فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
23

إثنوغرافيا الطب التقليدي حالة معالج تقليدي لمرض العصب الوِِركي وسط المغرب

العدد 23 - عادات وتقاليد
إثنوغرافيا الطب التقليدي حالة معالج تقليدي لمرض العصب الوِِركي وسط المغرب
المغرب

طالما حلم الإنسان بالاحتفاظ بالصحة الجيدة والتخلص من كل ما يطرأ على الجسم من حالات المرض، تحدوه في ذلك إرادة ثابتة ومستمرة للسيطرة على المرض وكل ما يعيق الجسد عن القيام بوظائفه داخل المجتمع(1). لذلك انتهج منذ القديم أساليب علاجية متنوعة تنوع الثقافات أسفرت فعلياعن ما يسميه الباحث الفرنسي جون بونوا تعددية الأنظمة الطبية(2) المؤكدة تاريخيا وأنثروبولوجيا، والتي تنقسم في نهاية المطاف إلى نظام حديث و آخر تقليدي.

ورغم أن ظهـور الطــــب الحــــــــديث(3)la biomédecine وانتشاره منذ القرن التاسع عشر في مختلف بلدان العالم أدى إلى التراجع التدريجي والمطّرد للطب التقليدي لكن دون أن يختفي من ممارسات السكان في المجتمعات المحلية.في هذا السياق، يتخذ الباحث الأنثروبولوجي من هذا النوع الطبي مجالا خصبا للبحث والتحليل باعتباره ينتظم في سياق ثقافي ورمزي(4) مع الحرص على عدم الانحياز إلى أي تصنيف معياري يعتبر الأنظمة الطبية التقليدية عائقا أمام الصحة الجيدة بل هي بالأحرى أنظمة معنى ومُوجهات نحو الفعل لها وظيفة ضرورية  في المجتمع(5).
من هذا المنطلق، سنحاول في هذه الدراسة أن نبحث في الشروط الأنثروبولوجية والسوسيولوجية العامة التي تجعل هذا النوع الطبي نظاما ينتج نفسه باستمرار رغم هيمنة مؤسسات الطب الحديث. تتساءل هذه الدراسةإذن: كيف يُمارس الطب التقليدي لمرض العصب الوِركي بالمغرب؟ و ما هي مصادر مشروعيته و عوامل بقائه واستمراريته؟ وما علاقته بالنظام الطبي الحديث؟

