من تاريخ الموسيقى في عمان تأليف: وليد النبهاني الناشر: مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلام، 2016.
العدد 51 - فضاء النشر
يتناول كتاب الأستاذ وليد النبهاني الجديد (من تاريخ الموسيقى في عمان) الصادر عن مؤسسة عمان للصحافة والنشر والإعلام، جمعاً وتصنيفاً وتحليلا للجهود الأولى في الاهتمام بالموسيقى العمانية. وعلى حد وصف مؤلفه: «إن هذا الكتاب ليس إلا رسالة صغيرة اقتطفت ما يمكن الوقوع عليه من المصادر والمراجع العمانية والعربية والأجنبية، وبالتأكيد فإنه لا يمكن التوصُّل إلى تأريخ شامل ومستوف للموسيقى عند أهل عمان في رسالة بهذا الحجم، فقد تجنبت الإشارات الكثيرة التي وجدتها في بعض كتب الرحلات التي سجلت بعض المظاهر الموسيقية في عمان». لم يُسلِّط الضوء في الواقع على تأليف خاص في الموسيقى العمانية، وبينما قامت محاولات سابقة لتنظيم النصوص المؤرخة للموسيقى في عمان من مصادرها الأدبية والتاريخية والفقهية وبشكل خاص تجربة الباحث الموسيقي مُسلم الكثيري التي بدأها بكتابه (الموسيقى العمانية، مقاربة تعريفية وتحليلية) التي يشير فيها إلى المشكلة الأبرز: «إن المصادر التاريخية العمانية قد ركَّزت جل اهتمامها على النشاطات السياسة والعسكرية، وذكر بعض الآلات الموسيقية واستعمالاتها جاء متناثراً في صفحاتها، مقترناً بسياق الأحداث، جعل من محاولات جمعها ودراستها عملية عسيرة، وقد تستغرق العديد من السنوات» (مسلم بن أحمد الكثيري، آلة العود في الجزيرة العربية دراسة تاريخية، مجلة نزوى، ع57، يناير2009، ص151-163).
وقد يكون الفكر السياسي والفقهي التقليدي لم يستوعب الموسيقى والفنون عموماً «فوضعها في خانة (اللهو واللعب) باعتبارها مظهرا من مظاهر الترف المنبوذ»(مسلم بن أحمد الكثيري. الموسيقى العمانية، مقاربة تعريفية وتحليلية. ص47). هذه المسألة التي تدعمها بعض المواقف والشواهد التاريخية في المصادر العُمانية الأصل وقصة الصحابي مازن بن غضوبة التي تحمل الملامح الأولية لتراث فكري عقائدي أسس للموقف المتجذِّر الذي تبناه فيما بعد عدد من مشايخ الإسلام العمانيين المتهيبين من الموسيقى، فَصُنِّفت لديهم كَلَهْو محرم أو مكروه في أفضل الأحوال، ومنها نصوص الإمام جلندي بن مسعود –أول إمام نُصًب في عمان، والأبيات التي تنسب إليه في التقشف، ونهي الإمام الصلت بن مالك قادة جيوشه في حملة نجدة أهل سقطرة عن أن يكون في مجلسهم مظهر من اللهو أو اللعب. وللكثيري دراسة أخرى بعنوان (آلة العود في الجزيرة العربية.. دراسة تاريخية) ركَّز فيها على آلةِ العود كأهم الآلات الموسيقية العربية على مر الزمان، وسَعَى في هذه الدراسة إلى إبراز (السياق التاريخي والحضاري لآلة العود ودورها في غناء أهل الجزيرة العربية)(مسلم الكثيري. آلة العود في الجزيرة العربية، دراسة تاريخية. مجلة نزوى. ع57. يناير2009. ص152).
ومن أبرز أعمال مُسلم الكثيري التي تؤرخ للموسيقى في عٌمان دراسته (مدخل إلى التأريخ للموسيقى العمانية) التي يقترح فيها تقسيم المراحل التاريخية للموسيقى في عمان إلى:
1. مرحلة عمان القديمة، منذ أقدم العصور حتى نهاية العصر الجاهلي وظهور الإسلام.
2. مرحلة عمان الإسلامية، منذ قيام أول إمامة إباضية في عُمان في عهد الجلندي بن مسعود وذلك سنة 132 هجرية، وحتى قبل عام 1970 الميلادي.
3. مرحلة عمان الحديثة، وتبدأ مع تولي جلالة السلطان قابوس مقاليد الحكم في عُمان عام 1970 الميلادي.
