التهيليم من أغاني رعاة الإبل في الصحراء التونسية
العدد 12 - أدب شعبي
في بيئة صحراوية قاسية يكون فيها البحث عن الماء سؤالا حيويا عملت القبائل الرحل في الجنوب الغربي التونسي من صابرية وغريب و عذارى و مرازيق على إيجـاد مصادر مائية قارة قدر الإمكان، وتواصل هذا المجهود مع الأجيال اللاحقة إلى وقت قريب عندما أخذت حياة الاستقرار تجلب إليها سكان الفيافي.
وفي ظل انعدام إمكانية بناء الماجل والفسقية نظرا لقلة سقوط الأمطار وتذبذبها بين السنوات بقي اللجوء لحفر الآبار همهم الأول رغم الاستفادة من موارد وقتية كالأثماد والغدران وحتى البئر في حد ذاته غير مضمون ما لم تتم المحافظة عليه.
وترد على البئر كل فئات المجتمع القبلي من المرأة إلى الفارس والصياد وعابر السبيل والرعاة،وكان للرعاة بصفة خاصة طريقتهم المميزة في متح الماء فهم يرددون بعض الأغاني أثناء العمل يطلقون عليها اسم «التهيليــم» أو «التهوليم».
سنحاول في هذه الورقات التعرف على المعارف المكتسبة والتقنيات المعتمدة في استخراج الماء وكيفية المحافظة عليه والتعريف بالتفاصيــل الدقيقة التي تتعلق بالمهارة المتأصلة والتطبيقـات المتوارثــة في صناعة أدوات المتح وتنظيم عملية سقي الحيوانات. كما سنقدم نماذج من هذا النوع من الأغاني للكشف عن معانيها ودلالاتها التــاريخية والجغرافية والاقتصادية واللغوية...
لا يحفر البئر في حقيقة الأمر في أي مكان إنما يقع الاختيار دائما على مكان مرتفع انطلاقا من معرفتهم بأن المرتفعات أقرب ماء من المنخفضـات، عند تحديد الموقع يشرع في الحفـر باستعمـال المعـول وهو فأس صغير ويستخرج التراب بالمخلاة، أما العامل فيصعد عن طريق درج يحفرها في حافة البئر أو يرفع بالحبل من طرف رفاقه. ينتهي الحفر عادة عندما يصلون الى الصخـرة ويصبح للميـاه وجود إذ تتسرب من ينابيع صغيرة من قاع البئر. ولكي لا يتهدم البئر كانوا يثبتون في قاعه مجموعة من أغصان أشجار الأزال والأرطى والعلــندة ورغم انتشـار شجرة الرتم المعروفة بصلابة أغصانها فلا مجال لاستعمالها في هذا الموضع نظرا لمرارتها ومن خلف هذه الأغصان يوضع قليل من القش اليابس، ويتغنى الرعــاة بهذه المسألة مرددين:
نــاقة دادي لزوها جاي
تشرب وتهش عل بير القش(1)
أو عوضا عن ذلك يستعملون خابية مصنوعة من الجبس المحلي مثقوبة من الأسفل يطلقون عليها اسم «البغلة». ولا بد من الإشارة هنا الى أن عمق البئر قد يصل الى أربعين«قامـــة»(2) أي ما يفوق الستين مترا، أما اتساعه فلا يتجاوز المتر ونصف وكناية عمّا يلقـــونه من تعب فهم يرددون مثلا شعبيا متى ألم بهم الإرهاق «تقولش طلعنا من بير أربعين قامة».
أمـا في مستوى سطح الأرض فقــد كان الأوائل منهم يكتفون بوضع القليل من الأعشاب الصحراوية اليابسة حول فوهة البئــــر(فم البئر) ثم أصبحت تبنى له «صفرة» من الحجـارة والجبس، أما من كان يريد تأمينا نهائيا فيبني عليه قبة مثلما بنت قبيلة غريب على بئر «شوشة الناقة» خوفا من أن تزحف عليه الرمال المتحركة فتطمسه.
