فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
16

الأصول و البدايات في السرديات الشفوية

العدد 16 - أدب شعبي
الأصول و البدايات في السرديات الشفوية
كاتب من تونس

لا شيء يضاهي الأديان والأساطير ولعا بنقل وقائع التكوين المقدسة وتشديدا عـلى المصادر الأولى التي انبثقت منها جميع مظاهر الحياة، لكن لا تكاد تخـلو ذاكـرة جماعية من استدعاء الأصول والبدايات عبر تقديس النماذج والافتتان بنـقاوة الماضي وتخليد الذكريات والاستيعاب الرمزي لمحيطها الواقعي بتأصـيله تاريخيا وأنثروبولوجيا.

 

على أنّ الأصول والبدايات باعتبارها موضوعات يتعذّر فصلها عن نـمط العرض السردي الذي يهـيكلها ويحــكم شروط تمثّلها، وهو ما يحــثّ على معالجتها انطلاقا من الشفاهية الشعبية ذات العلاقة الحميمة بالممارسة السردية.

ويتعقّب ما هو مقترح أدناه بعض سمات تمثّــــلات الأصول والبـدايات في السرديات الشعبية وما تنطوي عليه هذه الأخيرة من وظيفة ومعنى بالنـسبة إلى ذاكرة الجماعة وهويتها، وذلك استنادا إلى مـدوّنة إتنوغرافية شفاهية متــعلّقة بفضاء جــغرافي وسوسيوثقافي محلّي ممثّلا في جـهة بنزرت الواقعة بأقصى الشمال الشرقي للبلاد التونسية.

1 - مفهوم التمثـلات الجماعية:

يعدّ "دوركايم" أوّل من أقحم مفهوم التمثّلات الجماعية في حقل الدراسات الاجتماعية، وذلك في سياق تشديده المستميت على أولوية الجمعي ودوره في تشكيل المعرفة الإنسانية بما في ذلك مقولاتها الأكثر تجريدا مثل التصنيفات والمنطق. و"تتطابق التمثّلات الاجتماعية مع الطريقة التي بها يعقلن هذا الكائن الخاصّ الذي هو المجتمع الأشياء المتعلّقة بتجربته الخاصّة1"، إذ أنّ الوعي يتحقّق عبر نظام من القوالب والمفاهيم التي شكّلتها المجموعة بفضل ما راكمته من حكمة ومعرفة على مرّ تاريخها. لذلك فإنّ "إنتاج التمثّلات لا يكون نتيجة لبعض الأفكار التي تشغل انتباه الأفراد، ولكنّه يرتبط ببقايا حياتنا الماضية2"، التي يعبّر استمرارها، من خلال العادات والميولات والأحكام المسبقة والقواعد الأخلاقية والمعيارية المتداولة، عن كيان جماعي ذي ملامح خاصّة.

والتمثّلات الجمعية ليست حصيلة أو مجرّد تركيب لمجموع التمثّلات الفردية، و إنّما هي من جنس مغاير، حيث الكلّ يختلف عن مجموع الأجزاء، فضلا عن أنّها سابقة في وجودها عن وجود الأفراد بما يمنحها صفة الاستقلاليةوالخارجية  ودرجة من الثراء تتجاوز التمثلات الفردية ما دامت تختزل تجارب الماضي فتتمدّد في الزمان والمكان لتنصهر في الكلّ الاجتماعي، وهو ما يجعل التمثّلات الاجتماعية تتميّز بثبات أكثر من التمثلات الفردية التي عادة ما تنتهي بانتهاء أصحابها بصفتهم ذوات فردية.  وفي ذلك تأكيد على أنّ المجتمع هو البؤرة الحقيقية التي يتشكّّل داخلها وعي الأفراد ويتحقّق الانسجام بين العالم الموضوعي، أي كما هو في الواقع، وصوره الذهنية المستقرة لدى أفراد المجتمع، ذلك الانسجام الضروري لاستمرار الكيان الفردي والجماعي على حد سواء.

وقد استعمل، فيما بعد، "هالفاخ" تلميذ دوركايم هذا المفهوم في معرض تحليله للأطر الاجتماعية للذاكرة بوصفها مخزونا يلتجئ إليه الناس لبناء هويتهم واحتواء محيطهم،  فبين دور تمثّلات الجماعة التي ينتمي إليها الفرد في تركيز ذكرياته، وذلك "بترتيب الأحداث والأشياء حسب الإسم الذي نطلقه علو المعنى الذي نربطه بها، " فذكرياتنا تستند إلى تلك المتعلّقة بالآخرين، وإلى المراجع الكبرى لذاكرة المجتمع4"، لهذا كانت عملية التذكّر ليست استحضارا فردياّ و فيّا للماضي، وإنّما حيازة و إعادة إنتاج داخل التمثّلات الجماعية وقواعدها انطلاقا من ضغوطات الحاضر وإكراهاته.

إلاّ أنّ ما يعنينا من الذاكرة الجماعية هنا هو مدى ارتباطها بعمليات التمثّل الاجتماعي، إذ أنّ " الانتقال من مدار ذاكرة الفرد إلى مدار الذاكرة الجماعية يقع عبر العديد من الوسائل والوسائط والممكنات التي تترجم إلى ذكريات وصور وتمثّلات تشكّل قاسما مشتركا و إطارا جماعيا للتذكّر والتخيّل والانتماء5".

و بعد فترة طويلة من النسيان ظهر مفهوم التمثّل من جديد خلال ستينات القرن المنقضي، ولكن في إطار علم النفس الاجتماعي هذه المرة، وذلك مع "موسكوفيتش"، وهو يعتبر أنّ للتمثّلات الجمعية الخاصّة بموضوع ما أو وضعية معيّنة دورا كثيرا ما يكون أهمّ من الوقائع والحقيقة الموضوعية نفسها. ويعيّن التمثّل الاجتماعي بوصفه "نمطا من المعرفة الخاصّة6" وهي تتعلّق بالتعامل مع أحداث الحياة اليومية ومعطيات البيئة الطبيعية التي نعيش فيها، والناس الذين نحتكّ بهم، وكلّ ما نواجهه من أفكار وعادات ومشاكل، أي "تلك المعرفة التي اعتدنا أن نطلق عليها الحسّ المشترك والفكر الطبيعي، في مقابل الفكر العلمي7".

