فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
1

الهجرة في الأغنية الشعبية النسوية اليمنية (1) - من الروح المركونة ..إلى الجسد المهشم

العدد 1 - أدب شعبي
الهجرة في الأغنية الشعبية النسوية اليمنية (1) - من الروح المركونة ..إلى الجسد المهشم
كاتبة من اليمن

على قدر ما تعكس الأغنية الشعبية أحوال المجتمع وتحولاته وشروخه وتصدعاته، فانها تكتسي بألوان الحزن والألم والحنين واللوعة ولا تخلو من فرح ونشوة وهيام وغرام على النحو الذي جعل مستوى البوح فيها علامة فارقة ومفارقة لتقاليد مجتمع قبلي رعوي محافظ وتخلخلها بعنفوان حاد لم يقيض لغيرها من أشكال التعبير الشعبي ، التي لم تستطع استنطاق المكبوت واقتحام الممنوع والمحرم خاصة في الحقب المصاحبة لزحف ثقافة البترو- دولار وقيمها المؤزرة بمشايخ الوعظ والإفتاء والأحزمة والبراقع السوداء.

اغتصاب الرزق لا يختلف عن اغتصاب الأرض بالنسبة للمحتل..

ولذا كنت الهجرة اليمنية ملاذا من ظروف قهرية: العزلة والظروف الاقتصادية والسياسية للكثير من فئات المجتمع الرجال- بكافة أعمارهم خصوصا الشباب، في الوقت نفسه اعتورت واجترحت النصف الثاني (المرأة) حيث أوكلت لها، وهي في عمر الزهور وشرخ الصبا، أمانة مركبة من: أرض وجبال، وحيوانات، وتنمية العائلة الممتدة. هذه العهدة والتركة القاصفة تحملهتا بـ "دحن" طري (2) كما تقول التعابير الشعبية.

لم تكن هذه الأمانة سوى الأعمال الشاقة المؤبدة والموت المجاني والعمر المهدور في الطرقات والجبال والبيت.. لذا كانت الأغاني البديل، التعويض المقاوم للموت والفناء:

حلفت لا غني بطول صوتي(3)

لو يحكم الحاكم بقطع رأسي

لحظة الغناء تمثل علامة فارقة في حياة المرأة، فهي لحظة الإتحاد بالعرق الحي، بالنبض الجمعي للنساء، بالحياة ضد الموت والخراب وآلة الإهلاك التي لا تهمد ولا تخمد:" ان رمزية الألحان، مثل رمزية الألوان تعبر عن ارتداء نحو التطلعات الأكثر بدائية للنفس، ولكنها تشكل أيضا وسيلة للتخلص من الحتمية الزمنية ومحاولة للتعايش مع الزمن من خلال تلطيفه"(4).

هي مساحة من السرقة والإلتياذ بالخيال لنثر بقعة ندية سرعان ما تجف، فمن دلالة (الصلاب) - وهو ما توصف به الأرض المهجورة الغير حية - عزقتها المرأة وسكبت فيها من روحها أمطارا كثيرة، ونفثت أيضا من روحها شمسا، وضوءا، بل وشاركت في عملية النتح، والبناء الضوئي.. الخ.

أخضرت الأرض برغم اليباب الذي يحاصر الحياة من كل اتجاه، لكن مساحة الصلاب في وجدانها كان يتحجر يوما عن يوم، خصوصا عندما ترى بدنها يجف (صلاب) وتغضنات روحها تتكسر، ولا من قطرة ندى تهب من ديار المهجر التي ذهب إليها شريكها وهي في مقتبل شبابها (خيرة شبابها):

هجرتني ماهجرواالجنابي(5)

سيبتني وأني خيار صرابي

دخل العظم اللين الطري (الزوجة) إلى بيت جديد لا تعرف منه سوى زوجها الذي ستتزوجه لمدة أسبوع أسبوعين بالكثير ليتركها إلى بلاد المهجر بعد أن يترك لها بذرة في أحشائها، يهجرها بعد ذلك لعقد، عقدين من الزمن، بل تحكي الحكايات الحية أن الهجرة قد تطول إلى أخر العمر. حيث يذهبون وهم في شرخ الشباب ولا يرجعون إلا ليستقبلهم الأحفاد، والزوجة التي تركها في الخامسة عشرة من عمرها قد صارت جدة تلتصق صباحاتها ومساءاتها في نافذة كانت موصدة في خيرة شبابها، ومواربة عندما صارت حطاما ونسيا منسيا (فالعادات القبلية تحرم على المرأة لبس الملابس الجديدة أو الزينة في غيبة زوجها، وأحيانا حتى الاختلاط مع الناس).

المنفى لم يكن منفى للرجل اليمني فحسب، بل وكان منفى أقسى وأظلم وأكثر وحشة ووحشية بالنسبةللمرأة اليمنية:

يكفي حنين كم قد بكيت وحنيت

رقيت قلبي بالنبال وأنيت

ولذا عشت المرأة المنفى على مستوى روحها وجسدها.. وعاشت الحالة الاغترابية المركبة المهشمة للروح والجسد بل وحولتها إلى كائن مركب بوجدان ونفسية وذهنية مركبة، وجسد هزيل مركب أيضا.. امرأة ورجل في الوقت نفسه، امرأة داخل نساءات كثيرة، ونساء ورجالات كثر داخل شخصية واحدة .. هذه هي المرأة اليمنية التي كانت قابعة في الجبال الموحشة والطرقات البعيدة، والبيت البارد.

خصوصية الأغنية النسوية

لا تختلف الأغنية النسوية اليمنية عن بقية الأغاني النسوية في العالم فهي غالبا ما تكون فردية ومجهولة المؤلف، وهي عبارة عن تنفيس من قيود الواقع الاجتماعي والثقافي.

المرأة اليمنية القابعة في الجبال وداخل أسوار المدن العتيقة، هي التي أوجدت النص، وأوجدت الألحان المناسبة له، فالأغاني الخاصة بها التي تحمل الهم النفسي والحياتي هي من صنعتها. وتختلف التسميات التي يطلق عليها من منطقة إلى أخرى تطلق عليها: ملالة /زامل/ أهزوجة، وأحيانا كثيرة تشترك عدة نساء في أغنية معينة (بدع، وقرار) وأحيانا بيتا ببيت، لكن الأغنية الفردية هي الأكثر فرضا.

