فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

البطولة والتمرد فى الوجدان الشعبى المصرى موال أدهم الشرقاوى أنموذجا

العدد 50 - أدب شعبي
البطولة والتمرد فى الوجدان الشعبى المصرى موال أدهم الشرقاوى أنموذجا

البطولة تعنى الغلبة على الأقران، وهي غلبة يرتفع بها البطل عمن حوله من الناس العاديين ارتفاعا يملأ نفوسهم له إجلالا وإكبارا . هذه البطولة تبدأ من اللحظة التي يتمرد فيها البطل على ما هو سلبي في مجتمعه ويسلك مسلكا يحطم به هذا الواقع السلبي.

وقديما – وكما تحكي الأساطير والملاحم الاغريقية والفرعونية – كان البطل يعد شخصا مقدسا، بل كان يظن أنه من سلالة الآلهة وكان هبة للناس حتى لا يقعوا فريسة لمن سواهم، لذلك كانوا يقفون أمامه مذهولين لما كان يمتلك في رأيهم من الخوارق في البسالة وقتال الأعداء، ومن ثم عبدوه – خاصة في عهود الإنسانية الأولى – وتلك فترة أطلق عليها فترة عبادة الأبطال حين كانوا رموزا لقوى خفية غيبية مجهولة.

أما العرب فقد عرفوا البطولة من الواقع وحقائقه لا من الخيال وخوارقه، وهي بطولة تستند على قوة الجسد والبأس الشديد لدفع غائلة الوحش والقبائل المجاورة، ومعه عدة القتال كي تعينه على النصر، وكلها من صنع يده لا من صنع الآلهة (الدرع والسيف والرمح والقوس والسهم ) حتى الخيل كانت من الواقع لا من السماء حيث تربت في أحضان الأبطال وكأنها جزء من نسب البطل إلي أبيه وقبيلته وعشيرته، وتلك تسمى البطولة الحربية.

ولم يقف العرب ببطولتهم عند جانبها الحربي بل اتسعوا في المعنى حتى وجدنا البطولة النفسية وهي بطولة قوامها الصبر على الشدائد واحتمال الصعاب والعزة والكرامة والحزم في اتخاذ القرار قبل أن تفلت الفرصة من يد مالكها، وكذلك البطولة الخلقية والتي قوامها قوة العفة والشرف في الحرب وعند المغانم وجمع الأسلاب، وقوة في المثل الخلقية العليا، فكل شئ في المعارك مباح إلا عار سبي النساء، وكل شئ إلا انتهاك العرض وحرماته، وقوة في إكرام الضيف وإشباع الجائع والحماية من كرب التشرد في متاهات الصحراء وخاصة حين يلجأ اليه أي مستجير .

وفي المأثور الشعبي إذا كان إجماع الشعب على شخصية ما فإن ذلك يدل على مدى اعجابه بها الأمر الذى يجعله يكثر من ترديد سيرة هذه الشخصية ومن ثم يتحقق الانتشار الناتج عن التناقل الشفاهي والتحاكي عما يصدر منه أو يسند إليه ... وتتدخل طبيعة الأسلوب في تلك المرويات بحواش وإضافات تزين السياق وتجذب السامع ثم يتدخل الخيال فيزيد الأحداث، وكلما زادت هذه المرويات ودارت على الألسنة كلما تضخمت سيرة تلك الشخصية بما يرضي المزاج الشعبي ويلبي الأحتياجات النفسية.

اذا فالبطل الشعبى هو تصور خيالي لشخصية حقيقية ... لكن ليس من الضروري أن تكون شخصية البطل شخصية حقيقية عاشت في الواقع التاريخي بصورة بارزة أو شخصية كان لها دور بارز في سجل التاريخ.