وقد حصرت "جودلي" خمس خصائص أساسية لكلّ تمثّل اجتماعي، وهي التالية:

- أنّه يتعلّق بموضوع محدّد في تفاعل مع الذات المتمثّلة.

- له طبيعة صوريّة، أي يتمظهر في صور.

- له طابع تشخيصي ودلالي ورمزي.

- ذو سمة تركيبية، طالما أنّه لا يقوم على إعادة إنتاج الموضوعات بقدر ما يفكّكها قبل أن يعيد بناءها.

- له طابع مستقلّ وإبداعي8.

غير أنّنا استخدمنا مفهوم التمثّل استعمالا إجرائيا خاصّا، حيث جاء مقـترنا بصفة "الشعبي" تأكيدا على خصوصية هذا الصنف من التصوّرات الذهنية والمعارف العملية داخل المجتمع، إذ أنّ القول بجماعية التمثّل لا ينبغي أن يحجب عنّا ما ينطوي عليه من اختلافات وديناميات تتطابق مع حركية المجتمع وما يحكم اشتغاله وتنظيمه من تراتب واختلاف معلنين ومخفيين، وفي هذا السياق فقد حدث انفصال داخل الثقافة  أفضى إلى تبلور ثقافة شعبية شفاهية مقابل ثقافة عامة مكتوبة، بما ألغى أيّة إمكانية للحديث عن التمثّلات الجماعية دون ربطها بالتقسيمات الاجتماعية السائدة.

وبعيدا عن القيمة النظرية لمفهوم التمثّلات في مقاربة المجتمع بفضل ما يوفّره من إطار يسمح بتحليل البناء الاجتماعي والأنساق الرمزية المرتبطة به، فإنّ حصره في الثقافة التقليدية وما تستند إليه من موروث شعبي يساعد على التعرف على الكثير من الأنماط التعبيرية التي تتشكّل ضمنها التمثّلات الجمعية، كما يفتح المجال لفهم الكثير من جوانب هذه الثقافة في أبعادها الاجتماعية والأخلاقية والذهنية و الأنطولوجية، وذلك ضمن حقل مضبوط ينأى بنا عن التعامل مع التمثلات والذاكرة الجمعية كمقولات مجرّدة ذات صبغة تعميمية مخاتلة، والحال ألاّ وجود لها خارج الأطر الخاصّة التي ترتهن إليها من فضاء وزمان وسياقات وفاعلين منتجين لها.

 

2 - المدوّنة السّردية الشفاهية:

2-1/ بنت زرت أو بنزرت

كان يا ما كان في الزمن البعيد مدينة عامرة تقوم شامخة بموضع البحيرة المعروفة الآن، وقد اختار لها ساكنوها من الأسماء بنزرت نسبة إلى ملكهم "زرت" الذي  كانت له ابنة وحيدة آية في الجمال والذكاء سمّاها "بحر الزّين" لشدّة ولعه بالبحر. كانت بحر الزّين قد أحيطت بأفضل العلماء والحكماء فتفتّقت قريحتها وصارت تنظّم الشعر وتقول الحكمة حتّى عظم شأنها في ذلك فذاع صيتها وتقدّم الملوك والأمراء من كلّ حدب وصوب يطلبون يدها من أبيها. غير أنّها ظلّت ترفض طلبهم المرّة تلو الأخرى، وهو ما حزّ أيّما حزن في نفس الملك "زرت" وأثار استغرابه الذي  ما لبث أن انقلب إلى غضب وحنق لمّا علم بأنّ قرّة عينه "بحر الزّين" قد تعلّق قلبها براع بسيط كانت قد تعرّفت عليه منذ سنين خلال إحدى جولات القنص على أطراف المدينة.

قرّر الملك زرت حرق ابنته حيّة انتقاما لشرفه المهدور واعتقادا بأنّ ذاك السبيل الوحيد ليحافظ على هيبته ومجد مملكته. لكن الأميرة كانت أسرع منه فاتّصلت بحبيبها للاتّفاق على موعد لفرارها من القصر. وفي اليوم الموعود كان الراعي في الغابة يمتطي صهوة جواده منتظراً بحرالزّين" التي سرعان ما أن أطلّت متسلّلة بين الأشجار. وما هي إلاّ لحظات حتى انطلق الجواد بالحبيبين صوب الغابة الساحرة الممتدّة على ضفاف البحر المتوسّط.

و ما أن فطن الملك حتى أمر فرسانه بملاحقتهما، لكنّ الأميرة كانت قد استعدّت لذلك فراحت ترمي بمادّة ّالزّاوق" الزئبقية العجيبة التي كانت ما إن تقع على الأرض حتى تشرع في التهامها فتشقّها مخلّفة أخاديد عميقة تتلف كلّ ما يعترضها.

ومازال الفرسان يحاولون اجتياز تلك الأخاديد والأميرة بحر الزّين ترمي بالزّاوق إلى أن بلغ الحبيبان الغابة. وما أن أدركا مياه البحر المتوسّط  حتّى رمت الأميرة بكلّ ما تبفّى لديها من الزاوق. وفي لمح البصر انفتح أخدود عظيم ما لبث أن اجتاحته مياه البحر لتأخذ طريقها عبر بقية الأخاديد حتى جرفت كلّ ما اعترضها وغمرت مدينة "زرت" وما جاورها من حقول وبساتين.

وفي الغد تكشّف الصّباح  عن بحيرة هادئة مترامية الأطراف حلّت محلّ اليابسة حيث كانت الملكة، وقد سميّت "المزوّقة" نسبة إلى مادّة "الزاوق" التي كانت سببا في نشأتها. في حين شهدت الغابة التي أقام فيها الحبيبان ولادة مدينة جديدة أطلق عليها "بنت زرت"، وهي بنزرت الحالية، نسبة إلى ابنة الملك "بحر الزّين9".

 

  2-2/ الأخوات10:

في قديم الزمان كان في هذا المكان الخالي الآن الذي هو "كاف عبّاد" سلطنة ذات شأن عظيم. وكان في ذاك الجبل قصر فخم يسكنه السلطان وعائلته وحاشيته.

