فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
28

الخصائص المميّزة للإيقاعات الشّعبيّة التّونسيّة

العدد 28 - موسيقى وأداء حركي
الخصائص المميّزة للإيقاعات الشّعبيّة التّونسيّة
كاتب من تونس

الإيقاع كعنصر موسيقي مستقلّ بذاته
على أهمّية«الموسيقى الشّعبيّة» في توصيف الواقع المعاش والتّعبير عن حالة المجتمع ومستوى تطوّره وثقافته وجوهر تفكيره، فإنّها تبقى، لعدّة أسباب، من بين المجالات الأكثر إهمالا نظرا لمجموعة من الأسباب جعلت هذا المبحث العلمي يشكو من عدّة نقائص مثل الانغماس في الانطباعيّة والتّأويلات غير المحايدة... ولعلّ أهمّها الإهمال وعدم التّدوين والتّوثيق بما جعلها فريسة سهلة في يد العولمة وتغيّر أنماط العيش الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثّقافيّة التي شهدتها جلّ مجتمعات العالم.

 


وتونس من بين هذه المجتمعات التي تغيّر نسق الثّقافة فيها بشكل ملفت للانتباه لا سيّما في النّصف الثّاني من القرن العشرين، وهو ما رمى بظلاله على ممارسة الموسيقى الشّعبيّة التي تغيّرت بصفة جذريّة سواء في طريقة أدائها، أو المحافل التي تؤدّى فيها...
فـ «الإنتاج الموسيقي هو إنتاج شبيه بكائن حيّ ينمو، يتأثّر ويتطوّر، يزداد خصبا وثراءً ويزداد تعقيدا وتشعّبا(...) إنّه حقيقة حيّة يطرأ عليها الكثير من التّغيير بفعل الصّيرورة الحضاريّة التي لا بدّ لكلّ عمل فنّي أن يندمج فيها ويتوقّف لديها»(1)
والحديث عن غياب الاهتمام بالموسيقى الشّعبيّة لا ينفي بعض المحاولات التي استطاعت أن تنفض بعض الغبار عن أنماط من الموروث الموسيقي التّونسي، كمحاولة لإعادة إحيائه حفاظا على استمراريّته،(2) ولكنّ المتمعّن في هذه المحاولات، على قلّتها، يلاحظ أنّها لم توف الإيقاع حقّه.
فالمتمعّن في تاريخ البحث في المجال الموسيقي يلاحظ أنّ المفكّرين اهتمّوا بالجانب المادّي الملموس في الموسيقى وجعلوا لكلمات الأغاني مكانة مميّزة مقارنة باللّحن والإيقاع  «فبالنّسبة إلى أفلاطون ومجموعة أخرى من الفلاسفة، فإنّ الموسيقى لم تكن سوى الكلمات، أمّا بالنّسبة إلى الإيقاع واللّحن فقد كانا يحتلاّن المرتبة الأخيرة من اهتماماتهم»(3).
وبتطوّر البحث في الموزيكولوجيا، اهتمّت فئة جديدة من الباحثين، بالجانب اللّحني اعتمادا على مبدإ  اعتبار أنّ «الإيقاع اتفاق الأصوات وتوقيعها في الغناء»(4). وما هو إلاّ «تناوب الأصوات الموسيقيّة في الزمن من جهة الكثافة والامتداد»(2) مدعّمين بذلك فكرة أنّ الموسيقى تقوم أساسا على «تلحين الأشعار الموزونة بتقطيع الأصوات على نسب منتظمة معروفة يوقّع كلّ صوت منها توقيعا عند قطعه فيكون نغمة ثمّ تؤلّف تلك النّغم بعضها إلى بعض على نسب متعارفة فيلذّ سماعها لأجل ذلك التّناسب»(6).
فكأنّما بالباحثين حتّى وقت وجيز يرون الإيقاع من تحصيل حاصل، يحدث تلقائيّا أو طبيعيّا مع ابتداع اللّحن الموسيقي، فلا يتناولوه بالدّرس والتّحليل. متعلّلين في ذلك بأنّ «الموسيقيّين لم يضِرْهم جهلهم بحقيقة الإيقاع لأنّهم لم يدركوه بالفكر فقد أدركوه بالحساسيّة والحدس وهذا هو المهم»(7).
ولكنّ «الإيقاع، هو خطوتنا، وهو تعاقب اللّيل والنّهار وتحرّك النّجوم والكواكب. إنّه النّظام والتّناسب. وهو الشّكل البدائي للموسيقى الذي تطوّر بفضله فنّ الرّقص تدريجيّا فكان هذا التّطوّر السّبب في ولادة الموسيقى الآليّة»(8).فكيف يمكن أن نجعل منه عنصرا ثانويّا؟ ألا يستحقّ هذا العنصر اهتمام الباحثين الموسيقييّن؟ خاصّة وأنّ الملاحظ لطبيعة الإيقاعات الشّعبيّة التّونسيّة، على سبيل الذّكر لا الحصر، يلاحظ تطوّرها واصطباغها بروح وجوهر كلّ عصر، ومواكبتها للمحطّات الثّقافيّة الهامّة التي شهدتها البلاد في حقباتها التّاريخيّة المتتالية، فهو يمثّل خطابا موسيقيّا مستقلاّ بذاته، يستطيع أن يعبّر، بمفرداته الخاصّة عن خصائص محلّية بصفة مستقلّة عن اللّحن. وإذا تغافلنا، نحن الباحثون، عن هذه الخصائص فإنّنا بصدد المساهمة في إتلاف المميّزات التي ينفرد بها عازفو الإيقاع الشّعبيّين التّونسيّين عند ممارستهم هذا الرّصيد الشّعبي الهام، والتي لا يستطيعُ مَن حَفِظَ العزف على آلة الإيقاع الشّرقيّة وحَفِظَ التّقنيّات التّركيّة واللاتينيّة وغيرهما تنفيذها بالدّقّة المرجوّة إذا لم يتلقّ التّكوين المعمّق والمركّز على هذه الخصائص دون سواها.