والتاريخ بصفة عامة مليء بشخصيات فاقت أعمالها مشاهير التاريخ أنفسهم ورغم ذلك لم تحظ بما حظيت به شخصيات البطولة الشعبية كما أنه ليس من الضروري أن تلك الشخصية هي شخصية سياسية أو حربية أو ما شابه ذلك، وإنما قد تكون شخصية البطل الشعبي هي شخصية رجل من وجهة نظر القانون مجرم أو خارج على القانون (متمرد) في حين أنها في عرف الشعب شخصية البطل الذي حقق له المكاسب من خلال بطولات أعجبته فتغنى بها مثل علي الزيبق في الأدب العربى وروبين هود في الأدب الأنجليزي وأرسين لوبين في الأدب الفرنسي ومن هنا فشخصية البطل ليست هي الشخصية المثالية التي تتسم كل أعمالها بالنبل والجلال ولكنها شخصية انسانية عادية تتأرجح أفعالها بين الصحة والخطأ بل أنه زاد على ذلك أن سمة البطولة التى أسندت إليه إنما جاءت من روح الشفقة عليه والتعاطف معه وبالطبع فإن اختيار شخصية البطل الشعبي لايتم في حياته أو عصره ولكنها تنبثق بعد عدة أجيال عندما يشعر الشعب أن مآثر هذه الشخصية توافق تطلعاته وتحقق آماله وأحلامه وتتوفر لها المقومات التى تؤهلها للتحول في ذهن الشعب إلى شكل بطولي1.

اذا فالبطل الشعبي هو نتاج لواقع الأمة الأجتماعي والثقافي بصورة تمتزج فيها امتزاجا تاما خاصة وأن الواقع الاجتماعي أهم عناصره السياسة، والواقع الثقافي أهم عناصر الدين2.

أما التمرد فيدور حول الرفض والعصيان وعدم الخضوع ومجاوزة الحد المسموح به أو المقبول، حيث ينشأ التمرد عندما تتجاوز الأمور حدا ما، بأن العبد الذي اعتاد طيلة حياته تلقي الأوامر من سيده، يرى فجأة أن الأمر الجديد الصادر إليه غير مقبول، فيصرخ قائلا : لا، فهذه «اللا» تعني أن الأمور مقبولة عند هذا الحد، ومرفوضة فيما بعده، وتعني أيضا أن هناك حدا، يجب ألا تتخطاه، فحركة التمرد تستند إلى رفض قاطع لتعدٍ لا يطاق، لذلك فالتمرد يكون مقترنا بشعور الإنسان المتمرد بأنه على حق، إلى جانب النفور من المتعدي الغاشم. ويرى - أيضا - أن كل تمرد يحتوي ضمنيا على قيمة ما، فالحرية قيمة، والعدل قيمة، فالعبد عندما يرفض الأمر المهين الصادر عن سيده، يرفض في الوقت نفسه حالة العبودية3.

وعلى الرغم من أنَّ للتمرد دلالته اللغوية المعروفة التي حددتها معاجم اللغة فإن للتمرد دلالته الفكرية وأنماطه السلوكية، إذ يكتنف التمرد بعدان جوهريان : أولهما : الحرية، وثانيهما: الخصوصية الفردية، إذ لا يمكن أن يتحقق التمرد دون إحساس المتمرد بضغوط القهر، بكل أنماطه، ومحاولته النـزوح والخروج على أنماط القهر هذه، ولذلك يسعى إلى حرية تكسر أنماط القهر، كما أنَّ خصوصية الأداء والفعل معبرة هي الأخرى عن هذا الكسر، بمعنى أنَّ الخصوصية الفردية للمتمرد تقوده إلى خصوصية فعله.

ويلتقي التمرد بالبطولة في كونهما يسعيان إلى تغيير الواقع، ويبدو أنَّ أسبابا قوية تدفع إليهما، بحيث يصل الأمر الى درجة من التأزم، ومن ثم تستخدم القوة أداة للوصول إلى الهدف، إنَّ المتمرد يؤمن بعدالة قضيته التي يسعى من أجل تحقيقها في الواقع، كتمرد المضطهدين والمسحوقين بسبب الظلم والاضطهاد، أو تمرد الفقير لما يفرضه المجتمع عليه بسب التفاوت الاقتصادي الفادح . وكذا التمرد الكامن في سلوك المراهقين وهذا أكبر مثال للتمرد على سلطوية المجتمع، ومحاولة لفت الإنتباه بهدف أو بدون هدف، فعادة يكون بلا هدف فقط كي يعرف الناس أنه موجود وموجود بقوة ... وقليلا ما يكون بهدف قد يراه المجتمع هدفا ساميا وفي مرحلة المراهقة يمر ببعض الأشخاص مرحلة مراهقة فكرية ... هدفها التمرد على الأفكار الموروثة والمألوفة، وقد تطول هذه المراهقة لتمتد إلى أواخر العمر ... أو حتى إلى الموت هذه المراهقة لا تأتي من فراغ، بل بسبب وجود دوافع تجبر الشخص نفسه على التمرد والمعارضة، أو الخنوع والذلة.