ولتسهيل عملية الوصول الى البئر كانوا يضعون علامات تدل عليه خاصة وأن تضاريس المكان متشابهة وتتمثل هذه العلامات في أعمدة خشبية وأكداس من الحجارة. كما يهيئـون بالقرب من البئر الجوابي الخاصة بسقي حيواناتهم يسمونها «مسقى» أو «مصب». وعندمـا تكون البئر عميقة وغزيرة المياه يسمونها «طويل» أو «علم» وهم في غنـــــائهم يخاطبونه فيمدحونه وفي صورة ما إذا نزح أو حتى قلت المياه يدعون عليه بالخلاء:
تخلى يا بير تقعد هنشير مركس للطير(3)
وقد تكون الآبار متباعدة عن بعضها البعض وهو أمر مؤكد لكن إذا ما تقاربت فتسمى عقلة.
وتوارثت الأجيال هذه المعارف والتقنيات المعتمدة في استخراج الماء والمحافظة عليه كما اكتسبت مهارات عــالية وتطبيقات متعددة في صنع أدوات متح الماء، فهم يحذقون ذلك جيدا ويستعملون المواد المتاحة لهم على عين المكان، فالدلو يصنعونه من جلود الماعز والإبل في أحجام مختلفة وقد تصل سعة الواحد منها أربعين لترا وعادة لا يستعملون الجلود الجديدة، إنما يستغلون في ذلك القرب المثقوبة مثلا، ويبدو حرصهم هنا على الاستفــــادة من الأشياء قدر المستطاع. ويلقبون الدلو في أغانيهم بـ «دلو الهم» نظرا لشدة التعب الذي ينتابهم أثناء متح الماء:
يا دلو الهم هات إلي ثم صافي ورغم
أما الحبال التي يرفع بها الماء فيسمونها الرشي(4) بكسر الشين، فتصنع من مواد أولية حيوانية كصوف الأغنام وشعر الماعز أو من مواد أولية نباتية كالحلفاء وليف النخيل. ويصنع الراعي لنفسه حزاما من الصوف والشعر يسمى «مرص».
واستعمال الجرارة أمر متداول عند هذه القبائل فيشترونها من الأسواق القريبة وهي بكرة حديدية (خرزة) تعلق فوق البئر على عمودين وعارضة من أغصان الأشجار لتسهـل رفع الدلو من قاع البئر. وكان من عاداتهم إخفاء العـدة (الحبل والدلو) قرب البئر فقد يستــفيد منها عابر سبيل.
وقبل الحديث عن تنظيم عملية سقي الإبل والأغنام لا بد من الإشارة الى أن الميراد لا يتم يوميا إنما يتبع نظاما صارما انطلاقا من معرفتهم الدقيقة بحاجـة حيواناتهم للمـاء والتي تتغير بحسب الفصول والمراعي التي ترتادها ويتغير معها مفهومهم للمصطلحــات المستعملة في ذلك، فعندما تسمع أحدهم يتحدث عن «الغب» في الخريف فمعناه أن الإبل مع الــــراعي في الصحراء من أواخـر الصيف الى أوائل الشتاء ترعى في الأراضــــي الرملية «المسوسة»(5) فتأكل أوراق الأشجار الخضراء التي تحتوي على كمية من الميـــاه تجعلها في غـنى عن الذهاب إلى البئر.أما في فصل الصيف فالغب معناه الغياب عن البئر ليوم واحد ثم يقال «تربع» إذا غابت يومين ووردت في الثالث و«تخمس» إذا غابت ثلاثة أيام ووردت في الرابع و«تسدس» إذا غابت أربع وحضرت للشرب في الخــامس. ويكون سقي الإبـــــل عادة مرة واحدة في اليوم لكن إذا بقيت قريبة من البئر يعود بها الراعي مرة ثـــانية ويقـــــال «تهش»:
هشي هشي باش تعشي باقل ونصي
وبطبيعة الحال هذا الترتيب يخضع لحرارة الطقس ورعيها للأراضي «المــالحة» بالقرب من الشطوط لذلك فان أغلب الآبار تتجمع في منطقة الظاهـر وعلى مسافات قريبة من شط الجريد لاسيما جنوبه وغربه، وهي المناطق التـي تكثر بها نباتـــات الزيتة(6) والطرفة والضمران
وتسمى مرحلة الانتقال من الغب الى الميراد بـ «النقضة» ويوم الميراد بـ «نهار الضمي» وهو ما يذكرنا بأيام العرب. وهم يعرفون موعد انطلاق مرحلـة الميراد من خلال حركة النجوم فيقولون:
«اذ طلعت الزوزه لعشي
وتي الدلو والرشي»(7).
