فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
18

هندسة المعمار في مدينة«توزر» بين الثبات والتحول:دراسة أنتربولوجية - سوسيولوجية

العدد 18 - ثقافة مادية
هندسة المعمار  في مدينة«توزر» بين الثبات والتحول:دراسة أنتربولوجية  - سوسيولوجية
كاتب من تونس

« أجمل ما يقدمه الإنسان في حياته إلى بني قومه، هو ما خلفه الأجداد من أثر حميد وتراث ماجد تليد، وسجل تاريخي حافل بالعلم والأدب ، طالما نسج عليه عنكبوت النسيان بخيوطه في زوايا الإهمال.ولو أنّه باق بقاء الخلود» (أحمد البختري).

تندرج هذه الدراسة السوسيولوجية ضمن الدراسات التي تهتم بظواهر شديدة الارتباط بواقعنا الاجتماعي، وسنركز فيها على دراسة هندسة المعمار في مدينة الجريد من الجنوب الغربي للبلاد التونسية لعدة أسباب نذكر منها ندرة الدراسات التي تتناول مظاهر تطور الهندسة المعمارية في مختلف المدن التونسية ، ومن بينها مدينة توزر، التي تمر اليوم بتحولات جذرية، في مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية،

ولذلك، فإنّ هذه الدراسة تستمد مادتها من مصدر تاريخي يتمثّل في بعض الكتب المتخصّصة والمخطوطات حول الظاهرة المعمارية بمدينة الجريد ، ومؤلفات الرحالة والمستشرقين ،الذين زاروا هذه المدن. واعتمدنا في هذا الإطار أيضا المنهج المقارن (Méthode comparative)، قصد معرفة مدى التطور الحاصل اليوم في طرق بناء المساكن الحديثة بهذه المدينة ولإثراء محتوى الدراسة استعنا أيضا ببعض التقنيات لتحقيق أهداف هذا البحث السوسيولوجي مثل الملاحظة المباشرة والمقابلة.

فالملاحظة:(L’observation) اعتمدناها نظرا لأهميتها في جمع المعلومات والحقائق من الحقل الاجتماعي. أما المقابلة(L’interview) فقد تمكنا من خلالها من القيام ببعض الاتصالات مع مثقفي الجهة وشيوخها لتجميع المعلومات والبيانات التي تتعلق بالمسكن قديما وحديثا.

وستنقسم مستويات هذه الدراسة الاجتماعية إلى الجوانب التالية:

1 - مدينة توزر من خلال كتابات المؤرخين والرحالة والمعمرين.

2 - الجذور التاريخية للهندسة المعمارية بالجريد من خلال الذاكرة الجماعية.

3 - تطور الهندسة المعمارية بالجريد في العصر الحديث.

I- مدينة توزر من خلال كتابات المؤرخين والرحالة والمعمرين الفرنسيين:

بعد عملية البحث والتنقيب والاحتكاك المباشر بذوي الخبرة والمعرفة في المجال التاريخي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في هذه الجهة، عثرنا على بعض المقالات والمخطوطات والدراسات العلمية التي تناولت في تحليلها التاريخي مدينة توزر وأنشطة أفرادها وممارستهم في مختلف مجالات الحياة التي كانت سائدة آنذاك.

1/ مدينة توزر: تمثل بلاد الجريد وحدة جغرافية متميزة عن غيرها فهي مجموعة من الواحات الصحراوية المحاطة بالسباخ و ترجع في أغلبها إلى العهد القديم، فمدينة توزر مثلا ذكرت منذ العصر الروماني في «لوحة بوتنقر» (Table de Peutinger) ، وتوالت عليها الدول والحضارات إلى أن فتحها عقبة بن نافع، مخترقا بذلك الخط الإستراتيجي الأول للدولة البيزنطية، المكون من مجموعة (Castella) أو القصور وهي التسمية التي أصبحت تطلق على البلاد1.

فقد قال اليعقوبي في هذا الصدد: « مدائن قسطيلية، وهي أربع مدائن في أرض واسعة، لها النخل والزيتون، فالمدينة العظمى يقال لها توزر وبها ينزل العمال، والثانية يقال لها الحامة والثالثة تقيوس(دقاش) والرابعة نفطة، وحول هذه المدن أربع سباخ. وأهل هذه المدن قوم عجم من الروم القدم والأفارقة والبربر»2.

ويقول محمد حسن في هذا المجال « إنّ هذه الواحات الثرية كانت مقرا لمختلف القبائل والشعوب التي تعاقبت على بلاد المغرب فقد ذكرت بها خلال العصر الوسيط قبائل أمازيغية عدة»3.

وقد مثلت الواحات ظاهرة مدنية خاصة، تميزت بانتشار المساكن في غابة النخيل، وغياب ما يمكن أن نطلق عليه الظهير لهذه المستقرات المحاطة بالرمال الصحراوية. فالقبائل البدوية هي وحدها التي مثلت الحزام غير الآمن، والتي تمكنت من حين إلى آخر من اكتساح مجال الواحات والاستقرار به. ولعل هذه المعادلة الصعبة في حضارة الواحات أي البداوة والتحضر، هي المفسرة للثنائية التي نلحظها في عمران مدن الواحات مثل توزر4.