 

 وكان للسلطان ساحر كبير يستعين به كلّما احتاج إليه في تدبير أمور سلطنته وعائلته. يوما ما غضب السلطان على الساحر فأطرده من قصره شرّ طردة. كتم الساحر غيظه، وظلّ يحوم حول القصر يدبّر مكيدة للانتقام من السلطان المغرور إلى أن رأى ذات صباح ابنتي السلطان تتنزّهان على الشاطئ، فخطر له خاطر وهو أن يسحر البنتين فيصيّرهما صخرتين جامدتين وهو ما حدث فعلا عبر حركة خفيفة بيده.

صدم السلطان لهول الأمر وحزن حزنا عظيما لم يعرف له مثيلا حتّى تأثّر له الجبل فاهتزّ وتشقّق صدره ليبتلع القصر بما حوى ومن فيه. ومن حينها ضاعت السلطنة واندثر مجدها، لكن ليس إلى الأبد إذ سيأتي يوم ومعه كبير السحرة ليفكّ سحر البنتين الماثلتين في شكل صخرتين في البحر والمعروفتين باسم "لخوات"، فتعودان كما كانتا شابتين جميلتين، عندها سينفتح صدر الجبل من جديد، لكن من الفرح هذه المرّة، فيخرج القصر وتعود السلطنة سلطنة "كاف عبّاد".

 

2-3 الحمّام القديم بمدينة ماطر:

كان بموضع الحمّام القائم الآن كوخ لامرأة فقيرة الحال تعيش مع ابنتها فاطمة. وصادف يوما أن شرعت تهيّء بئرا في ركن من حديقتها الصغيرة، فإذا بلمعان يأخذ ببصرها، فأنزلت ابنتها الحفرة علّها تأتيها بذلك الشيء المبهر لمعانه والذي لم يكن في الحقيقة سوى كنز مدفون قد حوى مجوهرات نادرة. كانت البنت كلّما ناولت أمّها حفنة منه إلاّ وازدادت الحفرة ضيقا وما زالت فاطمة تستخرج قطع الذهب بكلّ ما أوتيت من قوّة وأمّها تحثّها على المزيد بينما الهوّة تضيق فجوتها حتى أدركت البنت أنّها لن تتمكّن من الخروج وأنّها ميّتة لا محالة، عندها خاطبت أمّها موصية بأن تبتني لها حمّاما في المكان ذاته، وبأن تعفي كلّ من تحمل اسمها (فاطمة) من دفع معلوم الاستحمام، وهو ما جرت عليه العادة طويلا، ويعتقد أنّ الحمّام ينهار إذا دخلته أربعون فتاة أو امرأة تحمل اسم فاطمة.

2-4 "أولاد بن سعيدان"

 قدم بن سعيدان وهو لايزال صغيرا فاستقرّ به المقام لدى أحد فلاّحي المنطقة ليعمل لديه في خدمة الأرض "خماّسا11". وظلّ على هذه الحال سنوات، وذات مرّة قصد صاحب الأرض سوق قرية "بازينة" الأسبوعية، وأثناء غيابه ذهبت ابنته لتتفقّد "بن سعيدان" الذي كان قد كلّف بحرث الحقل. لكنّ فوجئت بغيابه، وفوجئت أكثر لمّا شاهدت الثيران تسير بهمّة ونشاط جارّة المحراث الذي انتصبت على مقبضيه بضعة حمامات.

هرعت البنت إلى أمّها التي ما لبثت أن حضرت للتأكّد من الخبر، فأيقنت أنّه حقّ وأنّ الأمر يتعلّق بكرامة لا يأتيها سوى الأولياء الصّالحين. وعندما عاد زوجها روت له ما حدث، ومن ذلك الوقت أعفي بن سعيدان من العمل ليتفرّغ للعبادة.

ولمّا رأى أنّ أجله قد قرب أوصى بأن يحمل جثمانه على فرسه، وبأن يدفن حيث يتوقّف في المرّة الثالثة، وهو ما حصل فعلا، حيث جثم الحصان بمنطقة "بوجبلة" بسجنان.

وما أن أنزل الجثمان ليوارى التراب، حتّى تلبّدت السماء بغيوم انقلبت إلى أمطار وسيول جارفة هادرة، ففزع النّاس وفرّوا للاحتماء ببعض الأماكن مثل القبّة الرومانية المعروفة والتي كانت أقربها. تاركين وراءهم الجثمان.

وبعد ليلة ممطرة عاصفة، صحا الطقس، فتكشّف الصباح عن زاوية عظيمة حوت داخلها قبر مبنيّ عريض هو ضريح سيد بن سعيدان.

شاع الخبر، فحضر جميع أهالي المنطقة لإتمام مراسم وفاة بن سعيدان ليصبح جدّا مؤسّسا ووليّا مقدّسا لهم، وبذلك تكوّن عرش بن سعيدان.

 

3 - بنية سرديات الأصول والبدايات:

 ليس الغرض هاهنا دراسة الحكايات بوصفها "ملفوظا مؤدّى عن طريق وحدات توزيعية محدّدة12"، أي من حيث هي بنية مكوّنة من وظائف مضبوطة  قابلة للتّقطيع على النّحو الّذي صار مألوفا في المدرسة  الشكلانية مع "فلادمير بروب" وتلامذته أين تنحصر الوحدات الوظيفية للحكاية الشعبية بين إحدى وثلاثين وحدة كحدّ أقصى وعشر وحدات كحدّ أدنى13،  أو الاستناد إلى غيرها من المناهج والمدارس المتعدّدة التي ارتبطت بها دراسة الحكاية الشعبية إنّما الغرض هو الوقوف عند طبيعة وخصائص التّمثّل الشّعبي للأصول والبدايات اعتمادا على العطاء الشّفوي لهذه الذّاكرة المحليّة، ومع ذلك فنحن مضطرّون إلى عدم إغفال طبيعة بنيتها السردية التي تتجاوز التنظيم الشكلي لمحتوى السرديات لتقود إلى معاني مندرجة في صميم عملية التمثّل نفسها.