قد تكون حواجز وضعت في وجه هذا الشخص لتحقيق رغبة معينة ... فتمرد ليحطمها، قد تكون أخطاء مجتمع يراها الشخص من وجهة نظره على أنها أخطاء لا بد من إعلانها أو حلها وهناك من يتمرد لأجل التمرد، يصرخ لكي يراه الناس، يعلن أخطاء موجودة ويعلمها الكثيرون لكنهم يخجلون أو يخافون من نتائج إعلانها . هنا قد يكون الصراخ والتمرد بحسن نية .. وأحيانا يكون لاكتساب شهرة وشعبية4 وأدهم الشرقاوى هو رمز بطولي مصرى تمرد على ماهو سلبى في مجتمعه حيث قتل عمه ظلما فثأر لمقتله ومن ثم كان في نظر القانون مجرما، وخارجا على القانون (متمرد) إلا أن الوجدان الشعبي تعاطف معه وسلك معه مسلكا يحطم به واقع الظلم والقهر والعبوديه الذى كان سائدا في هذا المجتمع، والملاحظ الأكيد أن الرواية الرسمية تخالف الرواية الشعبية ففور أن عرف أدهم بمقتل عمه وجه الاتهام إلى الحكومة ورفع قضيته للثأر من الحكومة.

كما أن أدهم لم يكن الشخصية المثالية التى تتسم كل أعمالها بالنبل والجلال ولكنه شخصية انسانية عادية تتأرجح أفعالها بين الصحة والخطأ بل أنه زاد على ذلك أن سمة البطولة التى اسندت اليه تثير في الناس روح الشفقة عليه وتدفعهم الى التعاطف معه.

وتتوالى الأحداث بالقبض عليه ليحكم عليه بالاعدام الا أن الأهالى دفعوا مئة جنيه وحولوا حكم الإعدام الى سجن سبع سنوات، لكنه هرب من السجن، وطلبت السلطة القبض عليه حيا أو ميتا. صحيح تعرف على القاتل في السجن وقتله، إلا أن ذلك لم ينه القضية وبعد هروبه قتل صهر وزير الأوقاف، لتبدأ سلسلة من المعارك ولا تنتهي إلا بمقتل أدهم نفسه بعد تدبير مؤامرة شرطية له ليقتله- وفق الروايةالحكومية - (رجل بوليس)، - ووفق النص الشعبي - ( صديق خائن ) والدلالة في الحالتين واضحة فالقاتل من الشعب ونفذ أوامر أعداء الشعب... إنها الخيانة... تستوي عندها الصديق الخائن أو رجل البوليس الخائن

رمزية البطولة والتمرد في التاريخ المصري:
الأدب والتاريخ من أكثر علوم الإنسان ومعارفه ارتباطا بالإنسان5 فبينما التاريخ يرصد أفعال الإنسان ومنجزاته في رحلته عبر الزمان.. يهتم الأدب بتسجيل عواطفه وانفعالاته، لذلك فالتاريخ والأدب صنوان لا يفترقان بل أن الفلاسفة الذين يسلكون الأدب مع الفنون الجميلة لا يستطيعون ذلك إلا برده إلى مفهوم التاريخ، والآثار الأدبية الأصلية نفسها وثائق تاريخية لا يرقى إليها الشك ولا يستغنى عنها المؤرخ البصير، وليس هناك أدل على ذلك من تلك الآثار الأدبية التى لا تفهم إلا على أساس من التاريخ أي اذا فهمت الظروف التاريخية المصاحبة لتلك الآثار إلا أن التاريخ المقصود هنا ليس كسائر التواريخ التى نعرفها وإنما الذي يتحدث عن المجتمع البشري من حيث هو مجتمع متبلور في نشأته ونموه، وهذا الضرب من التاريخ هو ما يمكن أن يطلق عليه التاريخ الإجتماعي.

