فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
26

رقصة العلاوي (الدبكة المغاربية)

العدد 26 - موسيقى وأداء حركي
رقصة العلاوي (الدبكة المغاربية)
كاتب من المغرب

تشير كثير من النقوش الأثرية والرسوم وأعمال الفسيفساء الموروثة عن الحضارات المغربية السابقة إلى حضور قوي لفن الرقص في الحياة اليومية لكافة طبقات الشعب المغربي بكل مكوناته.
فمنذ العصور الموغلة في القدم، عرف المغاربة ألوانا شتى من الرقص ومارسوها واستمتعوا بها، وما زالوا إلى يومنا هذا يعتبرون الرقص فنا تعبيريا راقيا وأنيقا، وذا أهمية اجتماعية ونفسية ترويحية لا تضاهى، بل بعض الرقص يكتسي قداسة ما، ويحظى باحترام بالغ من كل مكونات الشعب المغربي.

 

 وعبر هذه العصور، تبادل المغاربة التأثير والتأثر مع الشعوب المجاورة لهم، فمن خلال الرحلات، والهجرات، والمبادلات التجارية، وتنقلات الرعاة، نقل المغاربة لمجاوريهم أساليب وطرق أداء وتعبير هذه الشعوب، كما تعرفوا فنون وطرق أداء مجاوريهم، وقد ساعد على تحقيق هذا التثاقف، وحدة الجغرافيا وانعدام الحواجز الطبيعية وسهولة التنقل في أرجاء بقعة جغرافية واسعة تمتد من الشام إلى المحيط الأطلسي، مرورا عبر الحجاز ومصر وشمال إفريقيا(1).
وهذا ما يساعد على تفسير وجود فنون وعادات وتقاليد متشابهة إلى حد التطابق بين هذه الشعوب،  ومن هذه الفنون رقصة الدبكة التي تعد قاسما مشتركا بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

تعريف بالرقصة
رقصة الدبكة تتألف من مجموعة من الخطوات والحركات الرشيقة والضربات بالقدم على الأرض، تتميز باعتمادها على حركات الأرجل، السريعة والقوية، التي تجمع بين رشاقة الحركات الراقصة، والقوة التي تجسدها الرجولة(2).
تنتشر الدبكة في دول حوض المتوسط، في بلاد الشام ومصر وعند بعض الشعوب الأوروبية وشمال إفريقيا، وهي تمثل المشترك الفلكلوري بين تلك البلدان. تمارس غالباً في المهرجانات والاحتفالات والأعراس.
في المغرب والجزائر تسمى العلاوي، وتعتبر تراثا مشتركا بين الشعبين، يشيع رقصها في منطقة واسعة تمتد بين الغرب الجزائري والشرق المغربي(3)، يشترك المغاربة والجزائريون في رقصها، بالرغم من خصوصيتها الشديدة وتنوع إيقاعها من منطقة لأخرى، بدرجاته البطيئة والمتوسطة والسريعة وخطواتها المتعددة وألحانها المختلفة.
تنتسب رقصة العلاوي اسما لقبيلة بني يعلا التي تنتشر بطونها وفروعها في الشرق المغربي والغرب الجزائري، وتمارس الرقصة في المهرجانات والاحتفالات والأعراس، يصطف فيها الراقصون الذكور، لأداء الرقصة على أنغام الأصوات الصادرة عن المزامير والدفوف، ويضربون الأرض بأقدامهم؛ معبرين عن حيوية الشباب المندفعة، في عفوية لطيفة، وترافق الأقدام خطى منسقة فتسير على نقرات آلات الإيقاع.  

