فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
23

الصيغ الغنائية للموسيقى الشعبية التونسية

العدد 23 - موسيقى وأداء حركي
الصيغ الغنائية للموسيقى الشعبية التونسية
كاتب من تونس

في جل أصقاع العالم تنقسم الموسيقى الى صنفين: موسيقى علمية أو كلاسيكية وموسيقى شعبية أو فلكلورية.واذا تجرأ بعضهم على التعميم في الحديث عن الموسيقى الكلاسيكية فالموسيقى الشعبية لا تخضشع للقوالب العلمية المضبوطة و لا للأحكام المسبقة إذ هي تتصف بالحيوية فتتغير من بلد الى آخر بل من قرية الى أخرى أو من ناحية من الريف إلى أخرى.

 

واذا اخترنا لبحثنا المتواضع هذا كعنوان “الصيغ الغنائية للموسيقى الشعبية التونسية” فلا ينتظر منا المستمع دراسة ضافية لمختلف ألوان الموسيقى الشعبية في تونس وفي كل مكان من تونس المتنوعة فالمجال إن سمح فلن يسمح بأكثر من دراسة مجملة للصيغ الغنائية للموسيقى الشعبية التي حولنا والتي نعيشها يوميا وبطبيعة الحال سوف لا نتحدث في موضوع بحثنا هذا عن الموسيقى الريفية بل سنتناول بعض الألوان من الموسيقى الشعبية الحضرية التي نملك نماذج منها اعتمدناها وثائق لبحثنا. وتتضمن الموسيقى الشعبية الحضرية التي نتناولها بالدرس الأغاني الشعبية الحضرية التي تجسم تداخل النوعين الكلاسيكي والشعبي هذا إلى جانب أغاني الطرق التعبدية الشعبية التي نزلت إلى الميدان الشعبي العام وقد جردت من مفهو مهاالتعبدي.

 تبدوالموسيقى الشعبية التونسية أكثر ثراء من الموسيقى الكلاسيكية من حيث الصيغ الغنائية. فهي تشتمل من بين صيغها المتنوعة على “أغاني أطوار العمر” وكذلك الأغاني المرتبطة بالحياة اليومية كأغاني العمل وغيرها من الأغاني ذات الصبغة الدينية هذا إلى جانب أغاني الأطفال وكذلك أغاني الباعة وتلك اللوحات التي تمثل تداخل المدرستين الشعبية والكلاسيكية وتلاقيهما في ما ينعت“بالفوندو”.

ومن بين هذه الأنواع سنتناول بالدرس ما يسمى “ بالعروبي” وكذلك ما ينعت “ بالفوندو” ثم نمرإلى الموسيقى الشعبية البحتة التي لاندعي دراستها دراسة ضافية في جميع صيغها في مجال كهذا فنتعرض إلى “التربيجة” ثم إلى أغاني الأطفال وكذلك ما ينعت “بالتعليلة”  من تعليلة  “المطهر” إلى تعليلة “العروسة”.

   وأما بالنسبة لبقية الأغاني الشعبية فإنه لا بد من الإشارة إلى مشكل تصنيفها الذي يختلف عن تصنيف الصيغ الكلاسيكية إلى قصائد وموشحات وأزجال اذ أن نصوص الأغاني الشعبية لا تسمح بمثل هذا التصنيف. كذلك سوف لا نصنفها بحسب مواضيعها إذ ترجع جل تلك المواضيع إلى العشق والغرام. ولا يعني أن ذلك ينفي وجود مواضيع أخرى دينية أو وصفية للطبيعة أو لأحداث تاريخية. ومن حيث الشكل إذ تعتمد بعض البحوث العلمية هذا العنصر في تصنيف الغناء الشعبي يظهر أن النوع الشائع هو المتركب من “ردة” أو مذهب وأدوار. لذلك حبذنا طريقة التصنيف المتداولة والقاضية بنعت بعض الأغاني الشعبية “بالعتيقة”  وغيرها بالشعبية وغيرها “بالربوخ” أو أغاني الرقص وغيرها بالأغاني الشعبية.

وتجدر الإشارة إلى أن أغاني العمل وكذلك أصوات الباعة هي ذات أهمية فنية لا بأس بها ومن منا لا يعرف أن بائع “القسطل” يغني بضاعته على نغم مقام “المحير عراق”؟ ولا ننسى بعض التظاهرات الموسيقية الشعبية الأخرى التي توشك على الانقراض ونذكر منها “الطبال” أو المسحراتي الذي يدعو الناس إلى النهو ض لتناول السحور في ليالي رمضان المعظم على نغمات شعبية يؤديها بصوته ويوقعها على طبلته. ومثل هذه التظاهرات الموسيقية الشعبية جديرة بأن تدرس على حدة لذلك نتركها لفرصة قادمة إن شاء الله ونكتفي في هذا المجال بدرس أهم الصيغ الغنائية التي تعرفها الموسيقى الشعبية التونسية الحضرية.