وأهم هذه المراحل هي المرحلة الثانية، إذ تبلورت فيها الثقافة الموسيقية على أرض عُمان بتوجهاتها الإباضية، بالرغم من شُح البيانات المتوفرة في هذه الفترة عن الموسيقى العُمانية: «فالموسيقى لم تكن من اهتمامات المؤرخين العُمانيين إلا من زاوية واحدة وهي التحذير من ممارستها». (ألقيت هذه الدراسة ضمن أعمال الملتقى الأول للمؤرخين الموسيقيين العرب والذي عُقد في مسقط، ديسمبر 2014م، ونشرت في جريدة الوطن العُمانية بتاريخ 11يناير2015). وبسبب أن إشكالية نقص المصادر هي الأوضح في مسألة تأريخ الموسيقى في عُمان، فقد ناقش وليد النبهاني في البابين الثاني والثالث من كتابه (من تاريخ الموسيقى في عُمان) بعض النصوص التي يمكن الاستدلال عليها في تاريخ الموسيقى العُمانية. هذه النصوص التي تعود في الأساس إلى المرحلتين الأولى والثانية من المراحل التاريخية التي حدَّدها مُسلم الكثيري كتقسيم للموسيقى فى عُمان آنفا. لكن ما رآه النبهاني أكثر خطورة من شُح المصادر التاريخية في هذا الصدد النشيد الوطني العُماني والذي ينتمي إلى المرحلة الثالثة من التصنيف سالف الذكر، «والذي لم يُكتب حتى الآن –بحسب علمي- بشكل يتقصَّى الفترات التي سبقت السلام السلطاني الحالي والذي يعد نشيد سلطنة عُمان الوطني»(وليد النبهاني. من تاريخ الموسيقى في عُمان، إشكاليات ونصوص، كتاب نزوى –مؤسسة عمان للصحافة والنشر والاعلان، ص20).
حدد المرسوم السلطاني رقم 53 لعام 2004 عدد كلمات النشيد الوطني، أي السلام السلطاني الذي يُمثِّل نشيد سلطنة عمان الوطني وبدأ ترديده في بدايات حكم السلطان قابوس في سبعينيات القرن الماضي، ويكتنف الغموض مؤلفه حتى يومنا هذا. وقد ذكر الأستاذ توفيق عزيز في حوار تليفزيوني معروض رواية تتعلق بظهور أول نشيد وطني لعمان في عام 1869م حين دُعي سلطان عمان لحضور حفل افتتاح قناة السويس وكان لابد من عزف النشيد الوطني العماني أسوة بالدول الأخرى التي حضر ملوكها ورؤساؤها حفل الافتتاح. «وهكذا نشأ أول نشيد وطني لعُمان بحسب هذه الرواية!»(عبد الرازق الربيعي. من كتب السلام السلطاني؟ مقال نُشر بتاريخ 27 مارس 2014 في صحيفة أثير الإلكترونية). بيد أن ثورة الإمام عزان بن قيس قد أحكمت قبضتها على مسقط ونواحيها قبل افتتاح قناة السويس بعام (أواخر عام 1868 تقريباً) وعلى إثرها فر سلطان مسقط سالم بن ثويني إلى بندر عباس. «وليس بين أيدينا ما يؤكد أن وفداً عمانيا حضر افتتاح القناة إن كان برئاسة الإمام، أو غيره، كما أن عصر الإمام عزان (1868-1871م) رغم قصره قد شهد ما يمكن وصفه بتراجع حريات التعبير لا سيما للجاليات الهندية في مسقط، والتي كان بعضها يستخدم الأجراس والطبول في الاحتفالات الدينية. (محمد بن عبد الله بن حمد الحارثي. موسوعةعمان: الوثائق السرية (1471/1). وفرض الإمام طائفة من الممنوعات على جميع السكان في مسقط لم تقتصر على الخمر والتبغ، بل تعدتها إلى الموسيقى والاستماع إلى الأغاني. ويرجع لوريمر أسباب ذلك إلى الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي الذي أضفى على حكم الإمام «طابعا دينيا مسرفا في التعصب»(ج. ج. لوريمر. دليل الخليج: القسم التاريخي (2/747، 748) هذه المسالة التي تعود بنا إلى نموذج غياب الخط الفاصل بين الإسلامي والقومي في تركيا لدى الشاعر محمد عاكف أرضوى (1873-1936) مؤلف النشيد الوطنى التركى (نشيد الاستقلال)، الذى يستخدم في كلماته بعض المفردات التى تعدها التيارات الإسلامية العربية محرمات كبرى، ومنها على سبيل المثال عبارة (عَرَقي البطل) التي تغيب عن كثير من الترجمات العربية، ولكنها واردة في ترجمة رئاسة الجمهورية التركية
ابتسم لعَرَقي البطل!