مفهوم الطب التقليدي
يقوم الطب التقليدي بالمغرب على ثلاثة روافد:
- التصورات الموروثة عن السكان الأمازيغ قبل الإسلام الذين» احتفظوا بتصوراتهم الطبية وخصائص عقليتهم البدائية، كالاعتقاد في الأرواح الشريرة: الجْنون الذين يسببون الأمراض، حيث أن هذه الأخيرة لا تعتبر اضطرابا عضويا بل مظهرا لعمل الجْنون»(6)، ولذلك يلجؤون في علاج هذه الأمراض إلى المشعوذين الذين يستعملون الممارسات السحرية من جهة، ومن جهة ثانيةإلى الأضرحة التي تمثل الأولياء الذين ظهروا بعد المرحلة البربرية، وهؤلاء، أموات أو أحياء، يمثلون هيبة عظيمة ويملكون هبة الشفاء بالمعجزات أو «البركة». فهناك، إذن، بقايا الممارسات الطبية السحرية(7) في الطب التقليدي.
- والرافد الثاني، نظرية الأخلاط والأمزجة التي أسسها كل من أبقراط(سنة 460 ق م) وجاليونس (131 ب م) باعتبارهما المرجعية الطبية السائدة في العصر اليوناني الروماني . فالأول صاحب نظرية الأخلاط التي تفيد أن« بدن الإنسان يتكون مثله مثل أي جسم طبيعي، من العناصر الأربعة: التراب والماء والهواء  والنار. وهذه العناصر تترتب عنها كيفيات أو طبائع أربع: اليبوسة (التراب)، والرطوبة (الماء)، والبرودة (الهواء)، والحرارة (النار). ثم شيدت على ذلك نظرية الأخلاط الأربعة التي تتألف من العناصر الأربعة كمادة ومن الكيفيات الأربعة التي تعطي لكل خلط صورته وجوهره. وهذه الأخلاط هي السوائل التي يشتمل عليها جسم الإنسان، وهي: الدم وهو حار رطب، والبلغم وهو بارد رطب، والمرة الصفراء وهي حارة يابسة، والمرة السوداء وهي باردة يابسة»(8). والثاني جالينوس صاحب نظرية الأمزجة التي شيدها على «نظرية الكيفيات الأربع: اليبوسة والرطوبة والحرارة والبرودة التي جعل منها جوهر الأشياء. والمزاج، مزاج الأبدان والأدوية وغيرها، يتحدد من اختلاف درجة وجود هذه الكيفيات فيها. أضف إلى ذلك العوامل الخارجية مثل الإقليم والمناخ وفصول السنة والعمر الخ، وهي كلها تتدخل في تشكيل المزاج. هكذا صار «المزاج» بمثابة محصلة التوازن أو اختلاله على صعيد الأعضاء كما على صعيد البدن ككل»(9).واستنادا على هذا الطب اليوناني الهيليني سينشأ الطب العربي بفضل كل من الرازي الذي «سينتقد الممارسات الشعوذية اللاعقلانية في الطب(...) ثم جمع شتات الأدبيات الطبية»(10) في كتابه الحاوي. ثم ابن سينا (توفي 428هـ) في «القانون في الطب»الذي«يمثل بالفعل «قانونا» فرض نفسه على المشتغلين بالطب(11) في عصره. وفي الأخيرسيأتي ابن رشد في القرن الثاني عشر ميلادي(12) الذي سينتقد النظرية الجالينوسية في الطب بل سيقدم،حسب الجابري، تصورا للطب يماثل الطب الحديث كما سطره كلود برنارد(13)، مع فارق الجهاز المفاهيمي الذي يحكم كلا منهما.
ثم الرافد الأخيرالمتمثل في تعاليم الطب النبوي الذي يجسد «الطب الذي تطبَّب به الرسول، ووصفه لغيره(...) والذي فيه من الحكمة التي تعجز عقول أكبر الأطباء عن الوصول إليها» كما يقول ابن القيم(14). فالطب النبوي عموما عبارة عن القواعد الحكيمة لحفظ الصحة، ومدونة للوصفات الطبيعية، وأيضا تقنيات محددة كالحجامة والكي بالنار(15). وبالنظر إلى كتب الطب العديدة  فإنها تؤكد على تصنيف المرض إلى قسمين: «مرض القلوب، ومرض الأبدان»، وتحدد ثلاث قواعد لطب الأبدان: حفظ الصحة، والحمية عن المؤذي، واستفراغ المواد الفاسدة». ويرى هنري باسكالاني أن الطب النبوي مستلهم من الطب اليهودي والمسيحي حينما كان الرسول يلتقي بأهل الديانات في أسفاره(16).
غير أنه بالانتقال إلى التقارير الدولية سنجدها تقدم تعريفا عاما مستوعبا ففي تقرير «استراتيجية المنظمة العالمية للصحة 2002-2005 في الطب التقليدي» يعرّف كالآتي:«إن مصطلح «الطب التقليدي» عالمي، يستعمل ليعبر عن أنظمة الطب التقليدي، كالطب التقليدي الصيني، والأيورفيدا الهندية  والطب العربي، وفي الوقت نفسه عن مختلف أشكال الطب الأهلي. وتتضمن علاجات الطب التقليدي، من ناحية، العلاجات الدوائية التي تستعمل الأدوية على أساس النباتات، وأطراف الحيوانات، أو المعادن. ومن ناحية ثانية، العلاجات غير الدوائية، التي تجرى بشكل رئيسي بدون الأدوية، كما نجد في حالة الوخز بالإبر، والعلاجات اليدوية و الروحية»(17).  
وقد جاء تبني هذا التعريف بعد انتظار دام أزيد من عشرين سنة، عندما قررت المنظمة الاعتراف بالطب التقليدي مع انعقاد مؤتمر ألما-أتا سنة 1978 الذي خصص «للعلاجات الصحية الأولية» وتبني شعار «الصحة من أجل الجميع في أفق سنة 2000». وحينها أقرّ هذا المؤتمر ما يلي:« إن أغلب المجتمعات لديها أطباؤها التقليديون، وهم جزء لا يتجزأ من المجموعة والثقافة والتقاليد المحلية، وهم مستمرون على شتى الصعد في ممارسة هيبتهم الكبيرة ذات التأثير المعتبر في الممارسات الصحية المحلية. وبفضل النظام الصحي الرسمي، سيصبح هؤلاء الأطباء المحليون شركاء مهمين في تنظيم الجهود الهادفة إلى تطوير صحة المجموعة. و(مادامت) كل المجموعات تختارهم كفاعلين صحيين داخلها، يظل ذا فائدة كبيرة اكتشاف إمكانيات إدماجهم في العلاجات الصحية الأولية، وتكوينهم لهذا الغرض.»(18) وتم الخروج بالإعلان الذي يوصي  بضرورة أن:«تُستدعى على الصعيد المحلي خدمات كل الموارد الصحية- الأطباء والممرضون، والمولدات، والمساعدون والفاعلون في المجموعات المحلية، حسب الحالات والمناطق، والممارسون التقليديون- ويُهيأ الجميع اجتماعيا وتقنيا للعمل كفريق، والاستجابة للحاجيات الصحية المعبَر عنها لدى المجموعة(19)».منذ هذا التاريخ سيدخل الطب التقليدي في اهتمامات المنظمة العالمية للصحة حيث سينظم مؤتمرا دوليا سنة 2008 وسيسفر عن إعلان بيجين الذي سيعتني أكثر بالطب التقليدي.
وقد لخص ديدي فاسان(20) دواعي هذا الاهتمام الدولي من جهة أولى في صعوبة وصول النظام العلاجي العصري إلى الساكنة القروية والشبه حضرية ما دفع المسؤولين الدوليين في التنمية الصحية إلى البحث عن إجابات بديلة لمشكل الولوج إلى جميع أنواع العلاج مع الممارسين والمعالجات التقليديات، أي عامل الولوجية. ومن جهة ثانية، عودة حركات الهويات الوطنية والثقافة الأفريقية في سياق التخلص من الاستعمار وإيجاد ممارسات ملموسة تعيد تثمين المعارف القديمة التي تعتبر مهددة من قبل زحف الحداثة، أي عامل الهوية. ومن جهة ثالثة، انجذاب الأطباء والعلماء الغربيين وكذا عدد من الإثنولوجيين إلى النزعة الطبيعية وفلسفات النظريات الإفريقية للمرض التي لعبت دورا في وفرة الأعمال التي خصصت لهذا الطب، أي عامل النزعة الطبيعية.
غير أن ديدي فاسان يرى أن هذا التعريف الذي تبنته المنظمة يعاني من ثغرتين أساسيتين: أنه يستحضر نوع العلاج بالأعشاب الطبية Pharmacopées ويستبعد الأبعاد الطقوسية والسحرية والدينية، أي البعد الاجتماعي في نهاية المطاف، وهو ما يتقلص بدوره إلى مجرد جرد للنباتات والمواد والوصفات التي تُستدعى خارج أي سياق واقعي(21). كما أنه يغيّب أيضا البعد السياسي، إذ من خلال التعرف على الطب التقليدي الذي يأخذ شكل خبرات علمية ومراكز رسمية وجمعيات المعالجين، فإن السلطة تؤسس بنيات ووسائل مراقبة الممارسات المزعجة(22).
ودفعا للالتباس الشائع بين الطب التقليدي والطب الشعبي، يرى عبد الستار السحباني أن الطب التقليدي يعني في الممارسة الطبيةانتقالا من المجال العام، أي المجال المشاع بين الجميع إلى مجال الاختصاص، حيث تصبح الممارسة العلاجية موكولة إلى من تتوفر فيه شروط القيام بذلك، ومن أكدت التجارب السابقة كفاءته، وأصبح من المشهورين في الميدان. كما أن الإطار العام للمداواة يقع خارج حدود الأسرة، وبمباركتها في الغالب، وهوما يؤكد أهمية الاختصاص، حيث أن الطب الأسري لا يمثل اختصاصا لطرف دون آخر، بل تقنية يمكن لأي كان اكتسابها وممارستها. وأخيرا فإن المستحضرات الخاصة بالمداواة معقدة وليس بالإمكان إعدادها إلا لمن يتوفر لديه الجانب الحرفي، إذ هناك تدرج في إعداد هذه المستحضرات الخاصة بكل مرض وبكل مريض(23).
وبالعودة إلى العقود الأخيرة سنجد عدة باحثين ينتمون إلى كليات الطب خصوصا، اهتموا برصد الممارسات الطبية التقليدية بالمغرب، نذكر منهم على سبيل المثال كلا من كتاب «مساهمة في دراسة الطب التقليدي بالمغرب»(24) لهنري باسكالاني. و«أوجه الطب التقليدي بالمغرب»(25) ل كليمون جيني. و«السحر والطب والشعوذة بالمغرب»(26) ل مصطفى أخميس. وغيرها من الأبحاث،بيد أن النقص الجوهري الذي تعاني منه هذه الدراسات هو تجاهلها للبعد الطقوسي والرمزي لتلك الممارسات، وهو ما سنحاول استدراكه في هذه الدراسة دون تجاهل البعد التقني الاحترافي بطبيعة الحال، وهو العمل الذي قام به، أيضا، الباحثون الأنثروبولوجيون، ونذكر من بينهم مارك أوجي(27) وجون بونوا(28) وديدي فاسان(29) وفرنسوا لابلانتين(30) وآرثر كلاينمان(31) وغيرهم.