وتعشق النساء المرأة ذات الصوت الجميل الذي يحمل مساحة أكبر من الشجن الذي يصل إلى حد الحزن والبكاء، بحيث يحمل شحنات نفسية تتناسب مع حجم فجيعة الهجر، والإقصاء، والتشيؤ.. والمتعارف أن هناك نسبة من الجمال تكسو صوت النساء.. لكن أغاني الحزن والتنفيس تستطيع أية امرأة تأديتها، لأنها تنفيس يومي يرافق تحركات المرأة في أي عمل، خصوصا: أغاني الطحين (الرحى) "لبثت النساء يغنين وهن يدرن الرحى وينشجن بأصوات جنائزية" (6):

حلفت لاغني وأشل بالصوت

اسلي على قلبي لوما يجي الموت(7)

الوظيفة الاجتماعية والثقافية

تتكون الأغنية النسوية من مجمو عة أبيات تنتظمها إيقاعات بسيطةسهلة المعاني، تعكس الهم المباشر للحياة اليومية، في اغلب الأحيان، وتكون عادة مجهولة المؤلف ومتداولة بين الناس ويغلب عليها، أيضا أغاني العمل، فلهم النفسي يتجسم في أغاني العمل: أ غاني الرحى (الطحين) الغزل، نزع الماء، تربية الحيوانات، أغاني المهد، والأعراس.. الخ.

كانت الأغنية النسوية اليمنيةمطلباوجودياوضرورة حياتية تضفي على الحياة معناها.. فالفضفضة في حياة المرأة اليمنية تمثل مطلبا وجوديا لا يقل عن أية ضرورة من ضرورات الحياة، وكانت أنذاك تشكل جزءا من المقاومة في وجه العدم انعدام الجدوى والعنف والقسوة والتعذيب اليومي الذي يصل إلى حد التقتيل الجسدي والمعنوي اليومي " أن تغني يعني أنها تستخدم صوت الروح ، يعني إنها تبث الحقيقة في قوتها واحتياجها ، تبعث الروح في الجسم المعتل أو في الجزء الذي تحتاج إلى استرجاعه" (8).

قلبي ملان وداخله زنينة(9)

لو يفتجر ليملى المدينة

شليت نهدة زعزعت وزاعت

شلت من الروح وقرها وسابت (10)

لا تنقدوني ليش وجهي أسود

هذا وجهي ، أما القليب قد أدود(11)

قلبي ملان يا أمه ولا يبين

مثل الجمل يعصر ولايعين

شليت نهده والتوت قفا البب

لو هي حجر لا يعمر بها الدار(12)

 

دور الهجرة في انفجار المغنى – المعنى

نقش الهجرة .. مابين غربة واغتراب: تعددت تعريفات الهجرة في العديد من القواميس، فلسان العرب يذكر أن هجرة بمعنى " الخروج من أرض إلى أرض.. وسمى المهاجرون مهاجرين لأنهم تركوا ديارهم ومساكنهم التي نشؤوا بها، ولحقوا بدار ليس لهم بها أهل ولا مال، حين هاجروا إلى المدينة، فكل من فارق بلدا من بدوي أو حضري أو سكن بلدا أخرا فهو مهاجر (13) ولا تكاد لفظة هجرة تذكر إلا وتستدعي فورها ذكر اليمن بدلالة أنها أول أمة عرفت الهجرة وهاجرت في كل أنحاء العالم، تفرق (أيدي سبأ) .. ويقال أن هجرة اليمنيين ترجع إلى حدث انهدام سد مأرب وتفرق اليمينين في كافة أرجاء الكون، ذلك ما استقر في الذهنية الشعبية والذاكرة الجمعية في بطون المدونات والسرديات ..الخ ذلك كان العامل التاريخي الذي تذكره العديد من الكتب والمراجع.

والى جانب العامل التاريخي هنالك العديد من العوامل، لعل أبرزها العامل الاقتصادي، الذي يعد واحدا من الدوافع الرئيسية للهجرة، بسبب العديد من المجاعات التي تعرضت لها اليمن وكانت متلازمة مع موجة القحط والجفاف (كانت في بداية القرن المنصرم) لدرجة أن الحاكم آنذاك (الإمام) اصدر قولا كان بمثابة فتوى تقول: " من مات فهو شهيد ومن عاش فهو عتيق" (14).

وكلن للعامل السيسي الأثر الكبير أيضا للهجرة، فقد دخلت البلاد على مدى تاريخهافي العديد من الحروب والاقتتال الداخلي مابين الصراعات بين الأئمة الذين تنازعوا حكم البلاد وتعاقبوا عليه أكثر من ألف عام، ناهيكم عن الثارات والنزاعات الداخلية من حروب القبائل فيما بينها.. الخ.

لكن الهجرة الحديثة - إذا صحت هذه التسمية التي بدأت مع مجيء الاحتلال البريطاني لعدن 1839 وأصبح ميناء عدن يحتل أهمية عالمية.

في غياب الرجل والهروب من جملة الظروف الاقتصادية وظروف العزلة القاتلة وهروبا من الكيد والنزاعات السياسية، إذ كان لا يترك لليمني: " احد خيارين إما الموت جوعا، وإما التحرك والبحث عن مصدر العيش بأية وسيلة وعلى أية أرض"(15).

والله لا اسرح بلاد وما اعرف

القهر والباطل اللي يكلف

في أتون هذه الهجرة القسرية التي جعلت اليمني إما مهاجرا أو مهاجرا داخل وطنه، ومغتربا عنه أيضا، كان الحضور المتجلي للمرأة، فقد كانت بمثابة الأب والأم والسخرة / أكانت في المنزل، أم في الأرض، الراعية الحطابة.. الخ.

فقد صارت المتعهدة لرعاية البيت والحفاظ على الممتلكات وعلى حفظ النسل وتأمين صيرورة استمرار العائلة. فقد كانت الهجرة انتقائية بحسب تعبير د/ وهيبة فارع بقولها:" شكلت الهجرة اليمنية ظاهرة انتقائية من حيث النوع /العمر فهناك نسبة 98% من المهاجرين الريفيين من الذكور، الأمر الذي يؤثر في نسبة الجنس داخل اليمن، تتراوح أعمارهم بين (44-15) سنة وهي مرحلة الشباب القادر على العمل والإنتاج هذا الاختلال أفرز كما تقول: 79% من المهاجرين المتزوجين أي حوالي 11إلى 13% من المهاجرين، و94% تقريبا هاجروا بدون أسرهم "(16)

لك الحريق يادكة الخواجة

كم من شباب داخلك بلا زواجة(17)

تركت المرأة اليمنية نفسها وروحها وعقلها وغرائزها جانبا لتشغل فراغ غياب الرجل، ولتنسج من الغياب حضورا للأخرين، لكنه كان غيابا وفقدا لها، تغييبا لتفاصيل حياتها الجسدية والنفسية وحضورا يعادل الحياة، أو ما تبقى من شيوخ، وأطفال، وأرض صلاب ترويها من حجب وغياب تفاصيل حياتها:

دنيا غرور شلوا مشلة الأول

شلوا طمير بيض وسيبوا الدور (18)

وابدع باللى لم السحاب وجمع(49)

بين أسألك ياللي بتعلم الغيب

فزج على قلبي التواني الشيب

كانت الحارس والجندي المجهول لكنها في بعض الأحايين، وخصوصا في المساءات تسترق لحظة استنشاق نفس يحترق شوق حبيب مفارق .. ممارسة الحب مع الظل والوهم (المتعة السرية) وطيف يوم الزفاف ولحظاته الكثيفة التي تساوي العمر كله.