2/ ما أصل تسمية توزر؟ من الثابت أن تاريخ توزر قديم، وحسب الروايات، فإنّ امرأة كانت تدعى توزر تسكن في مدينة قسنطينة وكانت تشتغل في صناعة الفخار والخزف، فطردها زملاؤها بدافع الحسد، فاستقرت بتوزر بعد أن طافت بجهات عديدة واستمرت في صناعة الفخار والخزف. وسرعان ما بنى الأفراد بالقرب من مقرها ديارا ساهمت في تشكل مدينة تحمل اسم صانعة الفخار والخزف «بتوزر»5. فأصل توزر قسطيلية ويقول في هذا المجال محمد بن محمد بن عمر العدواني«قلت له أخبرني عن توزر لم سميت توزر؟ قال لي:إنّ مدينة قسطيلية كانت قائمة في غاية القيام، وأمر صاحبها لا بد أن تبيضوها فبيضوها، فصارت الأمراء ، تهابها وكانت بواسطتها امرأة تسمى توزر تصنع الطين وتحميه، فيخرج ذلك الدخان على الحيوط فيسوده، فأخرجوها»6.

وكتب الجغرافي الرحالة أبو عبد الله محمد إدريس عن المدينة في كتابه الذي أتمه بتاريخ 11 جانفي 1154 ما يلي: «وهي تسمّى أيضا قسطيلية،وهي محاطة بسور، وأطرافها محاطة بالنخل الذي ينتج أجود تمور إفريقية وألذها. كما نجد بها ليمونا ذا نكهة فريدة وخضرا وفيرة، لكن ماءها مر المذاق فيضطر السكان إلى جلبه من أماكن قصية، نظرا لندرته، أمّا القمح والشعير فإنّهما ينبتان بهذه الأرض بصعوبة»7. وتوزر مدينة رائعة،من حيث البناء وهي تتفوق من حيث جودة بنائها على أغلب مدن الجنوب التونسي رغم وجود مظاهر البؤس والأوساخ، فإنّها تعطيك انطباعا على كونها مبنية بذوق ويقول في هذا السياق الفرنسي «الكونت دي باتي دي كلام» (1845) «إنّ توزر، تعد من أجمل مدن الجريد، وتقارن بالجزائر العاصمة في ضخامتها ويحيط بها سور يبلغ ارتفاعه ما بين 12 و 13 قدما ، به بابان: باب الهواء، وباب الزيت، وتتوسطها سوق شاسعة وبها مسجدان ومدارس وحمامان وفنادق، وبيوتها واسعة وجيدة البنيان، وهي مصنوعة من بقايا الآثار الرومانية، وبتوزر صناعات عديدة مثل الحدادين والنجارين وصناع السلاح وتجار كثيرون، ويمارس اليهود بها حرفة الصباغة، وصناعة الصوف والصياغة»8.

ومن حيث بيوت هذه المدينة، فأكبرها، يتألف من طابق واحد، جدرانها من الآجر المحروق أو المجفف بالشمس. وقد برع سكانها في استعمال الآجر، استعمالا ينمّ عن ذوق فني، يرصفونه بنظام وتناسق عجيب، وهم يستعملونه أكثر في بناء واجهات فوق أبواب المنازل. وتوجد عديد الأزقة مسقّفة، وهو ما يخفف من وطأة الحرارة صيفا ، حيث تبلغ درجاتها ما بين 48 و 50 درجة مائوية في أغلب أيام الصيف.

وتتوسط الساحة الكبيرة التي تؤوي السوق دار الباي وهي دار ضخمة في شكل ثكنة وتبنى المساجد والزوايا بالطوب والآجر، وتوجد بتربة ببلد الحضر بقايا آثار المدينة القديمة توزروس، وقد اضمحلت أغلب هذه الآثار ووقع استعمالها في بناء القرى المحدثة التي تكوّن مركز الجريد، يقول «الكونت دي باتي دي كلام» « لقد عثرنا على عدة بقايا من أسطوانات أعمدة متناثرة فوق التراب، وهذا المبنى حسب الظن، يعتقد وكما اتفق عليه، كان يمثل معبدا تحوّل بعد فترة إلى كنيسة مسيحية ثم إلى مسجد إسلامي وفي وسط هذه المساحة التى تضمّ هذا المعلم الذي يرتفع «شماش» وهي عبارة عن صومعة مرتفعة الشكل مبنية بالآجر وقاعدتها مبنية بصخر منحوت، وقد تكون في ما مضى عليها من الدهر مئذنة تستعمل في المسجد الإسلامي ،أو قبة كانت تستغل في الكنيسة المسيحية آنذاك ،لأنّه يبدو جليا عند التثبت في أسسها أنّ هذه البناية أقدم دون شك من الغزو العربي. وغير بعيد عنها توجد بئر قديمة وجميلة ذات عمق معتبر9.

وقد وصفها بعض شعرائها بأوصافها الحسان أمثال محمد ابن عبد العزيز بن حماد حيث يقول.

زُْر (تـــــوزْر) إذا رُمْـــتَ

زورةً تجري من تحتها الأنهار

نهرٌ على رمـلٍ يسيـلُ كأنّـهُ

ورقٌ لُماعٌ على النظـارِ يمـارُ

جَنَّاتهَا مِثلُ الجنانِِ فَأرضهُا

مسكٌ ونشرُ نسيمِهَا معطارٌ10.