والتاريخ الاجتماعي هو أحوال المجتمع عبر التاريخ سواء من حيث دراسة التركيب الاجتماعي والبناء الطبقي وتاريخ الطبقات والعادات والتقاليد والحرف والصناع والأسواق والبنيان السكاني وعوامل الزيادة والنقصان، كما يدرس أوضاع الأقليات وعلاقتها الاجتماعية والسياسية، وفضلا عن ذلك يدرس القيم والمثل والأخلاقيات التي تحرك المجتمع في عصر ما من عصور التاريخ.

بيد أن التاريخ الاجتماعي يهتم أيضا بالجوانب السياسية والاقتصادية في حياة المجتمع وذلك من حيث تأثيرها على حركة المجتمع، ولكن مصادر المؤرخ الذي يعمل في مجال التاريخ الاجتماعي تختلف عن مصادر المؤرخ الذي يهتم بدراسة التاريخ السياسي أو الاقتصادي أو العسكري ففي مجال السياسة والاقتصاد والحرب يمكن الاعتماد على المصادر التاريخية التقليدية مثل الوثائق بكافة أنواعها وشهادات المؤرخين، ولكن الأمر يختلف عند دراسة المجتمع من حيث علاقات الناس بعضهم ببعض في إطار ظروف تاريخية معينة وبالطبع فإن من يبحث في التاريخ الاجتماعي لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يتجاهل التراث والمأثور الشعبي الذي سيكشف بدوره عن انسان العصر بآماله وهمومه وبنجاحه واخفاقه وبقيمه ومثله وأخلاقياته فضلا عن الأفكار التى توجه حركته والرؤى الاجتماعية التى يرى من خلالها العلاقات والأمور في الكون، وهذه كلها أمور لانجد لها أثرا نهتدي به في المصادر التاريخية التقليدية التي لم تفقد أهميتها بسبب هذه المصادر الجديدة.

وعليه فإن التراث والمأثور الشعبي يحملان بين طياتهما ما يعبر عن رأي الناس الحقيقي في حوادث التاريخ وأشخاصه ويجسدان رأي الجماهير بتفسيرهما لأسباب الحوادث التاريخية التي تركت تأثيرا عميقا في حياتهم.
لذلك.. فإنه عند حديثنا عن أي أمر بطولي أو حالة تمرد في تاريخ مصر لابد وأن نشير الى ما يحمله التاريخ المصري الطويل من قصص الكفاح المرير ضد المستعمر6 الأمر الذي جعل لهذا التاريخ قيمة ومن ثم فكان بمثابة المعين الذي لا ينضب من البطولات لما فيه من تمرد على سلطة الأجنبي وما فيه من صراع دار بين أبناء الوطن والأجانب ولما حمل من أحداث وشخصيات تعكس ضيق الناس من الاستبداد والظلم والتخاذل واضطراب الأمور والعجز عن مواجهة الخطر المتزايد يوما بعد يوم .....

هذا التاريخ حمل بداخله أبعادا مختلفة لهذا الكفاح:
1. البعد العسكري: وهذا يظهر في تلك الثورات الملتهبة التي قامت ضد الاستعمار والإقطاع حيث كانت تنبئ عن أن حدثا هائلا سيقع وأن الصبر الطويل قد أذن بانفجارمجيد بالإضافة إلى الثورات الجانبية التى امتدت إلى كل شبر من أرض مصر.

2. البعد الديني: وهذا ظهر في دور رجال الدين وخطبهم الملهبة للحماس والمدعومة بآيات من القرآن واحاديث من السنة وصورة الأولياء الذين انقاد خلفهم الشعب بعد كراماتهم التى ظهرت في البطولة والحماسة المذخورة واحتمال الصعاب ومواجهة الأخطار كدافع إلى لقاء الموت دون تهيب فإما النصر وأما الشهادة وكلاهما في سبيل الله والوطن.

3. البعد الاجتماعي: وهذا تمثل في نظام العبودية والسخرة الذي طال المعدمين من فلاحي مصر بصورة وصلت ذروتها في حفر قناة السويس ثم امتد بعدها فترة ليست بقصيرة في صورة عمال التراحيل الأمر الذي أفرز الفقر والجهل والمرض بدءا بداءات البلهارسيا والجذام والعجز والشيخوخة المبكرة وما إلى ذلك.