في المقابل يعيش الرجل في غربته حنينا إلى القرية يحن لكثير من التفاصيل لكنه لا يحن إلى زوجته كونه قد رحل عنها، وكون حياة جديدة في عالم الغربة والاغتراب فقد توغل في عالم التجارة والاستقرار مع عائلة جديدة أجنبية صومالية، زنجبارية، افريقية، أسيوية، أوربية، عربية... الخ

فلتني واليوم تقل لي أنساك(20)

ياغارة الله ما أعيبك وما قساك

يا مرة القهوة والبن محوج

لما اعلموني إن الحبيب تزوج

هجرتني ما فائده لهجري

والله ما تبريك حجار قبري (21)

في مقابل اتساع مساحة الغياب.. مساحة الفجيعة والإحساس بالتشيؤ الروحي والنفسي والجسدي للمرأة اليمنية، برزت العديد من التعرجات، تحاول هذه الورقة المتواضعة مقاربتها بصورة أولية - مع ملاحظة أن هذا الشأن لم يطرق في وقت سابق، كما لم يخضع للدراسة والتحليل التاريخي أو الأنثربولوجي أو المعرفي..الخ.

الروح المركونة

خلقت الهجرة من المرأة كائنا ينطوي على كينونات مختلفة، تتفرع عن ثنائية الأنا / والأنت، الحبيب والحبيبة، تلك هي محمولات معظم الأغاني النسوية، المتصلة بموضوع الهجرة:

لو تبسروا ماقلت له وقال لي(22)

قد قلت له بعد الفراق من لي

 

والى جانب هذه الثنائية ثمة كينونات جامعة تتبدى في ثلاثية التشظي: الأنا /الأنت / الهم:

 

ما شتيش أنا" الهجرة "و لا أشتي البن (23)

أشتي حبيب قلبي جعل لكم جن

يا مسلمين مشتيش حبيب غمة

أشتي حبيب لا عاد أبوه ولا أمه(24)

هكذا تطالعناروح المرأة المتشظية منذ ولادتها وحتى مماتها، وهي تحوم حول من جعلها روحا متشظية، منفصمة بين صراع روح وجسد.. اليست هي الثقافة؟

وإذا كانت توجه سهام اللوم والعتب على الحبيب المهاجر وأهله وذويه، فأنها في الوقت نفسه، تحمل أباها مسؤولية مايحدث لمصيرها المنكودفتقول:

أبه.. أبه للمة سخيت وقفيت

خليتني ساع الحجر قفا البيت (25)

بانتقالها إلى بيت الزوجية ضمن أسرة ممتدة، تضيع الطفلة الصغيرة بين الأجساد اليابسة، والأفواه المفتوحة التي يجب أن تعمل لأجل تسمينها ولجم أفواهها بالأكل، وبالسكوت والرضا.. تتحمل أكثر الظلم عدا تركها حماها وحماتها.

كنت عند امي حبة زبيبة

واليوم عند الناس مثل الغريبة

حنيت ماحن الجمل محمل

ميت روحي ملحدا تجمل

إنها المرأة القاتلة لنفسها في الأرض والبيت والأولاد، لا تعرف الجمالة والعرفان من احد، كونها القفا والحجر في الأماكن المقصية.

بانتقالها إلى بيت الزوجية ترزح المرأة / الزوجة تحت ظلمين: ظلم تزويجها ورميها داخل بيت جديد في ذات الوقت، بين ظهراني أسرة غريبة، وظلم أخر من أب غير مسؤول: سخى وقفا، وجعلها حجرا خلف البيت، وفي أغنية أخرى قاع البيت، تدوسها الأقدام..

 تعلو نبرة سخطها الغنائي بصرخة هذه اللامبالاة من قبل الأب الذي رماها منفذا الحكمة الشعبية (من زوج زلج) (26) وكأنها عبء في بيت الأب، فيزوجها ليخلي مسؤوليته، وبذا يتخلص من عار مفتوح، لا يغلق إلا بزوج أيا كان.

لقد حول الأب ابنته إلى شيء /حجر / وحجر مركون خلف البيت /قفا، أو قاعة البيت، حيث تقيم في الهامش /القفا المعتم، وتتألف مع الأشياء التي مثلها من خردوات، وأحيانا قفا البيت يكون مكانا لتصريف مخرجات الإنسان.

خلف البيت تكون الأشياء أيضا عرضة لشتى عوامل التعرية من غبار وأتربة، وشمس، ومطر عثيات وديدان وعناكب، ويكون مقلبا للنفايات ورمي القاذورات والفضلات.

وهي كأنها تصف حالتها بأنها كل هذه الأشياء القميئة والمرذولةويصل بها إلى التشيؤ عندما تتمنى بأن تمسخ إلى حجر في مهب السيل - مدرب - وفي حوض السائلة- مصب مياه الأمطار والسيول، وبهذا المنحى تغني قائلة:

ياريت والله ما خلق لي روح

إلا حجر من السائلة مطروح(27)

ياريتني وردة بمدرب السيل

لا حد يقل لي شرق ولا ليل(28)

السائلة ذلك المكان الذي تتجمع فيه السيول من كل حدب وصوب فلا تسأل السائلة عن هوية الأمطار، أو من أين أتت ؟ من جبل، من واد، أو غيره .. السائلة الحاضنة لكل مياه الأمطار أيا كان منبعها. تجرف للسائلة كل ماتلاقيه من أشياء أحجارا وأشجارا وحيوانات، وبشرا أيضا في حالة الأمطار الغزيرة، وكأنها بمثابة الأم الحاضنة حيث تقول لكل ما تقابله أمامها فتجرفها: أن ملكم السائلة، حيث تتنفسون شمسا وحرية.