ولما كانت أعداد الإبل كثيرة وعدد القائمين عليها قليل فقد كانت تحجز في مكان منزو عن البئر وتقسم إلى مجموعات تتكون الواحدة من عشرة إلى خمسة عشر رأسا (بقيمة الجابية) وترسل بالقطعة في إطار عمل منظم، ويقسم الرعـاة أنفسهم أيضا الى فـــرق، فالموجودون على البئر «الجبــــادة «مكلفون برفع الماء وعندما تملأ الجابية ينادون على الفريق الثــاني «ارسل» لذلك يطلق عليهم اسم «الرسالة» ومجموعة الإبـل المرسلة «رسلة»، وهكذا إلى أن تشرب آخر رسلة.
وتبدو هنا الأسباب تنظيمية بحتة لكن في بعض الأحيان يكون للظروف الأمنية دور في إضافة فريق ثالث للجبادة والرسالة وهم «حماية» الذين سيقومون بالمراقبة والدفــاع عن القطيع ضد المتربصين به من القبائل الأخرى. فالمـرازيق مثلا كانوا يردون على بير السلطان ولا يتم ذلك إلا بوجود المجموعة المسلحة، وها هو أحد أفراد هذه القبيلة يصف الحدث لأحد أحفاده: «وأما الميراد يا وليدي ما هوشي إلي يواتيه يسقد… ما ترد الناس كان بالرباطي ومتسلحة... والما في بير سلطان جوبة بعيدة، كيف يوصلوه تتقلفط الأولاد وتتهير على المعطان الرسال يرسل والجباد يجبد بالقامة ويهيلم...»(8)
ويتواصل التنظيم الدقيق في مستوى طريقة متح الماء إذ يقف رجلان على حافة البئر ويمسكان بالحبل ويشرعان في سحبه إلى الأعلى بتداول الأيدي بتناسق وانسجام تـــامين، والعملية ليست بالسهلة إنما تتطلب مهارة ودقة عالية لكي لا يصيب أحدهما مكروه إذا ما علمنا أن قوة السحب يجب أن تكون بقامة الرجل. وفي بعض الأحيــــان عندما يكون الدلو كبيرا يتعاون ثلاثة رجال في سحبه، فالتعاون والعمل الجماعي سمة من سمات بدو الجنـوب التونسي في الصحـراء نساء كانوا أو رجالا (جز صوف الأغنام، النسيج…) وما يجلب الانتباه أن في كل طرف من الحبل يربط دلو فما إن يصل الأول إلى سطح الأرض حتى يكون الثاني قد امتلأ مما يؤكد على أن الجبـاد لا يجد الوقت الكــافي للراحة وهو دليل على صعوبة العمل خاصة إذا ما علمنا أنه من العـيب على الرجل أن تبقى الإبل تنتظر الماء:
وردوا الأبكار حرشة وخوار وبنات إعشار
لوحة لفجـار حبسانك عار فوق المـسدار
وإحنا حضار وعجاجك ثار غطى لأبيــار(9)
لذلك عادة ما نجد هذا العمل يتم من قبل الشباب:
قبلي يشعل جاب أم شمل وردت ترفل يا شايب ذل تحساب البل
|
|
من كل زمل قـدام البل شمل وابهل شومة وتقتل(10) لثراته البل |
ولكي لا تؤثر فيهم عملية السحب المتواصلة كانوا يقومون بكي معاصم أيديهم «القداحة» أو يضعون عليها وشما:
عني روفي |
|
بالمعروفي |
شطبت ايدي |
|
عنك بالكي(11) |