      

 1 - العروبي:

   يمكن مقارنة العروبي بالموال والليالي وكلاهما يعتمد مبدأ الارتجال في الغناء.

   من الملاحظ أن الأغنية الشعبية عادة ما تستهل باستخبار وهو  ارتجال آلي وعروبي يهيآن للمستمع جو مقام الأغنية.

ومن حيث الكلمات يستعمل العروبي أبياتا من الشعر الشعبي الذي يختلف في موازينه مع الشعر الفصيح. ويورد الصادق الرزقي في كتابه “الأغاني التونسية” مجموعة من العروبيات المتكونة من بيتين أو ثلاثة ويقوم السيد محمد المرزوقي في كتابه “الأدب الشعبي” بدرس العروبي كشكل من أشكال الشعر الشعبي. ومعلوم أن العروبيات ليست كلها مغناة وهي تشتمل في الغالب على أمثال وحكم شعبية تتردد على ألسنة العامة. وينعت العروبي المغنى “بالطواحي” أما الذي يلقى بدون غناء فينعت بالبسيط وقد يقوم الشاعر بارتجاله بالمناسبة ويعرف كذلك “بالمحل شاهد”. وكثيرا ما يتعرض الشيوخ إلى “المحل شاهد” في أحاديثهم.

ولعل احسن العروبيات من الناحية الموسيقية هي التي أدتها المطربة المرحومة صليحة. ومعلوم أن العروبي غالبا ما يسبق الأغنية وفي بعض الأحيان يتخلل الغناء ولعل أحسن مثال للعروبيات المتخللة هو “فراق غزالي” تلك اللوحة الفنية الرائعة التي سنتعرض لها في حديثنا عن “الفوندو”.

وتشتمل “نوبات بودية” على عروبيات جيدة تتعلق مباشرة بموضوع النوبة. ويأتي أغلبها في المقدمة ويسبقها الاستخبار وتقوم آلة النغم المصاحبة بأدائه وبمحاسبة صاحبة المغني أثناء قيامه بأداء العروبي.

ولعل أكثر المقامات استعمالا في العروبيات هي العرضاوي والمزموم والصالحي والمحير سيكاه والمحير عراق.

وفي نوبات بودية يكثر استعمال مقام العرضاوي وكمثال نذكر العروبي الذي يسبق نوبة “أم الزين” وتقول كلماته:

يا سيدة حرمك منور          بالذكر وحسن المعاني

يا سيدة قلبي مغيـــر           نبغيك تنظر لحـــــالي

      

2 ـ الفوندو :

يقول الصادق الرزقي في كتابه “الأغاني التونسية” أن الفوندو لفظة ايطالية ينعت بها نوع من الحجارة الكريمة. وتستعمل هنا للدلالة على نوع من الأغاني الشعبية الهامة التي تسجل تداخل الغناء الشعبي والغناء الكلاسيكي.

ومن الناحية النغمية تستعمل الفوندوات نفس المقامات المستعملة في الأزجال الكلاسيكية وهي بذلك تقترب من الموسيقى الكلاسيكية ولكنها من حيث الكلمات تقترب في شكلها من الأغاني الشعبية وقد أو رد الصادق الرزقي بعضها ضمن قائمة الأغاني العتيقة. واذا تأملنا في شكل فوندو“لميت لم المخاليل” رأينا أنه يتكون من عدة أدوار متركبة من بيتين اثنين. أما فوندو“شوشانة” فيتركب من ثلاثة أجزاء يمكن أن يشكل كل واحد منها زجلا مستقلا ولكنه زجل من نوع خاص اذ لا يستجيب لقاعدة تركيب الموشحات والأزجال من أبيات وطالع ورجوع. ومن ناحية أخرى لاتستجيب تلك الأزجال الثلاثة لقاعدة تركيب الأغاني الشعبية من ردة وأدوار واذا كان الجزء الثالث والأخير شعبيا في تركيبته الموسيقية في مقام الحسين الشعبي فهو  على وزن “البرول” الذي يوقع عدة موشحات وأزجال كلاسيكية في حين يرد الجزء الأو ل من الفوندو على وزن “المخمس” المشرقي صاحب الستة عشر وقتا وهذا ما يؤكد مرة أخرى تأرجح الفوندوبين الكلاسيكية والشعبية.