4. البعد العاطفي: وهذا ما كان يستند إلى قصص الحب التى كانت تجعل الأبطال أفرادا متميزين ينطلقون بدافع الحب مستغلين الشجاعة وسرعة البديهة من أجل الوصول إلى الهدف الأسمى.
ولعل هذه الأبعاد تتضح في صور البطولة والتمرد عبر فترات التاريخ المختلفة والتى سجلتها كتب التاريخ واهتم بها المؤرخون ببحث حركات التمرد التي اشتعلت ضد الوجود الأجنبى سواء من عهد الفراعنة وحتى زمن ليس ببعيد من التاريخ.

- فالهكسوس تسللوا إلي مصر،في عهد الفراعنه، وأغاروا عليها وبدأوا يتدخلون في شئون مصر عاملين علي تفرقة صفوف الشعب، وإخماد قوته، وإضعاف كلمته، وراح هؤلاء القوم يظلمون الناس، وينهبون أقواتهم، ويسرقون أموالهم، ويشردون أبنائهم، حتي عم الغضب والسخط جميع أنحاء البلاد، ولم يكتف هؤلاء الدخلاء بكل ذلك، بل راحوا يسخرون من عادات المصريين وتقاليدهم الأمر الذى جعل أمراء مصر يشعرون أنه لم يعد للصبر أي مكان وعلى رأسهم (سقنن رع) ومن بعده أخوه (أحمس) اللذان تمردا وقادا حملة تأديب وطرد الهكسوس من مصر بشكل بطولي.

- وفي 1244م شن الصليبيون هجوماً برياً ضخماً على مصر، ولكنهم هزموا هزيمة منكرة عند غزة على يد الأمير ركن الدين بيبرس مما مكن المسلمين من فرض سيادتهم الكاملة على بيت المقدس وبعض معاقل الصليبيين في الشام.

- في عام 1249 قام الصليبيون بحملة ثانية على مصر بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا في عهد السلطان الأيوبي الصالح نجم الدين أيوب والذي توفي أثناء احتلال الصليبيين لثغر دمياط في شمال مصر حيث بدأت الحملة باستيلاء الصليبيين على مدينة دمياط ثم حاولوا الزحف نحو القاهرة، إلا أن قوات المماليك استطاعت إلحاق الهزيمة بهم عند مدينة المنصورة ثم فارسكور وآلت الحملة إلى الفشل وتم أسر الملك لويس التاسع وانتهت برحيل الصليبيين عن مصر.

- وفي أثناء الاحتلال العثماني لمصر تأتي أولى الاضطرابات التي قادها الشيخ عبد الدايم بن أحمد بن بقر، شيخ العرب في إقليم الشرقية، وذلك في عام 924هـ/1518م، بعدما خرج عن طاعة والي مصر خاير بك. وكان من قبل قد خرج عن طاعة السلطان المملوكي قانصوه الغوري من قبل، ومما يلفت النظر أن حركة التمرد التي قادها المماليك بزعامة جانم السيفي وأينال السيفي عام 928هـ/1522م، لم يوضّح المؤرخون الذين أرّخوا لها الدوافع التي من أجلها قام المماليك بها، ويأتي على رأسها عداء الأمراء المماليك للسلطة الحاكمة الجديدة، وإحساسهم بفقدان امتيازاتهم، وأنهم أصبحوا أتباعاً بعدما كانوا متبوعين.

وفيما يخص حركة التمرد التي قادها والي مصر العثماني أحمد باشا الخائن، فقد أهمل المؤرخون السبب الذي دعاه للقيام بها، وهو حقده على الصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي سلبه هذا المنصب من وجهة نظره، فقرر الانتقام منه ومن الدولة بإعلان استقلاله بمصر وتحالفه مع شيخ العرب في إقليم الشرقية عبد الدايم بن بقر.

أما النتائج التي ترتّبت على تلك الحركات فقد أسهبت الروايات التاريخية في سردها، وكان أهمها إصدار السلطان العثماني سليمان القانوني مجموعة من التنظيمات الإدارية والقوانين ما سُمى «بقانون نامه مصر»7.