إذن في هذه الظروف من العمل الشاق يؤدي الرعاة أغانيهم المفضلة بأنغام منتظمة وبطريقة جماعية ذات لحن معروف وموحد تغيب فيه آلات النفخ والإيقاع ويتكفل واحد منهم بترديد كلمات الأغنية في حين يردد البقية «ها هاهم» ويقصدون بذلك الإشارة إلى الإبل أو الأغنام ومن هنا أطلقـوا على هذا الصنف من الأغانـي اسم التهوليم. وحسن الصوت هنا ليست له القيمة الكبرى بل يطلب صاحب الصوت الذي يبعث الحماس في رفاقه، وهو ما ينطبق على قول أحد الباحثين في التراث الشعبي حين قال بأن في الأغنية الشعبية «الذاكرة الواعية القادرة على حفظ اللحن والكلمة تعد مزية أعظـم من حسن الصــوت في كثير من الظروف وعند كثير من الشعوب»(12). أما كلمات الأغاني فهي ليست بالاعتبـاطية وإنما تؤدي معاني عدة.
ومن بين ما شد انتباهنا ونحن نجمع هذه الأغاني انطلاق كل من اتصلنا به من الشيوخ في حديثه بهذه الأغنية:
باسم الله فيه كتبولك فيــه كتبــولك فيه كــان بخــلتيه |
|
اسم الله فيه كتبولك فيــه كتبــولك فيه كــان بخــلتيه |
وهذا دليل واضح على إيمانهم الكبير ببركة الله ونبيه وتبركهم ببعض حملة العلم وهو ما يذكرنا بعادة انتشرت عندهم وهي الذهاب إلى أحد حفظة القرآن ليقرأ نصيبا منه وهو يغمس سبابة يده اليمنى في كأس مملوءة ماء ثم يقدمه للمريض ليشربه (13)، أو ليكتب بعض الأدعـية في ورقة تمحى في الماء ليشربه الصغير فتحميه من عين الحسود حسب اعتقادهم.
ولا تبتعد معاني أغانيهم عمّا يدور في بيئة المجتمع القبلي المحلي الذي يعيشون فيه، فمنها التي تدل على جغرافية المكان فتعدد أصناف النباتات الصحراوية سواء كانت الأشجــار مثل الباقل والنصي والأرطة والعلندة أو الأعشاب مثل اللسلس والينم والنمص:
خفك لملس ماذا عفس لسلس ونمص(14)
وهو ما يمنحنا فكرة واضحة عن أصناف المراعي في منطقة تقل فيها معدل التساقطات عن تسعين مليمترا في السنة وعن تغذية هذه الحيوانات واختلافها بين الفصول، ويمكن لنا من خلال هذه الأغاني التعرف على أشكال عدة من التضاريس الموجودة بهذه الصحراء مثل الزملة، القارة، السرير، الباب:
جت قطارير وردت للبيـــــــر فوقـــه عنتيـــــر عم الدلو يزيد |
|
من كل سرير تلقــــاه البـــــير فوقه صنديد موش عويديد |
يجبد ويميد(15) |
وفي نفس الإطار هناك أغان تذكر الآبار الموجودة مثل بئر سلطان و«جروف» وطويل العذارى... وبالتالي يكمن من خلالها إدراك المسالك والطرقات التي تمكنهم من التنقل بين المناطق، ومنها ما تأتي على ذكر بعض مواصفــات المناخ الصحراوي وخاصة الرياح مثل الشهيلي والقبلــي وهي ريـاح حارة لافحة.
