فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
24

موازنة بين حكايتين خرافيتين في ضوء منهج بروب

العدد 24 - أدب شعبي
موازنة بين حكايتين خرافيتين في ضوء منهج بروب
كاتب من العراق

يتسم القصص الشعبي العربي عامة بالغزارة، ذلك أن البيئات العربية ذات مهاد حضاري عريق حافل بالأساطير التي تشظت إلى ملاحم وحكايات خرافية وشعبية وحكايات حيوان فضلا عن الأنماط الفولكلورية الأخرى كالأغاني الشعبية والأمثال والألغاز والطرف وسواها. وتحتضن هذه الدراسة موازنة بين حكايتين خرافيتين إحداهما من العراق وردت تحت عنوان العنقود الذهبي(1) , والأخرى من الجزائر عنوانها عصفور الهوى(2) .

ولا بد لنا قبل أن نشرع في هذه الموازنة من أن نعطي فكرة عن منهج فلاديمير بروب الذي طبقه على الحكايات العجائبية الروسية وهي نمط من الحكايات الخرافية حيث وجد بروب أن هذه الحكايات تنتظمها إحدى وثلاثون وحدة وظيفية تطرد في معظم حكايات هذا النمط من القصص الشعبي, وتتكرر هذه الوحدات بطريقة لافتة. وعلى الرغم من أن فلاديمير بروب كان قد أصدر كتابه “علم تشكل الحكاية ” أواخر العقد الثاني من القرن الماضي، وقد ترجمه إبراهيم الخطيب عن الفرنسية تحت عنوان “مورفولوجية الخرافة”

فإنه قد لقي اهتماما كبيرا ولاسيما بعد ظهور مناهج التحليل البنيوي في اللسانيات(3). ومن الباحثين من يعد منهج بروب على أنه الركيزة الثالثة للبنيوية(4).  
ولا يضير منهج بروب أنه يهدف إلى تحليل المحتوى الظاهري ( الشكلي ) للحكاية الخرافية –كما وصفه ليفي شتراوس – إذ إن شتراوس كان يهدف إلى تجاوز البنية السطحية والتوغل داخل النمط الشعبي ولاسيما الأسطورة بغية استخلاص الوحدات التي يمكن تسميتها الثوابت الصورية والتي يطلق عليها ميثمات
أي الوحدات الأسطورية. وممن تأثر بهذه الوحدات  غريماس الذي عمد إلى تقليل عدد الوظائف التي قال بها بروب عن طريق الربط بين بعض الوحدات, وخرج من ذلك بعشرين وظيفة فقط ذكرها في كتابه عن السيمانتيكا البنائية(5). ومنذ سبعينيات القرن الماضي قامت الدكتورة نبيلة إبراهيم سالم أستاذة الأدب الشعبي في جامعة القاهرة بتطبيق منهج بروب على الحكاية الخرافية المصرية في كتابها قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية(6), وتبعها بعض الباحثين في هذا الشأن.  

إن انتظام نسق الحكايات الخرافية والحكايات الشعبية عامة ممّا يبعث على الدهشة حقاً  لاسيّما إذا ما كان هذا الانتظام ليس على صعيد البيئة الموحدة بل إنه ينتظم  الحكايات حيث كانت في هذا العالم، وذلك لأنها بنية فكرية ونفسية لا نقول بأنها متطابقة بل متقاربة على وجه الدقة، وهي تفصح بالضرورة عن أن الإنسان بدأ بدايات متشابهة ولذلك فإنّ عناصر مخيلته وأساليب تفكيره المستمدّين من حاجاته الاجتماعية والنفسية أفرزت حكايات تتماهى في نسيجها الداخلي أوفي بنيتها الأساس مما حدا بفلاديمير بروب إلى أن يكتشف هذه الوحدات التي تنبع من الحكايات نفسها وقد طبّقها بنجاح على ما يدعى بالحكايات العجائبية الروسية تحديداً، وخرج باستنتاج مؤكد هوأن هذه الوحدات أشبه ما تكون بالثوب الذي يمكن أن ترتديه  أية حكاية، صحيح أن الثوب قد يبدوفضفاضاً بعض الشيء إشارة إلى أن الحكاية قد تختصر بعض هذه الوحدات الوظيفية بحيث لا تستوفيها كلها ولاسيمّا في الحكاية الشعبية التي تميل إلى التكثيف والاختصار وكأنها جذر للقصة القصيرة المعاصرة، بيد أن الحكاية الخرافية يمكن أن تستوفي معظم هذه الوحدات أوالأنساق المنتظمة، إذ إن الحكاية الخرافية سليلة الأسطورة ووريثتها , وهي تعتمد على التجريد وتبدوأقرب إلى لغة الترميز والإيحاء إذا ما قيست بالحكاية الشعبية ذات النبض الواقعي الذي يغادر لغة التجريد والإطلاق ويتجه إلى أجواء سردية اجتماعية ونفسية دانية الدلالة وموصولة بهموم الإنسان الشعبي وطموحاته، ومن هنا فإن الحكاية الخرافية يمكن أن تعدّ الأم الشرعية للفن الروائي الحديث من حيث تشعب شخصياتها وأحداثها وحضور عنصري الزمان والمكان والحوار فيها.