وقد وصف الرحالة والجغرافيون والمؤرخون توزر بأنّها مدينة عظيمة محصنة خصبة وواحتها غنية بالنخيل والأشجار المثمرة وبكل أشكال الزراعات، وهي كثيرة المياه ومزدهرة العمران، كما اعتبروها مركزا هاما من حيث مراكز العلم بالشمال الإفريقي. فقد كان بها جامع شريف من أعظم الجوامع، وهو كعبة لطالبي العلم، ومكان يؤمه الكثير من العلماء من الشرق والمغرب الذين يقصدونه للتدريس فيه السنين الطوال، كما كان يزخر بالعدد الوافر من التلاميذ والطلاب الوافدين عليه من كل حدب وصوب. وبها مدارس صغرى للتعليم، ونواد أدبية وسياسية، وفنية، ومكتبات للمطالعة، وأسواق عامرة حولها أرباض كبيرة. وهي حصينة منيعة وذلك لقرب النخيل من سورها. وفي بساتينها الغنّاء جميع الثمار ماعدا قصب السكر. وتميز توزر إفريقية بالتمر، حيث يخرج منها في أكثر الأيام بالقناطير المقنطرة فيتفرق في نواح كثيرة من بلاد العالم.

وكان المؤرخ التونسي عبد الرحمان ابن خلدون، معجبا بتوزر كثيرا، حيث يقول «وقد فاقت ما يمكن تصوره، وكانت تبدو أكبر، مما يقدر عليه أعظم سلطان على الأرض، وحوت أشياء نفيسة لا تحصى». وقد كانت واحة مدينة توزر تعرف بخصوبتها وخضرواتها وبفضل مياهها التي لا تنضب، فهي تقدم لك كل أنواع المزروعات، ويعد نخلها من أجمل النخل وأحسنه ويطعمك رطبا من ألذ ما يعرف من أنواع الرطب، وأنواع من الأشجار المثمرة مثل البرتقال والليمون والرمان والتين والزيتون والمشمش إلى جانب الأحواض المزروعة خضرا وأحيانا قمحا وشعيرا، ولذلك كان اقتصادها في السابق يعتمد على الزراعة وكانت تشغل يدا عاملة لابأس بها وتوفر أهم ثروة في البلاد.

هذا إلى جانب صناعة الأقمشة الصوفية مثل البرنس الجريدي والحولي والأغطية وهي صناعة تمثل بالنسبة إلى عاصمة الجريد صناعة مربحة والرائجة ومدخولا إضافيا لسكانه.

وكانت توزر، تشمل على سبعة مشائخ تراب وهي: مسغونة والقيطنة و أولاد الهادف وبلد الحضر والهبائلة والشابية والزبدة وكان يقطن توزر آنذاك من سكانها الأصلين ثمانية عشر ألف نسمة11.

ويقول «ابن الشباط» في ما يتعلق بهذه المدينة الجريدية: «إذا عرفت ذلك، فأعلم، إنّ هذه البلاد الجريدية انفردت بمزايا نذكر البعض منها: إنّ أموالها ثابتة لا يخشى عليها التغيير مع غيبة صاحبها عنها وبحكم ثباتها وعدم تغييرها يدائن صاحبها ويعامل حيث كان من الأرض شرقا وغربا ثم إنّ أهلها لا تنالهم مضرة المجاعة في أوقاتها وإنّ أهلها لا يخشون فقرا ولا حاجة ما دامت أملاكهم باقية لهم، إنّ الرطب لا ينقطع منها نخيلا تثمر بطنين في العام».

وبما تأصل فيها من العمران الذي بذرت أصوله أمّة الرومان والتمدن الشرقي الذي حمله إليها المترحلون من أهلها والوافدين عليها من المشرق، صارت من الأمصار المتمصرة والمدن المعتبرة فاتسعت عمارتها وامتدت بساتينها يسير الراكب تحت ظل جدرانها وبساتينها نحو العشرة أميال وبقربها عدة قرى من جهاتها الأربع لا تبعد القرية عن الأخرى أكثر من ثلاثة أميال وهذه القرى كلها مشغولة بغراسة الأشجار ولا سيما الزيتون، يدل على ذلك كثرة ما يوجد تحت أطباق الأرض من آثار معاصر الزيت والقنوات والأقواس بين توزر ونفطة، وبين الوديان والحامة، وامتدت عمارتها وازداد رونقها ونفقت أسواقها ونمت صادراتها ووارداتها فترد لها قوافل من دواخل السودان ومن المغرب الأقصى، ودواخل إفريقيا فتملأ خوابئها من نتائجها، ونتائج ما هو مخيم حولها من البوادي الذين يضعنون بأنعامهم، وينتجعون بها المراعي ثم يرجعون ويأوون حولها في فصلي الخريف والشتاء. وفي بلد توزر نهر عظيم ينقسم إلى ثلاثة أنهار كبار وينقسم كل نهر إلى ستة جداول وأحد جداولها يدخل من المدينة إلى القصبة ثم يخرج منها إلى الساقية للرجال، ثم ساقية للنساء ثم يدخل القصبة من موضع ثان ثم يخرج إلى دور المدينة ثم يخرج ويمر تحت سور البلد إلى أن يجتمع في محل القسم فيسقي بساتينها، وبها جامع على شكل جامع القيروان وفخامته، وبه عدة أبواب كل باب ينفذ إلى سوق من أسواق البلد، ولذلك تعد مدينة توزر، حسب البعض أم الأقاليم من حيث الاتساع ، ومن حيث كذلك ما يوجد بها من جوامع وأسواق عامرة، تخرج منها قوافل التمر في أغلب الأيام أكثر من ألف حمل12.

II- الجذور التاريخية للهندسة المعمارية بالجريد من خلال الذاكرة الجماعية :

نستطيع تقسيم التاريخ إلى حقب زمنية،وإذا نظرنا لكل حقبة وجدنا طرازا معينا يميزها عن غيرها على الرغم من التقارب الزمني والمكاني. فمنذ البداية سعى الإنسان لتلبية احتياجاته من المسكن حتى يتسنى له العيش فبدأ بالكهوف كمساكن جاهزة ثم شيئا فشيئا توصل إلى استخدام موارد البيئة من أشجار وأحجار لتحقيق احتياجاته الضرورية والكمالية . وبفعل التطور في الفكر البشري بلغ ما نحن عليه الآن ومن المؤكد أنّ درجة الرقي والازدهار لن تقف حتى آخر الزمان.