2-1 إشكالية التصنيف

إذا ما نظرنا إلى هذه النمادج السردية الشفوية من زاوية فنية أدبية فسنصتدم منذ البداية بإشكالية تصنيف بعضها، فهي وإن كانت نمطا  من الحكي تماما كالأسطورة، فإنها تختلف عنها في طبيعة أبطالها الذين هم ليسوا آلهة أو أنصاف آلهة أو حتى كائنات غريبة مسّت بقداسة خاصة، بل إنهم بشر عاديون وجدوا أنفسهم يواجهون أحداثا عجيبة خارقة للمألوف، لكنّها حقيقية بما أن الوقائع الناجمة عنها شواهد تؤكدها، وهو ما يجعلها تتطابق مع الأسطورة وإن كان سردها  ليس تخييليا متعاليا.

إن صعوبة تصنيف مثل هذه النصوص التي تقترن فيها قوة الكتابي بالتأثير البلاغي والإيحائي للشفوي ترتبط بمنطق التوالد داخل الأجناس الأدبية،  إذ أنّ كل نوع جديد ليس سوى تحويل لنوع أو أنواع أقدم منه كما يقول "تودروف14"،  وهو ما نلاحظه في النماذج السردية المعروضة، بما أن كلّ حكاية هي في الحقيقة إحالة على حكاية أخرى حتّى وإن لم تكن من جنسها، بحيث تتناسل وتتوالد الحكايات كأنّها متواليات صور ممتدّة عبر الزّمان والمكان، فمن الواضح مثلا علاقة قصّة سيدي بن سعيدان وما فيها من إقامة الزّاوية حيث جثم الحصان المحمّل بجثمانه بقصّة بناء مسجد قبا أوّل مسجد في الإسلام والّذي بني أين توقّفت راحلة الرّسول الكريم بعد تنافس الأنصار على إنزاله ببيوتهم. لكن الحكاية تنتمي أدبيا إلى "الكتابات المنقبية" المرتبطة بالأولياء و الصلحاء والتي تمثّل حكايات نموذجية تقدّم " مجموعة من السياقات تسرد وقائع وأحداثا تتّصل بسيرة شخصية أو مجموعة من الشخصيات اشتهر جميعها بصدق الطويّة وصلاح السلوك، وذلك تأصيلا للموعظة وإثمارا لنهجها الفاضل أو القويم15"، لذلك فهي و إن كانت تعود إلى الماضي، تماما مثل التاريخ، فإنّها سرعان ما تتجاوزه لتستند إلى المثالي والكامل16،  فتكون سيرة الوليّ محاكاة و استلهاما حيّا لنموذج مثالي كثيرا ما تجسّده  السيرة النبوية كما يتجلىّ في قصّة "سيدي بن سعيدان" وما حفّ بها من الخوارق.  

كما أنّ حكاية ظهور بحيرة "المزوّقة" تنهل من أساطير الطّوفان الشّائعة بكثرة ليس فحسب  في التّراث السّامي، مثلما هو الشأن في الحضارات السومرية مع البطل "زيو سوردا"والبابلية في ملحمة جلجامش والإسلامية في قصة النبي نوح17،وإنما أيضا في التراث العالمي على النحو الذي بيّنه فريزر في " فولكلور العهد القديم." وهي جميعا ترمز إلى حدوث طفرة سمحت بالبعث من جديد عقب الهلاك كاشفة بذلك عن الازدواجية الرمزية للماء بما يجسّده من جدلية الولادة والموت، بحيث تمّ استحضار نصوص أسطوريّة عريقة واستثمارها عبر إدراجها ضمن بنيات حقيقية تقمّص فيها أشخاص محلّيون أدوار شخصيات استثنائية وهبت قوة خاصة سمحت لها بتجسيم مشروع ما ارتأته الإرادة المقدسة. وإنّنا لواجدون نظائر وتخريجات لا حصر لها لهده النصوص، وبالتالي يحتفظ بالنموذج الأصل، لكنه يشحن، كلّ مرّة، بتفاصيل خاصة بحسب خصائص البيئة المحلية للجماعة.

ونحن نعلم أنّ هنالك نظرية كاملة تعرف بالاستعارة كان قد طوّرها الألماني "بنفي" Benfey  قامت على أساس فكرة هجرة الحكايات والأساطير من ثقافات إلى أخرى عبر الصلات التاريخية والاحتكاكات الحضارية والتي ترسّخت وراجت فيما بعد في إطار المدرسة الانتشارية. غير أنّ ذلك لا يفقد الحكاية أو الأسطورة طابعهما المحلّي الخلاّق"طالما أنّه ليس هناك استعارة لموضوع ما دون صياغة مبدعة جديدة18".

وقد برهنت تحاليل "شتراوس" المستفيضة للأسطورة عمّا تتّصف به من دينامية ومرونة، فبالنّظر إلى خضوعها إلى نظام الخطاب الشفوي، فإنّ المجموعة الأسطورية المتعلّقة بشعب ما ليست مغلقة أبدا19، وهو ما يعني تشكّل صيغ متعدّدة لها. " وإذا كانت خصائص الوسط  تقود إلى تغيير قسم من القصّة، فإنّ هناك ضغوطات ذهنية تفرض على بعض الأقسام الأخرى أن تطالها بدورها تغييرات20".  وتلك سمة تكاد تشترك فيها شتى أنماط الشفاهية الشعبية المؤسّسة على الذاكرة والمتخيّل.

وحتّى وإن سلّمنا بوجود عمليّة محاكاة مطلقة سمحت بتبلور نصّ شفوي اعتمادا على نموذج سابق، فإنّ ذلك يتحقّق، موضوعيا، ضمن شروط الجماعة نفسها، فهي السارد الذي يمرّر الحكاية، وهي المتلقّي لها، وفوق هذا كلّه تمثّل الأب الحقيقي الذي تنسب إليه، وإن انحدرت سلاليا من غير صلبه، فما يهمّ ليس الأصول التاريخية والثقافية الحقيقية  التي تولّدت عنها الحكاية، وإنّما تمثّل أعضاء الجماعة لها و تعاطيهم معها، عبر التداول والمواترة، باعتبارها جزءا من ذاكرتهم المشتركة.