- وفي 1798 قامت ثورة القاهرة الاولى بعد قدوم الحملة الفرنسية حيث لم تنخدع الجماهير بتظاهر نابليون بالتقوى وتقربه للمسلمين بمنشوراته الهزلية، ولم ير شعب مصر في حملة الفرنسيين إلا جيشا محتلا لا يختلف عن الحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع التي ضربت شواطئ دمياط منذ أكثر من خمسة قرون، لذا خرج المصريون بكل ما لديهم من سلاح وشوم وحراب على الجنود الفرنسيين يقتلونهم وتحصنوا بأسوار الحارات وفي الأزقة، ونصبوا المتاريس علي مداخلها، ولكن فاتهم أن يحتلوا الأماكن المرتفعة المطلة علي الحارات. فسارع نابليون باحتلالها ونصب مدافعه فوق مآذن جامع السلطان حسن، وانهالت القنابل منه ومن القلعة علي جامع الأزهر، مبعث الثورة، وكل ما يحيطه من بيوت وحوانيت، إلا أن أقاليم مصر تلقت جيش نابليون المتوغل في الدلتا والصعيد بمقاومة شرسة لا تلين، اضطر الفرنسيون معها للحرب والقتال من قرية إلي قرية ليخضعوا أقاليم مصر، واستخدموا القتل والنهب والسلب والتحريق والتنكيل لكسر روح المقاومة، فنجحوا حيناً وفشلوا في كثير من الأحيان، ووعى المصريون الدرس وعرفوا أن الاحتلال هو الاحتلال مهما تلون بألوان مبهجة من تقدم علمي أو إداري أو تنظيمي، فالتقدم إن لم يأت بأيدي وعقول أهل البلد، فسوف يأتي تفضلاً من السيد المحتل إلي العبيد أو يأتي مشروطاً بخلع عباءة الهوية المصرية.

- ثورة عرابى وهذه كانت بمثابة تمرد ضباط الجيش المصرى ضد الخديوى والانجليز مطالبين بفتح ملفات وطنية مهمة منها تحسين أوضاعهم الاجتماعية وأن تكون قيادة الجيش وطنية وزيادة عدد الجيش وتشكيل مجلس النواب بمطالبة شعبية بالإضافة إلى إلغاء التدخل الأجنبي السافر في البلاد المتمثل في الرقابة الثنائية وصندوق الدين الخ.

- أما ثورة 1919 فهى ثوره شعبية وسياسية في عهد الملك فؤاد الأول كان هدفها الأساسي هو المطالبه بالاستقلال عن بريطانيا، وشاركت فيها كل الطبقات والطوائف في مصر مثل الفلاحين والموظفين والحرفيين والطلبه والنساء. حيث أحيت في المصريين شعورهم القومى وأحاسيس العزة بأمجاد مصر وتاريخها.

دلالات البطولة والتمرد في المأثور الشعبي:
واذا كان التاريخ قد حمل لنا الواقع او جزءا من هذا الواقع في الكفاح المصري الطويل ضد المستعمر فإن المأثور الشعبى قد حمل لنا جانبا من هذا الواقع ألا وهو جانب الانفعالات النفسية والرؤى العاطفية لحدث تاريخي مثل الأحتلال الاجنبى لأرض عربية أو ظاهرة أفرزها التاريخ على أرض الواقع فاحتفظ بها الوجدان الشعبي بين لفائف الخيال مثل استبداد الباشوات وتمرد الوطنيين ضدهم.

من هذا المنطلق تلقى الفنان الشعبي أحداث وصور البطولة والتمرد لدى أبناء الشعب وتلقف كل دقائق التاريخ وصاغها صياغة وجدانية فعبر عن رأى الناس الحقيقى في التاريخ وأحداثه وأشخاصه فبرزت لنا أشكال المأثور الشعبي المختلفة تحمل روح البطولة والكفاح والتمرد والعصيان على كل الصور السلبية في مجتمعاتهم.