مكونات الفريق
يتشكل فريق الرقصة من الراقصين الذين يطلق عليهم لفظ العرفة، ومن المنشدين، والعازفين.
الراقصون العرفة(4): يتراوح عددهم ما بين خمسة أو سبعة راقصين، ذكور، شباب في مقتبل العمر، أو كهول، متمتعين باللياقة البدنية، والقدرة على التحمل وأداء الحركات التي تتطلبها الرقصة، والمتميزة بالقوة والعنف والخفة، والانسجام التام مع ضابطي الإيقاع.
الشيوخ (5): العازفون والزجالون: العلاوي رقصة تتم على إيقاع النقر على البندير أو القلال على يد (الشيوخ) العازفين، والشيوخ هم الذين يفتتحون الرقصة، بترديد بعض القصائد الزجلية الشعبية العاطفية أو الدينية، دون مصاحبة موسيقية، قبل الشروع في العزف على المزمار، أو الضرب على الدف، فذلك ينبغي أن يكون خلال شروع الرجال في الرقص لأجل ضبط إيقاع الرقصة الذي يحدده قائد الفريق الراقص.
وفريق العازفين: الذي يصاحب الراقصين، يتألف في الغالب من عازفين اثنين على آلات النفخ، (يطلق عليهم لفظ قصاصبي أو غياط أو زمار، نسبة إلى الآلة التي ينفخون فيها) وهم في الوقت نفسه شعراء زجالون، يلقون القصائد، ويتمتعون بنفس طويل وقدرة على الإلقاء والتحكم في التنفس، لما يتطلبه الإلقاء والنفخ من مهارات التنفس وتصريفه عبر تجاويف المزمار بشكل متواصل، إلى جانب خفة حركة الأصابع وتجاوبها مع النغمات المطلوبة.
أما الإيقاع فيضبط بواسطة ثلاثة رجال في الغالب، يحملون الدفوف التي يطلق عليها البنادير (مفردها بندير) ويلقبون بالبنادرية نسبة للآلة، ويستعمل الدف المستدير ذو الأوتار.
ويتواجد إلى جانبهم أحيانا الدرابكي: يشارك في ضبط الإيقاع على آلة الدربوكة، أو الكلال، وهو شبيه الدربوكة متميزة بطولها.

اللباس
يمكن التمييز بين العازفين والراقصين بالعمامة التي تغطي الرأس، فالشيوخ العازفون يحملون رزة (عمامة) صفراء، أما العرفة الراقصون فيحملون رزة بيضاء.
يلبس أعضاء الفريق عباءة بيضاء، فضفاضة لا تعيق الحركة، ويزينونها بالتخامل المصنوعة من صوف مفتول يتخذونها حزاما للعباءة والسلهام.
“التخامل” أو “الحمايل” أو “التهليل” وهي خيوط سميكة من صوف وحرير مغزول مضفور، ملون بالأحمر  الأرجواني والأسود، تتخذ حزاما للتزيين، يتدلى من الكتفين إلى الخاصرة وأحيانا يصل إلى الركبة، يشد إليه في الجهة اليسرى غمد مسدس، أو الحمالة، وهي حقيبة صغيرة من جلد مزخرف تضم القرآن أو كتابا آخر كدليل الخيرات. بين الكتفين تتدلى ذؤابة من صوف أحمر، تتحرك عند هز الراقص كتفيه، يشاهدها الواقف خلف الراقص.