ما هذه الهيبة، وذاك الجلال؟
وإلا لن تصبح دماؤنا الزكية لك حلال.
من حق أمتي التي تعبد «الحق»، الاستقلال.
وبالرغم من ذلك ، استخدم الشاعر عبارات، أبرزت قيماً إسلامية، كما ورد في الشطر الأخير من المقطع السابق، وهناك غيره الكثير. والقيم الإسلامية لم تغب عن كثير من قصائده الأخرى، ففي هذا المقطع- علي سبيل المثال- يتحسَّر الشاعر على فقدان الدين ألقه:
أه، أين ذاك الدين،
دين العزم والثبات،
دين الأرض النازل من السماء، دين الحياة؟
ما هذه التقاليد الضيقة والمكررة؟
هل قلت إنه الإسلام؟ أستغفر الله، ولو!
(النشيد ترجمة عبد القادر عبد اللي، الأدب الإسلامى التركى فى عصر الجمهورية، مقال منشور في مجلة الدوحة، ص 90، العدد 104، يونيو2016).
يروى أن الحجاج بن يوسف الثقفي والي الأمويين على العراق قد نفى الإمام جابر بن زيد من البصرة إلي عمان التي كانت تتبع الدولة الأموية آنذاك، كما يؤكد الأصفهاني غضب الواثق بالله العباسي من المسدود ونفيه إلى عمان في عصر المهنا بن جيفر العماني ومكث فيها سنة كاملة دون ترك أثر يُذكر بالرغم من سماح الإمام المهنا بالمعازف، ومن آي ذلك تساهله في عزف الجنود الهنود على إحدى آلاتهم في معسكر الجيش في (نزوى)، الحادثة التي أثارت حفيظة عالم عماني معروف؛ كما ورد في (الإيضاح في الأحكام) لأبي زكريا يحيى بن سعيد: «قال محمد بن المسبح: قد أنكر أبو الحواري على المهنا- وكان من أشياخ المسلمين – الدهر على الهندي إذا ضربه في المعسكر، وغضب وتباعد ما بينه وبين المهنا بن جيفر بعد ذلك». والدهر (أو الدهرة) أحد أكثر آلات الإيقاع انتشارًا في النصوص الفقهية العمانية، وأكثرها غموضًا كذلك، فهي تأخذ أكثر مادتها من لسان العرب وتحفة العروس لكنها لا تشير إلى تفسير لغوي لأصل هذه الآلة الموسيقية أو وصف لشكلها وطبيعة عملها، اللهم إلا ما ذكره خميس بن سعيد الشقصي: «هي طبل صغير يضرب للهو»(الشقصي، خميس بن سعيد بن علي، منهج الطالبين وبلاغ الراغبين، مسقط: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية. الطبعة الأولي. 1432هـ/2011م. ص51-52) وظهرت من أصل هندي في عهد الإمام المهنا بين جيفر (حكم 226-237هـ/840-851هـ) وقد نُقل عن محمد بن المسبح أن أبا الحواري محمد بن الحواري أنكر على الهندي أن يضرب الدهر وغضب وتباعد ما بينه وبين المهنا بن جيفر بعد ذلك. «ولعل الإمام المهنا بن جيفر لم يمنع العسكر الهندي من أن يضرب طبل الدهر لأنها كانت عادة عندهم بينما لم يألف العمانيون هذه العادة فاستهجنها بعض علمائهم. وتشير نصوص فقهية أخرى أن آله الدهر كانت موجودة في صحار وتباع في أسواقها، وربما انتقلت مع الحملات العسكرية من هناك إلى نزوى.» (من تاريخ الموسيقي في عمان، وليد النبهاني، كتاب نزوى – أبريل 2016 – مؤسسة عمان للصحافة والنشر ولإعلان).
