف الشعبي الذي يتوخاه ضد أعداء الشعب الذين يريدون قتل الحياة، لأن القصيدة قائمة بين ثنائية أخرى وهي متضادة في الواقع الحياة- الموت، الحياة وكل ما يرتبط بها في القصيدة «الشباب، الجمال، الزواج، الإنجاب، النمو، الشجر…» يمثلها زهران، أما الموت وما يمثلها في القصيدة «ثوى، الحزن، الأكواخ، تنين، دهليز، المحن الصماء، تدلي، النار، تحرق حقلا، تصرع طفلا، السياف، أعداء الحياة، صنعوا الموت، تدلي رأس زهران،…»، ويمكن أن نستخلص كل ذلك من السطرين: 

كان زهران صديقا للحياة       

يمثل النهاية في الارتباط بالحياة.

صنعوا الموت لأحباب الحياة         

 يمثلها العدو والذي يتمثل في «السياف 

   مسرور»، وهو أحد أبطال ألف ليلة وليلة

ذات يوم 

مر زهران بظهر السوق يوما 

ورأى النار التي تحرق حقلا 

ورأى النار التي تصرع طفلا 

كان زهران صديقا للحياة

ورأى النيران تجتاح الحياة

مد زهران إلى الأنجم كفا

ودعا يسأل لطفا

ربما... سورة حقد في الدماء 

ربما استعدى على النار السماء(22)

إن التمثل المكاني الذي ذهب إليه صلاح عبد الصبور «السوق»، هو تمثل للواقع، لأن عادة، القهر والحرمان الذي نواجهه في الحكايات الشعبية هو قهر ميتافيزيقي، أو نتيجة علة أخلاقية يتصف بها البطل، إلا أن صلاح عبد الصبور، أخرج بطله «زهران» عن هذا التصور وأدخله مجال السوق وذلك قصد إضفاء الواقعية على بطله زهران وقصته التي اتسمت بأسلوبها الحكائي الشعبي.

عمد صلاح عبد الصبور إلى تطويع أسلوب الحكاية (السرد الحكائي) لخدمة موضوعه وذلك على مستويات عدة، منها، توظيفه للفعل «الماضي» بكثرة. وتقريبا كله متصل بالبطل «زهران» مقابل الفعل المضارع والذي تقريبا كله متصل بنعوت البطل «زهران».

ولذلك حينما نعاين القصيدة على مستوى الأفعال نجد النسبة الطاغية للأفعال هي أفعال ماضية، وهو الزمن الذي يغلب على « فعل الحكاية »، وهو الأمر الذي يغلب عنصر الغياب للبطل كما أنه يوغل في الزمنية - البعد الزمني.

« كان يا ما كان» وهو تغييب للعنصر الذي يمثله «زهران» عنصر الحياة، لذلك الشاعر عمد إلى ربط زهران بما كان يمثله وما قام به العدو من إبطال لهذا التمثيل للحياة.

أما الأفعال المضارعة فهي متصلة بنسبة كبيرة بنعوت البطل، أكثر مما هي متصلة به وهذا التقابل بين الفعلين  الماضي المضارع، هو الذي يولد الحركة والفعل والدينامية في القصيدة بالإضافة إلى ما عمد إليه الشاعر من تقلبات ضدية  على مستويات عدة  «صفات البطل ،صفات العدو مثلا أو ما تمثله حياة البطل».

ونمت في قلب زهران زهيرة            = ونمت في قلب زهران شجيرة.

ساقها خضراء من ماء الحياة                        

 ≠ساقها سوداء من طين الحياة

تاجها احمر كالنار التي تصنع قلبه                  

 ≠   فرعها أحمر كالنار التي تحرق حقلا 

إن عملية التقابل بين الثنائيات المتضادة، ونمو الأحداث وتشابكها، وتغير صورة البطل من صورة إلى أخرى أكثر مأسوية، هي عناصر تحقق المنحى الدرامي للعمل الفني، ولذلك هنا صلاح عبد الصبور على الرغم من الغنائية التي نلاحظها في القصيدة،  إلا أن فعل الموضوع وتغيره وتحركه قلل من وهجها وظهورها بالشكل الذي يغيب العنصر الدرامي، وبهذا الأسلوب الجديد استطاع الشاعر المعاصر أن «يثبت أن لغة الشعر العربي قادرة على استيعاب الاتجاه الدرامي وتطويعه في القصيدة الغنائية الدرامية بارتباط جديد بين الشكل والمضمون واختيار دقيق»(23) للألفاظ والأسلوب والإيقاع والموضوع.