العلاج التقليدي لمرض العصب الوِركي
(دراسةحالة)
على الطريق الساحلي بين مدينتي الدار البيضاء والمحمدية، يقع دوار(32) «مزاب»، على تراب الجماعة القروية عين حرودة، التي تنتمي إلى إقليم المحمدية بجهة الدار البيضاء الكبرى، ويبلغ عدد سكانها  41853 نسمة. يحدها من جهة الغرب المحيط الأطلسي، والمقاطعة الحضرية سيدي البرنوصي من جهة الشرق، والمقاطعة الحضرية عين السبع من جهة الجنوب، ومدينة المحمدية من جهة الشمال.(33) وعبر طريق مغبرة تتفرع عن الطريق الساحلي تصل إلى الدوار في أقل من عشرة دقائق مشيا على الأقدام، وبعد أن تنعطف قليلا عبر طريق التفافي تجنبا للمرور وسط الدوار تجد ساحة واسعة بجانبها بركة مائية راكدة، وقبالتها سلسلة من الڤِلَلْ المطلة على البحر. وفي الساحة  تصطف بعض السيارات والدراجات النارية، وعشرات الناس من المرضى ومرافقيهم. وعند منزل في الطرف الشرقي للساحة ينفتح باب مرآب(Garage)  يوجد به معالج تقليدي مشهور بالمنطقة، يُعرف بين الناس ب«سي لْحسين»،يقصده الناس يوم الأحد (في الأيام الأخرى يعمل في مصنع تكرير البترول لاسامير)لعلاج مرض العصب الوِركي(34) أو «بوزلوم» بالتسمية المحلية.
أولا: نظام الجماعة العلاجية(35)
يتكون فضاء العلاج من قسمين، فضاء عملية“الفصد”، وهو عبارة عن مرآب تبلغ مساحته حوالي سبعة  أمتار  طولا، وستة أمتار عرضا، وحوالي أربع  أمتار علوا. يجلس بداخله حوالي ثلاثون شخصا لتلقي العلاج،إضافة إلى هؤلاء يوجد أفراد آخرون منهم مرضى جاؤوا للعلاج، ومنهم مرافقون للمرضى متحلقون حول باب المرآب يشاهدون عملية العلاج. ومن خلال الملاحظة فهناك ثلاث مجموعات: الأولى، داخل المرآب. والثانية، تشاهد عملية العلاج، وتنتظر دورها للعلاج، وهم ما بين عشرة أفراد إلى عشرين فردا. والثالثة، توجد خارج المرآب، في الساحة، وهم مجموعات ما بين فردين إلى ستة أفراد، ومنهم من يجلس في السيارة- عدّدتُ حوالي ست عشرة سيارة مركونة في الخارج- في انتظار الدوْر أو أحد المرضى.والملاحظ أنه لا يتم التمييز بين الرجال والنساء، فهم يجلسون جنبا إلى جنب، ويشاهدون بعضهم البعض، رغم أن عملية القطع، تتطلب، أحيانا، تعرية الساق إلى ما فوق الركبة. إن قانون الدّور يخضع لمنطق الرقم والترتيب ولا يميز بين الرجال والنساء. وعلى يمين مدخل المرآب يوجد فضاءعملية الدلك، وهوغرفة صغيرة لا تتجاوز مساحتها مترين على مترين مجهزة بسرير أرضي يتمدد فوقه المريض، وإلى جانبه كنبة يجلس عليها المرضى، ويشاهدون عملية الدلك في انتظار دورهم. ويحرص المعالج في هذه الأثناء على تبادل الحديث المازح مع المريض والمرضى الآخرين، حول أصلهم الجغرافي، وعن معاناتهم مع المرض، ومن جهتهم يعبرون عن قدرات هذا الرجل على العلاج.
كما أن هناك وظائف أخرى تنظم العلاقات بين المرضى من جهة، والمرضى والمعالج من جهة أخرى، يسهر عليها فريق يتكون من خمسة أشخاص (ثلاثة رجال وطفلتان)،أطلقنا عليه المجموعة المنظمة للعلاج، وتقوم بالمهام التالية:
- تنظيم الدّور: عندما يأتي المريض للعلاج، يحرص على الحصول على بطاقة ورقية تحمل رقم الدوْر، الذي يسمح له بمعرفة الفوج الذي سيدخل فيه من أجل الفصد. يقوم بوشتى بمهمة توزيع الدور بالبطائق، حسب طلب المريض، ويحتفظ بها إلى أن يتم النداء من قبل رشيد بالأرقام، كي يلتحق من يسمع رقمه للدخول إلى المرآب. وينظم هذا الدوْر وفق نظام الأفواج، بحيث يدخل حوالي ثلاثين مريضا في كل فوج. ولا تخلو هذه العملية من نزاعات بين المرضى، فهناك من يحضر صباحا ليأخذ البطاقة ويذهب لقضاء بعض أعماله ثم يعود ليجد الدور قد أتى عليه مما يجعل بعض المرضى الذين ظلوا ينتظرون طويلا يظنون أن الدّور تشوبه الزبونية، وأحيانا يتدخل سي الحسين شخصيا لإيضاح الأمر إلى المحتج. والتنظيم بهذا الشكل لا يلاحظ في عملية الكي، الذي يكون عدد زبائنه قليلين، فعندما يجتمع حوالي ستة إلى عشرة أشخاص، إما قدموا قصدا للكي أو صُرفوا أثناء عملية التشخيص لإجراء الكي بدل الفصد، كما سنصف لاحقا، يتحلقون حول ذلك الباب الصغير، في انتظار انتهاء سي الحسين من المسد لفوج سابق. وإذا كان القطع لا تمييز بين الرجال والنساء في الحضور، فإنه في الكي يحضر الاعتبار الجنسي في الفوج، فإما يكون الفوج نسائيا محضا أو رجاليا محضا، وذلك لأن هذا النوع من العلاج يستدعي الاضطجاع على البطن، وتخلص المريض أو المريضة من معظم ملابسه، خاصة تعرية الظهر وجزءا من الفخذين. وإذا كانت العادات تصمت مؤقتا لتسمح لرجل بالكي للنساء فإن المعالج يحرص على حضور أكثر من امرأة إلى العملية تجنبا للانفراد.
- نظام دفع الأجر:عندما ينتهي المريض من عملية العلاج، سواء بالفصد أو الكي، يتجه نحو رشيد ليسلمه الثمن، الذي يصل إلى خمسين درهما(36) في جميع الحالات، باستثناء قليل من المرضى يدفعون أقل من ذلك مقدمين عذر العوز. وهناك من يندفع إلى الأداء قبل العلاج لكن لا يقبض منه رشيد صارفا إياه إلى العلاج أولا، فالأداء لا يكون إلا بعد العلاج بالضرورة.ولا تتمثل مهمة رشيد في تسلم الأجر- تشاركه سميحة أحيانا -  فقط بل أيضا في تحديد المواعيد، فعندما يتسلم الثمن، يسأل المريض: هل هذه أول مرة؟ إذا أجابه بأنها المرة الأولى، يحدد له الموعد بعد سبعة أيام، وإذا كانت المرة الثانية يطلب منه العودة بعد خمسة عشر يوما. إن تسلم الأجر بعد نهاية عملية العلاج يعزز مصداقية هذا العلاج عند المريض بكونه لا يهمه المقابل المالي بالدرجة الأولى، بل شفاء المريض وتخلصه من الألم، خاصة إذا قارناه بنظام مؤسسات الطب الحديث المسبق الدفع. كما أن قيام هذا العلاج على أُسي النية والبركة، نية المريض وبركة المعالج، يقتضي تأخير ما يرتبط بالمال، وهو انتظار تلقائي من المريض.وليس اعتباطا أن تقترن لحظتي الأداء وتحديد الموعد المقبل في نفس الوقت؛ إذ إن هذه اللحظة، حيث زوال الألم ودفع مقابل رمزي- بالمقارنة مع سوق العلاج- يخلفان شعورا بمصداقية هذا العلاج، ويضمنان استكمال المريض لزياراته العلاجية. إن نظام دفع الأجر لا يخلو من التقنيات التسويقية إذا صح التعبير المنسجمة مع الطبيعة التقليدية لذلك العلاج.
- تنظيف الفضاء: يتطلب مكان الفصد تنظيفا متواصلا بعد الانتهاء من كل فوج، فالدماء التي تتسرب وقطع الثوب التي تتناثر يقوم المكناسي( 58 سنة) بصب الماء فقط- دون خلط أي مسحوق منظف- ثم يدفعه بالمكنسة خارج المرآب في عرض الساحة المقابلة. وتتكرر هذه العملية بعد كل فوج، وفي نهاية اليوم يقوم بتنظيف شامل باستعمال صابون منظف. أيضا، فإن “المخاركـ” أو الآنية التي يضع فيها المريض رجله أثناء عملية القطع ويسيل فيها الدم تستدعي تنظيفا تسهر عليه كل من ابتسام ( 14 سنة ) وكوثر(11 سنة)، اللتين تقومان بعد انتهاء كل فوج من عملية الفصد بجمع الآنية بما فيها من دماء، وإخراجها إلى مكان قرب المرآب، و يفرغان الإناء المملوء بالماء المختلط بالدم في ساحة خلاء- تبعد حوالي عشرين مترا عن المرآب- ثم تغسل باستعمال الماء والمكنسة، ثم إعادة توزيعها على المرضى الذين يجلسون داخل المرآب في انتظار عملية الفصد. وتجدر الإشارة إلى أن عملية التنظيف إجمالا لا ترضي بعض المرضى أو مرافقيهم الذين يحضرون إلى العلاج و ينتقدون انعدام التعقيم؛ فطريقة الفصد باستعمال الإناء تؤدي إلى تسرب الدم إلى أرضية المكان مما يثير استهجان كثير من  المرضى. فالآنية لا يُتخلص منها بعد كل عملية فصد لمريض أو على الأقل لا تنظف بمساحيق منظفة، ويستعملها أكثر من مريض، ولذلك يتخوفون من انتقال الأمراض المعدية. غير أن بعض المرضى- مريضين من مجموع المرضى- يصطحبون كل الأدوات اللازمة، من الإناء فالمشرط، إلى الضِمادة. وهذا يحيل على أن مفهوم التعقيم يرتبط  بالطب الحديث، حيث شرط الوقاية ضرورة في الممارسة الطبية، أما في العلاج التقليدي فالاحتراز ليس شرطا في الممارسة. فحسب العديد من المرضى فإن “الشفاء من الله ونحن نلتزم بالنية حينما جئنا عند هذا المعالج” ولا داعي للتفاوض حول محيط العلاج. إن قيام هذا العلاج على النية يفرض تجاهل التعقيم وعدم الاكتراث بشروط الوقاية لأن النية كاعتقاد نفسي مسبق تتنافى مع مفهوم العقلانية الذي يقوم عليه الطب الحديث. من هذا المنطلق، يجب أن يأتي المريض إلى هذا العلاج مفوضا أمره لله ثم للمعالج، والتفاوض حول ظروف وشروط العلاج يعتبر تشكيكا في العلاج كله وعدم ثقة فيه ينعكس في الأخير على فعالية العلاج.