العناصر الضّامنة للخصوصيّة الإيقاعيّة:
تتأتّى الخصوصيّة الإيقاعيّة للموسيقى الشّعبيّة التّونسيّة من جملة من العناصر التي إن اختلّت واحدة منها، انهار الطّابع المميّز لهذه الإيقاعات.
 
1. الآلات الإيقاعيّة والتّكامل فيما بينها:
الدّورة الإيقاعيّة الشّعبيّة في الموسيقى التّونسيّة هي خلاصة عزف مجموعة من الآلات الإيقاعيّة التي تختصّ كلّ واحدة بدور في بناء ما يسمّى «البوليريتميّة» (Polyrythmique). وتختلف هذه الآلات من نمط موسيقي إلى آخر (تقليدي، شعبي، صوفي).

1.1. الآلات الإيقاعيّة:
الدّربوكة:
تنوعت أشكال صنع آلة الدربوكة ومقاييسها من مدينة لأخرى رغم أن ولاية «نابل»(9)كانت وما تزال رائدة في هذا المجال لما تميزت به هذه الجهة من تطور وحذق لصناعة الفخار.
وقد شمل الاختلاف في جذور وأحجام الرّقعة (المساحة المخصّصة للنّقر والتي تسمى كذلك بـ “الجلد”). ففي المدن الساحلية تكون من جلد “الحوت”، وفي جهات الجنوب تكون من جلد “الماعز” أو أحيانا “الإبل”. وتكون آلة “الدّربوكة” صغيرة الحجم إذا ما قارنّاها بالدّربوكة الشّرقيّة المنتشرة في مصر وتركيا، وتتراوح أحجامها بين:
الطول: من30 إلى 38 صم
قطر الجلد المنقور: من18 إلى 22 صم
قطر الفتحة الخلفية: من 10 إلى 15صم
وكأغلب الآلات الموسيقيّة تطور شكل الآلة وطرق صنعها. فمنذ بداية القرن الواحد والعشرين لم يعد صنع الآلة يدويا، وتخلت شيئا فشيئا عن هيكلها الأصلي، فصار معدنيا عوضا عن الفخار، وجلدها الطبيعي عوض ببلاستيكي بأحجام وأنواع مختلفة لما في الطرق اليدوية من مشاكل اختيار الجلد وتجفيفه ودبغه ولما للعازف من عناء تسخينه بطرق مختلفة للحصول على “رنّة” ممتازة عند العزف.
الــــــــــــــــدّف:
يصنع الدّف في الأصل من هيكل خشبيّ دائريّ الشكل، مغطّى من جهة بجلد حيوان كالجمل والماعز. وفي أغلب الأحيان تشدّ أوتار مع الجلد لتعطي رنّات خاصة في العزف. لكن مع التّطور الحالي في صناعة الآلات أصبح شأنه شأن الدّربوكة متّخذا قياسات أكبر كما أصبح الجلد المنقور بلاستيكيا قابلا للتعديل بمفاتيح ضاغطة، أيضا لتيسير عمليّة العزف لما في ذلك من عناء تسخينه.
اختلفت أحجام وأشكال آلة “الدف” في البلاد التونسيّة حسب طبيعة الاستعمال والممارسة الموسيقيّة .
وعادة ما يتراوح قطر الدّف من 33 إلى 36 صم في حين يتراوح ارتفاعه من 18 إلى 28 صم.