هذه التقنية التي لجأ إليها الشاعر لم تكن ارتجالية وإنما ليوضح من خلالها صورة «فعل العدو» في شخصية زهران الوديع، وكذا الوقوف على حجم المأساة التي آل إليها زهران، وذلك من خلال الأفعال التي وظفها صلاح عبد الصبور أو من خلال الأفعال ونعوتها، ويمكن أن نقف على ذلك من خلال الخطاطة التالية:

                   «أ»                                     «ب»

نمت  زهيرة  =  شجيرة  نمت

                      ساقها  =  ساقها

                     خضراء  ≠  سوداء

               ماء الحياة  ≠  طين الحياة                 

                         «أ»                                      «ب»      

                      تاجها  ≠   فرعها

                      أحمر  =   أحمر

                      كالنار  =   كالنار

            تصنع قلبه  ≠   تحرق قلبه 

إذا كان قسم «أ» يشكل بداية النص الشعري والذي يرتبط ويدل على نشأة زهرا ن ويشير إلى طفولته فإن قسم «ب» يشكل نهاية القصيدة وبالتالي يشير إلى النهاية المأساوية التي آل إليها زهران، ولذلك حينما نعاين القسم «أ» على مستوى النعوت فإننا نلاحظ الشاعر استخدم اللون « الأخضر» وهو لون يدل على الحياة واليناعة والشباب، فهو رمز الخصوبة والنماء، وتكثر وتتعدد دلالته حسب سياقه داخل النص إلا أنه عموما مرتبط بما هو حي ويانع ويتجلى ذلك من خلال لون الطبيعة في فصل الربيع مثلا، وما أعطاه القرآن كذلك لهذا اللون من اهتمام، كما يشكل حضوره بعدا روحيا في الثقافة الإسلامية وكذلك في الثقافة الشعبية.

بالمقابل حينما نعاين النعوت في قسم «ب» فإننا نجد الشاعر قد استخدم اللون «الأسود «، وهو لون يدل على التشاؤم وما تنفر منه النفس، وهو هنا حسب سياق النص الشعري يدل على اليأس وتلاشي اليناعة، وهو متعلق بما يدمر الذات ويقتل الحياة فهو في دلالته نقيض اللون الأخضر، إن لم يكن نقيض كل الألوان، فحضوره مربوط بسوداوية مأساوية تقمع نور الحياة وذات الإنسان، وهي رؤية يمكن أن تنسحب على كل الثقافات الإنسانية.

ومما زاد من عناصر الالتقاء بالحكاية الشعبية هو النهاية التي عمد إليها الشاعر من توظيف لهروب البطل «زهران» إلى الآلهة باحثا عما يناصره ويبعث في  ذاته القوة، ليقف  في  وجه أعدائه.

ورأى النيران تجتاح الحياة

مد زهران إلى النجوم كفا

ودعا يسأل لطفا

ربما …سورة حقد في الدماء

ربما استعدي على النار السماء.

ويواصل الشاعر تصوير ما آلت إليه قرية « زهران» وبطلها

قريتي من يومها تخشى الحياة

كان زهران صديقا للحياة

مات زهران وعيناه حياه

فلماذا قريتي تخشى الحياة ...؟(24)

إن اعتماد الشاعر المعاصر على الحكاية الشعبية في بناء قصيدته يعتبر منحى فنيًا، ذهب إليه أكثر من شاعر سواء في تناصه مع الصيغ الشعبية المعروفة أو الإيقاع»الأغنية الشعبية» أو الألفاظ أو الشخصيات الشعبية. وهي كثيرة، وما طرحناه يعتبر نموذجا لما ذهب إليه الشاعر المعاصر إلا أن هذا النوع من الاستخدام والتلاقي والتناص نلاحظه يكثر عند البعض دون البعض الآخر، فمثلا يكثر عند شعراء الأرض المحتلة مثل درويش، عز الدين المناصرة، سميح القاسم مثل قصيدته «ليلى العدنية»(25) التي عمد فيها إلى أسلوب الحكاية الشعبية ويلتقي بنفس الأسلوب مع قصيدة زهران إن لم يكن في الموضوع نفسه.