عدة العزف والرقص
القصبة (الناي أو الشبابة): آلة هوائية لا يخلو منها التخت الموسيقي المغاربي فهي من الآلات الأساسية في الموسيقى المغاربية، عرفها المغاربة منذ عهد الفينيقيين(6) تصنع من سيقان القصب البري، مفتوحة الطرفين، تشتمل على ثقوب وضعت بشكل يسمح بالتحكم في النغمات، يوجد منها نوعان: القصيرة وتحوي ثلاثة ثقوب، ومنها الطويلة وتحوي خمسة ثقوب.
  والقصبة الثلاثية هي المستعملة غالبا في رقصة العلاوي، لتجاوبها مع خفة الإيقاع، تحتوي على ثلاثة حلقات قصبية، مع إضافة الهوامش، تمنح صوتا مسموعا أكثر يميل إلى الصفير.
  الزامار: وهو المزمار أبو قرون المسمى بوغانيم، وهو من الأدوات التي أدخلها الأفارقة إلى المغرب في عهد السعديين(7)، يصنع من قصبتين منفردتين، مفتوحتي الطرفين، وتحوي ثقوبا على شاكلة القصبة الفردية، توصل نهاية كل قصبة بقرن عجل، يحلى بالنحاس، ويشد القرنان إلى بعضهما بذؤابة من حرير موشى ومذهب، وينفخ فيها بقصبة أخرى نحيلة وقصيرة توصل الهواء إلى جوفها فيخرج الصوت حاداً وسريعاً.
الغايطة: (المزمار) آلة موسيقية نفخية، تتكون من قطعة خشبية مجوفة أسطوانية، طولها حوالي أربعين سنتيمترا، ينتهي طرفها السفلي بقمع مخروطي، (يضخم الصوت). وينتهي طرفها العلوي بحلقة شفتية وريشة رقيقة ينفخ فيها. بلسان مزدوج (يصدر صوتا مميزا أثناء العزف)
  ‏البندير: (الدف) آلة موسيقية إيقاعية قديمة، لعلها تنحدر من آلة التبانتو التي عرفها المغاربة خلال عهد الفينيقيين والرومان(8) وما زال يعتمد في مصاحبة كثير من أنماط الموسيقى الشعبية الأمازيغية.
 يتكون البندير من إطار خشبي دائري  قطره حوالي 40 سنتمتر، يسمى طارة، وعلى حاشيتها ثقب يولج فيه الناقر إبهام يده اليسرى، ليمسك بالآلة حتى لا تنفلت منه خلال النقر عليها، يشد عليه جلد رقيق يغطي أحد وجهيه، ويستحسن أن يكون جلد ماعز، قد يبسط على امتدادها من الخلف وتران رقيقان من المصران بغرض إحداث اهتزازات صوتية عند النقر؛ ويصدر الدف عند النقر عليه بأصابع اليد صوتين، صوت ثخين (دم) وصوت خفيف (تك) بحسب المنطقة التي تم النقر فيها، (الوسط، أو الهامش)  فالنقر على وسط البندير بسبابة اليمنى. ويحدث ذلك رنات صوتية عميقة الدرجة، بينما  النقر على حاشيته بالبنصر والخنصر والوسطى من اليد رنات متوسطة الحدة.
  ويعمد الناقرون في العادة إلى تعريض جلود البنادير للحرارة قبل استخدامها، ثم يضربون عليها على طرائق، أبرزها :
الدربوكة: آلة إيقاعية. تتكون من جسم من الفخار أنبوبي، مشدود عليه قطعة من الجلد المحضر بعناية لهذا الغرض. تتمتع بأصوات إيقاعية رائعة وبنغمات مختلفة وتعتبر من أهم الآلات الإيقاعية
آلة داوداوة أو الكلال: تشبه إلى حد ما  الدربوكة إلا أنها أطول منها، يتراوح طولها ما بين المتر ونصف المتر، وقطرها 20 سنتمتر، تحدث صوتا متميزا. كانت تتخذ من ساق الصبار بعد تجفيفه وتجويفه، وتثبيت قطعة من الجلد على أحد وجهيه، مع وترين رقيقين لإحداث الرنين، اليوم تصنع هذه الآلة من فخار كغيرها من الآلات الموسيقية.
الرقصة بالبندقية أو العصا، فهذه الأدوات تمكن الراقص من ضبط حركاته، هي أكثر من مجرد استعمال عادي لأدوات الرقص، إنها بمثابة مؤشر حول نفوذ وسلطة القبيلة.