ففي هذا الإطار، نعرف المقصود بالعمارة، فهي فن وعلم تشييد وتصميم المباني. والعمارة فن التعبير عن الفضاءات الوظيفية ونقل الإحساس الفردي بما يشمل ما يتصوره الفرد وما يجب أن تكون عليه العمارة ضمن واقعها المتطور، بما يضمن حقيقة تعبيرها عن الحضارة الإنسانية، ومنها تكون العمارة العربية والإسلامية واقعا حتما ضمن التطورات العالمية باعتبارها جزءا من معتقدات الفرد وبكل ما يحيطه وتفاعله مع ما يفرضه الواقع المادي للكون والجانب الروحي منه أيضا.

ففي بلاد الجريد لا تزال البناءات تتميز بالزخرفة والأشكال الهندسية التي شيدت بالآجر المحلي أو ما يطلق عليها باسم «ياجور توزر»، وقد ظل الآجر المعبأ لعدة أجيال يسمى في الجهة «قالب» إذ أنّ استعماله في مجال البناء والتشييد يعود إلى وفرة المادة الأساسية بالجهة وهي الطين ولقد أطنب الرحالة العرب والأوربيون في وصف الجريد بالموطن العريق في التحضر. ولقد تميز تاريخه العائد إلى أكثر من 3000 سنة بثروات مثلت الهندسة المعمارية واستخدامات الآجر المعبأ ذي الجذور الشرقية (بلاد الرافدين). فمنذ العصور القديمة حدّدت خصوصية الظروف المناخية سلوك الأفراد في الجريد التونسي واختياراته ودفعته إلى جلب وإدخال تقنيات صنع الآجر المعبأ لاستغلاله بادىء الأمر في تغليف الجدران المبنية من اللبن «الطوب» وحمايتها، ثم لاعتماده كأساس لنمط البناء.

ومع تقدم الإنسانية تطورت خصوصيات منطقة الواحات التي مثلت مهدا لعدة حضارات متعاقبة تمازجت فيها الأعراق والثقافات المختلفة وتبين منها أنّ استعمالات الآجر المعبأ قد تجاوزت الوظيفة الأساسية لترتقي إلى وسيلة تعبير وجداني فني تغني جمال المحيط بلوحات بديعة صقلت عبر الحقب. وإنّه من المتأكد اليوم أنّ وحدات الآجر المستندة إلى ماض مجيد تبقى اليوم في ظل تحولات عالمية دقيقة وخطيرة في نفس الوقت حبلى بهيأتها، تضيف كل يوم إلى واقع الوظيفة الثقافية وإلى حقيقة خصوصية الهوية.

ومن خلال حديثنا المباشر مع بعض شيوخ ومثقفي الجريد، تبين أنّ سكان الجريد تميزوا بالاستقرار وبتشييد البناءات الكبيرة الشاهقة ذات الطابع المعماري الفريد من نوعه وهو يرتكز على الآجر المحلي.وتظهر مدن الجريد وكأنّها سطرت بأيدي مهندس معماري عبقري، فعمارتها مزيج من ألوان الصحراء الصفراء ومن خضرة النخيل الباسقات. فمعمارها كان معمارا أصيلا وقد استطاع سكان مدينة الجريد المحافظة على جمال معمارها وعلى رونقه عبر العصور.

1/ المسكن التقليدي: كان المسكن التقليدي يتألف من ثلاث وحدات:

الوحدة الأولى: المنزل المخصص للسكن ويحتوي على شقتين وعلى عدّة بيوت، وبه مرفق صحي (مرحاض) ومطبخ، والبناء يكون عادة عاليا، وبذلك تكون الجدران عالية وعريضة، وهي تبنى من الطوب والآجر. ويصل عُلو الجدار أحيانا ما بين 5 و6 أمتارا قصد التهوية وتعليق عراجين التمر. وكل منزل يحتوي على ما يسمى «بالحوش» المتسع تتوسطه حديقة صغيرة. وبكل بيت شبّاكان قبالة «الحوش». أما البيوت فتوزع كما يلي: بيت للأب والزوجة، بيت للأبناء، بيت ثالث للجدة- بيت رابع للضيوف، بيت خامس لوضع الغذاء«العولة» كالقمح والتمر والزيت والغلال...الخ. وهذا البيت يكون عادة مغلقا ومفتاحه بيد رب العائلة.

أما من حيث سقائفه، فتوجد به عادة سقيفتان، الأولى مخصصة لجلوس الذكور والضيوف وجلسائهم، أمّا الثانية، فهي معدة للنساء، و يتم فيها عادة العمل النسيجي. ومن حيث المطبخ، فهو متسع ويحتوي على أواني الطبخ وكلّها مصنوعة من الطين أو من القزدير. وبالنسبة إلى المرحاض أو ما يسمى بالمرحاض العربي، فالهدف منه هو أخذ الفضلات لتسميد النخيل.

الوحدة الثانية: وتسمى بالغرفة، وتحتوي عادة على بيتين مخصّصين لرب العائلة ليضع فيهما وثائقه وأمواله وما شابه ذلك.

الوحدة الثالثة: وهي ما يسمّى«بحوش الزوايل» وتوضع فيه البهائم والحيوانات الأليفة من ماعز ودجاج وحمام وأرانب.