ربما هذا له ما يبرره على المستوى الفني والسياسي لأن شعور الشاعر الفلسطيني بالإبادة ومواجهة ثقافة أخرى تدعوه بإلحاح إلى توظيف هذه الأقانيم من ثقافته التي ينتمي إليها قوميا وإنسانيا. بالإضافة إلى ما وجد فيها من أبعاد معبرة عن رؤاه الفنية والفكرية.

وإذا ما تتبعنا آلية التناص على مستوى اللغة المحكية فإننا نلاحظ الشعراء المعاصرين في ارتباطهم بها لا يشكلون ارتباطا موحدا، وإنما نسبة الارتباط تتراوح ما بين الشعراء إلا أنها تشكلت بشكل لافت للانتباه عند الشعراء الرواد مثل السياب، البياتي، صلاح عبد الصبور، يوسف الخال، صلاح عبد الصبور، سعدي يوسف، درويش المناصرة، سميح القاسم.

وكل شاعر وله رؤيته الخاصة وتعامله المنفرد مع اللغة المحكية وما يقتضيه سياق القصيدة، وربما هذا التعامل يرجع إلى ما اقتضته عوامل محلية متداخلة منه ما هو ثقافي ومنه ما هو تاريخي، ومنه ما يرجع إلى طبيعة الشكل الشعري الجديد الذي تحرر من القوالب الجامدة والشروط الفنية المسبقة وهو الأمر الذي جعل القصيدة المعاصرة تتحول إلى تجربة مفتوحة ولذلك ترى خالدة سعيد «بأن الشعر الحديث عبارة عن تجارب فردية، فليس ما يجمع بين الشعراء الحديثين سوى نية التجدد، بينما كل شاعر يعمل منفردا، له تجاربه الخاصة واتجاهه الأخص»(26).

فالتحول والتطور الذي يمس بنية المجتمع امتد إلى الجانب الثقافي ولاسيما الشعري منه واللغة بالأساس، لأن اللغة تشكل المادة الأساسية التي يتعامل معها وبها الشاعر لذلك بحث عما يحولها من الداخل والخارج، الداخلي إبطال المفهوم القاموسي للمفردة، والخارجي تطعيمها بما يضيف إليها إيحاءاً جديدا وبعدا فنيا آخر تقوم عليه اللغة المحكية، وهم بهذا جعلوا القصيدة المعاصرة محل تجريب قائم على اكتشاف طرق وسبل أخرى في التعبير وهو الأمر الذي سمح بتنوع التجارب الشعرية المعاصرة.

ويبدو أن الالتقاء الكائن بين اللغتين على مستوى أدائهما الاجتماعي هو الذي أضاف المنحى الفني للغة المعاصرة فصلاحية اللغة لا تقاس «بحسب التقدم أو التأخر في الزمن والرقي أو التأخر في الحضارة، بل بحسب قدرتها على أداء دورها الاجتماعي بين من ينطقونها، إذ تستجيب للتعبير عن تجاربهم ومظاهر حياتهم وتحقيق الاتصال والتفاهم بينهم»(27) فالجانب الاجتماعي والفني للغة المحكية هو الذي جذب انتباه الشاعر المعاصر فأدخلها كعنصر فاعل في قصيدته ولاسيما أنها لا تشكل عنصرا غريبا في القصيدة باعتبارها لغة نابعة من صميم المجتمع وهي معبرة عن طموحات أهله ورغباتهم النفسية والفكرية وتمتاز بنظامها الخاص سواء فيما يتعلق بالصوت أو الصيغ أو المفردات أو التراكيب وما  «حدد هذا هو العرف الاجتماعي واللغوي»(28).

 وليس هذا فقط وإنما تماشيا كذلك مع ما قدمته الواقعية الحديثة وكذلك التشجيع السياسي «في جعل اللغة بسيطة وفي متناول الجماهير وفتح أسوارها القديمة لكي تستوعب متطلبات الحاجات السياسية اليومية»(29).

لأن الشاعر المعاصر يقوم بعملية امتصاص للمفردة الشعبية ويعيد صياغتها الفنية والفكرية وفق مراده وقصده وهو ما يمكن أن نعبر عليه بتحوير النص الغائب حتى يصبح مندمجا اندماجا كليا مع النص الجديد، وهذا الاندماج الذي لا يفقد معه النص السابق مقوماته الفنية.

هذه المستويات الفنية والفكرية حينما تتجاور مع لغة النص الشعري الفصيح تفتح أفقا فنيا فيزيد من فيض الإبداعية ويقوي الجانب الدلالي للنص الشعري من ذلك مثلا ما عبر عنه السياب والبياتي وبلند الحيدري وصلاح  عبد الصبور وعبد المعطي حجازي و محمود  درويش والمناصرة وغيرهم كثير.