وأما فوندو“فراق غزالي” فيقترب من الأغاني الشعبية من حيث الشكل أو لا اذ يتكون من ردة وأدوار تتخللها عروبيات تميزه عن بقية الأغاني الشعبية ويسبق كل عروبي استخبار في مقامه وهكذا يتحول الفوندو مع كل عروبي جديد إلى مقام جديد ليعود في آخر العروبي إلى “راست الذيل”المقام الأصلي فيكون فراق غزالي بذلك على غاية من التنويع والثراء اللحني.

 

 

3 - التربيجة :

حتى يهدأ منام طفلها تقوم الأم بإنشاد ما يسمى بالتربيجة التي تختلف من مكان إلى آخر لذلك لا يمكننا دراسة كل التربيجات التي تؤدى في مختلف أنحاء البلاد بل نقتصر على مقارنة تربيجة تونس العاصمة بتربيجة صفاقس.

في كتابه “الأغاني التونسية” يورد الصادق الرزقي تربيجة تونس العاصمة التي تختلف عن تلك التي يوردها “البارون درلنجي” في كتابه “الألحان التونسية”. حسب درلنجي تؤدى تربيجة تونس على وزن “الثقيل” أي السماعي الثقيل وفي مقام “الرهاوي” وهو مقام يقترب من “النهاوند” المشرقي. وفي خصوص تربيجة الرزقي وتلك التي بصفاقس فيبدو أنهما تشتركان في نص واحد وتختلفان في الوزن والمقام. تكون تربيجة تونس على وزن 6 من 8 بينما تكون تربيجة صفاقس على وزن 2 من4.ومن حيث المقام تستعمل الأو لى مقام “المحير سيكاه” الذي لا يتجاوز سلمه درجة العجم (سي مخفوضة) باعتبار الأساس دوكاه (ري) وفي الوقت الثاني من المقياس الثالث تظهر درجة “ الحصار” (لا مخفوضة) التي تمثل إحدى خاصيات مقامنا الشعبي. وتأتي التربيجة الثانية في مقام “الحسين” الذي لا يتعدى مجاله الصوتي الدرجة الرابعة من سلمه مع النزول إلى درجة “الراست” ( دو) وقد أو ردنا موسيقى التربيجتين في بحثنا موضوع أطروحة الدكتوراه التي كانت باللغة الفرنسية بعنوان “الموسيقى التقليدية التونسية في هياكلها وأشكالها”.

 

 

4 - أغاني الأطفال

إن أغاني الأطفال الشعبية التونسية توشك على الانقراض وقد أصبح أصحابها يميلون إلى تقليد الكبار في أغانيهم التي لا تتماشى بطبيعة الحال مع مستوى الأطفال وامكانياتهم في الأداء.ولا ينفي ذلك وجود أناشيد مدرسية. غير أن تلك الأناشيد لا تكاد تخرج عن مقامي الماجور والمينور الغربيين ومن بينها أناشيد فرنسية كنا حفظناها بالمدرسة وهي تعيش إلى اليوم ونذكر منها “فرار جاك” التي حاول بعضهم ترجمتها ب“خوي صالح” وكأن المسألة تتعلق أساسا بالكلمات لا غير.كيف لا والموسيقى لغة عالمية في نظر الكثير منهم؟

وقد أو رد الصادق الرزقي في كتابه “الأغاني التونسية” بعض أغاني الأطفال التقليدية. والملاحظ أن الأطفال في الغالب لا يستعملون المقامات الشعبية في أغانيهم بل يقتصرون على استعمال المسافة الثنائية أو الثلاثية أو سلم موسيقي من نوع السلالم الموسيقية ثلاثية الدرجات (تريتونيك). فسلم أغنية “أمي عويشة” لا يتعدى الثنائية.

(سماع)

وأما أغنية المطر “يا مطر يا مطارة” التي يؤديها أطفال صفاقس فهي تتطور في حدود ثلاثية ( فا- صول - لا ) تشكل درجتها الوسطى أساس السلم المستعمل:

(سماع)

وفي أغنية “أمي طنقو” التي ترد في كتاب الصادق الرزقي يتجلى السلم الثلاثي (تريتونيك) المستعمل عالميا في أغاني الأطفال:

( سماع)

5 - التعليلة :

تشمل هذه التسمية الأغاني الخاصة بالمولد النبوي الشريف وكذلك بالختان والزفاف ومن ذلك “تعليلة الوطية” و“تعليلة المطهر” و“تعليلة العروسة” ولعل هذه الأخيرة تعد من أهم التعليلات ويقول مطلعها:

        لا الــه الا الله     والفرح والانا

       كل من عادانا    جانـــا وهنانا

 

 

تتكون هذه التعليلة من جزئين لكل واحد منهما ردته وأدواره.