وهذا النوع من المساكن تملكه الفئات الميسورة الحال أي الملاكة الأثرياء والقضاة والمفتي والقائد. وفي المقابل يكون المسكن عند عامة الناس، كبيرا جدّا ويحتوي على عشرات الغرف، وكل غرفة لإيواء عائلة كاملة وفي قلب المسكن مكان يسمّى «الزبالة» لوضع الأوساخ المتأتية من الأكل وغيره. والجدران تبنى بالطوب وهي عريضة لكنّها قصيرة الطول والأبواب من خشب النخيل والنوافذ غير موجودة وليس هناك مكان معين يخصّص للحيوانات الأليفة ولذلك فكلّ عائلة تتصرّف حسب ما يتوفر لها من فضاء لتربية الحيوانات الأليفة مثل الماعز و الدجاج والأرانب. و المطبخ فهو عادة ما يكون مطبخا جماعيا يسمّى «الصّباط» وفي أغلب الأحيان كل عائلة تقوم بطبخ طعامها داخل حجرتها.

2/ الملاءمة بين المسكن التقليدي والعوامل المناخية: سنركز في هذا العنصر من الدراسة على ملاحظات أبي خلود، وهو أحد أبناء الجريد، في مجال كيفية تعامل الأفراد قديما في بناء المسكن انطلاقا من الوسط الذي يعيشون فيه.

فرغم وجود مدن الجريد وسط الواحات الخضراء، فإن زحف العمران بتعدّد مكوناته وأنماطه، إلى جانب توظيف عديد المستحدثات العلمية والتكنولوجية، من مكيّفات وثلاجات…الخ، قد ساهمت بدرجة كبيرة في تغيير المناخ وإعادة تشكيل البيئة والمحيط ، فأصبحت الواحة بالإضافة إلى أنّها استراحة ظل وجمال وروعة، واحة نزل وفنادق فاخرة، ممّا أدّى إلى المراوحة بين الأصيل والعتيق والتراثي،مع أشكال الحداثة.

وإذا ما رجعنا إلى الماضي القريب لاحظنا أنّ الحياة بربوع الجريد، وهو متاخم للصحراء، حياة تعب وشظف عيش وصعوبة تأقلم مع الطبيعة القاسية في الصيف وأيضا في الشتاء، وخصوصا خارج المساكن التي أعدها الأجداد بهندسة ملائمة لمناخها الحار.

فقساوة الطبيعة ، جعلت من الفرد في الجريد بأن يكون فنانا في بناء المعمار، فهو في ما مضى، ورغم ضعف إمكانياته المادية، عرف كيف يروض لفح « الشهيلي «الحارق ويحوله بفكره وبسواعده إلى نسمات باردة.وكذلك حول قساوة برد الشتاء ولسعاته القاسية، إلى دفء لا يضاهيه دفء المناطق الأخرى بل يمكن القول إنّ قساوة المناخ وتقلباته قد جعلت من الفرد في مدينة توزر مهندسا بارعا، فقد تفنّن في تشييد بيته بطرق قديمة وبدائية لكنّها مدروسة من جميع النواحي، تتماشى مع متغيرات المناخ حسب كل فصل.

وبذلك تمكن من هندسة المعمار حسب كل فصل. ففي القديم اعتمد الفرد في هذه الجهة عند الانطلاق في تشييد بيته، توسعة الفضاء الداخلي «الحوش» (البيت) وكذلك غرفه لكي يكون مشمسا في الشتاء وكثير التهوئة في الصيف كما كان يعتمد عند الشروع في إعداد الغرف على العلو الشاهق وتمطيط الجدران، فالجدار الواحد للغرف يصل عرضه إلى 80 صم وعلوه إلى ستة أمتار. وكان كل جدار ينتهي بمجموعة من الفتحات المستطيلة عموديا والمتقابلة، وذلك لخلق تيار هوائي متواصل عوضا عن النوافذ الكبيرة المستعملة حاليا في المساكن الحديثة التي تساهم في تسرّب «الشهيلي « صيفا والبرد القارس والرطوبة شتاء. وهذا النمط القديم في البناء يكون عادة وبمجرّد غلق الأبواب في الظلمة تكاد تكون تامة وهي تلطف من حرارة الجوّ وتمنع الحشرات والذباب من الطيران.

وكان للسقائف وللدكاكين أدوار هامة ووظائف متعدّدة، فقد كانت البيوت في الجريد قديما كلّها تسقّف بخشب النخيل وجريده» «وكل مسكن جريدي كان من الضروري أن يلحق بثلاث «سقائف» الواحدة منها تكون عكس اتجاه الأخرى. وهذه «السقائف» تعتبر المتنفس الوحيد الذي تلتجىء إليه العائلات «الجريدية» أثناء القيلولة للاحتماء من سياط «الشهيلي» الحارقة، وهذا الفضاء الجميل الرحب يتسع لأكثر من عائلة، وهذه «السقائف» تحتوي على مجموعة من «الدكاكين» تستعمل للنوم والجلوس. و«للسقائف» وظائف أخرى هامة ،إذ أنها تشمل فضاء لعمل النساء في صناعة بعض الملابس التقليدية مثل البرنس والجبة والحرام الجريدي وغيرها من الملابس التي يستعملها الجريدي أو تعدّ للبيع وهي مورد رزق هام لعديد الأفراد، إضافة إلى ما ذكرناه، تستغل النساء«السقائف» لقضاء عديد الشؤون المنزلية الأخرى من بينها إعداد «الملوخية الخضراء» (توريقها وتنقيتها من الشوائب) وكسكسى«العولة» و«البسيسة» و«التدنيسة» (مواد ذات رائحة طيبة تصنع من «الشب» وبعض العطور قصد التخلص من روائح العرق في الصيف).