ثانيا: سي الحسين، وراثة واحتراف وبركة
عندما يحكي سي الحسين عن ممارسته لهذه الحرفة يجد نفسه تلقائيا يستحضر والده، يقول:“تعلم والدي هذه المهنة بفضل امرأة مسنة أعطته هذه البركة، حينما كان في القرية بنواحي بنحمد. كانت المرأة تمر كل عام من القرية لتزور مقبرة القرية، فسألها أبي: أراك كل سنة تسلكين هذا الطريق، هل عندك عائلة؟ أجابت: لا، لكن أزور جدي سيدي عبد الكريم المدفون هنا”. لا يضيف سي الحسين أي حيثيات وتفاصيل أخرى توضح كيفية منح المرأة هذا العلاج لأبيه، لكن أغلب الظن أنها علمته طريقة العلاج، وسكوته عن الطريقة قد يذهب بنا إلى فرضية اختلاق القصة من أساسها، مع العلم أن والد سي الحسين كما يقول “لم يكن لوالدي غير هذا العلاج مهنة وظل يمارسه طول حياته،ولما كبر في السن وتوفي بدأت أمارس هذه المهنة أيضا منذ سنة 1983. لقد أوصاني والدي فتعلمت هذه المهنة و عرفت فيها ومارستها، والحمد لله نحقق الشفاء للناس. كان والدي يعالج العصب الوركي والبرودة وانفساخ المفصل (الفديع)...الخ. وأنا أضفت عليه العظام والمفاصل”. إن “ هذه الحرفة تحتاج إلى العَرْف(الاحتراف) ليس سهلا أن تقوم بالفصد، أنا كنت أرى والدي وأمارس معه، حتى تعلمت” كما يضيف سي الحسين.
يظهر إذن أن سي الحسين تعلم من أبيه علاج العصب الوركي ثم أضاف إليه علاجات/تخصصات أخرى، لقد طور علاج العصب الوركي، فقد كان والده يعالج بالفصد فقط ثم طوره إلى الكي أيضا. يقول سي الحسين:“ هذه البركة( العلاج) تركها لي الوالد، ولا يمكن أن أتخلى عنها، لأن والدي حين الموت أوصاني بالتمسك بهذه المهنة وحدث في فترة ما أن تخليت عنها، ولما أنام في الليل أرى رجلا صالحا طويل اللحية يلبس الأبيض يقف عندي ويقول: اذهب ومارس مهنتك التي أوصاك والدك عليها، وكان يحدث معي هذا حتى في اليقظة، وفورا عدت إلى ممارسة هذه المهنة”. لم يعد عنصر الوراثة المقترن بالبركة( والبركة عند المعالج توازي الشهادة العلمية عند الطبيب كما يقول دانيل فريدمان(37))بوصفها“ قوة وفعل، خاصية وحالة، صفة وفضيلة في الوقت نفسه، ملموسة ومجردة، كلية الوجود ومحلية”(38) الممنوحة من المرأة المسنة هي المحدد الوحيد لممارسة سي الحسين لهذا العلاج بل أيضا رؤيا الرجل الصالح يحثه على عدم ترك هذا العلاج، وهو بذلك يؤسس وجوده على عناصر لها تأثيرها في أي مجتمع تقليدي: النسب والبركة والرؤى.بهذا المعنى يرفد سي الحسين هذه الممارسة بدلالات رمزية ودينية تمنحه شرعية علاجية داخل الحقل الطبي المحلي.
كما أن سي الحسين تعلم هذه الحرفة من والده سيقوم بدوره بتعليم ابنته سميحة( 25 سنة) ممارسة الحرفة، يقول:“ لقد علمت ابنتي هذه المهنة التي رغبت فيها بإرادتها، وفي نفس الوقت من أجل مساعدتي. ففي السابق كان عدد زبنائي قليلا لا يتجاوز الثلاثين وكنت مكتفيا بنفسي، أما الآن وقد أصبح عدد الزبناء حوالي المائتين يوميا، لا أستطيع لوحدي القيام بمهمتي الفصد والكي معا”. إن هذا العلاج الممتد من الوالد فالابن فالحفيدة لا يعني سوى أن الجد مرر “هبة” العلاج حصرا لابنه ثم هذا الأخير لابنته سميحة لا لشخص آخر يوجد في الفضاء العلاجي(والأب كما يقول ديدي فاسان لا يمرر معرفته إلى كل أبنائه) هو تمرير لأسرار العلاج باعتبارها تراثا عائليا على حد تعبير اولفييه شميتز(39)لأن هذا العلاج يعد هبة إلهية لا بد أن تبقى حصريا ضمن العائلة، إنه تمرير إلى نفس الدم والنسب وتأسيس للخلَف وضمان للاستمرارية التي تعني في نهاية المطاف أيضا استمرارا للمكانة الاجتماعية للعائلة وما يتبع ذلك من مردود مالي.