تتمنى المرأة أن تكون احد أحجار هذه السائلة، فعندما تنشف المياه تبقى الأحجار مثبتة بالتراب الذي أتى مع السيول.. هي تتعشق أن تكون إحدى أحجار السائلة متروكة هناك لا أحد يسالها ، ولا تحس بما يحدث دلالة على أن المرأة من شدة الظيم تتمنى أن تتحول إلى حجر متروك تحيطه السيول من كل مكان، تنغمس في الطبيعة حتى لو كانت محملة بالكوارث، فمدرب السيل /والسائلةسيقويان عظامها المنهكة والهشة: " يبقى الحجر دائما ذاته، لا يتغير أبدا، وهو يضرب الإنسان لأن له من قوة عدم الكسروالإطلاقية" (29).

والبيت الآخر يحمل نفس دلالة الحجر، لكنه هنا يحمل معنى التحول للوردة، في مدرب السيل لا أحد يسألها عن هويتها، ولا تعيش تحت سقف زمن، بلا زمن، ومكان واحد. مدرب السيل الذي لا يسأل عن هوية من فيه.

تكرار السائلة بأحجارها - مدرب السائلة بوردها دلالة على الجفاف الظما النفسي والجوع الروحي فالسيول الآتية من كل مكان دلالة الارتواء بحرية دون السؤال عن الحجرة /أو الوردة.. في الأغنيتين نتبين أن العيش مع الطبيعة بل والتحول إلى موجودات الطبيعة هي الحرية، لأن موجوداتها هي الوحيدة التي تعيش وتنعم بالحرية .. بل وكما يتفق الياد مع هيجل في القول " إن الإنسان البدائي مغلف بالطبيعة وبانه لم يوجد بعد بصفته متميزا من الطبيعة، بصفته ذاته" (30).وترمي المرأة بحكمة، مما خبرته في الحياة حيث تقول للسائلة:

ياسائلة ياللي ملانش أشلاف

هي هكذا الدنيا محزمة خلف (31)

دلالة التعاكس، والنظرة السوداوية، المأسوية تصل حد العدمية، فمهما عملت، وعشت، فلا جدوى، لأن الدنيا أصلا محزمة خلف، والمعروف أن التحزم، وعرض جوهرة الحزام كالجنبية مثلا أو غيره يكون بالأمام.

هي نفسها تغني، تتمنى التوحد والرحيل والترحال من عالم إلى عالم أخر من غير التزامات دنيوية:

خلوني أسرح لي دنيا دنية(32)

لا ولد يشغلني ولا بنية

أشتي سلا قلبي ما شاش كرابه

شسكن بحيد وشاكل من ترابه(33)

التمنى بموجودات الطبيعة كان نتيجة للأسباب التي ذكرت في مجمل الأغاني (قفا البيت، الدنيا محزمة خلف، الاغتراب داخل الأسرة الممتدة .. الخ) هي نفس الأسباب التي جعلتها تحن حنين الجمال من شدة الأثقال والأسفار والأهوال دون عرفان أحد .. ولغة الحن تعبيرا قويا لما تختزنه المرأة من طقت العذاب بهجر الزوج ، وبجملة الأعمال الشاقة: " ترجيع الناقة صوتها اثر ولدها" (34).

الهجرة: الجسد المهشم

ولما كانت هذه المرأة بدلالة أغاني أنينها وحنينها محكومة بالإقصاء والأشغال الشاقة المؤبدة فأنها، وعندما يدلهم الليل وتطلق تباريح الروح وتفتح النوافذ لتتنفس الغرائز، تنسل، تسيح، تخرج، نائحة، مفجوعة متصدعة تائهة، سرعان ما تكتم، فلسوف ينجلي الليل ويصيح الديك مؤذنا: وقتها يحين تشغيل الطاحونةوالطاحونات.. إنهن النساء ينتعشن في الليل خلسة مثل جنيات "الكأس الذهبية " قائلات :" إن مملكتنا تنتعش وتزهر حين يمتد الليل فوق البشر .. إن نهاركم هوليلنا "(35).

هجرتني ما هجروا البنادق

سيبتني وأني صغير نافق (36)

يبدو أن هذا المثل خارج من بطن القبيلة التي تعد البنالق، والجنابي سمة الرجولة والفحولة، ذلك عندما يهجر الرجل بندقيته يصبح رجلا ناقصا .. وهي كذلك تشبه نفسها بالبندقية التي يهجرهاحبيبها، ليمنعها من أداء وظيفتها، وما دامت كذلك. كيف يتركها وهي في عز عطائها..

كلي ظما من حين هجرت ووليت

لا عد تظللت ولا تسقيت(37)

ارجع ويلعن الذي تمنيت

" اليبوسة الروحية" توجت هنا في هجر الحبيب، وجملة الأماني التي جعلته يذهب (يولي)، لا تريدها فقد اعتلاها الجفاف منذ أن هاجر وتركها، فهي مثل نبتة كفيفة من النضارة والخضرة بفعل الجفاف وهجير الشموس والقيظ من غير ماء ولا سقيا.

وهي تشكو التصحر ولا تنسى استدعاء ما يقابله من: الظلال والماء، أي الحياة وكل تلك الأشياء لن تتأتى إلا بعودة الحبيب.

في هذه الأغنية حوت الكلمات المتصحرة (لا عد تظللت / لا تسقيت /ظما) كلها تحمل دلالة الإهلاك.

وهذه أغنية - ربما تكون لشاعر معلوم - تبين معاناة الجسد المكظوم، جسد العتمات، الجسد المكعوم بالنار تحت الرماد:

حالي كل يوم للمزيد

وانت بالغربة وحيد

لا، منتش وحيد

رد، مانيش حديد (38)

الجسد المتهشم.. افرز معاني انحدار الحياة تحت مستويات الظلم، أنين وضيم، يكبت الجسد المتهشم ويعتمه، لكنه يحضر بقوة المعنى، يستحضر قوته الجلية المتسيدة لتفاصيل الجسد وللتعبير عن مكامنها العضوية التي طالما منعت من حقها في التعبير ولكنها انطلقت بكامل جرأتها الشقية تصرخ بأغان حسية جائعة ونهمة، حتى لممارستها في الوهم وأحلام اليقظة.. إذا استطاعت في لجة عنف الأعمل أن تسترقها، حتى لو كانت (متعة سرية)

ياليتني على البنان خاتم

ولا على صدرك يلقم ويلزم(39)

سنك ذهب ومبسمك حلاوة

يامن شرب من مبسمك تداوى

شدعي عليك وشملي البياضة(40)

روحي وروحك يلعبين رياضة

والله لا تصيدك لي صيد

واحل بك في جرف عالي الحيد(41)

بالله عليك يا شمس لا تغيبي

عاد الحبيب عاطش ماقد رويني(42)

أمسيت ساهرة والحبيب قبالي

ياليتني فوق الحبيب آلي(43)

أفرزت الهجرة أغان ترمم الجسد المهشم والمهمش بأغان تتفقد مطلب المرأة جسديا، حيث تتنفس الغرائز بالأغاني والمعاني الحسية أكان الفقدان ألحبيب المهاجر في أطراف العالم، ام الغياب أيضا في حضرة زوج عجوز (شيبة).