بالنسبة للجزء الأو ل يكون المقام “محير عراق” والوزن “مدور حوزي”. وعند الأداء بعد عزف الفرقة لموسيقى الردة يخرج أحد العازفين باستخبار يمهد للمغني المؤدي للعروبي. ثم ينتقل المطرب في أداء الردة التي تعيدها عليه المجموعة الصوتية بعد كل دور جديد. ويصاحب إعادة الردة زغاريد النسوة عربون الفرح والابتهاج.

ويشكل الجزء الثاني “تحويلة” تنتقل إلى مقام الاصبعين موقعا على وزن “السعداوي” وتواصل المجموعة إعادة الردة الجديدة بعد كل دور ينشده المطرب.

( سماع )

 

 

6 - الأغاني العتيقة:

ترجع تسمية هذه الأغاني بالعتيقة إلى قدمها  وتشير إلى قيمتها الفنية والأدبية وكذلك إلى الطابع الرصين الذي تتميز به بخلاف الأغاني المسماة بالشعبية التي تتسم بطابع الخفة والرشاقة. فمن حيث النص تشير بعض الأغاني العتيقة إلى وقائع تاريخية ومن ذلك أغنية “مع العزابة” التي تؤديها المرحومة صليحة. وقد قال عنها صاحب الأغاني التونسية الصادق الرزقي إنها تتضمن الاشارة إلى ثورة عروش الحامة وتهديد وتوعد جبل وسلات الثائر على الدولة في ذلك الوقت وأنه سيصبح خاضعا مثل الحامة. وتقول كلمات الأغنية حسبما أو رده المؤلف:

نا بكــــــرتي شردت مع العزابة

                      خشت بلاد الشيح والقصابة

يا ســــــايقين البل يا جمـــــــالة

                      تونس بعيدة والعرب قتــالة

يا تونس الخضــــــراء يا مسمية

                    بلادي بعيدة والعرب قطعية

هاك الجبل الأزرق جبل والدتي

                      يا ليتها عقرت  ولا جــابتني

ها يا جبل وسلات وسع بــــالك

                   اللي جرى للحامة  يجــــرالك

 

 

واذا تأملنا في أبيات الأغنية وجدنا أن الإنشاد يبتدئ بآخر جزء من صدر البيت ثم يعاد البيت بأكمله والملاحظ أن هذه الطريقة طرابلسية الأصل (من طرابلس ليبيا ) وقد استعملت فيما بعد في أغان تونسية مستحدثة.

وتتركب الأغاني العتيقة من ردة أو مطلع تردده المجموعة وأبيات تتحد في المقام فيما بينها وقد تختلف في بعض الأحيان عن الردة التي تنفرد حينئذ بلحن معين والملاحظ أن هذا التركيب بعيد كل البعد عن طريقة تركيب الموشحات والأزجال التي تتكون من أبيات وطالع ورجوع. ويؤدى فيها الرجوع على اللحن الوحيد للأبيات بينما يكون الطالع عادة في مقام غير مقام الموشح أو الزجل. ولكن الأغاني الشعبية غالبا ما تنشد الردة بها والأدوار على وتيرة واحدة. وقد تطغى اللهجة البدوية على كثير من هذه الأغاني رغم استعمالها عند أهل المدن ولعل ذلك دليل على أصلها البدوي. وكثيرا ما تتسم كلماتها برقة اللفظ وزجالة المعنى. وفيما يلي بيتان ضارع بهما الشاعر الشعبي أبا العلا المعري في قوله:

والعيس أقتل ما يكون لها الصدى

                     والماء فـوق ظهو رها محمـــول

 

 

وعبر شاعرنا البدوي على نفس المعنى بقوله:

مسكين جمل النواعير 

        بالهجــــر ضــــاقــت خلــوقــه

يسمع في المـاء بوذنيــه

        لا يشــــبـــحــــه لا يـــذوقــــه

 

 

وهذان البيتان يشكلان أحد العروبيات التي كثيرا ما تستهل بها الأغاني الشعبية العتيقة التي قد يتسع المجال الصوتي لبعضها ليصل إلى مستوى الفوندوات.

ومما يذكر أن المرحوم خميس الترنان قد أثرى هذا الصنف من الأغاني بما لحنه للمرحومة صليحة وقد اتبع في بعض أغانيه الأسلوب الشعبي الذي أشرنا اليه منذ قليل والقاضي ببداية الغناء من آخر جزء من صدر البيت كما في أغنية “أم الحسن غنات فوق الشجرة” التي يبتدئ فيها التغني بفوق الشجرة عوضا عن أم الحسن كما يرد في البيت. ومن ناحية أخرى فقد طعم خميس الترنان الموسيقى التونسية بعدة مقامات مشرقية وعمل في عدة حالات على مزج طريف بين المقامات التونسية والمشرقية.