 

 2-2 البنية السردية:

لا تستمدّ التمثّلات سلطتها من طبيعة موضوعاتها وصورها ذات الكثافة الإيحائية فحسب، وإنّما أيضا من اندراجها ضمن الممارسة السردية التي تبدو كفاعلية  رمزية تتوسّط المسافة الكامنة بين الذات و العالم الخارجي، فعبر السرد تغادر الظواهر الفيزيائية والأحداث التاريخية المستقلة عن الوعي وضع الإفلات واللّامعنى لتستقرّ ضمن نظام رمزي مترابط مركّب من صور متراصّة مزدحمة عن المجموعة ومحيطها، فالسرد استيعاب مختزل لعالم الأشياء بقدر ما هو إثبات لوجود الذات في هذا العالم باعتبارها ذاتا مؤوّلة ومنتجة للمعنى، وما الأساطير والحكايات سوى وساطات لتأمين هذه الوظيفة المزدوجة: الاحتواء والتأويل. بل إنّ الفلسفة نفسها على ما يرى أصحاب النظرية السردية لا تخرج عن كونها ممارسة سردية، وبذلك يصبح السرد ليس مجرّد بنية جامدة على ما نجده لدى المدرسة البنيوية، وإنّما تجربة معرفية ملتحمة بتشكيل الهوية واستمرارها.

إنّ التمثّلات الجماعية للماضي والأحداث والأشياء عبر الاستناد إلى الأصول والبدايات تتحقّق ضمن إطار سردي يتداخل فيه التاريخ بالتخيل ضمن ما يسميّه "ريكور" "الهويّة السرديةّ" أين يتحوّل التأليف السردي إلى تأليف للهوية الفردية  والجماعية،  ويصبح الوجود الإنساني برمّته هو ببساطة الوجود المتعلق بحياتنا الخاصّة والذي نتمثّله عبر الشفاهيات المروية. " وإذا كان كلّ فرد يتوحّد مع التاريخ الذي يمكنه أن يحكيه عن ذاته، فإنّ الأمر يشبه ذلك بالنسبة إلى كلّ مجتمع، ولكن مع فرق واحد هو أنّ المجموعة الإنسانية تتوحّد ذاتيا مع أحداث مخالفة تماما للأحداث المتعلّقة مباشرة بشخص واحد21". من هنا تكمن أهميّة وظيفة الأدب في بناء الذاكرة كما استفاض "بير نورا" في تحليلها، حيث يمكّن الاستغراق السردي من تثبيت المعاني ضمن أمكنة خاصّة كالمعالم والطقوس والاحتفالات والرموز.

وبهذا المعنى يغدو السرد أحد مكوّنات الهوية وليس نشاطا تذكريا لاستحضار الماضي وترميمه أو صورا خيالية عن محيط المجموعة و شروط حياتها تعكس انحرافا أو وعيا زائفا بتوصيف ماركس للإيديولوجيا، "فالسرود تسمح بصفة متفرّدة بخلق تأليف بين ما هو متنافر وبتحقيق تواصل بين أحداث لم تكن مترابطة من قبل22"  وهو ما يدفع الأفراد إلى الانخراط في مسار تفاعلي من تبادل المعنى والتمثلات الجمعية. ومثلما تخترق السرديات الحياة فتتردّد صورها الأكثر واقعية ومادية، فإنّ السرد نفسه يتحوّل إلى ضرب من الحياة الحقيقية باستئنافه تسنأنف سيرورة الهوية.

 

4 - التمثّلات الشعبية للأصول و البدايات من خلال الموضوعات السردية

 إنّ مسألة الأصول و البدايات لا تنحصر في مجال بعينه إذ تشمل تشكّل المجال الجغرافي ووجود الظّاهرة الطّبيعيّة والمعلم التّاريخي وتكوّن المجموعة البشريّة. وكان يمكن أن نعدّد مجالات أخرى في مجتمع دراستنا مثل النّشاط الحرفي والخصائص العضوية لبعض النّاس وطبائع الحيوان ومنشإ الأمراض وسبب الحاجة والإملاق، فكل عنصر أو مظهر من مظاهر الوجود المادي الطبيعي أو الاجتماعي الثقافي له بداياته التي انبثق منها وأصوله المحدّدة لهويته والتي بدونها يستحيل عرضا زائفا سائرا إلى زوال. وليس الارتداد إلى الماضي في هذه الحالة محاولة للإمساك بلحظة منقضية، لكنّها محدّدة كرونولوجيا، أي الماضي بدلالته التاريخية الخطيّة، وإنّما يحيل على رجوع إلى السياقات النموذجية للتكوين. بحيث لا يؤلّف الرّجوع إلى الأصول مجرّد موضوع قابل للتحديد هنا وهناك وإنّما نزعة أصيلة تتجاوز التّصنيف الحقلي للأشياء عبّر عنها "ميرسيا إلياد" بالحنين إلى الأصول.بحثا عن النمادج المثالية التي شكّلت جوهر الأشياء قبل أن تصل إلى ما هي عليه الآن.

وبذلك تصبح جميع العناصر المشكّلة لوجود المجموعة، سواء في أبعادها البيئية، أو المعمارية أو التقنية أو الاجتماعية، تندرج ضمن نظام نسجت معالمه وفق إرادة قاهرة، ليصبح كلّ شيء، لا يختزل في أبعاده المادية وفق قوانين الطبيعة ومنطق التاريخ، وإنما يتعدّاها ليتفرّد بوجود رمزي يستند إلى مرجعيات موغلة في القدم  تؤصّله وتمنح له معنى.

إنّه لمن الواضح ما تحفل به هذه النّصوص من إحالات واقعيّة مغرقة في محلّيتها بدءا بالأسماء (بنت زرت، بن سعيدان، كاف عبّاد..) و الأماكن والشّخصيّات، فتبدو من هذه الزّاوية ذات طابع انعزالي. ولا غرابة في ذلك ما دامت تعبّر عن ذاكرة محليّة اختزلت روح مجموعة بعينها أودعت فيها هواجسها و تطلّعاتها في علاقتها بذاتها وما حولها من ذوات وطبيعة.

لكن هذا الإنطواء والإنغلاق ليسا مطلقين بل هما يمثّلان أحد مستويات هذه الذّاكرة فحسب، إذ أنّ هذه المواضيع تتكرّر هنا وهناك. ويكفي أن نستحضر أساطير تأسيس المدن المنتشرة بكثرة والّتي اخترقت ما يصنّف عادة بأنّه كتابة تاريخيّة رسميّة مثل المصادر الكلاسيكية المعتمدة قي التدوين التاريخي، كذلك الشّأن بالنّسبة إلى تكوّن المجموعات القبليّة حيث تتنوّع أساطير التّأسيس المتعلّقة بها بما في ذلك شجرة النّسب وشجرة البركة أو سلسلة البركة و ما تنطويان عليه من ولع بالشّريفيّة.