سير الرقصة
رقصة العلاوي كسائر الدبكات في كل البلدان تعتمد الحركة الخفيفة الرشيقة المضبوطة، والضربات بالقدم على الأرض بوتيرة سريعة. ودقاتها متعددة منها السبايسية(9) الخفيفة السريعة الإيقاع والعرايشية(10) الثقيلة، إلى جانب الخوية وهي وثبة منفردة تهيئ الراقص للحركات الموالية، ومنها (البونت) أي النقطة، وهي دقة واحدة سريعة، ثم (الصقلة) أي الصفعة، ضربة مفخمة بالقدم على الأرض كأن الراقص يصفعها، وحين تتعدد الضربات وتتسلسل، تكون (الشيبانية) أي العجوز، التي تبلغ ثمانين دقة كاملة، يقوم الراقص باقتراح ما شاء من نقرات على ضارب البندير، وتسمى العملية (الرشيم) أي الوشم.
ومن تقاليد الرقصة تعيين القائد الذي يقود ويوجّه الفرقة خلال أدائها الفني، ويتميز القائد عن الراقصين بمهارته وقدرته على إتقان الرقص، فضلا عن تمتعه بقبول رفاقه وبشخصية قوية، ينتقل في خفته ورشاقته بين صفوف فريقه، فهو ينظّمها ويوجّهها، آمرا تارة وباثا تارة أخرى للحماس والحيوية في نفوس أتباعه؛ ويكون واسطة بين الراقصين والجمهور، وغالبا ما يؤدي حركات تكشف عن مهاراته الفنية ولياقته البدنية.
  عدد الراقصين في العلاوي لا يكون كبيرا، فهو في الغالب يتراوح ما بين خمسة وسبعة راقصين، حتى تسهل عملية التحرك، لأن الرقصة تتميز بالسرعة والرشاقة.
قبل الشروع في الرقص، يحيي الراقص القوم، ثم يقوم بمخالفة يديه، ملتمسا مباركة السلف (11)، بينما يده اليمنى تلوح بالعصا في السماء، تعبيرا عن جدارته واستحقاقه المباركة.
يبدأ الراقص بالخاوي (12)، وهو دقة مفخمة منفردة بالبندير، تتبعها مباشرة أربع دقات، ولفظة الخاوي تعني الفارغ، أي الرقصة التي لا تتوفر على السبايسية والعرايشية، وبعد الخاوي يأتي الفراق (التقسيم) وهو طلب عدد من السبايسيات والعرايشيات، وسميت اللوحة بالفراق لأن الراقص يفصل دقات قدميه انطلاقا من عدد السبايسيات والعرايشيات التي طلبها، وغالبا ما يكون عدد الدقات متصاعدا. فالراقص يمرر إشارات بيده إلى الشيوخ ضابطي الإيقاع، إنه يعطيهم الحساب الذي يحب الرقص عليه، بأصابعه فقط دون الهمس في آذانهم، يبدأ بحساب صغير، جرتان واعرايشة خمسة وخمايسية، بإشارة من رأسه يقوم العازفون بتنفيذ الأوامر، بعد الحساب تسمع تصفيق الجمهور.
السبايسية، وهي عبارة عن ثلاث دقات أو أكثر أحيانا، خفيفة وسريعة ينقرها الضارب على البندير ليرقص الراقص على إيقاعها بسرعة فائقة، فيضرب برجله بسرعة على الأرض وتكون الدقات مترابطة وحادة. والفريق الراقص عليه أن ينفذ عددا محددا ومعلوما من الركلات على الأرض، ويكون العدد فرديا وليس زوجيا، قد يكون خمس أو سبع ركلات؛ والسبايسية تسبق العرايشية وتمهد لها.
في رقصة العرايشية ينفذ الراقصون أيضا ثلاث ركلات بالقدم أو أكثر، مع فترة فاصلة مع اثنين، حتى يتسنى للراقص هز كتفيه، فيضرب برجله اليمنى على الأرض على مهل، ويحرك كتفيه في حركة راقصة تهتز معها الذؤابة التي تتدلى خلف الرأس بين الكتفين، واضعا راحته اليسرى على كتفه الأيمن. إلا أن التعريشة التي تبعث الصوت والحركة، تفقد حيويتها وبهجتها، وتصبح رتيبة، لبطئها وثقلها، وتفسح المجال للسبايسية لتكون أكثر تعبيرا عن العنفوان والشهوانية والفحولة.
في الرقصة الواحدة تتوالى السبايسيات والعرايشيات، بحسب رغبة الراقص أو أوامر القائد أو طلبات الجمهور، فيكفي أن يعرف العازف نوع الرقصة لينقر على الدف أو القلال يحدد إيقاعاتها، مثلا حين يسمع الأمر من القائد: “اسبايسية واعرايشية خمسة”، على العازف أن ينقر على البندير ثلاث دقات خفيفة متتالية، ثم يفصل بين السبايسية والعرايشية ببونت، أي دقة واحدة ذات إيقاع خاص، ثم يتبعها بخمس دقات ثقيلة. وقد يطلب الراقص أيضا أي عدد من السبايسيات، كأن يقول مثلا 2 اسبايسية و2 اعرايشية، فتكون السبايسيتان عبارة عن ست دقات، ثم بونت، ثم ست دقات عرايشيتين، وهكذا.
غالبا ما تنتهي الرقصة بما يسمى (الشيبانية) وهي لوحة ختامية لها دلالات محددة، تشخص مراحل المعركة كاملة، بدءا من المناوشات، ثم المواجهة، فالهجوم، وأخيرا الانتصار الذي يعبر عنه بصيحة الفرح والانتشاء.