ولعل أبرز أشكال المأثور الشعبي سيرة عنترة ذلك العبد الأسود الذي رفض العبودية والموقف الاجتماعي المتدني الذي فرضه عليه لونه وتصبح سيرته الشعبية تمردا إيجابيا علي الواقع الذي فرق بين الناس على أساس اللون أو الأصل فحقق ذاته بالزواج من ابنة عمه عبلة العربية الأصل البيضاء البشرة وتمكنه من القضاء الطبقية المتمثلة في العبودية والتفرقة العنصرية ليصبح أول صرخة تمرد ضد النزعة العنصرية، كذلك السيرة الشعبية «ذات الهمة» تلك السيرة التي تمثل تمردا إيجابيا علي وضع المرأة المتدني أيضا في المجتمع العربي وربما في المجتمع الإنساني كله - بل وتصبح أول صيحة تمرد على التفرقة التي فرضتها مسلمات اجتماعية مغلوطة بين الرجل والمرأة على أساس نوع الجنس، وأيضا سيرة الظاهر بيبرس والتي تعد امتدادا تاريخيا لسيرة الأميرة ذات الهمة حيث وجدت في ظروف وجد العرب فيها أنفسهم وقد أحاط بهم الصليبيون من كل جانب يغزون أرضهم والتتار يحرقون ديارهم والمجاعات تقصف بهم وقد تولى أمرهم من ليسوا منهم (حكام مغتصبون وساسة متأمرون) والشعب في كل هذا هو الضحية وحامل الغرم لذا جاءت السيرة ببطل تمرد على كل ما هو حوله من أوضاع فضم الصفوف ولم الشمل وواجه الخطر المحدق بالبلاد.
لذا فالثقافة التي قدمتها السيرة الشعبية منذ البدء هي ثقافة التعبير عن قضايا الإنسان من أوضاع لا يرضى عنها ولا يرضاها منهجا وأسلوبا للحياة ومحاولة لتغيير هذه الأوضاع عن طريق سيرة البطل في السيرة الشعبية تلك التي تحدد معالم البطولة والتي لا ترتبط بالتفوق الجسدي أو المهارة الفردية وحدهما، وإنما ترتبط أساسا بالفعل الجمعي من أجل تحقيق الهدف العام - فالبطل في السيرة الشعبية يتحرك دائما في كوكبة من الأبطال المساعدين مما يجعل بطولته جماعية لا فردية، بطلا قوميا.

فهي إذن دعوة إلي التمرد الجمعي على الأوضاع القائمة ودعوة تصل عن طريق الفن إلى كل قلب وعقل ووجدان جموع الشعب.

من هنا كان هذا الموقف الرافض للسيرة الشعبية في البداية، هذا الموقف الذي تحول من الرفض إلي المنع والحجب الكامل عن المتلقي لها إلا بالقدر الذي سمح به الحاكم - عندما تحولت بعض السير الشعبية إلى أعمال مسرحية مثل الزير سالم، علي الزيبق، أبي زيد الهلالي وغيرهم. وكلها أعمال مليئة بالإسقاطات السياسية المعاصرة التي تحمل هموم العصر ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومع كل هذا عاشت هذه السير الشعبية عبر العصور رغم كل هذه المحظورات والحروب التي استهدفتها.