بل إنّه يمكن الذهاب إلى اعتبار أنّ إنتاج مثل هذه المرويات الشفوية، وإن كان يتنزّل ضمن سيرورة بناء هويّة الجماعة بوصفها كيانا متمايزا، فإنّه يرتبط بالوعي بالكيانات المجاورة لها من حيث هي آخر مفارق يزوّد الأنا بإدراك ما يشكّل فرداتها وذلك اعتمادا على المقارنات، وكما لاحظ " ستراوس" في تحليله للوسط الطبيعي وتمثّلاته، "فإنّ الفكرلا يتفاعل فقط مع الوسط الذي يحيط به، وإنّما له أيضا وعي بوجود أوساط مختلفة يتقاعل سكّانها معها حسب أسلوب الشعب الذي إليه ينتمون23"، وهو ما ينسحب أيضا على العلاقة بين الجماعات الاجتماعية بأبعادها الأقلّ امتدادا.

لكنّ هذا الآخر هو في الوقت نفسه مشابه للأنا، لا سيما بالنسبة إلى الأمثلة التي نحن بصددها  لاستنادها إلى نسقية معيارية وقيمية مشتركة تجسّمها وحدة الدين واللغة والعادات والتفاليد، فعلى قاعدة الائتلاف والاختلاف تتحقّق سيرورات معقّدة من التبادل والتفاعل بين مختلف الجماعات، ويمكن اعتبار قصّة ّ سيدي بن سعيدان" تجسيدا حيّا لهذه العلاقة، فمن جهة أولى تتماثل مع غيرها من قصص الأولياء والصالحين وسائر الشخصيات المقدّسة المنتشرة في الثقافة الشعبية، وبما أنّ القبول بها والانخراط في أنساقها الثقافية سرعان ما تداخل مع الانتماء إلى المجتمع نفسه بمفاهيمه وقيمه المعترف بها، أخلاقيا واجتماعيا، انطلاقا من القرن السادس عشر ميلادي، فمن الطبيعي  أن تتشكّل مثل هذه القصّة وتنتشر بين عرش أولاد بن سعيدان بوصفها نظيرا لما هو رائج لدى الجماعات العروشية المجاورة. لكن، ومن جهة ثانية، فإنّ هذه الأخيرة هي مختلفة بحكم انحدارها من أصول متباينة فضلا عن منطق الصراع الذي كثيرا ما يحكم العلاقة بين هذه الكيانات القبلية، ويمثّل "عرش هذيل" الآخر المعادي لعرش "أولاد بن سعيدان"، و قد دارت بينهما معارك ومواجهات احتفظت ببعض فصولها الذاكرة الجماعية لكلّ منهما، وهو ما يمنح للقصّة تفرّدها ما دام تأصيل الجماعة مبنيا بالضرورة على وعي بالغيريّة.

 

4 - تمثّلات الأصول و البدايات في ضوء وظائف السّرديات

تنهض هذه السّرديات، بما تنطوي عليه من تمثّلات جماعية لمسألة الأصول والبدايات، بوظائف متعدّدة من أهمّها:

وظيفة تفسيرية: تطرح سردية الأصل والبداية نفسها أداة تفسير تطمئنّ إليه الجماعة وتنصاع، سواء عند غياب تفسير شائع ذي مرجعيّة أخرى كالمرجعيّة التّاريخية أو الدينية مثلما هو الحال بالنّسبة إلى كاف عبّاد والحمّام القديم بماطر حيث لا نكاد نعثر لها عن أية نصوص مكتوبة تعرّف بها،  أو حتّى عند وجود مثل هذا التّفسير كما الحال بالنّسبة إلى مدينة بنزرت حيث لم تقنع الذّاكرة بما تقوله المصادر التّاريخيّة عن أصلها الفينيقي HyppoAcra  ثمّ الرّوماني Hyppo Diaritus قبل الفتح العربي الإسلامي لها خلال القرن السابع للميلاد، فراحت تكتب تاريخا خاصا بها خضع لعملية "أسطرة"، فجاء مفعما بالعجيب الخلاب تنبجس منه الرغبة الجامحة في الانسجام مع العالم والأشياء، إنّه تاريخ آخر، لكنّه ليس لسرد الوقائع في حدّ ذاتها، وإنّما لتبريرها طالما أنّها ليست في نهاية المطاف سوى مؤشّرات مادية تستمدّ قيمتها من إحالتها على حقائق مقدّسة، فالأسطورة تقدّم نموذجا مثاليا يسمح بتفسير الأشياء24، وهو ما يجعل من كلّ الأحداث الواردة في النصوص المعروضة وما استقرّت عليه في الأخير من المظاهر( المجال الجغرافي، المدينة، الجزر الصّخرية....) حقائق كان ينبغي لها أن تحدث ما دامت هي بمثابة تجسيدات لمشاريع مقدّسة معدّة سلفا.

ولئن كانت السببيّة المعتمدة في التفسير الوضعي تجريبية قائمة على ما هو قابل للإدراك الحسّي، فإنّ السببيّة المستخدمة في التفسيرات  الأسطورية ذات طابع ميتافيزيقي، وهي تذهب بعيدا في ترصّد الارتباطات العليّة بين الظواهر بحيث لا يصدر أيّ شيء عن فراغ، لهذا فما يصنّف عادة بأنّه صدفة أو ظاهرة غامضة أو شاذّة يمثّل المجال المفضّل لنشاط التفسيرات الأسطورية، إذ سرعان ما تعثر لها على مصادر ومقدّمات  أوّلية نّاشئة عنها تقع خارج حدود المجال الدنيوي المألوف.    