وكمثال للأغاني العتيقة نتعرض لأغنية “بالله يا حمد يا خوي” التي تؤديها المرحومة صليحة.

تتكون الأغنية من ردة ذات بيت واحد وأدوار ذات بيتين اثنين.ومن الناحية الموسيقية تنفرد الردة بلحن يخصها بينما تشترك بقية الأدوار في لحن واحد في مقام المزموم على وزن الدخول براول.

( سماع الأغنية )

 

 

 7 - الأغاني الشعبية :

في الواقع تنطبق تسمية الأغاني الشعبية على الأغاني ذات الأصل الشعبي التي تنتمي إلى ميدان الموسيقى الشعبية بخلاف ما يدخل في باب الموسيقى الكلاسيكية أو الفنية من قصائد وموشحات وأزجال غير أننا تسهيلا لطريقة البحث اتبعنا المفاهيم الشائعة والقاضية بتقسيم الأغاني الشعبية إلى عدة فروع.

والأغاني الشعبية التي نتعرض لها في هذا الباب تمتاز بخفة روحها وسهو لة تداولها بين الناس. والجدير بالملاحظة أنه كثيرا ما يطلق اسم شعبي على أغان جديدة سهلة التركيب باعتبار أنها وضعت للعموم حسب مقاييس شعبية. ونعود حينئذ إلى كلمة فلكلورية لنطلقها على الأغاني الشعبية الأصل.غير أنه علينا أن نترك كلمة شعبي لمفهو مها العالمي المستعمل لدى جميع الباحثين ونطلق اسما آخر على الأغاني الحديثة الخفيفة كأن نسميها بالأغاني الخفيفة أو الطقاطيق جمع طقطوقة حسب الاصطلاح المصري.

والملاحظ أن جل الأغاني الشعبية ترجع إلى أصل ريفي حيث يذهب كبار الملحنين والمطربين إلى البحث عنها والتقاطها ومنها ما يثير خصومات بين أهل الصناعة ولعل أغنية “جاري يا حمودة” أكبر شاهد على ما نقول. فمنهم من ادعى اكتشافها وتهذيبها ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك اذ نسب إلى نفسه تلحينها وفي النهاية اتضح الأمر وظهرت “جاري يا حمودة” في قائمة الفنان الشعبي “علي وردة”  يترنم بها في ربوع جزيرة قرقنة.

ومن حيث تركيبها تشتمل الأغاني الشعبية في مجملها على ردة وأدوار كثيرا ما يتحد جميعها في اللحن في مقام شعبي بسيط وعلى وزن شعبي خفيف. ومن أهم المقامات المستعملة في هذا المجال مقام “ العرضاوي” ومقام “الصالحي”. وفي بعض الأحيان تستهل الأغنية الشعبية باستخبار وعروبي في مقامها.

ولعل مشكل المشاكل الذي تتخبط فيه الأغاني الشعبية هو ما نسميه بالتهذيب إذ هي تتعرض لألوان شتى من ألوان التشويه وذلك بعنوان التهذيب. في الواقع تتسم الفنون الشعبية إجمالا بالبساطة والتشابه الممل أحيانا فلا بد إذن من أن تأخذ بها يد الفنان الواعي لتفرغها في قالب رائق جذاب حتى تواكب تطور العصر غير أننا في عدة حالات نقف أمام أغنية شعبية لا تتعدى عملية التهذيب فيها غير إعادة تسجيلها بواسطة الفرقة الوترية. فعلى سبيل المثال هل خرجت أغنية “مشوق وينادي البابوري” من روتينيتها بعد تهذيبها المزعوم؟ اذ أخذ المهذب نفس اللحن المشترك بين الردة والأبيات وجعل منه في نفس الوقت مقدمة للأغنية وموسيقى غنائها ولازمة  تتخلل الأبيات تعزفه كل آلات الفرقة بدون أي محاولة توزيع أو تجديد.

وتقدم الأغنية بالإذاعة من تهذيب فلان وتسجل باسمه في جمعية حقوق التأليف وتقر له الجمعية من الحقوق نصف ما تقره لملحن أغنية جديدة. وفي بعض الأحيان يجازى على التشويه إذ يعمد إلى تغيير مقام الأغنية أو وزنها ليسجل تهذيبها. فإغنية “صغير وريقه شاح” تؤدى في الأصل على ايقاع ثنائي وفي التسجيل الموجود بخزينة إذاعة صفاقس يترك المهذب الردة على أصلها ويحول الأدوار إلى إيقاع ثلاثي وإذا اعتمدنا ذلك قاعدة في التهذيب فلا غرابة في الوصول إلى تأدية “بطايحية” نوبة “الذيل” مثلا على وزن السعداوي.