وهذه القدرة على الإيحاء والترميز تبدومن أبرز سمات الحكاية الخرافية ( ولعلّه من الصور المألوفة في الحكاية الخرافية أن المرأة الجميلة الطيبة في وسعها أن تحوّل الرجل الممسوخ في صورة حيوان إلى رجل جميل تقترن به زوجاً وذلك عن طريق الكلمة الطيبة أوالمعاملة الحسنة ولعلّه من الصور المألوفة كذلك في الحكايات الخرافية صورة الشيء المحرّم الذي لا يحق للبطل أن يقترب منه.... فهذا رمز آخر للإنسان الذي بدلاً من أن يعيش مقتنعاً بحياته الواقعية تاركاً الغوص في العالم المجهول يودّ أن يكتشف كل شيء حتى المحظور عليه اكتشافه )(7).
تتلخص الحكاية الخرافية العراقية “العنقود الذهبي” بأن رجلا كانت لديه سبع بنات, وقد نوى أن يؤدي فريضة الحج , وحين أتمها اشترى لبناته جميعا ما طلبنه من هدايا إلا ابنته الصغرى إذ نسي هديتها , وكانت قد طلبت منه عنقودا ذهبيا. وحين تذكر هديتها كان على ظهر السفينة العائدة إلى بلده, رفع صوته متحسرا: أف لقد نسيت العنقود الذهبي. وفي هذه اللحظة ظهر مارد قرب السفينة حاملا معه عنقودا ذهبيا, ووجه كلامه للأب: أليس هذا ما طلبته ابنتك؟ ولكني لا أعطيك إياه إلا إذا زوجتني بالفتاة, فانصاع الرجل لرغبة المارد لاسيما أن المارد وضع قدمه الضخمة داخل السفينة فاختل توازنها. وحين سأل الأب عن كيفية تزويجه من ابنته, أجاب المارد: ضع الفتاة على سطح الدار في ليل عاصف ممطر بعد عودتك ولتكن بكامل زينتها.
عاد الأب وأخبر ابنته بما حصل فبدت راضية بقدرها, اختطفها المارد في يوم عاصف وحط بها في قصر فخم كانت فيه سبع غرف. فتح لها كل الأبواب إلا باب غرفة واحدة حذرها من محاولة فتحها. انتبهت الفتاة إلى أن المارد كان يخدمها ويدعوها سيدته وليست زوجته, كما لاحظت أنه يحضر لها ليمونة كل ليلة وبمجرد أن تتناولها تستغرق في نوم عميق. وفي إحدى الليالي أحست أن في أحشائها جنينا لا تعرف من هوأبوه. قررت أن تقتحم المجهول فأحضرت ليمونة أخرى غير التي يحضرها لها المارد, وتظاهرت أمام المارد بأنها تتناول الليمونة التي أحضرها كالمعتاد, وما إن تظاهرت بالنوم حتى ذهب المارد إلى فراشه واستغرق في نوم عميق. جلست الفتاة واتجهت إلى المارد, لاحظت سلسلة المفاتيح التي كان يحملها في عنقه, استطاعت تخليصها من عنق المارد دون أن يستيقظ وتمكنت من فتح باب الغرفة المحرمة. ولشد ما كانت دهشتها حين رأت شابا جميلا ينام في الغرفة, كان عاري الصدر وفي منتصف صدره لاحظت شيئا يشبه القفل حيث جربت أن تفتحه فانفتح, وفجأة وجدت نفسها أمام عالم سحري يعج بلعب الأطفال. أحست حينذاك أن هذا الشاب هوزوجها وأن ما رأته من لعب الأطفال هولطفلهما المنتظر, وحرصت على أن تغلق صدر زوجها ولكنه استيقظ وهب واقفا. صرخ بها: لماذا فعلت ذلك؟ لم يسامحها وأمر المارد بأن يلقي الفتاة في أرض بعيدة ليس فيها إنس ولا جان. وجدت الزوجة نفسها وحيدة إلا من اختلاج الجنين في أحشائها, وظلت تسير على غير هدى حتى رأت أضواء تتلألأ من بعيد. قصدت مصدر الضوء حيث وجدت بيتا عامرا, رحبت بها صاحبة البيت, ولكنها في عمق الليل سمعت صوت زوجها وهويسأل شقيقته الكبرى عن رأيها بزوجته التي فضحت سره وعصت أمره, فردت الأخت بأنها لورأت زوجته لأكلتها وشربت من دمها. ارتعبت الزوجة وانسلت فورا إلى ظلام الليل. وفي مساء اليوم التالي قصدت دارا أخرى حيث سمعت في جوف الليل صوت زوجها وهويسأل أخته الوسطى السؤال ذاته. وكان رد الأخت الوسطى لا يختلف عن رأي الأخت الكبرى. وفي مساء الليلة الثالثة سمعت زوجها يسأل أخته الصغرى عن رأيها بهذه الزوجة, تأهبت الزوجة للهرب لولا أنها سمعت أخته الصغرى تلومه على قسوته وتعطي الحق للزوجة فيما فعلته. رق قلب الزوج ودخل المكان الذي كانت فيه, عانقها واعتذر منها وعاشا في بيت أخته الصغرى ينتظران المولود الجديد.