ويمكن في هذا المجال أن نتحدث عن ممارسات اجتماعية أخرى كانت تتم بهذه الجهة، وهي ظاهرة «التطنيش» و«التلكيع» أو يوم العودة إلى الأرض وهي من العادات المتميزة التي كان الفرد في الجريد في ما ما مضى يحرص عليها «تلكيع وتطنيش» غرف مسكنه، وذلك قبل دخول الصيف بأيام. وتتمثل هذه العملية في غمر الطين الأبيض ( تسمّى طنش في الجريد) وهو حجارة طبيعية لينة يتمّ وضعها في الماء لفترة زمنية حتى تذوب وتصبح معجونا بإمكان اليد تطويعه ثم تطلي به أرضية الغرف وتعرف هذه العملية «بالتطنيش» ومن ميزاتها أنّها تساهم بدرجة كبيرة في اعتدال الحرارة داخل الغرف، كما أنّ موادها الطبيعية لها رائحة مميزة تجلب النعاس أما الجدران فتطلى «باللكعة» وهي نوع من التربة تشبه «الجير» وتجلب قديما من شط الجريد و«اللكعة»، إضافة إلى دورها الرسمي المتمثل في تغليف الجدران، فهي أيضا مادة صحية مطهرة تقضي على جميع الحشرات .ويعتبر يوم «التطنيش والتلكيع» بالنسبة للجريدي بمثابة عيد تطبخ فيه أطيب الأكلات الشعبية والشاي الأخضر، وتوزع على المشاركين في هذه العملية في أجواء احتفالية رائعة.

III- تطور الهندسة المعمارية بالجريد في العصر الحديث:

منذ ستينات القرن العشرين أصبح المسكن في هذه الجهة يتجه نحو العصرنة ،فالبناء أصبح يتم على الشاكلة الأوروبية ،وهو ما يسّمى «فيلا»، وهذا النوع من البناء،حسب الكاتب والمؤرخ الشاذلي ساكر « لا علاقة له بثقافة أهل الجريد وقد تبيّن أنّه غير وظيفي، لشدّة سخونته صيفا من جهة وبرودته شتاء من جهة أخرى، ولذلك نجد أغلب العائلات يبنون بجانب «الفيلا» بيتا آخر للجلوس ولطبخ الأكل ولاستقبال الزائرين و الزائرات. يقول محمد السعيد الهبائلي في هذا الصدد،،بعد الاستقلال تغيرت تدريجيا في هذه المدينة القيم الثقافية والممارسات اليومية لأبناء الجريد وحلت الفردانية والشعور بالأنا محل الشعور بالانتماء إلى العائلة والقبيلة وأصبح كل فرد يسعى إلى الإنفراد بالمسكن مع زوجته وأبنائه، وبنائه على النمط العصري مستوحيا شكله من تطور الهندسة المعمارية الغربية، متجاهلا الفن المعماري الأصيل في ثقافة سكان الجريد.

وهذا الأمر ساهم شيئا فشيئا في إحداث تحول عميق في طريقة تشييد المساكن في الزمن الراهن. وهذا له صلة وثيقة بمدى الاختلاف في سلوكيات الأفراد من حيث الممارسات داخل المدينة، وهذا له تأثيرات دقيقة على مظاهر التغير المرحلي في طريقة تشييد المعمار ، ويرتبط ذلك بدرجة التميز والتنوع في ثقافة الأفراد .

ولذلك يمكن القول إنّ تحولات المدينة لا تحدث عن ميكانيزمات اقتصادية لوحدها ولا عن قرارات فردية ولا حتى عن أسباب سياسية ولكن عن اتجاهات اجتماعية وحاجات جماعية بفعل تحولات ديمغرافية.

ويعتبر العلامة التونسي ابن خلدون أنّ ازدياد السكان من جهة وارتفاع مستواهم المادي يؤديان بطبيعة الحال إلى تزايد نفقاتهم ويِؤدي إلى تأسيس المدن فتجمع السكان في الحواضر مظهر من مظاهر التقدم ويقول « فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل»13. وهذا العامل أيضا يقوم بدور مهم في تحول المسكن من شكل تقليدي إلى شكل مغاير تماما للشكل الأول. ويبدو هذا الاتجاه واضحا في المقال الذي نشره « لويس ريث» في المجلة الأمريكية للاجتماع في سنة 1389 تحت عنوان « الحضرية كطريق للعيش» وفي هذا التعريف

قد أدخل في اعتباره حجم وكثافة المدينة، إذ في تعريفه الاجتماعي للمدينة يصفها « بمصلحة عمرانية» دائمة وكبيرة الحجم نسبيا وكثيفة.وإذا ما حاولنا أن نختصر هذا التعريف تحت مفهوم بسيط استطعنا أن نقول إنّ الاختلافات الاجتماعية هي أساس المدينة في نظر رجال الاجتماع إذ أنّ الكثافة السكانية لها تأثير واضح على الاختلاف بين طريقة حياة السكان وفي نفس الوقت على تشجيع وظهور الأفكار التكنولوجية الجديدة . فمع النظام الحضري أو المدينة، تتحطم كما يقول علماء الاجتماع، النظم الاجتماعية القديمة لتحل محلها أنماط جديدة، إذ تقل الرابطة الأسرية بين أفراد المدينة وتختفي النظم القبلية.