وينطلق المجمع الفقهي هنا من الحديث الشريف: «بُعثتُ بمحق المعازف والمزمار والمزهرة وعبادة الأوثان وأمور الجاهلية» ويعطي صاحب كتاب بيان الشرع تعريفاً عاماً للآلات الموسيقية من ناحية الطريقة التي يتم العزف بها «فالمعازف كل وتر يُلعب به، والمزمار كل شئ ينفخ فيه، والمزهر كل شئ ضرب به»(الكندي، محمد بن إبراهيم، بيان الشرع – مسقط، وزارة التراث القومي والثقافة، الطبعة الأولى). فالآلة الموسيقية حسب هذا التعريف تنتمي إلى: آلات وترية (معازف) وآلات نفخ (مزامير) وآلات إيقاع (مزاهر، وربما اشتق الدهر منها). وفي ديوان للشاعر راشد بن خميس الحبسي (وإن طابت خواطرنا/ أثيبونا بمزمار/ بليل مع نواقيس/ طرها في الهوى طاري/ وعبدان وراقصته/ لعوب ذات زنار/ ترجع صوتها ما بين ترجيع وتكرار/ تهيج كل أشواق/ وتذكي كل تذكار) وهو الشاعر المميز في تاريخ الشعر العماني الذي شهد فترة صراع أسرة اليعاربة على عهد أئمتهم من بلعرب بن سلطان حتى سلطان بن سيف الثاني وكتب مدائح الإمام محمد بن ناصر الغافري، وكان جمع ديوانه علي يد سليمان بلعرب السليماني في حياته عام 1150هـ. وذكر النواقيس عدة مرات في ديوانه كما في الأبيات سالفة الذكر، وقد عرَّفها المحقق بأنها (ضرب من الملاهي يُعمل من الخشب، ويُضرب أيضًا لتأريق النائمين لأن صوته أعلى من صوت المزمار). على أن محقق الديوان عبد العليم عيسى قد حذف منه أبيات عديدة من باب الرقابة لما (فيها من الإسفاف والتبذُّل ما قد يخدش الحياء) فقد كانت غزليات الحبسي حافلة بوصف المراقص التي كانت تدار فيها الخمر مصحوبة بالطرب، كما يشير إلى مغن سماه ابن عمَّار [وهو] مغن حسن النغمة، وهو عمر بن عمار السعالي، نسبة إلى (سعال) وهي بلدة في نزوى التي عاش فيها الشاعر الحبسي. ويستدل الكاتب وليد البنهاني على شكل الحياة وأدوات الموسيقى على عصر الحبسي مع الحذر في التعاطي مع الشعر، فليس كله صادقا، ومعنى الصدق هنا هو تمثله لجوانب حقيقية حدثت في ذلك الزمان. «ما دامت هذه النصوص الشعرية لا تؤكدها نصوص أخرى فقهية أو أدبية أو تاريخية أو حتى جغرافية»(من تاريخ الموسيقى في عمان، مرجع سابق). ويقترح البحث في مصادر التراث العربي ومقدار ما ساهم به العرب والمسلمون أصلاً في أمري: الجانب النظري، والجانب الفقهي للموسيقى، حتى يمكن قياس ما ساهم به العمانيون من آثار مكتوبة في هذا الأمر، ذلك لأن بعض العلوم تعامل معها العمانيون كممارسات، ولم يعهد عنهم تأليف فيها كهندسة الأفلاج (ويروى عند بعضهم أن الجن هم بنوا الأفلاج في عمان) كما ظلت مسألة الولاء والبراء تشغل بال التراث العماني منذ حادثة عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي. وعليه حُرِّمت الإشارات الفقهية في عمان من وجود المفاهيم الخاصة بالآلات الموسيقية، اللهم إلا الدلالة المتوقَعة عنها في أبواب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، خصوصاً في أوج انتشار نظام الحسبة في عمان الذي حد من بيع وشراء الآلات الموسيقية وتعليم العزف عليها والاستماع إليها، بالرغم من عدم وجود حالة تحريم منفردة في ذاتها عن المعازف والملاهي في عمان تميزها عن بقاع العالم الإسلامي الأخرى في هذا الزمن أو غيره. وحصر ذكر آلات العزف في النصوص الفقهية الموجودة على آلتين فقط لا غيرهما: الطبل والدف؛ وهما ما أشير إلى وجود حالات لاستعمالهما فعلًا، أما آلات النفخ باستخدام هواء الحلق كالناي والمزمار، فورد ذكرها فقط حين أجاز بعض الفقهاء استخدامها بالرجوع إلى موقف بُكاء الوضَّاح بن عقبة، العالم العماني، عندما سمع صوتها فتذكَّر الموت والفناء وعقاب الآخرة. ما يمكن ربطه ذهنيًا بآلة الصور التي جاء ذكرها في القرآن الكريم.