وتتلخص الحكاية الجزائرية التي عنوانها (عصفور الهوى) بأن رجلا كانت لديه سبع بنات, وحين قرب العيد عزم على الذهاب إلى السوق ليقتني هدايا لبناته, وقد اشترى كل الهدايا إلا هدية ابنته الصغرى التي طلبت جبة ترقص وحدها دون أن يلمسها أحد, وحين رأى الجبة في أحد الدكاكين فوجئ بأن مالك الجبة غول، وأنه يطلب يد ابنته الصغرى فلفلة ثمنا للجبة. وافق الأب وسأل الغول عن كيفية زواجه، أجاب الغول: ترقبوا يوما عاصفا ممطرا سأجيئكم لآخذها زوجة لي. وفي يوم عاصف ممطر أخذ الغول الفتاة بأن حملها على ظهره وقصد بيته دون أن يسمح لها بأن ترى وجهه. وكان يخرج من المنزل قبل طلوع الفجر ويعود حين حلول الظلام. بعد مضي فترة من الزمن اشتاق أهلها لرؤيتها فحملها الزوج الغول إلى بيت أهلها على ظهره ليلا حيث التقت بشقيقاتها وأفشت لهن سرها وأنها لم تر وجه زوجها, فنصحنها بأن تشعل مصباحا بوجهه. أخذت فلفلة بالنصيحة وباغتت زوجها بأن أشعلت مصباحا في وجهه فإذا بها ترى شابا جميلا, ولكنه استشاط غضبا واختفى فورا من أمامها. حاولت اقتفاء أثره وهي تناديه: عد يا عصفور الهوى فيرد عليها: أهلك سبب شقائك. واصلت اقتفاء أثره فرأت ثلاث عيون ماء, تدفق ماء اثنين منها إلا العين الوسطى فإنها قد جفت, وحين سألتها الزوجة سمعتها تقول: من أجل عصفور الهوى اشتد حزني فجف مائي. وشكت شجرة وسطى الشكوى ذاتها. حينئذ تذكرت فلفلة حالها وولولت: وا أماه أهلي سبب شقائي.