وتعد ظاهرة زواج الفتيات اليمنيات من عجائز هي أخطر المشاكل التي أنتجتها ه، حيث عصفت الهجرة بالشباب، واختلال الجنس قلة عدد الذكور في مقابل الطفح الهجر السكاني للإناث، مما أضطر إلى تزويج الفتيات بالشيوخ، ويكن من عمر الأحفاد، لذا تحفل الذاكرة الغنائية بصور (الاغتصاب الشرعي) بمئات الأغاني التي تكشف ما كابدته المر أة من تقتيل وتنكيل جسدي متوحش، وأغلب الأغاني تصرخ بنبرة متمردة (ما شتيش ):

مشتيش أني العجوز من العصر بردان

أشتي شباب يهز لي الأعدان (44)

مشتيش أني الشيبة عديم الأضراس

ذي لا تقعم مثل جرف "مرداس"(45)

يالله بطائرة تمشي بهبة

وتشل لا عد عجوز وشيبة

الهجرة: زمن منفلت. زمن مسروق

الأغنية الشعبية النسوية مثلما حاكت المكان، ودعت عليه دعوة محروقة - سنأتي على ذكره - دعت على الزمن الذي سلب منها كل شيء ابتداء من الحبيب الذي تركها وهي في ريعان الصبا "خيار" شبابها، مرورا بقوة الزمن الموحش على تأكل تفاصيل حياتها، حتى أفولهامابين انتظار حبيب يرجع ولا يرجع أو زمن يرجع، لكن بعد فوات الأوان، إنه زمن أسود حسب تعبير مرسيليا الياد " الزمن أسود لأنه دون منطق ورحمة" (46).

واني أسألك ياشمس لا تغيبي

زيدي قليل حينه يصل حبيبي (47)

شدة الانتظار، غدت تتوسل للشمس بأن تقف ضد طبيعتها، وان لا تستعجل المغيب تنتظر قليلا فربما يصل الحبيب إذا ما استجابت الشمس لرجاء عاشقة مفارقة عمرها يتفرق بين لجة الانتظار والحرمان.

ومن خلال الأغاني يمكن التعرف على خارطة الزمن الوعر الذي ترزح فيه انتظارا ولهفة. نعرف مدى الأوقات والشهور والسنيين التي جعلت المرأة في العراء منذ أن هجرها الحبيب، وهي في "خيار صرابها"- أي لحظة الحصاد وبزغة الثمرة- الزمن الحسي الذي يقدر بالسنين، والزمن النفسي الذي يطول ولا يصل، أي أنه زمن لا متناه الإحساس بالزمن هو الإحساس بالجوع الزمني الذي لا يشبع: "إنها فكرة رائعة أن تحسب المرأة عمرها، ليس بالسنوات، بل بالندوب الباقية من المعركة" (48).

أديت لك روحي وقلت لك حر

واليوم يالغائب لك سنين وأشهر (49)

لم تحدد المرأة هنا كم عد السنين. عقد من الزمن، عقدان، خمسة، وكم عدد الأشهر. تختلط السنون بالشهور، بالأيام، تتداخل الأزمنة في لهج الانتظار، والندوب وخوار الأماني.

في هذه الأغنية تترجح المرأة كثيرا وطويلا وعلى طول في أغلب الأحوال- تذكر الحبيب بأنها أعطته روحها ، وجسدها مثل الأرض المطروحة ، وتعطيه الإنن بأن يحرها استعارة من قاموس الفلاحة تشير إلى تسوية الأرض وعزقها قبل زراعتها- حيث تشير الأغنية لدلالة الحرية التي منحته إياها في العمل أي يحرث ، يعزق ، يزرع، يقلع، يحصد ، كل عملية الفلاحة ابتداء من الأرض وتسويتها، حتى جني الثمرة (الحصاد) هبة للحبيب .. وكأنها تنتظر من هذا الحرور، والعمل الشاق في الأرض المطروحة (الروح) الحصاد المبشر بالثمر /يالخير ، لكن المعاكسة ، كون الدنيا محزمة خلف ، عمياء لا تقدر ، فمزيد من العطاء والبذل بلا حدود ، مزيد من النكران والجحود بلا حدود .

وفيما تترنح في هذا الخضم المتلاطم بالأنواء فإنها تقبع في عين العاصفة وعلى حافر خط اقتلاع الرياح الآتية والتي تملا القلاقل (...) وهي لا تكف عن الانتظار أناء الليل وأطراف النهار وفي كل حين، ولا تتوقف عن فتح الباب وإغلاقه ومواربات النوافذ وإغلاقها، وما بين الفتح والإغلاق تذبل زهرة شبابها ويتسرب العمر لتذروه الرياح.

الريح ضرب ملا الطريق قلاقل(50)

واني على الطاقة أفتح واقفل

الزمن اللانهائي، المنفلت من عقال الحد والتحديد، إنه زمن اللا زمن، زمن سديمي أسطوري، وكان يا ما كان، أو زمن من " زارقة "لا تستطيع أن تقبضه.. يدخل من النوافذ والشقوق، يتسرب لكن لا تستطيع احتجازه بقبضة يد أو حتى غمضة عين.

طول الزمان معاد لقيت فهنة(51)

كم جهدنا نصبر ولحينه؟

زمن متعين:

شن المطر ودمع عيني أغزر(52)

بارق خطر ودمع عيني اخطر

مر الزمان عشرين سنة وأكثر

قلبي على الخل كم تصبر

ضاع الشباب واني بحبك أفقر

يا حسرتي والناس مني تسخر

في هذه الأغاني تتجلى صورة المكابدة والمعاناة وهي في ذروة الحرقة الموزعة في مسارب الطبيعة وعلى مشارق اندفاعاتها، إن كلن مطرا فدمعها أغزر، وكذلك الحل إن كان سيلا، وإذا ما لاح التماع بارق فدمع عينها أخطر.