ثالثا: المرض والتشخيص والعلاج
تعد معرفة طبيعة المرض من قبل المعالج مقدمة ضرورية لنجاح العلاج، ولذلك حرصت في مقابلتي مع سي الحسين الاستماع إلى شرحه لتعريف المرض، يقول عنه:“يعود السياتيك إلى الفقرات “إل 1و2 و3 و4 و5 حيث أن العصب الذي يمر بمحاذاة الفقرة 1 من العمود الفقري ينتفخ أو ينزاح عن مكانه الطبيعي، وهذا ندوايه بالكي (السْخون)  باستعمال الزيت من أجل إرجاعه إلى مكانه”. ثم يقوم بتشخيص تلك الحالة التي لا يستطيع فيها الشخص الحركة، يقول:“بالنسبة للشلل(يقصد صعوبة الشديدة في الحركة) يأتي للمريض من العمود الفقري خصوصا الفقرة الأخيرة ال 1 التي تنزاح عن مكانها بشكل كبير بسبب حمل شيء ثقيل ونداويه الكي(السْخون)”.
وهذا ما نلاحظ سميحة تمارسه عندما يأخذ المرضى مواقعهم داخل المرآب فتبدأ في التجول على المرضى من اليمين إلى اليسار فردا فردا،وتسأل: هل هذه أول مرة؟ إذا كانت أول مرة، تسأله عن الألم الذي يحسه. وتشرع في تشخيص ألمه بواسطة معرفة طبيعة الألم ومكانه وربما قدرات/أعراض أخرى لم ألاحظها، وإذا لم يتبين المرض تقوم بفحص مكان الألم باليد لتحدد طبيعته. يشرح سي الحسين هذه الغاية من هذه العملية:«نحن نفحص من أجل التمييز بين أنواع المرض، عصب وركي أم برودة بدون عصب وركي أو مرض آخر، إذا كان عصبا وِركيا أو برودة في الدورة الدموية أقوم بالفصد، أما إذا كان شيئا آخر فلا أقوم بالفصد، فقد يكون مفصلا مخلوعا أو تزحزحا لأحد المفاصل عن مكانه، فهو كذلك يسبب هذا المرض». يحرص المعالج من خلال عملية الفحص (التْقلاب) على معرفة نوع المرض بدقة، إذا ما كان عصبا وِركيا فيقوم بعملية الفصد. أما إذا كان مرضا آخر، مثل ألم في الظهر أو تمزق عضلي أو خلع فيتطلب العلاج بالكي. إن إنجاز هذه العملية تسمح ل«سميحة» باتخاذ قرار طبيعة المرض ومن ثمة تحديد نوع التدخل العلاجي،إماالفصد أوالكي «السْخُونْ» بتعبيرهم.
يقودنا سي الحسين من تعريف المرض إلى تقديم أسباب حدوثه، يظهر ذلك عندما سألته عن ماهية هذا المرض فوجد نفسه يتحدث عن أسبابه، وكأن الأسباب تصنع الماهية، فالعصب الوِركي قد«يصيب الشخص بسبب رفع شيء ثقيل، فنحن لدينا عدة مفاصل وفي الوقت الذي نحمل شيئا ثقيلا يسقط المفصل عن مكانه، فيصاب الشخص بالسياتيك، أو بسبب حادثة سير أو سقطة» أو “ قد يكون للمريض سيارة ويخرج منها متعرقا فيصاب بالبرد، ولما يمر الوقت بدون علاج قد يصبح سياتيك، لأن البرد يتغلغل بين فقرات العمود الفقري ويمتص لزوجتها، وهذا النوع من البرودة أكثر خطورة لأنه يصعب إخراج البرودة من فقرات العمود الفقري” حسب سي الحسين.
يبدأ العلاج فعليا منذ لحظة التشخيص حيث يتم التمييز على أساسه بين مجموعتين: مجموعة التي سينتهج معها الكي، والمجموعة التي يسلك معها الفصد. بعد ذلك يشرع المعالج في التدخل المباشر مستعملا أدوات محددة، ففي“عملية الكي يستعمل زيت الزيتون وحجرا أملس وقطعة قماش غليظ يسخن باستمرار” أما في عملية الفصد فيستعمل فيها أساسا “المِشرط والضِمادة والحِناء”. ولاستعمال الحناء هنا أصل واضح في الطب النبوي فقد “كان لا يصيب النبي صلى الله عليه وسلم، قرحة ولا شوكة، إلا وضع عليها الحناء”(40)، والوضع أو الاستعمال هنا يماثل الوضع في طريقة سي الحسين إذ أن «الضماد بالحناء ينفع من الأورام الحارة الملهبة»(41)، ويلاحظ أن الحسين ليست له أي فكرة نظرية عن هذا البعد النبوي للاستعمال بل هو تعلم تلقائي عبر التقليد.أما الأداة الملفتة للنظر فهي «آلة تحريك الدورة الدموية» التي لم يحدد اسمها، لكن تستعمل حينما يلاحظ المعالج في مرحلة التشخيص أن المريض الذي سيخضع لعملية الفصد يحتاج إلى تحريك الدورة الدموية لكي تساعد على تحريك الدم وتسهيل سيلانه، ومن المؤكد أنها الآلة العصرية الوحيدة من نوعها في فضاء العلاج.
أثناء التدخل العلاجي وبعيده مباشرة لا ينسى سي الحسين أن يقدم لمرضاه نصائح لضمان فعالية العلاج، منها: استبعاد الدواء الكيميائي حيث “من يبدأ معنا العلاج لابد أن ينقطع عن الدواء، لأن الدواء الذي يصفه الطبيب مهدئ للدم، وبالتالي إذا كان الدم مستقر كيميائيا، فعندما نقوم بالفصد بالمِشرط لا يحصل النزيف وسيلان الدم، وإذا لم يحصل لا فائدة في علاجنا” كما يقول سي الحسين. وينصح المرضى أيضا بتجنب حمل الأشياء الثقيلة «لابد من تجنب حمل أو جرّ أي شيء ثقيل». ثم لابد من اتخاذ الأوضاع السليمة في الجنس: «أنصح المرضى من النساء والرجال بتحسين وضع الجِماع، أن يكون بشكل عادي وليس بطريقة جانبية كما يفعل الكثيرون. بالنسبة للنساء أتحرج منهن فأقول لهن أن يحسّن الجِماع مع أزواجهن بدون أن أعطيهن أية تفاصيل». وفي الأخير يقدم نصيحة تكميلية كي «يصطحبوا معهم في العلاج أحد أفراد الأسرة ليساعدهم في حالة تعرضهم للإغماء الذي يسببه الخوف الذي يحصل لبعض المرضى جراء رؤية الدماء».أما بخصوص نظام الأكل «فلا نقدم للمريض أية نصائح لأن هذا المرض لا علاقة له بالجهاز الهضمي».
و مباشرة بعد نصائح العلاج يحدد نظام المواعيد (الأوقات)-يقوم به سي الحسين ويذكّر به أيضا رشيد وسميحة- حسب سي الحسين فتتميز بنمطيتها التي لا تتجاوز نوعين من المواعيد حسب المرض: يقول «هناك فئة نعطيها خمسة عشر يوما بين زيارة وأخرى، فمثلا عندما نقوم بعملية الفصد هذا الأسبوع نترك للمريض الأسبوع الموالي للراحة ثم يعود إلينا في الأسبوع الآخر، حينها تتبين لنا درجة تطور حالة المرض، فإذا لم يتحسن لابد من إعادة الفحص لمعرفة طبيعة الألم بالضبط، أما إذا تحسن فيأتي كل أسبوع للفصد أو الكي حسب نوع المرض». ويحرص سي الحسين أن يذكر ويؤكد أن « هناك من يشفى من الزيارة الأولى، وهناك من يحتاج إلى أسبوعين أو أكثر حسب نوع السياتيك الذي يعاني منه».