لم تيأس فلفلة من اقتفاء أثر زوجها الغول, وفي طريقها رأت دكاكين مليئة بالجبب والمناديل والأحذية اشتراها زوجها لها لولا عصيانها لأمره. كان عصفور الهوى يحث الخطى فيطوي الجبال وكانت فلفلة تجري خلفه حتى وصل إلى بيت أمه الغولة. دخلت في أثره, وحين لمحتها الأم الغولة تظاهرت بالسرور, ولكنها بعد أيام طلبت منها أن تعد لها وسادتين محشوتين بريش العصافير وهددتها بأنها ستأكلها إن لم تنفذ ذلك. جلست فلفلة تبكي فأعانتها شقيقة زوجها إذ نصحتها بأن تقصد الغابة وتردد احزنوا يا عصافير مات عصفور الهوى. فعلت ذلك فتساقط ريش العصافير حزنا على عصفور الهوى, جمعت الزوجة الريش وحشت به وسادتين قبل أن تعود الغولة في الليل. في صبيحة اليوم التالي طلبت منها طلبا ثانيا وثالثا ورابعا وقد أنجزت كل هذه الطلبات بمساعدة ابنة الغولة. وذات يوم نصحت ابنة الغولة فلفلة بأن تطلب من عصفور الهوى إحضار الحناء لكي تحني شعر رأس شقيقة زوجها وأن تضع فلفلة منديلا تتدلى أطرافه فتنغمس في الحناء, سوف تنبهها شقيقة زوجها فترد عليها فلفلة: دعيه يتلطخ مثلما تلطخ قلبي بالهموم. سوف يؤثر كلامها هذا على زوجها ويحملها إلى بيتهما. نفذت فلفلة نصيحة شقيقة زوجها, فرق لها قلب زوجها وهرب بها. حاولت الأم أن تلحق بهما ولكنها عجزت وقالت: خدعتني فلفلة فلم ألتهمها في الوقت المناسب, وفي طريق عودتهما أخذ الجبب والمناديل والأحذية هدايا لفلفلة كما مر على العين الناضبة والشجرة اليابسة فتدفقت العين وأينعت الشجرة.

ويشير الدكتور عبد الحميد بورايوإلى أن هذه الحكاية تستند إلى الحوافز أوالموتيفات التي تستند إليها أسطورة النفس والعشق التي تتمثل فيما عرف في الأدب العالمي بموتيف الجميلة والوحش. بيد أن الحكاية الخرافية تتيح إمكانية أكبر للاستبدالات والتصرف في التجسيدات والصور, كما أنها تتعرض  بشكل أوضح للصراع الاجتماعي والمعتقد الديني(8). وهذا ينطبق على حكاية العنقود الذهبي. وأحسب أن هاتين الحكايتين تؤرخان لأساطير موضوعها  الصلة بين البشر والآلهة المتعددة زمن طفولة العقل البشري.