في بيت واحد تكرر مرتين دمع عيني، وتكرر أخطر مرتين. فأغزر- أخطر، أكثر، أفقر دلالة التفضيل.

الزمن تحدد بعشرين سنة وأكثر، والصبر يتحدد إذا كان ثمة أمل يلوح في الأفق ثمة عودة، أو ثمة شباب مازال يلوح في جبهة نظرة خالية من التجاعيد.. لكن العشرين سنة، والأشهر أكلت شبابها وهي تنتظر لأنه مربوط بأمل معقود على العودة، أمام هذا الزمن المفجع، لا تستطيع الصبر، وهي الفقيرة الحب الكثيرة الصبر، الأكثر حسرة على زمن ولى، وأشياء كثيرة ولت، إذا لا بد من دمع أغزر من السيول لتتوازن الحياة المتسرمدة بالأنين: " العلاقة بين الماء والدمع تتوطد من خلال صفة حميمية تجعل كل منهما مادة اليس، ففي إطار الحزن الذي تمثل الدموع علامته الفيزيزاوجية، تغرق في تخيل انهار ومستنقعات الجحيم "(52).

ياحباب ياحباب لا جاكم مطر في الليل

لاتحسبوه مطر هو دمع عيني سيل (53)

 

أربع سنين والخامسة شتغلق (54)

قلبي على المحبوب يحن مشوق

 

هذه أغنية توضح الزمن داخل الهجرة الداخلية في المدن ..

روح لي الزنة يحسبني شفرح(55)

يوم الخميس روح والجمعة شيسرح

خلي يودعني عيسير غدوة

جعلت ياغدوة مطر وهجوة(56)

الهجرة المكان المغتصب

مثلما كانت الأنا متشظية، والزمن زمنين، بل أزمنة لا تضبط بالمواقيت وكانت الهجرة إلى أماكن داخلية وخارجية كأوربا، أمريكا، وعربية دول الخليج وفي المقابل مدن داخلية أي هجرة داخلية – عنن/ صنعاء/ تعز/حضرموت، فقد صار لافتا أن هذه الأغنية نقشت بذاكرة تلك البلدان والأمكنة القصية والغامضة، المغوية (البحر - بلاد الغدرة) المتهمة بالقوى الشريرة والعمياء التي تختطف الحبيب عادة.

ذاكرة المكان تحمل العديد من اللحظات النفسية المشحونة تجاه المكان الغاصب، والحميمي في آن معا. غاصب لأنه سلب الحبيب منها، وحميمي، ن الحبيب يسكن فيه.

عدن: مفترق الطرق

من عدن وعبر عدن، و(ياريت عدن مسير ليل/ يوم) هكذا تقول الأغنية الشعبية المعروفة التي تحول مبتداها تعبيرا شعبيا.

كانت لعنة الهجرة وأيقونتها في تاريخ اليمنيين المعاصر المرتبط بزمن الاستعمار البريطاني، وفي البدء كانت عدن غواية الهجرة ومركز جاذبيتها، ثم صار محطة التصدير الكبرى لهجرة اليمنيين إلى شتى بقاع الأرض، وخاصة إلى بريطانيا ودول الكومنولث والى دول شرق أفريقيا وشرق أسيا ..الخ " إذ لم تكن عدن محطة مرور للمهاجرين اليمنيين إلى الخارج بقدر ما شكلت مدينة حاضنة لآلاف النازحين من ريف اليمن شمالا وجنوب"(57).

كما كانت "عدن" العالم المتخيل الذي يتخيله المغترب اليمني أنه سيرجع إليه محملا بجنات "عدن".

وكانت عدن اللعنة كونها ملتقى الشباب المهاجرين إلى أنحاء العالم خصوصا أولنك الذين يشتغلون بالبحر، لذا حمل البحر الكثير من الشجن والكثير من الكره والخوف منه، ولا يقل توحشا عن والثبور:

عدن عدن داخل عدن جيبوتي

يامن دخلك مسلم خرج يهودي

توضح الأغنية أن اليمنيين كانوا أيضا مهاجرين داخل جيبوتي، ومدخل جبوتي عدن:

نزل عدن يشقى على كروشه

قله يرد يلعن أبو قروشه(58)

من شل رديفه وولى(59)

لك الحريق يادكة المعلا

ياليتني حمال والخل مسافر

شنزل عدن واطوف كل البناجل(60)

عدن عدن يا ريتها قريبة

شرسل لخلي مكتوب وسط الجريدة

يالخضري أخضر من أين أجي لك

فرضة عدن والبحر ملتوي لك(61)

لك الحريق يا دكة الخواجة

كم من شباب داخلك بلا زوجة

الحبشة وبلدان أخرى

شكلت الحبشة أثيوبي حجر الزاوية في منطقة القرن الإفريقي لعدد من ابرز رجالات اليمن المهاجرين إليها، ولعل روايات الأستاذ القاص والراحل محمد عبد الولي خير ما يفصح عن ذلك حفلت العديد من القصص بعودة المغترب وهو في النزع الأخير من الموت ليقبر فقطفي قريته بين أهله ونويه، وحتى يموت ميتة حسنة يطلب المسامحة والغفران من زوجته التي تركها ، وهي في شرخ الصبا ، ولم يرها إلا وهو على فراش الموت، سجل هذه الأحداث المأسوية القاص الكبير الراحل محمد عبد الولي في كثير من قصصه وروايات ولعل أشهرها (يموتون غرباء). كما يشهد بأن موسم الرواية اليمنية الحديثة لم يدشن إلا بموضوع الهجرة التي استثمرت السرديات الشعبية واستفادت من وجع ولوعة الأغنية الشعبية النسوية حينماكان موضوعها الرئيسي والعريض هو الهجرة ، وكانت الحبشة في مرماها:

واحبشة لك بحر تغرقي به

كيف تفرقي المحبوب من حبيبه

بالله عليك ياطير ي""مقبع" (62)

خذ لي مئة حبة إلى "مصوع"

سنجد في ثنيات الغناء الدعاء بالويل والثبور بطريقتين تستمطران الموت على الحبشة، أو كان مايطلق على البلدان (بلاد الغدرة) الموت اختناقا وعادة الغرق والحريق في مقدمات مثل هكذا موت. وربما لأن المهاجرين يمخرون عباب البحر، والبحر كما يقولون:" هو المبتلع الأقدم والأعظم" (63) وكان السفر عبر المراكب والسفن، ثم البلدان التي يقصدها المهاجرون كانت تقع في البحار، فقد كلن العقاب الموت غرقا، أو ارتطام السفن بالصخور ممايجعلهاتحترق وتغرق.. وربما كان الانتحار أنذاك، وخصوصا النساء اللواتي ذهبنا غرقا وحرقا، طريقة انتحار غير معلن لوضع حد للحياة المسوية، كما سجلته العديد من السواقي والآبار في اليمن، وحملت إلينا مئات الحوادث في الريف كمافي المدن الموت بهذين العقابين. الميلاد، والعيش اختناقا يؤدي إلى الموت بنفس الطريقة، ومن نفس الكأس.