وعليه، فإنّ المعمار سواء كان في جهة الجريد، أو في أي جهة أخرى من جهات البلاد التونسية، قد تأثر كثيرا بنسق الحداثة الأوروبية ممّا ساهم في إحداث شبه قطيعة مع التراث الحضاري المحلي في فن العمارة نتيجة ظهور تقنيات حديثة في مواد البناء.

وهنا لابد من التمييز بين مفهوم التراث الذي كان سائدا في مرحلة الحداثة والقائم على معنى الإرث المادي الجامد وبين مفهوم التراث المعاصر لمرحلة ما بعد الحداثة الذي تولد عن الحداثة بذاتها والذي يعني المخزون الثقافي الماثل في جميع منجزات الإنسان عبر تاريخه في نطاق بيئته الثقافية التي تسمى بالبيئة الإقليمية أو البيئة القومية. يقول في هذا الصدد عبد الرزاق الحسين وهو باحث سوري، متخصص في المعمار والهندسة «وبذلك فإنّ ما أنتجته مرحلة الحداثة يعتبر جزءا من التراث، حيث أنّ التراث هو مخزون العطاء الإنساني الذي لا يتحدد بالزمن الذي انقضى بل بالزمن المستمر. فالتراث تواصل بين الماضي والحاضر تمهيدا للمستقبل فيه الأصالة بمفهوم العطاء المتميز، وفيه المعاصرة، بمفهوم أن نكون أبناء عصرنا، ولكن في إطار شخصيتنا وهويتنا واستمرارا حقيقيا لمن سبقنا تمهيدا مميزا لمن يأتي بعدنا»14.

والمقصود بما بعد الحداثة،هي المرحلة التي تعود بدايتها إلى مرحلة الستينات من القرن الماضي، والتي تشكلت كرد فعل على محددات الحداثة وهي مازالت تبحث عن الكيفية التي تعوض بها ما يمكن أن تكون قد فقدته الشعوب.

ولا يقتصر الأمر على الحركة المعمارية والعمرانية التي تهتم بإنتاج بنى معمارية وعمرانية جديدة بل يترافق ذلك مع زيادة الاهتمام بإحياء واستعادة بنى معمارية وعمرانية قديمة بشكل يتجاوز الاقتصار على ترميمها وصيانتها.

ولذلك فإنّ مرحلة ما بعد الحداثة تدعو للخروج من مأزق القطيعة التاريخية إلى فسحة الانفتاح الكامل على التاريخ بعيدا عن الجمود الأيديولوجي الذي يدعو إليه دعاة الانغلاق15، والاتجاه نحو تأسيس جديد يقوم على الرجوع للبنى الثابتة وإلى الأصول التي انقطع عنها16، باحتواء المباني على الذاتيات والتاريخيات كبعد أساسي في التخطيط والحيوية الفردية في الجماليات والاستعارة من العمارة القديمة وعمرانها كرمز إلى النصوصية والتاريخية17. والتقليدية وغيرها من الاتجاهات المعمارية المحافظة18.

وهنا تبرز أهمية صيانة مدينة الجريد توزر التي تعتبر من أعرق المدن التونسية، وصيانة التقاليد المعمارية فيها، يشكل تعبيرا محافظا على الهوية المحلية، والتي تمثل مرجعية أساسية عند البحث عن تأصيل العمارة لوضع حد لتدهور المدن القديمة(العتيقة) وما تحويه من معالم تراثية ورموز ثقافية على غرار مدينة توزر وغيرها من المدن التونسية.

هذه إذن جملة من الملاحظات، تطرقت فيها إلى مسألة سوسيولوجية ترتبط أشد الارتباط بطبيعة العيش في جهة الجريد في الماضي القريب والحاضر ، مستعرضين فيها بإيجاز، أنّ الفن المعماري الأصيل بهذه الجهة ارتبط في السابق، بالعوامل المناخية وبثقافة المحيط، وبذلك كان لهذا المعمار خصوصية، تختلف عن تشييد المعمار في مدن تونسية أخرى.

ولكن اليوم بحكم التغييرات الاجتماعية والثقافية، سواء كانت داخلية، أو خارجية، كان لها انعكاسات على نمط بناء المسكن. وحسب تصوري، إنّه يجب اليوم على المعماريين والمهتمين بالعمارة، سواء كان ذلك في بلاد الجريد التونسي أو في جهات تونسية أخرى، النهوض بمفهوم العمارة إلى درجة أوسع ممّا هي عليه الآن وفك ارتباطها بالنتاجات المادية العالمية، ليس من جانب نقص هذه العمارة(العالمية)، وإنّما يرجع ذلك إلى فقدانها المعنوي في التعبير عن معتقدات وعادات وتقاليد عربية وإسلامية من شأنها تحقيق هوية الأفراد والمجموعات.

وبما أنّ المعماري يعتبر فنانا وفيلسوفا بالدرجة الأولى، فهو من المفترض أن يعتمد في أي تصميم على مفاهيم وعناصر تتعلق بهدف وفكرة المشروع المطلوب انجازه . وهذا يستدعي ثقافة واسعة وخيالا أوسع. وما يطلب من المعماري في هذه الحالة، أي في مرحلة التصميم من وضع تصور كامل ومفصل عن المشروع، وربطه بالطبيعة والتقاليد والعادات الموجودة بالفضاء، محاولا إيجاد صيغة مناسبة من التصميم تترجم احتياجات الأفراد المستخدمين للمكان فيما بعد.

الخاتمة

نشير في هذا المجال إلى أنّ هناك عديد المسائل السوسيولوجية والأنتروبولوجية ببلاد الجريد لاتزال في حاجة أكيدة إلى مزيد من التأمل و البحث فيها مثل العادات والتقاليد (طرق الختان ، الاحتفالات بالزواج، المناسبات الدينية، استقبال الربيع...... إلى غير ذلك من القضايا الاجتماعية).