وتحتوي أغاني البئر أيضا على مجموعة من المصطلحات التي تحيلنا على السجل التاريخي والأحداث التي أثرت في حياة النـاس لمدة طويلة وخاصة تلك الغارات المتبادلة بين القبـائل التونسية الموجودة في الجنوب فيما بينها أو تلك التي تقوم بها القبائل الطرابلسية والجزائرية على النجوع ومواطن الماء ومراعي الإبل ودخلت في عاداتهم وتقاليدهم وأصبحت من وسائل الكسب المشروع التي يتباهون بها ويطلقون عليها اســم «الزغبة» :
جاب أمي جاب
قبلي لهــاب
وثقت لمصاب
عوجة لـرقاب
نجي أم حجاب
من قوم الزاب
واحنى غيـاب شايب وشباب (16)
ومن الأغاني أيضا ما يحيلنا على فصول من تاريخهم العريق إذ يضمنون أساطيرهم بعض أغاني التهيليم كتلك التي يرددها حقوة ابن أخت بوزيد الهلالــي(يحيى في بعض الروايات) عندما نزل في بئر نقـوة في منطقة بوقرفة شرقي مدينة دوز اليوم وهما عائدان بعد رحلتهم الاستطلاعية للتعرف على أراضي تونس:
شربنش الحجل
نــوار الفجل
لا أنهز الرجـل
لا انحط الرجل
والموت بالأجل
تنقص الرجل(17)
وما يرويه المرازيق اليوم على أن أصلهم يعود إلى قبيلة بني سليم إلا دليل على أن للمنطقة تاريخا طويلا، ثم إن تضمين أغاني البئر في أساطيرهم أمر لا يخلو من المنطق إذ أن الأسطورة عادة ما يضفي عليها الراوي شيئا من واقعه...
وإن كانت للبعض من أغانيهم دلالات تاريخية فان للبعض الآخر دلالات تأريخية:
خش المرزم وذراها حــزم
مـات المرزم خلاهـــا رزم
سقد واعزم من دار الصيف
ما عاد مصيف(18)
و«المرزم» ليس إلا نجم يطلع في سماء الصحراء في أواخر الصيف وظهوره بالنسبة لهم يعني الاستعداد للعودة إلى ديار الشتاء حيث سيقضون أغلب وقتهــم قرب الواحات بمنطقة نفزاوة للتزود بحاجياتهم من التمور والحبوب والزيوت...
إن أغلب أغاني التهيليم محورها الناقة التي يؤنسنها الراعي في بعض الأحيان بما أنها مصدر ثروته وشرفه... لكنه يفــرد النعجة بعدة أغنيات لما تدره عليـه من صوف وجلود وحليب:
منــــك نلبس ثوب بلا قص
منــــك نلبس حولي مخلبص
منــــك نلبس برنوص أملس(19)
أما أبرز ملاحظة فهي غياب الأغاني الخاصة بالماعز رغم القيمة الثابتة لهذا الحيوان في حياتهم والأسباب لذلك كثيرة لعل أهمها أن الماعز أقل قيمة من الإبـل والأغنام. وعلى العكس من ذلك توجد لدى قبائل الجنوب الشرقي بعض أغانــي التهيليم الخاصة بالماعز التي تعتبر الثروة الحقيقية لديهم نظرا لأن تضاريس المكان تغلب عليها الجبال والماعز معروف بأنه متسلق ماهر لذلك فهم يردون الآبــار الجبلية ويغنون لهذا الحيوان(20).