شاجي معك لو ما تزل "بلجل"(64)

وابكي عليك لوما أملى المواجل

هبو" الرياض" واكتبوا "لنجران"

ياويل من سيب حبيبو حنقان (65)

ياطائرة طيري الى "مريكن"

واستعلمي اين جاء الحبيب وين كان(66)

ياهل "الرياض" مكنوا بقليل قشر (67)

نسائكم مثل الدواب بالعرش

بالله عليك ياميكرفون "جدة""

قل للسعودي من سرح يرده

اشتطت الزنة والبرد حلق (68)

والخل في "الخرطوم "عليه مغلق

من جملة هذه المدن والأمصار المعلومة توجه الحبيبة أصبع الاتهام إلى المكان المحدد والمعلوم الذي سيهاجر إليه حبيبها (جدة، أمريكا، الخرطوم. الخ) ولعل أغنية المرأة تعتبر من الأدلة التعريفية الهامة بخارطة طريق هجرة اليمنيين إلى كافة الأمصار والأقطار منذ بداياتها على نحو ما كان مثلا من صور تعاطي هذه الأغنية لموجة الهجرة اليمنية المنظمة إلى دول الخليج العربي، حيث تميزت بنفس تسجيلي شجي اشتمل على سيرة بدايات الهجرة بعد اكتشاف النفط ثم استوعبت معطيات المكان والزمان وإشارات التحول والمؤثرات التي طالت السطح ، كما اخترقت الأعماق وأثرت على منظومة القيم والسلوك وكانت الأغنية الشعبية النسوية ذات ذبذبة حساسة سريعة في رصد والتقاط تلك الإشارات، خاصة وان دول الخليج اجتذبت القسم الأكبر من الأيدي العاملة اليمنية في النصف الأخير من القرنالعشرين.

لكن في المقابل ظل المكان الذي لا تعرفه الحبيبة، مكانا مجهولا:

ياليتني حمامه واطير واعلي

وأبصر حبيب وين يولي(69)

ياليتني حمام فوق تينة

شعاين المحبوب بأي مدينة(70)

يا من هجرني طال هجرك

والله لوما يقول الناس ما قال

لفلت الرعية بلوديان(71)

وأسير أدورك الأمدان

 

الهجرة: ارض، نقود / أقمشة /وحرائر

ارتدت الهجرة بنمط استهلاكي أثر على منظومة القيم والثقافة كما اخترقتها، وأثر عليهاسلبا، ولعله أدى إلى انكمش مستوى البوح والفضفضة في الأغنية الشعبية النسوية، وجعلها تنحسر، وأدخلت بعد ذلك قسريافي خانة التحريم، بحجة صوت المرأة عورة.

وعلى قدر ما كانت فرحة المحروم في عالم منعزل، يعيش غو ائل القرون الوسطى،كانت الهجرة خصوصا للأمدان بمثابة انفراجا على المستوى الاقتصادي ولخول منتجات لم تكن معروفة.. فقد جرى تلقف السلع بنهم وبجوع أسهم في إطالة المهاجر لغربته ليقوم بمتطلبات زوجته وعائلته من ملابس، وكماليات، وغدت الزوجة تتباهى بالملابس والزينة كمن يستعيض بذلك عن فراق الحبيب واحينا حتى الملابس لا تستطيع المرأة لبسها في غيبة زوجها، نظرا لبعض التقليد المجحفة بحق المرأة خصوصا في المدن، والمناطق القبلية ذات التركيبة الوعرة .. فيحرم عليهن مخالطة الناس، ولبس الزينة والملابس المبهرجة،والاحتفالات..الخ

حبستني حبس الطيور في الحيد(72)

حبس ربي لا سرة ولا قيد

الطير يعيش حرا في فضاء مفتوح، والحيد، المكان المقفص والمكتوم ضد طبيعته، ويعرضه للحزن والموت كمدا، هكذا تقتضي الطبيعة.

ما شش زنات ولا قدح ربابي(73)

ما هوش بهجرك يوم من شبابي

كتبت لك مكتوب بخط فاهم

اشتي وصولك العن أبو الدراهم(74)

ألا زنة حرير وزنتين ياللي

ألا يا من سمع صوت الحيبب يقل لي

ما شتيش اني كبشك ولا اعرف اذبح

أشتي وصولك نجتمع ونرتاح

 

مشتيش عسل يسكب في المقالي (75)

أشتي حبيبي يقتطب قبالي

ارجع يامن هجرني

لا شتي زنة سويسري ولا فضة ومرجان

والعيد أجاء وزنته شليلة(76)

قال اصبري عاد الزلط قليلة

ما شتيش ذهب ولا مدافن الحب

أشتي الحبيب نجتمع ونلعب

 

أغرز

" لقد احتفظت بحذاء كبير في رجلي وهذا ما يثقلني، ويشدني "(77) كانت هذه مقولة لمريض لأروي.

جملة الظروف التي تحدثنا عنها سلفا هي التي أغزرت ندوبا في روح وجسد المرأة اليمنية ..إنها غرز لا تلتحم، تتفجر ليل ونهار، قيظ وبرد، مطر وجفاف صيف وشتاء، تدمي، تتقيح، وكلما كان المخرز صدئا خارجا من بطون وكهوف الثقافة الصدئة، كلما كانت الطعنة أعمق وأوجع، كلما كان الحذاء المفصل أضيق من لحد، أو أوسع من طعنة.

كان المخرج أو البارق: أغزر من الدموع، وأغزر من المغنى .. أنوال الروح والجسد المتيبسة والمقفصة بالحذاء لا ترطب إلا بالغناء، حتى ولو كان معجونا السرقات اللذيذة الخارجة عن تمنطق الحذاء ..

بالغناء أخصبت المرأة اليمنية ف " الربيع يأتي من الدموع "(78) وكذلك كل الفصول وكل ظواهر الطبيعة الهادئة والكارثية تأتي من دموع المرأة اليمنية.