تتميز الشيبانية ببطء حركاتها التي تتيح للراقصين فرصة التبختر والتظاهر بالمباهاة والانتشاء، لذلك توصف هذه اللوحة برمزية الانتصار انسجاما مع نسق الرقصة ذات الطابع المجسد لأسلوب حربي تختزله القرائن الباقية من جراب المسدس والحمالة والعصا، وغير ذلك من القرائن.
وعدد دقات الشيبانية ثمانون دقة، موزعة على النحو التالي:
1 - ستون دقة مفخمة ورتيبة موزعة على أربع مراحل، بين كل مرحلة دقات متتالية تعتبر بمثابة دقات فصل،
2 - ثم اسبايسيتان، كل اسبايسية تقدم برجل،
3 -  ثم الدقات الخاوية،
4 -  وبعدها دقات البونت والصقلات،
5 - وأخيرا اعرايشية بخمس دقات (اخمايسية)، وتكون بمثابة إعلان نهاية الرقصة.
6 - وتختم اللعبة بالصيحة التي يطلق عليها في المغرب الشرقي لفظ اللغطة، يعبر بها الراقص عن انتصاره.
رقصة العلاوي تتميز بالاندفاع القوي للجسد، والتموضع السريع، وهز الكتفين بتنسيق تام مع حركات الأرجل؛ بحيث يصبح الجسد خفيفا رشيقا ومرنا. بحركات ثابتة راسخة وصلبة، لا مجال فيها للرخاوة ولا لليونة أو الضعف.
الحركة تشهد على تفردها، بحراكها المتصاعد، ببطء أو بسرعة، بحسب ما تقتضيه ظروف التباهي بالانتساب للقبيلة والافتخار بحيوية وصلابة رجالها. تعبر عن الارتباط بالأرض التي تستوعب القبيلة، وعن الاعتزاز بتقاليدها وموروثها الثقافي، وعن الوفاء بعهد حمايتها والدفاع عنها، بالشجاعة والإقدام والقوة التي تحقق النصر.
إن الرقصة ترتبط معانيها بقيم وأعراف وتقاليد القبيلة، فشرف القبيلة يرتبط بالدلالات والرموز الذكورية، والذكورة تظل محافظة على رمزيتها حتى خلال الرقص، ما دام ملتزما الحدود القيمية والأعراف السائدة في المنطقة، فاستعمال الكتف والصدر والرجل، كعناصر جسدية، إنما توحي بالقوة والجرأة والثبات، وهي صفات مطلوبة في الذكور، ويمنع بالتالي أي انتهاك للعرف يسيء لرمزية الذكور، ولقدرتهم على السيطرة والاستحواذ على فضاء الرقصة وميدانها، وامتلاك زمام التحكم في الضربات المحسوبة بدقة متناهية والتي لا مجال فيها للخطأ.
كل هذا يدل على أن الرقصة بتصميمها وحركاتها وإيقاعاتها وأزياء الراقصين وغير ذلك كله، مستمدة من التقاليد الحربية للمنطقة التي وجدت نفسها عبر تاريخها الطويل في مواجهة خصوم أشاوس، ينبغي مواجهتهم بهمة وشجاعة.
تنويعات الرقصة وفروعها
رقصة العلاوي لها تنويعات عديدة، تتفرع عن شجرتها عدة رقصات، تختلف باختلاف المنطقة التي تمارس فيها، فإلى جانب العلاوي، نجد النهاري المنسوب لأولاد انهار، وأيضا الركادة، المنسوبة لقرية عين الركادة بين بركان ووجدة، والمنكوشي، وغير ذلك.
فرقصة الركادة والعلاوي رقصتان مختلفتان بالرغم من تشابههما، تبدأ رقصة الركادة بالمسرح: وهو المقدمة التي يبدأ بها الراقص رقصته حينما يتابع دقات البندير، والمسرح يتوافر على دقة واحدة منفصلة من البندير، مع دقات متتابعة متشابهة، يليه البونت الذي يعني النقطة، وهي تقنية يستخدمها الضارب على آلة البندير، ليعلن عن بداية الحساب، أي عدد الدقات التي يطلبها الراقص. وبما أن البداية تكون دائما خفيفة في الرقصة، فإن أول طلب يبدأ به الراقص هو البونت، أي دقة واحدة، وبعدها تكون الدقات حسب طلبه، ابتداء من السبايسية فالعرايشية.
إيقاع الركادة رتيب، لذا يصاحبها الغناء في غالب الأحيان، حيث يتولى المنشدون إلقاء قصائدهم في هدوء وعلى مهل، حتى يسمعها الحاضرون.
أما “رقصة انهاري” التي تنسب لأولاد انهار نواحي أحفير، تلتقي في أوجه متعددة مع “رقصة المنكوشي” التي تنتمي لبني منكوش بجبل تافوغالت ببركان. وتتميز رقصة النهاري بإيقاعها البطيء، وهي دقات مفخمة رتيبة تليها دقات خفيفة، فالدقات المفخمة تؤدي إيقاع هز الكتفين، ويليها البونت، ثم السبايسية والعرايشية، أما الدقات الخفيفة فتؤدي إيقاع الجرات، أي الرقصة التي لا يستعمل فيها الراقص سوى خصره وكتفيه حتى يبدو كأنه يجر جسده، وتضم الجرة الواحدة سبع دقات خفيفة وسريعة، ويسمى البونت في هذه الرقصة (صقلة) ويخضع تصميم هذه الرقصة لتقسيم رقصة العلاوي نفسها.