أما عن اهتمام أفراد القبائل محور اهتمامنا بالإبل أكثر من غيرها فله دلالات اجتماعية واقتصادية عديدة، فالإبل هي التي تجعل للرجل قيمة بين أهله وذويه بل تصنعه من عدم:
يا سميات من بوه فـلان
يا شربات الدلو المليـان
يا فليــات روس الوديان
أو
يا سميات من بوه ذليــل
يا عدلات في وقت الميل
يا وردا ت عل كل طويـــل(21)
لذلك فهم يكثرون من إطرائها ووصفها بشتى الصفات الحميدة ويطلقون عليها ألقابا مختلفة كـ«أم شمل« ،«أم العطوف«،«أم جنايب« و«أم حجاب»:
اليا رقبن الزغم أبيــــن
اليا حفلن الحجل أزيــن
اليا لعبـن الزرق أشطن
اليا هـزن الحمر أمتــن
اليا عطفن الصفر أحــن(22)
وهذه الأغنية إنما تفصح وبكثير من الدقة عن مميزات وخصال كل لون من ألوان الإبل والإبل هي وسيلة النقل الأولى في الفيافي الواسعة تنقل المرحول من معطان لآخر وتسافر إلى التل العالي في قوافل تجارية لجلب السلع وهي التي تأتي بالعروس عندما يتزوج مالكها:
يا وهاقة هاني فوقه
يا شرابه لمي بترابه
يا جيابه حمول الصابة
يا وراده عل كل طويل
يا جيابه في عوم الجيل(23)
أما لغويا فتعتبر أغاني البئر من أهم المصادر إذا ما رمنا البحث في هذه المسائل، فلهجة هذه القبائل لا تزال ذات صلة عميقة بالفصحـى، فعلى المستوى المعجـمي هناك من الألفاظ التي تبدو موغلة في المحلية في الأصــل فصيحة، وقد ورد في أغاني التهوليم عدد كبير منها مثل «الرشي» وهي الرشا والحم ويقصد بها الشاة ذات الرأس والساقين السود:
يا خالي جم قــدام الحم
باتت تحـلم بتقريع الجم
لسلس وعذم وحميس ينم(24)
وثراء المعجم اللغوي هو الذي جعلهم يتناولون المعاني التي يريدون الوصول إليها بسهولة وبدون تكلف واستعمال ألفاظ دخيلة. وإذا ما حاولنا التدقيق أكثر في المباحث اللغوية فسنجد ضمن هذه الأغـاني ما يشفي غليلنا فالاشتقاقات كثيــرة واستعمال المجاز متداول بكثرة فيصبح در الحليب مثلا عطفا من الناقة«اليا عطفن الصفر أحن»، كما يصبح اللون الأسود أزرق...
أما من حيث الصوت فهناك ترديد نفس الحروف التي لها إيقاع صوتي واحد كالسين والصاد أو الحذف كأن تصبح «على» «عل» و«هذا» «ها»:
نـاقة فطوم عالبيــر تحـــوم
حلفت بالصوم مــا تروى اليــوم
تبغي جغمـوم جــلاي همـــوم
يقعـدلك دوم فوق ها المصدوم(25)
ونلاحظ في نفس هذه الأغنية استعمالا لأسلوبي التشخيص والاستعارة أيضا.
إذن تمكن هؤلاء البسطاء الذين لم يحصلوا على زاد معرفي وثقافي ولم يقصدوا مقاعد الدراسة بل دخلوا غمار الحياة مستعيضيـن عن الأساتذة بالتجـارب وعن المقــاعد بالمراعي الشاسعة من الإبداع عندما غنوا غناء في ظاهره إطراء للناقة وحـوار مع الدلو والبئر وفي باطنه إبراز لقدراتهم الذهنية والمعرفية في كل ما يتصل بمتح الماء وحذقهم الكبير في صناعة اللغة وإثرائها. فيصبح توثيق مثل هذه الأنغــام أمرا مهما جدا ضمن دراسة أشمل للهجة المحلية فدراستها لا تهم ميـدان العربية الفصحى ولهجات الشـرق والغرب فقط وإنما حتى الألسنية العامة(26) ويجب ممارسة هذا المخزون التراثي الشفوي للوصول أكثر إلى كنهه الحقيقــي وعدم الاكتفاء بترديد أقــاويل الفصل بين المسموع والمقروء.
ومثلما استطاع العقل البشري وآلته المعاصرة اكتشاف الذهب الأسود في تلك الربـوع، فقد آن الأوان للاهتمام ببقية الكنوز البشرية الحية في هذه المناطق للكشف عن الثروة لديهم قبل أن ننسى البئر وغناه مع جملة ما سننساه برحيلهم.
صور المقال مقدمة من الكاتب
الهوامش
(1) دادي: تطلق على المرأة القريبة، وعادة ما تكون الأخت الكبرى...لزوها: ارسلوها...جاي: أي في اتجاهي...