رابعا: آليات الاستقطاب والعلاقة بالطب الحديث
يراهن سي الحسين في عملية الاستقطاب على الشبكات الاجتماعية كطريقة فعّالة من أجل التسويق للعلاج، يقول:« يتزايد إقبال الناس عليّ لأنهم يسألون بعضهم ويحكون لبعضهم، فالمريض عندما يغادرني مُعافى، يخبر الناس الآخرين. وكل من يسمع ذلك، يقول مع نفسه مادام فلان شُفي، لماذا لا أذهب أيضا للعلاج، وهكذا يأتي الناس». وهذا ما تؤكده امرأة مسنة تقول:«كل منا يقول للآخر، أنا جئت من مدينة القنيطرة، فقد سمعت ابنتي من جيرانها بمدينة المحمدية عن هذا الرجل، فأخبرتني، فجئت إليه». ويقول سي الحسين بفخر «يأتيني جميع الناس، أغلبهم من الكهول نساء ورجالا، أما الشباب فقليلون».
إضافة إلى الشبكات الاجتماعية،هناك طريقة التعامل والتواصل التي يوفرها سي الحسين داخل الفضاء العلاجي، يقول:«كل مريض نعامله بالشكل المناسب، النساء لابد أن نعاملهن بطريقة جيدة، ونضحك معهن، رغم تنازعهن على الدّور، نعاملهن بشكل جيد حتى يقضين أغراضهن بسلام. ونعطي الأسبقية لكبار السن».
هكذا نلاحظ من ناحية أولى أن الشبكات الاجتماعية القائمة على الإخبار الشفوي الذي يقوم به المرضى فيما بينهم تعتبر الطريقة الأساسية لتسويق هذا العلاج. ومن ناحية أخرى فإن طريقة التواصل الفعّال الذي يقوم به سي الحسين خلال العلاج وبعده مع المرضى من حيث الحفاظ على الابتسامة والمعاملة اللطيفة مع النساء واحترام كبار السن، تعتبرأيضا عاملا من عوامل الاستقطاب. وعلى كل حال ليست هناك آليات عصرية للاستقطاب كاستعمال المنشورات الإشهارية أو غيرها.
العلاقة مع الطب الحديث: يقول سي الحسين: “للطبيب أدواته، ودرس ذلك علميا، أما أنا فالله سبحانه وتعالى أعطاني هذا العلاج في يدي. إن الفرق بيني وبين الطبيب، أنه يستعمل الآلة، وأنا لا أملك غير يدي، ما سيقوله الطبيب للمريض بالراديو أقوله أنا بيدي، هذا العلاج مزروع فينا، أما الطبيب فيستعمل جهاز الراديو ثم يقول للمريض مما يشكو”.يقيم سي الحسين مقارنة دقيقة بين طريقته التي تعتمد اليد وطريقة الطبيب التي تعتمد الآلة،وهو فارق يردنا ببلاغة إلى فلسفة الطب التقليدي القائم على استعمال الموارد الطبيعية، والطب المعاصر المعتمد على الاختراعات التكنولوجية، بل أكثر من ذلك إن طريقة علاج سي الحسين هبة إلهية ومزروعة في يده، بينما طريقة الطبيب علمية مكتسبة فضلا عن اعتمادها التقنية. وحينما سألت سي الحسين عن شكوى بعض الأطباء من منافسته لهم،أجاب:“لا داعي لأن يشتكي الطبيب، لأنني أداوي شيئا لا يستطيع الطبيب أن يداويه، فلماذا سيشتكي؟ لو أن الطبيب يداوي هذا المرض لما جاء عندي الناس. إن الناس يتعبون من الأطباء ثم يلجؤون عندي في الأخير”. بكل ثقة إذن يعطي سي الحسين مشروعية لتدخله العلاجي بعبارة«أنا الملجأ الأخير» في المسار العلاجي للمريض كي يحسم في عجز الطب على العلاج. لقد أتاح المريض الفرصة الأولى للطبيب وفشل في مهمته، فلماذا إذن يشتكي! وليؤكد قدراته العلاجية المفحمة يقول:«إن الأطباء أنفسهم يزوروني للعلاج»!