2.1. التّكامل بين الآلات الإيقاعيّة:
تتميّز الموسيقى الشّعبيّة التّونسيّة، بإيقاع مركّب أو «بوليريتميّ»، إذ تختصّ كلّ آلة بدورة إيقاعيّة خاصّة بها، ولا نتعرّف على الدّورة الإيقاعيّة الكاملة إلاّ عند الاستماع إليها جميعا وفي نفس الوقت. وبذلك تتميّز هذه الدّورات بجرس خاصّ ومميّز ناتج عن اختلاف أجراس الآلات الإيقاعيّة المستعملة في الموسيقى الشّعبيّة.


وكمثال على هذا التّكامل بين آلة الدّربوكة والدّفّ سنقدّم على سبيل المثال إيقاع “الفزّاني تونسي”.
-الدّورة الإيقاعيّة لآلة الدّربوكة:




-الدّورة الإيقاعيّة لآلة الدّف:




-الدّورة الإيقاعيّة لـ “الفزّاني تونسي”:



2. وضعيّة الجلوس:
تعتمد وضعيّة الجلوس على مجموعة من الشّروط التي يجب التّقيّد بها من كلّ عازف يسعى إلى إتقان العزف على آلته. وسنحاول من خلال هذا الجدول توضيح شروط حسن الجلوس عند العزف على آلتي “الدّربوكة” والدّف”.

 وضعيّة الجلوس لآلة الدّف وضعيّة الجلوس لآلة الدّربوكة
استقامة الظهر عند الجلوس   استقامة الظهر عند الجلوس
 ثني الرجلين وعقدهما إلى الخلف عند الجلوس  ثني الرجلين وعقدهما إلى الخلف
 رفع اليدين موازاة مع الكتفين  بسط اليدين موازاة لجلد الآلة
رفع الرأس والنظر إلى الأمام  رفع الرأس والنظر إلى الأمام

 


تشترك وضعيّة الجلوس بين آلتي الدّربوكة والدّف في جلّ التّفاصيل (الظّهر، الرّجلان والرّأس) وتختلف فقط في مستوى وضعيّة اليدين.
3. طريقة مسك الآلة:
الدّربوكة:
تخصّ هذه الوضعيّة عازفي الموسيقى الشّعبيّة فقط، حيث تكون الآلة موضوعة بين رجلي زاوية العازف عند عقدهما إلى الوراء في وضعية الجلوس، على أن يشكل هيكل الآلة تقريبا 45 درجة للأرض والقاعدة الصغرى لشكل شبه منحرف، وبالتّالي يمثّل صدر العزف القاعدة الكبرى من هذا الشكل.
الــــــــــــــــدّف:
تثبّت الآلة تحت الإبط الأيسر للعازف لتُكوّن زاوية 30 درجة لصدره وأن يمثّل هيكلها تقريبا زاوية 45 درجة للأرض. وهذه الوضعيّة تهمّ فقط عازفي آلة الدّف.

4. وضعيّات العزف:
إنّ شكل “الرّقعة” (وهو المكان المخصّص للنّقر على الآلة) يقدّم للعازف عددا ضخما من الإمكانيّات التي تختلف باختلاف الأصابع المستعملة في العزف، موضع النّقر أي مكانه (في أقصى يمين الرّقعة، في أقصى يسارها أو في وسطها...) وفي شكل كفّ اليد عند النّقر. وهذه الاختلافات من شأنها أن تغيّر وبشكل لافت للانتباه الأجراس المنبثقة عن النّقر.
ولحذق الآلة والتّمكن من اكتشافها أساس هام ألا وهو وضعيّة العزف السليم. أي أنّه على كلّ عازف أن يمتلك القدرة على التّمييز، عند استماعه للإيقاع، بين نقرات المؤدّي، فيتفطّن إلى موضع النّقر على الجلد حتّى يحافظ بذلك على نفس جرسه الصّوتي ويحدّد بالتّالي تركيبة الإيقاع من دمّ وتك وطق. وتشترك كلّ من “الدّربوكة” و”الدّف” في نفس مواضع النّقر على الجلد، وهو ما سنوضّحه من خلال مجموعة من الرّسوم البيانيّة في الإبّان.

1.4. “دم” :
هو النّقر أو الضّرب الغليظ الأصم (الغير الرّنان) يكون نسبيّا طويلا مبيّنا بذلك الوقت القويّ عند بداية الإيقاع أو في وسط الدّورة الإيقاعيّة ذاتها. تعزف “الدّم” عادة باليد اليمنى “براحة اليد” في الجانب الأيمن الأوسط للجلد تقريبا.
أمّا عن اليد اليسرى فلا تكتفي بمسك الآلة فقط بل بإمكانها عزف بعض من “الدّمات”(10) لدواعي الزّخرف لا غير و ذلك بـ «راحة اليد اليسرى» في الجانب العلوي للجلد تقريبا.