الخاتمة: العلاوي في مواجهة العولمة
يشترك الشعبان المغربي والجزائري في تراثهما الشعبي في عدد من الأوجه والمظاهر، فالأصول المشتركة لكثير من قبائل وأسر البلدين، والتاريخ والمجال الجغرافي ووحدة المصير كلها عوامل تؤثر في طبيعة الثقافة السائدة لدى الجماعات السكانية بالبلدين، وفي أساليبها الفنية التي تعبر بها عن ذاتها، وفي معايير ذائقتها الفنية أيضا، وهذه المقومات هي التي تشكل الذاكرة الجمعية للشعبين المغربي والجزائري.
وهذا التراث الفني المشترك الذي يتألف من تقاليد اللباس والطعام والموسيقى والرقص وغيره، هو الذي يشكل هوية ووجدان الشعبين، ويوحد قوام شخصيتهما، ويمنحهما قدرة خاصة على مقاومة تحديات الغزو الثقافي والهيمنة الحضارية، وعملية التثاقف السلبي الناتج عن الانتشار القوي لوسائل الاتصال الحديثة التي تخترق المجتمعات.
إن العولمة ما زالت تفرض تحدياتها القوية التي تهدد بفقدان هوية الشعبين ومضمونها الثقافي، وتعرض للطمس كثير من جوانبه ومظاهره، لذلك أصبح من اللازم خلق أجواء تراثية وثقافية في أماكنها بالمنطقة الحدودية الشرقية المغربية والغربية الجزائرية، بقصد المحافظة على الهوية الثقافية المشتركة، حتى تصبح منسجمة مع أذواق الأجيال المستقبلية، وتوثيقها إعلاميا، حتى تكون عاملا لترسيخ الوحدة بين الشعبين، وتساهم في القضاء على الخلافات المصطنعة المتوارثة عن الحقبة الاستعمارية، وتنمي مشاعر التضامن والتعايش بين الشعبين الجارين، الذي يجهل شبابه وأجياله الجديدة الكثير عن قيمهما الثقافية الأصيلة، فضلا عما يمكن أن تكتسيه هذه العملية من الأهمية الاقتصادية من خلال توظيفها سياحيا وجعلها عامل استقطاب سياحي ثقافي وبيئي، يمكن أن يكون لها دور بارز في تحقيق التنمية الشاملة للمنطقة، وضمان إشعاعها الثقافي الجهوي والوطني والدولي، بعد المحافظة على هذا التراث وصيانته من كل عبث، وتأهيله لإكسابه مناعة وحصانة ضد التأثير السلبي للعولمة.