خامسا: خلاصة
حاولت هذه الدراسة تناول أربعة مظاهر في الطب التقليدي لمرض العصب الوِركي: فضاء العلاج وتنظيمه، وأسس مشروعية العلاج، وتصور طبيعة المرض وإجراءات علاجه، ثم آليات الاستقطاب والعلاقة مع الطب الحديث. في المظهر الأول تبين أن العلاج يخضع لتنظيم جماعي تعاوني مُحكم يضمن عموما السير العادي للعلاج على مستوى علاقة المرضى فيما بينهم، وعلى مستوى علاقة المرضى بالمعالج ومساعديه. وفي المظهر الثاني تبين أن البَركة التي يتحلى بها المعالج - في مقابل النيّة التي يتحلى بها المريض- مقرونة بالاحتراف (العَرْفْ) أساسان متكاملان في العملية العلاجية، مع الإلحاح على أن هذا العلاج يعد امتدادا للطب النبوي بالدرجة الأولى من خلال الفصد الذي يعد شكلا من أشكال الحجامة، والكي بطريقة الدلك ب“السْخون”، ثم  في استعمال الحناء بالطريقة المأثورة عن الطب النبوي، مع تسجيل وجود فرق بيّن بين الطريقة النبوية كما وردت في الآثار وطريقة سي الحسين. كما أن المعالج يملك تصورا واضحا لطبيعة المرض، ويحمل تعريفا له وطريقة تشخيص وإجراءات علاج، وفي الأخير يتم اعتماد أسلوب في التسويق يرتكز على الشبكات الاجتماعية القائمة على الإخبار الشفوي والتواصل المباشر.ثم يتوج أسلوبه العلاجي بنظرة محددة إلى الطب الحديث مقتنعة بعجز الطب الحديث عن علاج هذا المرض وهو الأمر الذي يعطي المشروعية النهائية للتدخل العلاجي واستمراريته.

الهوامش

1 - -Parsons talcott, The social system,New York, the free press, 1951.p 433.
2 - -Benoist Jean,Prendre soins,  in, Soigner au Pluriel: Essais sur le pluralisme médical, Paris, Khartala, ( « Médecines du Monde »), 1996, p 441 (Texte disponible dans Les Classiques des sciences sociales)
3 - يؤرخ لظهور الطب الحديث بتاريخ إصدار مؤلف «مدخل إلى الطب التجريبي» ل كلود برنارد سنة 1865.
4 - Lieban w Richard.The Field of Medical Anthropology. In Landy David (Ed) Culture, Disease, and Healing (pp 13-31). New York ,Macmillan Publishing. 1977.
5 - Radi Saadia, Pluralisme médicale et biomédecine au Maroc,Dir Dialmy, Abdessamad.Faculté des lettres et des sciences humaines Dhar El Mehrez-Fès, 2002, pp 103-111
6 - Pasqualani Henri,Contribution a l’etude de la médecine traditionnelle au Maroc, Université de Bordeaux, Faculté Mixte de médecine et de pharmacie, Ecole de livre, 1957.p 13.
7 - Ibid.
8 - الجابري محمد عابد، في تاريخ الطب العربي: ابن رشد العصا القاتلة، في الكليات في الطب، تحقيق ومدخل ومقدمة محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 2008، بيروت، ص 15.
9 - المرجع نفسه، ص 19.
10 - المرجع نفسه، ص 22.
11 - المرجع نفسه، ص 24.
12 - المرجع نفسه، ص 40.
13 - المرجع نفسه، ص 48.
14 - الجوزية ابن القيم، الطب النبوي،  تحقيق عبد الغني عبد الخالق، دار الفكر، بدون تاريخ، بيروت، ص 1.
15 - Pasqualani Henri, Contribution …Op .Cit p 25.
16 - Ibid.p 23.
17 - WHO Traditional Medicine Strategy 2002-2005, World health Organization, Geneva , 2002,  p 7.
ورد في نفس التقرير التمييز الإجرائي التاليبين الطب التقليدي والطب التكميلي والبديل:”  يستعمل “الطب التقليدي”  في هذه الوثيقة حين الحديث عن إفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وجنوب شرق آسيا، و غرب الهادي، في حين نستعمل “الطب التكميلي والبديل” عند الإشارة إلى أوروبا وأمريكا الشمالية، وأستراليا، وعند الإشارة إلى كل هذه المناطق نستعمل الطب التقليدي / الطب التكميلي والبديل”.
18 - Alma-Ata 1978 Les soins de santé primaires, Organisation mondiale de la santé et Fonds des Nations Unies pour l’enfance, Genève, 1978. P 70.
19 - Ibid, p 5.(Déclaration d’Alma-At)
20-FassinDidier, «Maladie et médecine… Op, Cit.
21 - Ibid.
22 - Ibid.
23 -  السحباني عبد الستار، الطب الشعبي: المقاومة والتهميش والاحتواء، الكراسات التونسية، العدد 189- 190، 2004، ص 39-72.
24 - Pasqualani Henri, Contribution…… Op, Cit.
25- Geny Clément, Aspects de la medecine traditionnelle au Maroc, thèse de doctorat en Médecine, Université Louis Pasteur, Faculté de médecine de strasbourg, 1979.(non publié)
26 - Akhmisse Mustapha, Médecine, Magie et Sorcellerie au Maroc ou l’art traditionnel de guérir,  Dar Kourtoba, 4eme édition, Casablanca, 2000.
27 - Auge Marc, «Ordre biologique, ordre social ; la maladie, firme élémentaire de l’evenement»pp35-91, in le sens du mal : anthropologie, histoire, sociologie de la maladie, sous la direction de Marc Auge et Claudine Herzlich, éditions des archives contemporaines, 1984.Paris.
28- Benoist Jean,« Rencontres de médecines: s’opposer ou s’ajuster», in : L>autre, Cliniques, cultures et sociétés, 2004, vol. 5, no 2 pp. 277-286.
29 - Fassin Didier, l’espace politique de la santé, : essai de généalogie, PUF, 1996 , Paris.
30 - Laplantine, François, Anthropologie de la maladie : étude ethnologique des systèmes de représentations étiologiques et thérapeutiques dans la société occidentale contemporaine, Payot, 1992 , Paris.
31- Kleinman, Arthur, Patients and healers in the context of culture (Texte imprimé) : an exploration of the borderland between anthropology, medicine and psychiatry, University of California Press, 1981.
32 - يسميه السكان «دوار» في حين أنه «كاريان»، إذ لم ينشأ إلا سنة 1965 إثر تشكل أحياء الصفيح بعيد الإستقلال حول المناطق الصناعية بالدار البيضاء بفعل الهجرة القروية (البحث الميداني).
33 - Monographie de la région du grand Casablanca, Royaume du Maroc, Haut Commissariat au plan, Direction Regionale Du Grand Casablanca,2005, p 8.
34 - تترجم لفظة sciatique الفرنسية، أو sciatic في الانجليزية، الى “وَرِكِيّ”، أو“ إسْكِيّ”، أو النَّسَى (عِرقُ النَّسا). انظر المعجم الطبي الموحد: انكليزي- عربي- فرنسي، مقرر اللجنة محمد هيثم الخياط، مجلس وزراء الصحة العرب، منظمة الصجة العالمية، اتحاد الأطباء العرب، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، طلاسدار للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، طبعة 1988، ص 572.
35 - يستعمل لابلانتين هذا المفهوم للتعبير عن«الإجراءات والقيم والرموز واللغة...التي تحكم جماعة بشرية معينة في لحظات المرض والعلاج» أنظر: لابلانتين فرانسوا، المسلمات المشتركة بين مختلف الأنظمة العلاجية التقليدية بإفريقيا، ص 93-109، في: أبحاث في السحر، ترجمة محمد أسليم، مطبعة سندي، الطبعة الأولى، 1995، مكناس.
36 - إذا احتسبنا أن حوالي 200 مريض يؤدي  كل منهم 50 درهما، فهذا يعني أن الدخل اليومي لهذا المعالج 10000 درهم، وهو مبلغ مهم يشير إلى أبعاد اقتصادية لا يمكن تجاهلها. بالإضافة إلى خدمتي حراسة للسيارات، و بيع الوجبات السريعة.
37- Friedmann Daniel, les Guérisseurs , Splendeurs  et misères du don, A-M Métailié, Paris, 1981.De Shmitz olivier, soigner par l’invisible: Enquête sur les guérisseurs aujourd’hui, Editions Imago, Paris, 2006 p 160.
38- Jamous Raymond, Honneur et Baraka : les structures sociales traditionnelles dans le rif , Etudes de la Maison des sciences de l’homme , 1981, Paris, p202.
39- Schmitz Olivier, Soigner par l’invisible …Op. Cit, p 94.
40 - ابن القيم الجوزية، الطب النبوي، مرجع سابق الذكر، ص 67.
41 - الصفحة نفسها.