8 - أغاني الرقص :

عادة ما يجري الرقص الشعبي على أنغام أغان مشدودة الإيقاع تتخللها “خرجات” مرتجلة تمنح العازف حرية التصرف وابتكار جمل موسيقية راقصة على وزن أغنية ما وفي مقامها.

والملاحظ أنه في ميدان الرقص كثيرا ما تستعمل كلمتا “زندالي” و“ربوخ”.

إن لفظة الزندالي مشتقة من “الزندالة” وهذه كلمة تركية تعني السجن فيكون الزندالي حينئذ مجموع أغاني المساجين ولا غرابة إذن في وجود بعض الأغاني التي تستعمل ألفاظا غير لائقة في بعض الأحيان ولكن في نغمات شعبية غاية في العذوبة.

أما جماعة “الربوخ” فتطلق عليهم كلمة “زوافرية” وهي تدريج لكلمة فرنسية تعني العمال فيكون الربوخ حينئذ غناء الوسط العمالي المتواضع.

ويورد الصادق الرزقي في كتابه الأغاني التونسية بعض الأمثلة من هذه الأغاني.

أما المرحوم الأستاذ عثمان الكعاك فيقول في حديث لنا معه أن الربوخ أروع أنواع الموسيقى الشعبية. ونرى من خلال ما سبق أن كلمة الزندالي أطلقت في القديم على صنف معين من الأغاني الشعبية الراقصة التي أدرجت فيما بعد في خانة أغاني الرقص في باب الربوخ.  

وتتركب أغاني الرقص كبقية الأغاني الشعبية من ردة وأدوار. تشترك الأدوار في لحن واحد وتؤدى الردة أحيانا على نفس اللحن  وقد تختص بلحن آخر دون أن تخرج عن مقام الأغنية.

وتمتاز هذه الأغاني بحيوية إيقاعها والتنويع في تركيبها النغمي بفضل الخرجات التي يرتجلها العازف بين الفينة والأخرى.ومما يزيدها جمالا على جمالها مصاحبتها بالضرب على الأكف وهذا من شأنه أن يضفي عليها صبغة “البوليريتمية” أو تعددية الأوزان ويجعل من المستمع المباشر شريكا في الأداء.

ومن حيث الإيقاع تستعمل أغاني الرقص الأو زان الرشيقة السريعة الخطوة ك“المدور” وخاصة “الفزاني” في نغمات شعبية بسيطة من السهل الممتنع.أما من حيث المقامات  فتكاد تقتصر على “الحسين” الشعبي و“العرضاوي” و“المحير عراق”. ولعل هذا الأخير أكثر المقامات استعمالا في هذا المجال.

وبخزينة المسجلات بإذاعة صفاقس أمثلة عديدة ومتنوعة تصاحب المجموعة الصوتية المختلطة فيها آلات المندولين بمعية الدربوكة والناي الذي حل محل الفحل القديم.

وقد قام بتسجيل مجموعة أخرى من هذه الأغاني المرحوم الشيخ محمد بودية عازفا على “المزود”= (الجربة) تصاحبه في ذلك آلات الايقاع وجماعة من المنشدين. وتعد تلك الأغاني مثالا في الثراء اللحني بفضل ما أضاف إلى نغمها الشيخ المرحوم من خرجات متنوعة.

وكثيرا ما تظهر أغاني الرقص في شكل سلسلة تتركب من جزئين يمثل كل منهما أغنية يمكن أن تؤدى مستقلة. فأغنية “جاني المرسول” تبدأ على وزن “المدور” وتنتهي “بالفزاني” في جزئها الثاني والأخير “الخير بزايد” وهي كلها في مقام “العرضاوي” الذي لا تصلح المندولين في الواقع لأدائه.وقبل إنشاد البيت الأخير من الجزء الأو ل يقوم عازف الناي بارتجال إحدى الخرجات وتعود المجموعة بعد البيت إلى الردة.

وخلال الجزء الثاني أو “التحويلة” تتحفنا المندولين بخرجة متنوعة رشيقة الخطوة على وزن “الفزاني”. وتشتمل “الخير بزايد”في آخرها على مقطع حوار تقوم المجموعة أثناءه بالرد على المطرب بإنشاد كلمة “يا ويله” إلى أن يعود الجميع إلى الردة في ختام الأغنية.