وظيفة إدماجية: كثيرا ما يتحوّل الحكي إلى مسار ترغيبي يهيء للانخراط في النظام الاجتماعي بعد استيعاب المفاهيم الأساسية، وتمثّل هذه القصص، في إطار الجماعات التقليدية المنتمية إليها، أداة اجتماعية لإدماج الفرد في بيئته المباشرة سواء كانت طّبيعيّة أو معماريّة أو اجتماعية، فلا يكون هنا مجال للقطيعة بين الحاوي المحتوى والذّات والموضوع، بل يصبح هذا الأخير، مثل حمّام ماطر وصخور كاف عبّاد، أحد شروط وجود الفرد والجماعة طالما أنه لم يأت صدفة تحمله قوّة عمياء، وإنما ألهمته إرادة مقدسة لم يكن فيها البشر سوى أدواتها الطيّعة، وبذلك يتعدّى الفضاء وظيفته الأوّلية من حيث هو إطار للتموضع المكاني، ليصير بمثابة التجسيم المقدّس للمصير الإنساني، ومن ثمّة فلا ينبغي للإنسان أن يهرب منه أو يرفضه، بل الأجدر به أن ينسجم معه في نوع من الرضى الصوفي بالقدر المحتوم.

وبهذا تتداخل الأنا بالآخرين مثلما تتداخل بالعالم الخارجي في إطار معرفة موحّدة تنهض على التعامل مع سائر الموضوعات بوصفها معاني ورموزا وليس محض أشياء نسعى جاهدين إلى امتلاكها وإخضاعها لمشيئتنا. وتلك خاصيّة جوهرية في الفكر التقليدي بوجه عام يتقابل فيها مع الفكر الحديث المبني أصلا على ثنائية الذات والموضوع والعقل والواقع والتاريخ والخيال.

- وظيفة تأسيسية: إنّ الحكاية لا تكتفي أحيانا بتعقّب الأصول والبدايات، ومن ثمّة تطمح إلى تفسيرها، بل إنّها هي نفسها تغدو أصلا نبدأ منه، فعبر إطلاقية الزمان معبّرا عنها بصيغة "في قديم الزمان" وما شابهها من القوالب اللغوية المتكرّرة في السردية الشعبية تعود بنا إلى الزمن الذي لم يكن فيه زمن، أي إلى "النمادج الأولى Archétypes25، فتكون الأمور من البداهة بما يدعو إلى عدم الذّهاب أبعد من الزّمن الّذي تتضمّنه الحكاية.  لذلك فإنّ ذاكرة عرش أولاد بن سعيدان لا تعبأ كثيرا بأصولهم الإثنية قبل ظهور شخصية جدّهم بن سعيدان، رغم أنّه من السّهل تتبّعها، بل إنّ بعضهم يعرف هذا فعلا، فقد جعلوا من قصة الضريج الكبير الذي ظهر ليواري جثمان "سيدي بن سعيدان"، بعدما ترك لحاله بسبب السيول الجارفة، قاعدة تأسيسية للعرش  عبر الرمزية المكثفة للماء. وهو ما يتجلى أيضا في النص المتعلق بتشكّل المجال الجغرافي، ومن ثمة تكوّن مدينة بنزرت حيث يظهر فيها هي الأخرى نوع من الطوفان وإن كان بحيريا، لكن في الحالتين يضطلع الماء بوظيفة رمزية متشابهة تدور حول الخلق والولادة بعد نهاية كثيرا ما تتخذ صورا كارثية، " إذ هو يمحو التاريخ ليعيد بعث الكائن في حالة جديدة26".

 - وظيفة أنطولوجية: إنّ هذه المرويات الشفوية، وعبر احتفائها بالأصول والبدايات، تسعى إلى التّأصيل الرّمزي للظّواهر المتعلّقة بها، وهي بوصفها بنيات قائمة على تكرار الأحداث أكثر من روايتها الكرنولوجية كما يفعل التاريخ تمارس دورها في نفي الزمن وتدجينه للتخلّص من سيطرته وما يثيره من قلق ورعب.  إنها لا تنفك تخلع القيمة والمعنى على ظواهر الوجود المألوفة بما ينقذها من التناقض والفراغ والعدمية، فيتماثل العالم كما هو قائم في الواقع والعالم كما أريد له أن يكون، أو كما هو مستبطن ذهنيا عبر إعادة صياغة أشيائه وتأويله، تماثلا عفويا، قد يكون زائفا، لكنّه ضروري للبقاء والاستمرار.

 بيد أنّ هذا البعد الأنطولوجي لا يعني أنّنا إزاء نموذج معمّم يباشر على صعيد نظري لا غير، ذلك أنّ "الإنسان لا يحقّق طبيعته ضمن إنسانية مجرّدة" على حدّ تعبير "لفي شتراوس27"، وإنّما يتمّ ذلك ضمن سياق مخصوص يجري تمثّله تمثّلا إنسانيا يتجاوز في دلالاته شروطه المحدودة، لكنّه يظلّ متمفصلا حولها تأكيدا للتنوّع الثقافي الذي بدونه يتعذّر إدراك أيّ معنى  إنساني.

 

خاتمة:

لا مراء في أنّ دائرة انتشار السرديات الشفوية باتت أكثر فأكثر انحسارا، لكن السرد كبنية تمثّلية آخذ في الامتداد في خضم ثورة الإعلام التي كرّست سلطة الافتراضي والرمزي لنصبح أمام "واقع منزوع الواقعية مسبقا وفوق واقعي28" يتشكّل أساسا من الصورة واللغة المحكية .      

أمّا عن موضوع الأصول والبدايات في حدّ ذاته، فهو ينتعش من جديد ليس فقط داخل العالم الافتراضي للأنترنت و الحقل الديني التقليدي، وإنّما أيضا ضمن شبكة الأنساق الفـــــكرية والعلمية الوضعية نفسها. وكما لاحظ عالم الأديان "ميرسيا إلياد"، فإنّ تزايد التفكير في الأصول والبدايات قد اقترن بالمدّ الذي عرفته الإيديولوجيات في الغرب أثناء القرن التاسع عشر29. ولا ينبغي أن ننسى هنا الطابع السحري للإيديولوجيا مثلما يشدّد بودريال30"،  وإن أعلنت، مرّات مناهضتها له بإدّعاء أنّها علميّة. لهذا ليس غريبا أن تحوّل كلّ بداية إلى أصل سرعان ما ينقلب بدوره إلى إيديولوجيا فاعلة للتبرير حينا وتكريس إقصاء الآخرين أحيانا. ثمّ أوليست النزعة التأريخية والموقف التاريخي عامّة تعبيرا عن الهوس بالبحث عن الأصل؟ كذلك الجنيالوجيا Généalogie التي كانت منحصرة في تعقّب الأنساب، أي القرابات الدموية النّاجمة عن الانحدار من أصل مشترك، على ما عرف به نسّابة العرب من شغف بشجرة القبائل والأفراد، قبل أن تتمدّد لتضمّ النّظم و الأفكار والعالم الطبيعي تماما كالعالم الإنساني.