وإذا شرعنا بتطبيق وحدات بروب على الحكايتين معا فإن الوحدة الوظيفية الأولى متطابقة في الحكايتين, وقوامها تغيب الأب عن البيت لأداء فريضة الحج في العنقود الذهبي, وخروج الأب في حكاية عصفور الهوى من أجل شراء هدايا العيد. وغالبا ما تتلازم الوحدتان الثانية والثالثة إذ إن التحذير الموجه إلى الأب في الحكايتين كلتيهما يأتي من المارد في الحكاية الأولى والغول في الثانية, ويتجلى ارتكاب المحظور في موافقة الأب في الحكايتين على الزواج. وفي الوحدات الرابعة والخامسة والسادسة يقوم المارد في حكاية العنقود الذهبي بدور الشخصية الشريرة التي تستطلع موقف ضحيتها وتتلقى معلومات دقيقة عنها كي تخدعها, وينطبق هذا على الغول في حكاية عصفور الهوى. وفي الوحدتين السابعة والثامنة يستسلم البطل, ويبدوهذا من خلال استسلام البطلتين في الحكايتين لقدرهما. وفي الوحدتين التاسعة والعاشرة يعتزم البطل الحصول على ضالته, وهي في الحكاية الأولى (العنقود الذهبي) وفي الحكاية الثانية الجبة التي ترقص وحدها. وفي الوحدة الحادية عشرة تترك البطلتان أسرتهما باتجاه البيت الجديد. ويقوم المارد في حكاية العنقود الذهبي بدور الشخصية المانحة حين يفتح لها أبواب قصره, وينطبق هذا على الحكاية الأخرى. وأما الأداة السحرية التي تشكل الوظيفة الرابعة عشرة فإنها تتجلى في حصول بطلة العنقود الذهبي على مفاتيح القصر, وفي الحكاية الأخرى تبدومن خلال حصولها على المصباح الذي رأت في ضوئه وجه زوجها. وتنتقل البطلتان إلى عالم مجهول مختلف وهوقوام الوحدة الخامسة عشرة. ويكون الصراع بين البطل والشخصية الشريرة وهوالذي تعبر عنه الوحدات من (16-19) وهوصراع من أجل إقناع المارد والغول في الحكايتين بأحقية الزوجة في أن ترى زوجها. وفي الوحدة العشرين تبحث الزوجتان عن زوجيهما. وفي الوحدة الحادية والعشرين تؤدي أختا الزوج الكبرى والوسطى دور الشخصية الشريرة في حكاية العنقود الذهبي, وفي الحكاية الأخرى تؤدي أم الزوج هذا الدور. وتنجح البطلة في التخلص من الشخصية الشريرة بأن تهرب في حكاية العنقود الذهبي مرتين وهذا قوام الوحدة الثانية والعشرين والثالثة والعشرين, ويقابل هذا في عصفور الهوى نجاح البطلة أربع مرات من فخاخ الأم الغولة. وليس للوحدة الرابعة والعشرين والثامنة والعشرين أي حضور في الحكايتين معا إذ ليس ثمة بطل مزيف فيهما. وفي الوحدات25،26،27 تكلف البطلة في حكاية عصفور الهوى بمهمات عسيرة التحقيق ولكنها تنجح في إنجاز ذلك، في حين لم ترد هذه الوحدات في حكاية العنقود الذهبي. وترهص الوحدة التاسعة والعشرون باقتراب نهاية الحكاية إذ تبدوبطلة العنقود الذهبي في وضع جديد حين يقتنع زوجها بأن ما فعلته هومن حقها. وينطبق هذا على زوج فلفلة في الحكاية الأخرى. ولا يلحق الأذى بالشخصية الشريرة في الحكايتين معا، وهوقوام الوحدة الثلاثين. وأما الوحدة الأخيرة (الحادية والثلاثون) فهي التي يتزوج فيها البطل. وفي الحكايتين السابقتين يتجدد الزواج وتتعزز دعائمه، وهي الرسالة المستقاة من الحكايتين.
وما يستنتج من هذا الاستعراض أن الوحدات الوظيفية الإحدى والثلاثين لا تطرد جميعها في الحكايتين إذ قد يحضر بعضها وقد يغيب بعضها الآخر وكما لاحظنا في التحليل السابق, فضلا عن أن بعض الوحدات قد تتكرر في الحكاية الواحدة. ومن المؤكد أن التشابه في الحكايتين واضح في شكل الحكايتين ومضمونهما، ففي الوقت الذي تتشابه فيه البطلتان في الحكايتين فإن الزوج في الحكايتين يحمل ملامح متقاربة. ويكاد يكون المحظور واحدا.

وتحتضن الحكايتان خزينا لتقاليد شعبية وممارسات دينية واجتماعية ونفسية، ففي الوقت الذي تشير فيه حكاية العنقود الذهبي إلى الحج فإن حكاية عصفور الهوى تلمح الاحتفاء بالعيد. وتكشف حكاية العنقود الذهبي عن غريزة حب الاستطلاع التي تحفز البطلة على أن تقرر فتح الغرفة السابعة المغلقة، وكذلك في حكاية عصفور الهوى إذ تدفع غريزة حب الاستطلاع فلفلة إلى أن تشعل المصباح في وجه زوجها كي تراه. ومن الواضح أن الحكايتين كلتيهما تحرصان على الخطوات المتبعة في الزواج، وأولى هذه الخطوات هي موافقة الأب، بيد أن دور الأسرة القديمة يغيب لتحل بدله الأسرة الجديدة التي ينبع انسجامها من داخلها وبعد معاناة لا تقل عن معاناة الزوجتين في الحكايتين كلتيهما.