2.4. “تاك”:
هو النّقر أو الضّرب الحادّ والرّنان مبيّنا عادة الوقت أو الزمن الضّعيف نسبيّا خاصّة في وسط الدّورة الإيقاعيّة باستثناء حالات خاصّة (مثل: إيقاع البوحلّة(11) أو الغيطة(12)).
تعزف «التّاك» عادة بإحدى أصابع اليد اليمنى(الوسطى، السبابة، البنصر) أو الاثنين معا، كذلك الشأن بالنسبة لليد اليسرى. ولحصر إمكانيات عزف «التّاك»، نلاحظ اعتماد العازف على وضعيّات مسك الآلة وطبيعة الميزان لترشيح وضعيّة العزف وتقنيّته إثر ذلك.
قد بيّنا آنفا أن «التّاك» هي النّقر أو الضّرب لإصدار صوت حاد، والصّوت هو عبارة عن تركيبة مواصفاتها: القوّة،الارتفاع،الطّابع .
و»التّاك» بالذات يختلف طابعها حسب مكان العزف وحسب الإيقاع المعزوف لذلك فإنّه بإمكاننا تصنيف «التّاك» إلى نوعين: عمدنا إلى تسمية الأوّل تاك والثّاني «طق» تلافيا للخلط بينهما.
- تعزف «التّاك» كما ذُكر إمّا بأحد أصابع اليد اليمنى أو أكثر وهو ما يجري على اليد اليسرى. ويجوز للعازف في كل الحالات إصدار «تاك» و»طق» باليد اليمنى.  
- أمّا “الطّق” فتعزف أساسا باليد اليمنى وذلك بأنامل كامل أصابع اليد. ولكن يجوز للعازف أن يستعمل هذه التقنية باليد اليسرى، لغرض الزّخرف لا غير.
إنّ مكان النّقر على الآلة يغيّر بشكل لافت للانتباه الصّوت الصّادر عنها. ومن البديهي أنّ تغيير “دم” بـ “تاك” من شأنه أن يغيّر في الإيقاع. ولكنّ، ومن خصائص الموسيقى التّونسيّة، فإنّ تغيير طريقة عزف التّاك أي موضع نقرها على الرّقعة قد يؤدّي إلى تغيير الإيقاع. وكمثال على ذلك نستشهد، على سبيل الذّكر لا الحصر، بإيقاع المدوّر حوزي، الذي يتحوّل إلى “علاّجي” إذا غيّرنا الوقت الرّابع (بحساب المشالة) من “التّاك” إلى “طق”.



 

 

الهوامش

1 - اللّجمي (محمّد)، «الإنتاج الموسيقي في تونس في بداية الألفيّة الثّالثة، العوائق والرّهانات»، تونس، مباحث في العلوم الموسيقيّة التّونسيّة، العدد الأوّل، ماي 2008. منشورات وزارة التّعليم العالي والبحث العلمي والتّكنولوجيا، ص.119.

2 - نذكر على سبيل المثال محاولات محمّد التّريكي وصالح المهدي وغيرهم في تدوين النّوبات التّونسية والتّساجيل الصّوتيّة التي سعت الإذاعات الوطنيّة إلى تسجيلها لحفظ التّراث الموسيقي التّونسي الشّعبي والصّوفي من الاندثار.

3 - «Pour Platon et autre philosophes, la musique n’était autre chose que la parole et le rythme, le son venant en dernier lieu».

SOULAGE (Marcelle), le solfège, que sais-je, n°959,  presses universitaires de France, 1962, p.13.

4 - البستاني (بطرس) قطر المحيط، مكتبة لبنان، بيروت، 1869. ص 3414

5 - Répartition des sons musicaux dans le temps, des points de vue de l’intensité et de la durée ».

Le robert pour tout, p.1002.

6 - ابن خلدون (عبد الرّحمان بن محمّد)، مقدّمة ابن خلدون، دار الجيل، بيروت، ص.469.

7 - العيّاشي (محمّد)، الكمّيّات اللّفظيّة والكمّيّات الإيقاعيّة في الشّعر العربي، المطبعة العصريّة، تونس، 1987، ص.40.

8 - «rythme, notre marche, l’alternance du jours et de la nuit, l’évolution des astres, des planètes, ordre et proportions… forme primitive de la musique, lequel développe peu à peu l’art de la danse, d’où nait à son tour la musique instrumentale».

SOULAGE (Marcelle), le solfège, que sais-je, n°959,  presses universitaires de France, 1962, p.11.

9 -  إحدى أهمّ الولايات الساحليّة في الوطن القبلي للبلاد التونسيّة.

10 - الدّمات:جمع «دم» وهو النقر أو الضرب الغليظ والأصم.

11     - *وزن بوحلّة:   

12     -  *وزن الغيطة:    

 

أعداد المجلة