(سماع “جاني المرسول”)

 9 - النوبات الشعبية :

إن للطرق التعبدية الشعبية أغانيها الخاصة وكل طريقة يتغنى فيها أصحابها “بوليهم” سواء داخل الزاوية أو خارجها. فهم يحاولون التقرب منه وفي الزوايا ينظمون “الحضرة”. ويشتمل برنامج الحضرة بصفة عامة على أغان مشدودة الإيقاع تدعوإلى الرقص.وعادة ما تتركب الفرقة من مجموعة منشدين مصحوبين بدربوكة وعدة بنادر (ج بندير) أي دفوف وقد تلتحق بهم “الزكرة” لمصاحبة الغناء. وتبدو الحضرات النسائية في صفاقس في غنى عن الآلات النغمية اذ تعتمد أساسا على الإيقاع وآلاته وخاصة منها البنادر حتى أنها تعرف “بالبنادر النسائية”.

ولا يخفى الدور الذي لعبه المرحوم الشيخ بودية في إحياء النوبات الشعبية وحفظها من الانقراض بتسجيلها لإذاعة صفاقس ببادرة من مديرها المرحوم عبد العزيز عشيش ويرجع الفضل للشيخ بودية وللإذاعة في جعل شبابنا يتذوق هذا الباب من موسيقانا الأصيلة ويحافظ عليه ويعمل على تطويره.

وأما بخصوص تسمية هذه الأغاني بالنوبات فيبدوأنها ترجع إلى الموسيقى الكلاسيكية على غرار نوبات المالوف. غير أن النوبتين تختلفان اختلافا كبيرا. ففي حين تعرف النوبة الكلاسيكية باسم مقامها كأن نقول “نوبة الحسين” تأخذ النوبة الشعبية اسم الولي الذي ترجع إليه كقولنا هذه “نوبة سيدي منصور” الخ...

ومن ناحية أخرى لا تحترم النوبة الشعبية وحدة المقام التي تتجلى في نوبات المالوف. وحتى في طريقة التلوين يبدوالفرق واضحا فبينما تتحول موشحات النوبة الكلاسيكية في مستوى “الطالع” إلى غير مقامها لتعود إليه مع “الرجوع” تبقى النوبة الشعبية في نفس المقام إلى أن تأتي التحويلة لتسجل تغييرا في الوزن والمقام في آن واحد بدون عودة إلى المقام الأصلي.

واذا كانت النوبة الكلاسيكية تستهل “بالاستفتاح” “فالمصدر” “فالأبيات” تبتدئ النوبة الشعبية بالاستخبار الذي يمهد للعروبي. ثم يأتي دور اللوحة الأو لى الموقعة على وزن بطيء الخطوة نسبيا يذكرنا بخطوة قسم “البطايحية” في النوبة الكلاسيكية. وقد تشتمل هذه الأخيرة على استخبار يتخلل “التوشية” وهي الموسيقى التي تسبق قسم “البراول” ولكن النوبة الشعبية يبدوفيها الارتجال حتى خارج إطار الاستخبار الممهد للعروبي اذ أن “الزكار”(عازف الزكرة) علاوة على محاسبة الغناء فهو يقوم بين الفينة والأخرى بارتجال خرجة متنوعة تتخلل الأدوار وهذه الخرجات من شأنها أن تزيد النوبات الشعبية ثراء لحنيا وإيقاعيا في الوقت نفسه.

وينتقل الجزء الثاني من النوبة إلى “التحويلة” التي تسجل عادة مغادرة المقام والوزن الأو لين والدخول في مقام جديد قريب من المقام الأو ل ووزن جديد يكون أسرع خطوة من الوزن الأو ل وهكذا يكون “المربع” متبوعا “بالسعداوي” الذي يسجل سرعة تدريجية في نسق سيره قد تصل به إلى نهاية سريعة وعنيفة على وزن “المدور”. وقد تشمل بعض النوبات أكثر من تحويلة واحدة. فنوبة “مزوغي يا سلطان” تحتوي على تحويلتين اثنتين موقعتين على وزن “المدور” الذي يزداد سرعة بمرور النوبة وقد حل محل “المدور حوزي” الوزن الذي استهلت عليه النوبة بعد العروبي. ومن الناحية النغمية تتحول النوبة من “الحسين صبا” إلى “المحير عراق” في التحويلة الأو لى ثم إلى “النوى” في التحويلة الثانية. وهكذا تبتدئ نوبة “مزوغي يا سلطان” في “الحسين صبا” وتنتهي في مقام “النوى” وهذا ما يؤكد الفرق في مبدإ التلوين الذي يختلف بين النوبتين الشعبية والكلاسيكية. وكمثال للنوبات الشعبية نحاول التأمل في نوبة“ام الزين” وهي من أشهر النوبات المعروفة التي سجلها للإذاعة المرحوم الشيخ بودية.