ضمن هذا المسار يتنزّل أيضا هاجس البدايات في علوم البيولوجيا والوراثة عبر تتبّع الشيفرات الجينية وعلم الفلك والكونيات من خلال البحث في لحظة البداية الكونية أو الانفجار الكبير.

إنّ استيهامات الأصل والبداية تتلاقى رمزيا مع استيهامات النهاية ونظرية الكوارث والخلاص الطوباوي التي، وإن قامت على التوقّع والاستشراف لما هو آت، فإنّها في الحقيقة لا تنفلت من لعبة المآل الذي يرتدّ إلى نقطة البدء ضمن النظرة الدائرية للكون وللزمن، لكن في انتظار هذا الآتي، وعبر التمثلات الجماعية للأصول والبدايات داخل الممارسة السردية، تثبّت الجماعة هويتها مجهّزة نفسها بوسائل رمزية لمقاومة الفراغ والموت والزمن، لتصبح الحياة ليس نفيا وغربة وإنّما " هجرة وعودا دائما31".

 

الهوامش والمراجع

1: Durkheim (E), Les formes élémentaires de la vie religieuse, Paris, Quadrige/ PUF, 1990, p. 621.                                                                     

2: Durkheim (E.), Sociologie et philosophie, Paris, PUF, 1997, p. 113.

3: Ibid., p. 620.

4: Halbwachs (Maurice), Les cadres sociaux de la mémoire, Paris, Abin Michel, 1994, p. 39.                                                                              

5: خواجة ( أحمد)، " الثقافات الشعبية: التاريخ والذاكرة الجماعية وإشكاليات التدوين والتوظيف"،تونس،مجلة الحياة الثقافية، العدد 174، جوان 2006، ص 17.

6: Moscovici, La psychanalyse, son image et son public, PUF, 1977, p. 27.

7: Jodelet (Denise)," Représentation sociale: phénomène, concept et théorie", in : Psychologie sociale, publié sous la direction de Serge Moscovici, PUF,  1997, P.360

8:  Ibid., p.p 366-371.

9: لهذه الحكاية صيغ متعدّدة نشرت إحداها نقلا عن أحد صيّادي قرية منزل عبد الرحمان بمجلة إبلا (تونس) عدد2، سنة 1938، ص85. أمّا عن هذا النصّ فيعتمد على روايات أخرى منها واحدة للسيد محمود سحيق من القرية نفسها. 

10: تسمية محليّة أطلقت على جزيرتين صغيرتين جدّا اتّخذتا شكل كتلتين صخريتين متجاورتين تقعان قبالة سواحل قرية "كاف عبّاد" من معتمدية سجنان.

11: هو الشخص الذي يقدّم قوّة عمله مقابل الحصول على خمس المنتوج في إطار النظام الاقتصادي التقليدي.

12: بورايو ( عبد الحميد )، "تحليل خطاب الحكاية الشعبية "، مجلّة دراسات عربية، السنة الثانية والثلاثون، العدد 1- 2، نوفمبر / ديسمبر 1995، ص92.

13: بروب (فلادمير)، مورفواوجية الخرافة، ترجمة الخطيب (إبراهيم)، الرباط، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، 1986.

14: Todorov (T.), Notion de littérature, Paris, Ed. Seuil, , 1987, p.p. 30-31.

15: عيسى (لطفي)، " أدب المناقب بين تعدّد التأويل وفخّ التلفيق الروائي"، تونس، مجلّة مدارات، السنة الثامنة، عدد 13- 14، 2001، ص 25.

16: Dercerteau (Michel), L’hagiographie, in Encyclopédia universalis, corpus 11, Paris, 1989, p. 16O.

17: تركي علي الربيعو، الإسلام و ملحمة الخلق و الأسطورة، المركز الثقافي العربي، بيروت/ الدار لبيضاء، 1992، ص ص 95-98.

18: سوكولوف ( يوري)، الفولكلور: قضاياه و تاريخه، ترجمة حواس ( عبد الحميد) و شعراوي ( حلمي)، القاهرة، مكتبة الدراسات الشعبية، 2000، ص 206.

19: Lévi-Strauss ( Claude), Mythologiques, Tome I,  Le cru et le cuit, Paris, Plon, 1964, p. 15.

20: Lévi-Strauss (Claude), Le regard éloigné, France, Plon,  1983, p. 156.

21:ريكور(بول)،"الخيال الاجتماعي ومسألة    الأيديولوجيا واليوطوبيا"، ترجمة عبد الحق ( منصف)، مجلة الفكر العربي المعاصر، تموز / آب، 1989، ص93 .

22: Ricoeur  ( Paul), Temps et récit. Tome I : L’intérige et le récit historique, Le Seuil, 1983, p. 11.

23: Lévi-Strauss (Claude), Le regard éloigné, op.cit. p. 154.

24: Eliade (Miréa), La nostalgie des origines, Gallimard, 1971, p.131.

25: Bouhdiba (Abdel Wahab), L'imaginaire maghrébin, Maison tunisienne de l'édition, 1977, p.24.

26: Chevalier (J.) et Gheerbrant (A.), Dictionnaire des symboles, Ed. Robert Laffont – Jupiter, Paris, 1989, p. 377.

27: Lévi-Strauss (c.), Anthropologie structurale, Paris, Plon, 1973, p.385.

28: بودريال ( جون)، المصطنع و الاصطناع، ترجمة عبد الله ( جوزيف)، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2008، ص 199

29: Eliade (Mircea), Le mythe de l’eternel retour, Ed. Gallimard, 1969.

30: Baudrillard (Jean), Pour une critique de l’économie politique du signe, Tunis, Cérès Editions, 1995, p. 38.

31: Durand (Gilbert), Science de l’homme et tradition. Le nouvel esprit anthropologique, Paris, Berg International, 1979, p.49.

 

أعداد المجلة