الشعر المعاصر بهذا التداخل أصبح تجربة بليغة الحيوية نظرا لثقافة الشاعر العامة التي استطاعت أن تربط وتجاور بين ما هو متنافر في الواقع متلاحم ومرتبط على مستوى الإبداع  «اللغة الفصحى- اللهجة المحكية»، وهو ما أهّل القصيدة المعاصرة إلى اكتساب فيض الشعرية على مستوى الدلالة والإيقاع وإلى اكتساب واقعية في التعبير والوقوف على جمالية شعرية متميزة ومتنوعة. من ذلك ما جاء في قصيدة «موال» لمحمود درويش(30).

خسرت حلما جميلا            خسرت لسع الزنابق

وكان ليلي طويلا               على سياج الحدائق

وما خسرت السبيلا

لقد تعودت كفي             على جراح الأماني

هزي يدي بعنف             ينساب نهر الأماني

 يا أم مهري وسيفي!

« يما .. مويل الهوى        

« يما مويليا

« ضرب الخناجر .. ولا

حكم النذل فيا(31)

يتعامل الشاعر هنا مع الموال كلازمة، بحيث تكرر أربع مرات، فأصبح هذا التكرار توشيحا تتوشح به القصيدة سواء في شكله أو إيقاعه، والسياق الذي ورد فيه يخرجه الشاعر من كونه موالا غنائيا إلى كونه موالا له دلالته الخاصة، بحيث الشاعر هنا يخاطب الأرض « فلسطين» مما يعطي للموال دلالة المقاومة والرفض.

ومما زاد الموال فاعلية وحركة هو ارتباط الشاعر بالأم المجازية «الأرض»، الانتساب إلى مكان الهوية والذات والحضور مع الأم الحقيقة «البيولوجية» التي تعد منبع الوجود والحياة والحنان والرقة، وما يدل على ذلك هو لفظه «يما» التي هي لفظة تقابل لفظة «أمي» بالفصحى لأن عادة ما تنطق الأم بالفتح باللهجة الدارجة على عموم الوطن العربي.

وما زاد كذلك من دلالة المقاومة والتضحية والدفاع هو توظيف الشاعر للآية القرآنية }وهُزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا{(32). هزي يدي بعنف -انسياب نهر الأماني- يا أم مهري وسيفي». أي أنني مصدر العطاء والحياة  والنماء  والدفاع.

هذا التعانق والتجاور بين النص الشعري الفصيح والموال الشعبي والنص الديني هو الذي يعطي التوزع والحركة والفعل لذاكرة القارئ، بحيث يتوزع انتباهه بين نصوص متباعدة في الواقع إلا أنها مترابطة ومتجاورة فيما ترمز إليه ،ولذلك يجب على الشاعر أن يكون ذكيا في مجاورة نصوصية نصه، لأن صياغتها المتعددة، وأسلوبها المختلف، هو الذي يعطي للنص الجديد جمالية وأبعادا فنية مثل كلمة «يما» التي استمدها الشاعر بوجوهها المتعددة والمختلفة.

ومن هنا فإن الرؤيا التي قدمها الشاعر جاءت عن طريق التناسل الذي تم من خلال التجاور بين مستويات لغوية متنافرة أسلوبيا متوافقة دلاليا ورمزيا، وبهذا تخطى الشاعر مهمة اللغة النفعية، والمفاهيم التي ارتبطت بها، إلى مجال آخر وهو التعبير بها ومن خلالها عما يحتدم في نفسية الشاعر من رؤى وخيال «توليد المعاني»، وهو ما عبر عنه آرنست فيشر ERNEST FSCHER 1899 - 1972حينما رأى بأن اللغة تعبر «عن جميع الأشياء بمعايير العقل لكن المطلوب من الشاعر أن يعبر عن الأشياء جميعها بمعايير الخيال، الشعر يتطلب الرؤيا أما اللغة فلا تقدم غير المفاهيم…»(33).

 

الهوامش

 

1.    نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار المعارف،ط3،1981،ص4.

2.    عبد الوهاب البياتي، م.ك، مج2،دار العودة، بيروت، لبنان،ط،3، 1979، ص 149 .

3.    م.ن، ص 150.