(2) القامة: تعني امتداد قامة الرجل واقفا وهي نفسها المسافة التي تمتد بين يديه وهما ممتدتان.
(3) الهنشير:هو عادة المكان الخصب لكنه هنا تعرض للجفاف وبقي فقط للطيور تستعمله للراحة عند هجرتها من مكان لآخر.
(4) الرشي: أي الرشا وهي الحبال الخاصة برفع الماء من قاع الماء.
(5) المسوسة:يقصد الأراضي التي تنبت أشجار و نباتات غير مالحة.
(6) الزيتة: من أكثر الشجيرات ملوحة أوراق.
(7) الزوزه: يقصد الجوزاء، ومعناه اذا طلعت الجوزاء في أول الليل فان ذلك معناه بداية موسم العطش وبالتالي ضرورة التهيؤ لسقي الإبل بتحضير المعدات اللازمة.
(8) يسقد: يرحل مع الرعاة...الرباطي: جماعة مترابطة. الما: الماء. تتقلفط وتتهير: تستعد و تتمركز.وردفي كتاب: Boris (G), Documents linguistiques et ethnographiques sur une région du sud Tunisien (Nefzaoua), Imp. Nort de Fr. Paris 1951.p92
(9) الأبكار: الناقة البكر. حرشة وخوار: من صفات الإبل. لوحة: قرب. المسدار: طريق الإبل الذي أحدثته بترددها المستمر على البئر.
(10)قبلي: رياح قبلية حارة. أم شمل: من صفات الناقة.ترفل: تتمايل. زمل: مفردها زملة و تعني كثبان الرمال العالية.ابهل: حل الرباط. لثراته:الواقع. شومة: من صفات الإبل وتعني أنها في بعض الأحيان مصدر شقاء و موت.
(11) روفي: سامحي.شطبت: كويت يدي حتى لا أتألم من تعب الجذب.
(12) يونس (عبد الحميد)، «معجم الفلكلور «مكتبة لبنان، بيروت- ط1 -1983.
(13) تساسيه: أي لو لم تشربي الآن فمن المؤكد أنك فيما بعد ستتذرعين طلبا له.
(14) عفس: داس.
(15) جت قطارير: جاءت جماعات.عنتير: قوي وصلب.عويديد: ضعيف و متهالك.
(16) أتت الرياح الحارة بالنوق فمكثت قرب الماء:يطلب النجاة لها من الأعداء (المزاب :إحدى المناطق الجزائرية) في غيابنا.
(17) هل شربت النوق التي تشبه في لونها لون زهرة الفجل.
(18)لابد من بداية مرحلة جديدة في نهاية الصيف إذا أصبحت الإبل تضعف بسبب قلة الأعشاب.
(19) من صوفك ألبس الجبة و الحولي والبرنس.
(20) بالطيب (محمد الناصر)، «بنقردان بين التاريخ والتراث» المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية تونس سبتمبر 1998 – ص 63.
(21) الإبل تجعل للرجل إسما في عشيرته رغم وضاعة نسبه.
(22) إذا شاهدتها من بعيد فإن البيض(الزغم) تكون أكثر وضوحا،في الزينة (يحفلن) الحجل أجمل، في اللعب السود أمهر، في حمل الأثقال الحمر أشد، في در الحليب الصفراء تعطي اكبر كمية.
(23) وهاقة: خائفة، يخاطب الناقة:لو تخافي نقص الماء فأنا موجود فوق البئر، المي: الماء. يا من تحملين الحبوب الوفيرة و العروس الجميلة(عوم الجيل) إلى البيت.
(24) يا خالي: البئر. جم: اجمع ماءك. الحم: الشاة ذات الرأس الأسود.الجم: ملآن. لسلس- عذم- ينم: أعشاب صحراوية.
(25) جغموم: دلو كبير.دوم: يبقى دائما. المصدوم: البئر.
(26)Boris (G), Documents linguistiques et ethnographiques sur une région du sud Tunisien (Nefzaoua), Imp. Nort de Fr. Paris 1951.p9.