المراجع

1 - محسب، حسام: نماذج من أهم أشكال الرقص الشعبي العربي؛ مجلة الثقافة الشعبية، البحرين، عدد 1 (يونيه 2008) ص 67.
2 - محسب، حسام، نفس المرجع ص 74.
3 - تنتشر الرقصة في الجزائر بالخصوص في مسيردة وما جاورها كمرسى بن مهيدي وجبالة والغزوات ونذرومة ومغنية وفي المغرب تنتشر في الناظور، ووجدة وبركان وفجيج وتاوريرت والعيون وجرادة، وغيرها.
   4 - لا يوجد اتفاق حول أصل كلمة العرفة، التي تطلق على هذه الفرق من المنشدين، التي تنتشر في شرق المغرب وغرب الجزائر.  
5 - مفرده شيخ وهو الفنان الشعبي تطلق بالجهة الشرقية  على من له دراية بالإيقاعات الخاصة وممارستها مع حفظ القصائد والإلمام بها.
6 - عبد العزيز بن عبد الجليل، مدخل لتاريخ الموسيقى المغربية، ص 17.
7 - المكناسي، ابن غازي: الروض الهتون في أخبار مكناسة الزيتون، المطبعة الملكية، الرباط.
8 - بن عبد الجليل، عبد العزيز: مدخل إلى تاريخ الموسيقى المغربية، ص 17.
9 - بنسب باحثون الإسم لفرقة “السبايس” spahis وهي فرقة تشكلت من المغاربة والجزائريين وشاميين، ضمن اللفيف الأجنبي للجيش الفرنسي، خلال فترة الاحتلال الفرنسي للمنطقة.
10 -  لا يوجد تفسير للفظ، ويعتقد أنه انتقل إلى المنطقة من مصر، فالتعريشة موجودة في الدبكة المصرية.
11 - تسمى العملية: التسليم لرجال البلاد.
12 - في الغرب الجزائري يطلق على المرحلة لفظ “الدارة” (نديرو دارة).

مصادر الصور
- الصور من 1 إلى 4 مجموعة موقع وجدة سيتي الإخباري، تنشر بإذن خاص من إدارة الموقع.
- الصور من 5 إلى 8 مجموعة خاصة بالكاتب.
- صور الآلات الموسيقية من كتاب:
instruments des musiques populaires et des confreries au maroc, by: Mohamed Belghazi, ed la croise des chemins, 2001.
صورة zammar  من موقع وكيبيديا.

أعداد المجلة