المراجع

1 - الجابري محمد عابد، «في تاريخ الطب العربي: ابن رشد العصا القاتلة» في: الكليات في الطب، تحقيق ومدخل ومقدمة محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الثانية، 2008، بيروت.
2 - الجوزية ابن القيم، الطب النبوي،  تحقيق عبد الغني عبد الخالق، دار الفكر، بدون تاريخ، بيروت.
3 - السحباني عبد الستار، الطب الشعبي: المقاومة والتهميش والاحتواء، الكراسات التونسية، العدد 189- 190، 2004، ص 39-72.
4 - لابلانتين فرانسوا، المسلمات المشتركة بين مختلف الأنظمة العلاجية التقليدية بإفريقيا، ص 93-109، في: أبحاث في السحر، ترجمة محمد أسليم، مطبعة سندي، الطبعة الأولى، 1995، مكناس.
5 - المعجم الطبي الموحد: انكليزي- عربي- فرنسي، مقرر اللجنة محمد هيثم الخياط، مجلس وزراء الصحة العرب، منظمة الصجة العالمية، اتحاد الأطباء العرب، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، طلاسدار للدراسات والترجمة والنشر، دمشق، طبعة 1988.
1 - Akhmisse Mustapha, Médecine, Magie et Sorcellerie au Maroc ou l’art traditionnel de guérir,  Dar Kourtoba, 4eme édition, Casablanca, 2000.
2 - Alma-Ata 1978 Les soins de santé primaires, Organisation mondiale de la santé et Fonds des Nations Unies pour l’enfance, Genève, 1978.
3 - Auge Marc, «Ordre biologique, ordre social ; la maladie, firme élémentaire de l’evenement»pp35-91, in le sens du mal : anthropologie, histoire, sociologie de la maladie, sous la direction de Marc Auge et Claudine Herzlich, éditions des archives contemporaines, 1984.Paris.
4 - Benoist Jean, « Rencontres de médecines: s’opposer ou s’ajuster», in : L`autre, Cliniques, cultures et sociétés, 2004, vol. 5, no 2 pp. 277-286.
5 - Benoist Jean,Prendre soins,  in, Soigner au Pluriel: Essais sur le pluralisme médical, Paris, Khartala, («Médecines du Monde»), 1996, p 441(Texte disponible dans Les Classiques des sciences sociales)
6 - Fassin Didier, l’espace politique de la santé: essai de généalogie, PUF, 1996 , Paris.
7 - Fassin Didier, «Maladie et médecine»,pp 38-49, in sociétés, développement et santé, ouvrage sous direction de didier Fassin et Yanick Jaffré, Paris, les éditions Ellipses, 1990, Collection Tropicale.
8 - Friedmann Daniel, les Guérisseurs , Splendeurs  et misères du don, A-M Métailié, Paris, 1981. De  Shmitz olivier, soigner par l’invisible: Enquête sur les guérisseurs aujourd’hui, Editions Imago, Paris, 2006.
9 - Geny Clément, Aspects de la medecine traditionnelle au Maroc, thèse de doctorat en Médecine, Université Louis Pasteur, Faculté de médecine de strasbourg, 1979.(non publié)
10 - Jamous Raymond, Honneur et Baraka : les structures sociales traditionnelles dans le rif , Etudes de la Maison des sciences de l’homme , 1981, Paris.
11 - Kleinman, Arthur, Patients and healers in the context of culture [Texte imprimé] : an exploration of the borderland between anthropology, medicine and psychiatry, University of California Press, 1981.
12 - Laplantine, François, Anthropologie de la maladie : étude ethnologique des systèmes de représentations étiologiques et thérapeutiques dans la société occidentale contemporaine, Payot, 1992 , Paris.
13 - Lieban w Richard (1977).The Field of Medical Anthropology. In Landy David (Ed) Culture, Disease, and Healing (pp 13-31). New York ,Macmillan Publishing.
14 - Monographie de la région du grand Casablanca, Royaume du Maroc, Haut Commissariat au plan, Direction Regionale Du Grand Casablanca,2005.
15 - Pasqualani Henri, Contribution a l’etude de la médecine traditionnelle au Maroc, Université de Bordeaux, Faculté Mixte de médecine et de pharmacie, Ecole de livre, 1957.
16 - Parsons, talcott,The social system, New York, the free press, 1951.
17 - Radi Saadia, Pluralisme médicale et biomédecine au Maroc, Dir Dialmy, Abdessamad. Faculté des lettres et des sciences humaines Dhar El Mehrez-Fès, 2002.
18 - Schmitz Olivier, Soigner par l’invisible : Enquête sur les guérisseurs aujourd’hui, Editions Imago, Paris, 2006.
19 - World health Organization, Traditional Medicine Strategy 2002-2005, Geneva, 2002. 

أعداد المجلة