وهناك أيضا ظاهرة هامة تتمثل في كثرة الزوايا، ودورها الوظيفي في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قديما وحديثا، ممّا يجعلها حسب تصوري، في مقدمة الدراسات والبحوث التي يجب أن تنجز في الوقت الراهن.

كما ألفت انتباه الباحثين في علم الاجتماع إلى أنّ هناك متاحف حديثة بمديني توزر ونفطة تحتوي على أشكال عديدة ومتنوعة كانت تستعمل في الممارسات اليومية من قبل أبناء الجريد وهي تستدعي منّا إعادة النظر فيها ، فهي تقدم لنا تصاوير متنوعة تكشف عن حقائق اجتماعية كانت تمارس في السابق من طرف سكان هذه الجهة، فلا يمكن إذن إهمال هذا الإرث الثقافي والحضاري بهذه الجهة وتركه دون دراسة وتحليل.

فالاهتمام به في مختلف المجالات ،أصبح ضرورة يفرضها العصر الحديث، ولذلك لانتعجب ولا نستغرب اليوم كثيرا من ازدياد عمل الهيئات والمنظمات الدولية التي تهتم بالتراث والثقافة، مثل ( اليونسكو) ومن إلحاحها الشديد، على إبراز الهوية الثقافية للأمم والشعوب في العالم وذلك بإحياء وصيانة التراث المعماري والعمراني كمصدر أساسي لبناء مستقبل حضاري أكثر أصالة وقوة ويمكن أبناء الشعب الواحد من الاعتزاز والافتخار به.

ولذلك فإنّ هذا الإرث الثقافي لايمكن فصله عن مجهودات الإنسان العامة في جميع ميادين الوجود ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، فهو ذاكرة الماضي وعزيمة الحاضر، ومخيلة المستقبل، فهو المعادلة بين عناصر الزمان والمكان، ويجاوب الأرض والسماء والإنسان، وهذا الإرث الثقافي، يحمل في طياته ما فكر فيه الإنسان وما استنبط من مقومات، ومقولات، تتعلق بالذات والغير والكون والغيب.

فهذا الإرث الثقافي هو إصرار مستميت على التجذر العميق. ولكل هذه الاعتبارات، فإنّه يبقى في نظرنا دائما حيا لأنه أصلا صراع مع الكون، وتحريك للذات، فهو جهد وإجهاد، فهو البناء الفعال والعمل المثمر مع الذات و الآخرين.

الهوامش والمراجع

1: انظر محمد الطالبي، دراسات في تاريخ إفريقية تونس 1982، ص91-164.

2: اليعقوبي ، كتاب البلدان، ص 102.

3: محمد حسن ، ملاحظات حول البنية الاقتصادية والعمرانية بالجريد في العصر الوسيط، مجلة جهوية شهرية، تصدر عن ولاية توزر، العدد 21 نوفمبر 2002، ص27.

4: نفس المرجع المذكور، ص29-30.

5: Le comte A. du Paty de Clam ; Fastes Chronologiques de Tozeur,(5 Edition librairie coloniale, p.

6: محمد بن محمد بن عمر العدواني، تاريخ العدواني ، كتاب في أخبار واستقرار القبائل العربية مع ذكر الأحوال والتقلبات السياسية والاجتماعية لمنطقة المغرب العربي و أصول بعض المدن والقرى، والعلاقات الروحية بين المشرق والمغرب منذ الفتح الإسلامي، الطبعة الأولى ، بيروت 1996 . ص .265

7: Le comte A. du Paty de Clam ; Fastes Chronologiques…, op.cit :p17.

8: Ibid : p 35.)

9: Ibid : p14.

10: أحمد البختري، الجديد في أدب الجريد، الشركة التونسية للتوزيع 1973، ص 16.

11: كتاب صلة السمط لابن شباط ، ج -3 مخطوط من مخلفات إبراهيم البختري، ص 14.

12: نفس المرجع المذكور، ص23.

13: المقدمة، ج 2، دار الكتاب العربي بيروت 1965، ص973.

14: عبد الرزاق الحسين ،الحداثة والتراث في عمران المدن العربية، مجلة الحياة الثقافية - السنة 27 – العدد 138 أكتوبر 2002،ص 17.

15: Poulot. P ; Patrimoine et Modernité, Paris, 1998,p12 - 18 - 40 - 44.

16: أبو زيد أحمد ، التراث الثقافي وتحديث الثقافة، في : مستقبل الثقافة العربية في القرن الحادي والعشرين ، مطبعة الجامعة العربية، تونس1998، ص 404.

17: النصوصية تعني : نسبة إلى اتباع النص وعدم الخروج عنه كما نجده وهي قريبة من مفهوم كلاسيكي بمعنى ( الخالد) ، ويكون باتباع النصوص الثابتة على مر العصور ، رغم وجود مجالات محدودة للتصرف والابتكار الفردي ضمن حدود المعطيات. والتاريخية تعني: استعمال التاريخ لتطعيم الحاضر والاستفادة من المادة التاريخية لإسناد موقف معاصر وتطعيم الحاضر بالماضي وهي في مفهومها إعلاء للذات والأكيد على الخصوصية التاريخية الفردية والجماعية وهو ما يجعل من هذا النمط من التفكير والممارسة نمطا مرغوبا به. ( انظر مقال عبد الرزاق الحسين ، المعنون بـ الحداثة والتراث…..مرجع مذكور، ص2.

أعداد المجلة