4.     بدر شاكر السياب، م.ك، مج1،دار العودة ،بيروت 1971  ،ص602.

5.     م.ن، ص605.

6.     د . محمد النويهي، قضية الشعر الجديد، جامعة الدول العربية . معهد الدراسات العربية العالية. د.ط، 1964.

7.    يقصد باللغة الحية هي لغة التعامل اليومي الذي يتعامل بها الناس في حياتهم وواقعهم واحتياجاتهم وهي لغة متغلغلة في الوسط، لا تتحكم فيها المؤسسات والإدارات والوظائف كما هو الشأن مع اللغة الفصحى بمعنى أن اللغة الشعبية ترافق الإنسان في شتى مجالات حياته، وكل ما يربط الإنسان باللغة، نفسيا واجتماعيا، وفكريا، لذلك سماها النويهي باللغة الحية وهو مصطلح استمده الناقد مما تعرف به اللغات الحية لانتشارها في العالم كاللغة الإنجليزية والفرنسية. 

8.    محمد النويهي، م.ن، ص:109.

9.     ف أ . ماثيسن، ت.س.اليوت، الشاعر الناقذ، تر: د. إحسان عباس،المكتبة العصرية،صيدا ،بيروت 1965 ص: 367.

10.    م.ن، ص-ص: 367- 368.

11.     م.س، ص: 368.

12.     للمزيد يراجع، م.ن، ص: 368. 369. 370 .

13.     م.س، ص: 117.

14.     عبد الوهاب البياتي، تجربتي الشعرية، م ك، مج2، دار العودة بيروت، لبنان، ص-ص: 11-12.

15.    عز الدين المناصرة، شاعرية التاريخ والأمكنة، حوارات مع الشاعر  عز الدين المناصرة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2000 ص-ص: 622-623.

16.     عز الدين المناصرة، الأعمال الشعرية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1994، ص:127.

17.     عز الدين المناصرة، م.س، ص-ص: 136-137

18.     عز الدين المناصرة، شاعرية التاريخ والأمكنة، ص: 623.

19.     عز الدين المناصرة، شاعرية التاريخ والأمكنة، ص: 623.

20.    صلاح عبد الصبور، م ك ، مج1،دار العودة ،بيروت،ط1 ،1972 ،ص:18.

21.     م.س ، ص:20.

22.     م.س، ص:21.

23.     جلال الخياط،  الأصول الدرامية في الشعر العربي،دار الرشيد للنشر،بغداد،1982، ص:104.

24.    صلاح عبد الصبور، م ك،  مج1، ص:22.

25.    سميح القاسم، الديوان، الديوان، دار العودة بيروت،1973 ص:153.

26.    24 . خالدة سعيد، البحث عن الجذور، فصول في نقد الشعر الحديث، دار مجلة الشعر، بيروت، د ط ، 1960، ص:18.

27.     محمد عيد، المستوى اللغوي للفصحى واللهجات وللنثر والشعر، عالم الكتب، د ط، د ت، ص:29.

28.     ينظر، محمد عيد، م.س، ص:19.

29.     يوسف الصائغ، الشعر الحر في العراق منذ نشأته حتى 1958، مطبعة الأديب البغدادية د ط ،د ت ص:165.

30.     محمود درويش، الأعمال الشعرية الكاملة مج1-2 ، دار الحرية للطباعة والنشر بغداد، 2000، ص:88.

31.     م ن، ص:89.

32.     سورة مريم، الآية 25.

33.     عن د.صلاح أبو أصبع، الحركة الشعرية في فلسطين المحتلة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1979، ص: 215.

مصادر الصور

1.    http://www.nddara.com/wp-content/uploads/2014/10/Vasnetsov_samolet.jpg

2.    http://www.wollamshram.ca/1001/Dixon/Batten01-222.jpg

3.    http://www.shmok3.net/vb/6-2014/img_1405649884_547.jpg

4.    http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/9/98/Robida_-_Ali-baba_page2.jpg

5.    http://www.wollamshram.ca/1001/Dixon/Batten02-070.jpg

6.    http://upload.wikimedia.org/wikipedia/commons/5/57/Robida_-_Ali-baba_page7.jpg

7.    http://www.gutenberg.org/files/19860/19860-h/images/image_014.jpg

8.    http://www.wollamshram.ca/1001/Dixon/Batten01-222.jpg

9.    http://36.media.tumblr.com/tumblr_m7df0zjMNc1qac76ro1_1280.jpg

 

أعداد المجلة