تبدأ النوبة باستخبار في مقام “العرضاوي” تؤديه الزكرة قبل أن تقوم بمحاسبة المطرب أثناء قيامه بأداء العروبي الذي تقول كلماته:

يا سيدة حرمك منور          بالذكر وحسن المعاني

يا سيدة قلبي مغيـــر         نبغيك تنظــــر لحـــالي

وبعد إنشاد المجموعة للردة تعيد الزكرة عزف اللحن المشترك بين الردة والأدوار. وبعد الدور الثاني تقوم الزكرة بارتجال خرجة متنوعة على وزن النوبة “البونوارة” مع إدخال عنصر جديد في مقام العرضاوي يتمثل في جس درجة العجم (سي مخفوضة) دون مغادرة المقام وتحويله إلى “سعداوي” ذلك النغم الذي اعتاد التحول اليه. ثم يأتي دور الخرجة الثانية التي تأخذ مكانها بين الدورين الثاني والثالث. وبعد أداء الدور الأخير تعيد المجموعة  الردة وبذلك يتمكن الزكار من الاستراحة وقد سبق له أن مكن المجموعة الصوتية من ذلك في قيامه بالمحاسبات والخرجات في حين تعمل آلات الإيقاع من دربوكة وبنادر بدون انقطاع بل تكاد تسجل أثناء الخرجات النغمية خرجات ايقاعية تشهد تغييرا في الوزن في زخرفة متنوعة مختلفة تسمع في آن واحد وهذا ما يمكن أن نطلق عليه اسم “الهيتيروريتمية” على غرار “الهيتيروفونية” المتأتية من تعدد الزخارف وتنوعها في أداء الموسيقى الكلاسيكية. هنالك اللحن واحد والعازفون كثر وكل يزخرف حسب طريقته الخاصة ويمر الكل على المسمع في نفس الوقت.

وفي مستوى التحويلة الأو لى (بالك تنساني) يتحول المقام من العرضاوي إلى الحسين في حين يتواصل وزن البونوارة مع شيء من السرعة في نسق سيره. وتواصل الزكرة اتباع نفس الأسلوب في المحاسبة والخرجات.

ونبقى بمقام الحسين الذي يبرز هذه المرة درجة “الحسيني” (لا) وهو ما يقربه من “الصالحي” بينما يتحول الوزن إلى “السعداوي” عند انتقالنا إلى التحويلة الثانية. ويبقى السعداوي في سرعته التدريجية إلى أن يتحول إلى “مدور” سريع يوقع التحويلة الثالثة والأخيرة من النوبة التي تأتي في مقام “الحسين صبا” ولعل سرعة الايقاع لا تسمح للزكار بمواصلة الخرجات المتنوعة المرتجلة اذ يكتفي هذه المرة بأداء المحاسبة إلى أن تصل المجموعة إلى الدور الرابع الذي تسجل النوبة على اثره نهاية سريعة وعنيفة.

( سماع نوبة“أم الزين”)

وهكذا في نهاية هذا البحث المتواضع نكون قد حاولنا دراسة الموسيقى الشعبية التونسية الحضرية في أهم صيغها الغنائية وكنا قد دخلنا مباشرة في جوهر الموضوع بدون أن نقدم له من الناحية التاريخية فذلك راجع لضيق المجال الذي لا يسمح بدراسة مستفيضة للموسيقى الشعبية التونسية بكل جوانبها.

فقد تعرضنا إلى أهم الصيغ الغنائية في الموسيقى الشعبية الحضرية. درسنا “العروبي” تلك الصيغة التي تسبق الأغاني الشعبية وتعتمد مبدأ الارتجال والتصرف. وتحولنا بعده إلى “الفوندو” لمعرفة الجوانب المتناقضة التي تقربه تارة من “الزجل” وطورا من الأغنية الشعبية إذ يمثل تداخل النوعين الكلاسيكي والشعبي. ومما يتصل بالأطفال تعرفنا على التربيجة كما تؤدى في تونس العاصمة  وكما تؤدى في صفاقس وذلك قبل تعرضنا إلى “أمي عويشة” و“يامطر يا مطارة” و“أمك طنبو” أو “أمي طنقو” وهي نماذج من أغاني الأطفال التقليدية. وقبل دراستنا  للأغاني الشعبية المتفرعة إلى أغان عتيقة وأغان شعبية وأغان للرقص ونوبات شعبية تعرضنا إلى التعليلة وأو ردنا نموذجا منها يعرف بتعليلة العروسة.

وفي الختام نرجوأن نكون قد عرفنا بالصيغ الغنائية للموسيقى الشعبية التونسية الحضرية مع أننا لا نعتبر نتائجنا نهائية بل هي في نظرنا مجرد خطوة على طريق العلوم الموسيقولوجية في مجال الموسيقى التونسية والعربية عامة. وفقنا الله جميعا إلى ما فيه خير أمتنا.

 

أعداد المجلة