وإذا كان الأصل الأسطوري يشير إلى العلاقة بين الإنسان والكائنات غير المرئية (الآلهة في الأساطير والغيلان والمردة في الحكايات الخرافية) فإن الرمز الكامن في الحكايتين على صعيد الآن هوأن الزوج قد يحمل عيوبا شخصية في جسده أومزاجه، وعلى الزوجة حسب منطق الحكايتين أن تصبر عليه وأن تتقبل وضعه كي تحمي الأسرة من الانهيار فتتعزز أواصرها وتكون مؤهلة لاستقبال الوافد الجديد (الجنين) إلى هذه الحياة. وقد بدا هذا واضحا في حكاية العنقود الذهبي خاصة.  

والجدير بالذكر أن د. طلال حرب يقترح بدائل لهذه الوحدات فبدلاً من أن تكون إحدى وثلاثين يمكن الاقتصار على سبع وحدات هي:
1 - فقد التوازن
2 - السعي إلى استعادة التوازن
3 - المساعدات
4 - العقبات
5 - الانتصار
6 - معاقبة الشرير
7 - استعادة التوازن(9)

وهومقترح جدير بالتلبث عنده لأن الفكرة الأساسية هي الاقتصار على البنى والركائز والأنساق بيد أن وحدات بروب تظل أكثر اهتماماً بالتفاصيل.
وآية ما ذكر أن حضور هذه الوحدات الوظيفية لمبتكرها فلاديمير بروب لا يعني بأي حال من الأحوال رتابة الحكاية الخرافية أوالشعبية بل أنه دليل كونها مكوناً  مهماً من مكونات المخيلة البشرية والفكر الإنساني عبر طفولته الفكرية وأخيلته الثرية المعبأة بالرموز والإيحاءات التي يمكن أن تمد الفنون السردية الجديدة بالمبتكر والأصيل في آن واحد، وعبر القدرة الفائقة للحدث الحكائي على التشويق وتجاوز حواجز الزمان وحدود المكان لتصل إلى الذهن مضمخة بعبير السجية الصافية والفطرة الأصيلة. وتظل إمكانات الحكاية الخرافية مخبأة في بذورها السحرية التي ما إن تحتضنها الموهبة المعاصرة حتى تتفتح بالجديد، على أن يبعث الفنان المعاصر فيها إيحاءات الرمز الأولى ناقلاً إلينا دهشة الرمز ونشوة الإنسان الأول به، كالشاعر الذي يعيد إلى اللفظ المفرد نبضه، فكأنه الإنسان الأول الذي أطلقها أول مرة، وليس من شأن الفنان المعاصر سواء أكان روائياً أوقاصاً أومسرحياً أن يعيد كتابة الحكاية الخرافية كما  هي عليه في مظانها،  بل أن يعيد صياغتها ويضيف إليها أبعاداً جديدة بحيث تعيد إليها الحياة وبما ينسجم مع هذا العصر.

 

الهوامش

1 - د. صبري مسلم حمادي ود. داوود سلوم، القصص الشعبية العراقية، مركز التراث الشعبي لدول الخليج العربية، الجزء الأول، الدوحة 1988، ص 348.
2 - د. عبد الحميد بورايو، الأدب الشعبي الجزائري، دار القصبة للنشر، الجزائر، 2007، ص 156-161.
3 - نفسه، ص 140.
4 - د. صلاح فضل، نظرية البنائية في النقد الأدبي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد 1987، ص 203.
5 - د. محمد الجوهري، الملامح والسير الشعبية، مجلة عالم الفكر، الكويت، مجلة 17 العدد 1 إبريل، مايو، يونيو1983 ص 14-15.
6 - د. نبيلة إبراهيم سالم، قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية،دار العودة، بيروت 1974، ص 25-37.
7 - د. نبيلة إبراهيم سالم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار نهضة مصر، ط2، القاهرة 1974، ص8.  
8 - د. عبد الحميد بورايو، الأدب الشعبي الجزائري، ص 140.
9 - د. طلال حرب، أولية النص، نظرات في النقد والقصة والأس

أعداد المجلة