مراجع وهوامش

1 الأغنية الشعبية النسوية في اليمن " كتاب يعكف بيت الموروث الشعبي على تنقيحه وإصداره، جمع وتدوين الباحثة، منتصف الثمانينات.

2 دحن: الدحن، الجسم في قوته.

3 لا: في اللهجة اليمنية لبعض المناطق اليمنية خصوصا المناطق الوسطى (اب يريم) بمعنى الإثبات وليس بمعنى النفي، لاغني.. أي سأغني.

4 الأنثربولوجيار موز ها أساطير ها أنساقها- جليبرت دورات - ترجمة د/ مصباح الصمد - المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر.

5 الجنابي - الخناجر اليمنية ، وهي علامة للرجولة والفحولة. الصراب: بمعنى الحصاد، وتقصد انه تركها وهي في قمة وثمرة الصراب، في أوهج شبابها.

6 علم الفلكلور - الكسندر هجرتي كراب – ترجمة رشدي صالح ص269- وزارة الثقافة - مؤسسة التأليف والنشر دار الكاتب العربي 1967م.

7 لوما: بمعنى حتى يحين.

8 نساء يركضن مع الذئاب سكلاريسا بنكولا - ترجمة مصطفى محمود محمد - سلسلة العلوم الاجتماعية مكتبة الأسرة 2005.

9 زنينة: رذاذا المطر المصحوب بالغيم والبرد.

10 شليت: أخذت - وقرها: حملها، سابت: تركت

11 القليب: تصغير للقلب، أدود: نخر الدود.

12 نهدة: تنهيدة ، قفا: خلف، لا يعمر: سيعمر .

13 لسان العرب - ابن منظور ص23- المجلد 13 دار صادر الطبعة الرابعة 2005.

14 أوائل المغتربين وحكايات العبور إلى الوطن - سعيد احمد الجناحي مركز الأمل ص12- الطبعة الأولى

15 دراسات يمنية في الهجرة والاغتراب – كتاب الثوابت- مجموعة من الأدبيات مقالة للدكتور عبد الرحيم عثمان ص 382— الطبعة الأولى مايو1999م.

16 المصدر نفسه الدكتورة وهبية فارع ص322.

17 دكة الخواجة: مكان لتجمع العمال أثناء الاحتلال البريطاني لعدن.

18 شلوا: أحذوا، مشلة عبرة، طمير: ثياب.

19 ابدع: ابدأ، ياللي: يالذي، بتعلم: تعلم، التواني احتواني وأحاطني.

20 فلتني: تركني، تقل لي: تقول لي.

21 تبريك: تبرئك.

22 تبسروا: تنظروا.

23 مشتيش: الشين للشنشنة في بعض اللهجات اليمنية التي تطلق للمخاطبة، وهي بمعنى: لا أريد.

24 غمة: كربة، لا عاد: لم تعد.

25 للمة: لماذا، سخيت: تقال للعتاب، بمعنى كيف أهون عليك، ساع: مثل.

26 زلج: انتهى.

27 مطروح: متروك.

28 يقل لي: يقول لي.

29 المقدس والمدنس - مرسيليا الياد - ترجمة عبد الهادي عباس المحامي ص 115 دار دمشق الطبعة الأولى1988م.

30 نفس المصدر – ص123 - 124.

31 ملانش: مليئة، الشين، الشنشنة تقال في بعض اللهجات اليمنية للمؤنث أو الشيء المؤنث، اشلاف: أحجار، محزمة: متمنطقة.

32 خلوني: اتركوني.

33 أشتي: أريد، أشتهي ، ما شاش: لا أريد، أو لا أشتهي، كرابه، كربته، شسكن: ساسكن.

34 لسان العربي لأبن منظور 4.252u المجلد الرابع.

35 الأنثربولوجيا ص8و1.

36 نافق: ناضج، مكتمل الثمرة.

37 وليت: ذهبت، لا عاد، ما عدت، تسقيت: لم أتسق.

38 منتش: لست أنت، ما نيش: لست أنا.

39 يلقم: يطعمه قطعة قطعة، يلزم: يمسك.

40 البياضة: الورقة البيضاء.

41 جرف: كهف، الحيد: الهاوية.

42 ما قد رويني: أي لم يرويني بعد.

43 قبالي: أمامي، آلي: بندقية.

44 الأعدان: الأكتاف.

45 ذي تقعم: ذي، بمعني الذي، تقعم: تثأب.

46 الأنثربولوجياص46 .

47 حينه: حينما.

48 نساء يركضن مع الذئاب 471

49 أديت : منحت ، يالغايب: أيها الغائب .

50 ضرب: هب قلاقل : ...

51 معاد: لا يجد، فهنة: راحة، ولحينه: إلى متى.

52 شن: هطل الطر شيئا فشيئا.

53 الأنثربولوجيا- ص72.

54 لا تحسبوه: لا تظنوه .

55 شتغلق: الشين تأخذ معنى السين،: بمعنى سوف تغلق، ستغلق.

56 يحسبني: يظنني، شفرح: سأفرح، شيسرح: سيذهب أو سيغادر.

57 عيسير: سيذهب، هجوة: غيم.

58 أوائل المغتربين - ص32.

59 كروشه: بطنه، دلالة على الحث في طلب الرزق، قله، قول له.

60 رديفه: الرديف الشال.

61 شنزل: سأنزل، البناجل: العمارات الكبيرة.

62 الخضري: تقال للتدليل لصاحب البشرة السمراء.

63 حبة: قبلة.

64 الأنثربولوجياص202.

65 تزل: تغيب، باجل مدينة يمنية.

66 سيب: ترك.

67 مريكن: أمريكا يلفظها بعض سكان المناطق الوسطى.

68 مكنوا: اعطوا: قشر: القشر: القشرة الخارجية للبن، وهو مشروب ساخن كالقهوة.

69 اشتطت: تمزقت، الزنة: الفستان.

70 يولي: يذهب.

71 شعاين، سوف أبصر، أو سأبصر.

72 لفلت: سأترك.

73 لا سرة: السرة سلسلة معدنية تستخدم للقيود.

74 زنات: مفرد: زنة أي فستان، قدح: احد مكاييل الحبوب.

75 خط فاهم: خط واضح.

76 المقالي: صحن حجري يستخدم لبعض المأكولات اليمنية كالفتة والسلتة التي تقدم ساخنة، يقتطب: يتزين، قبالي: أمامي.

77 شليلة: ملابس مهترئة، الزلط: النقود.

78 الأنثربولوجياص87.

79 نساء يركضن مع الذئاب ص 87.

أعداد المجلة