كما حفل الأدب الشعبي الشفهي والمدون بحكايات تلك الفئة من المتمردين الشعبيين المعروفين بالشطار والعيارين حيث شاعت تسميتهم علي هذا النحو في تراثهم الأدبي، وكما عرفناهم في قصص «ألف ليلة وليلة»، فقد عكس عبر سيرتهم العقل الجمعي معاناته السياسية ورسم تصوره لما يتمني أن يكون عليه المجتمع، فاستقروا في الوجدان الشعبي، وتعد كإجماع الباحثين قصص«ألف ليلة وليلة» واحدة من أثمن ما جمع لحكايات الشطار ومغامراتهم، وفيها يوجد نمطان من أنماط اللصوص، احدهما قوامه قطع الطريق، والآخر اللصوص الظرفاء من الشطار والعيارين الثائرين المتمردين، وكان نجمهم «علي الزيبق»، ويري «د. النجار» في كتابه «الشطار والعيارين» بسلسلة «عالم المعرفة» الكويتية أن السير والملاحم الشعبية ارتقت ببعض أبطال الشطار، والعيارين إلى مرتبة البطولة الملحمية المطلقة، الأمر الذي يراه إثباتا لمدى تعاطف الوجدان القومي مع تلك الفئة، فسيرة «حمزة البهلوان» استوعبت بطولة شطار العراق ضد النفوذ الفارسي، حتي أصبح صاحب أول حكومة للأمة العربية بأسرها في التاريخ، مثلما استوعبت سيرة «الظاهر بيبرس» شطار مصر والشام وسيرة على الزيبق شطار مصر.. هذه الفئة من أبناء المجتمع ممن سدت أمامهم السبل الشرعية المشروعة في المجتمع لم يجدوا إلا أعمال اللصوصية والشطارة والعيارة سبيلاً لإثبات وجودهم الاجتماعي، والتعبير عن كيانهم، كما أنهم يحملون في هويتهم تناقضاً، فهم وإن كانوا كذلك، إلا أنهم من تزعموا حركات المقاومة الشعبية في بغداد ودمشق والقاهرة ضد الغزاة المحتلين المستعمرين، وهم من عبروا عن النزعة الوطنية في مواجهة المحتلين بعد أن استسلم لهم الحكام وأعيان المجتمع، بل يري «د.النجار» أن هذه الشخصيات التي شملتها حكايات«ألف ليلة وليلة» وسيرة «علي الزيبق» و«حمزة البهلوان» لم تكن شخصيات خيالية وإنما كانت شخصيات حقيقية تمتلك واقعاً تاريخياً لا يختلف عن واقعها الفني، أما خصوصية «حمزة البهلوان» وتابعه «عمر العيار» فلأن سيرتهما تؤرخ لجذور فكرة القومية العربية الإسلامية في مواجهة القومية الفارسية المتغطرسة وتعكس مدى تغلغل الكراهية التي في قلوب العرب للفرس ومدي استهزاء الفرس بالعرب واعتبارهم أجلافاً غير جديرين بأي فضل أو مجد. إن سيرة هؤلاء المتمردين من الشطار والعيارين الذين رفضوا الخضوع لسلطة الحاكم الاجنبي الفارسي والبويهي والتركي، وأعوانهم من بني وطنهم، واحتموا بالجبال والقلاع، سقط قيدهم من ذاكرة التاريخ، إلا أن الذاكرة الشعبية حفظت سيرتهم علي نحو بطولي يطرح قضية سياسية متداولة عبر التاريخ من أخطر قضايا المجتمع، حيث تسجل «سيرة حمزة البهلوان» قيمة العقل الجمعي الشعبي في تحقيق فكرة التضامن الاجتماعي، والتمرد علي الأوضاع السائدة.

بينما خصوصية علي الزيبق فتحكي قصة «فساد» كبيرة يشترك فيها كل أطراف السلطة، ابتداء من الخليفة وانتهاء بالعسكر والعسس، والكل في دائرة الفساد مشترك، ومن كثرة الفساد أصبح «حاميها حراميها» قولاً وفعلاً، والمسئول عن حفظ الأمن والملقب باسم «المقدم» صلاح الكلبي، أراد الوالي تجنب فساده وسرقته فجعله على رأس جهاز الأمن ليضمن أنه لن يسرق إلا بإشرافه وتحت رعايته ومن ثم كان احتلال «الزيبق» لهذه المكانة المتميزة في عقول المصريين وقلوبهم جاء نتيجة ما يمثله هذا اللص المتمرد الشريف من تحقيق قيمة العدل، المبني على أساس أن الجزاء من جنس العمل، فكما تسرق السلطة أقوات الناس وأحلامهم، يسرق الزيبق ممثل الناس السلطة التي استولت على الثروات بالبطش والطغيان، وما «الزيبق» إلا مندوب لإعادة توزيع هذه الثروة المنهوبة.

أما سيرة «الزير سالم»8 فتروي أن قوم الزير سالم كانوا يعيشون في أمن وطمأنينة إلى أن وفد عليهم التبع حسان من اليمن فاغتصب أرضهم وصلب أميرهم ربيعة والد الزير سالم وقد انتقم كليب من التبع حسان حين أراد أن يتزوج من خطيبته جليلة بنت مرّة وهي ابنة عمه وقتل كليب حساناً ونصب نفسه ملكاً على أرض بكر وتغلب وطمع جساس في الملك وشجعته على ذلك سعاد أخت التبع حسان وحدث أن رمى كليب ناقة للبسوس بسهم فأرداها فاستغاثت بجساس فانتهز الفرصة لتحقيق أحلامه ومن ثم قتل كليباً ابن عمه وعند ذلك طالب الزير سالم بالقصاص من جساس تحقيقاً للعدل فدارت رحى الحرب بين بكر وتغلب وكان النصر فيها حليفاً للزير سالم دائماً وضاقت بكر بهذا الأمر ذرعاً فذهبت إلى الملك الرعيني ابن أخت التبع حسان لمساعدتها فشن حرباً ضد الزير سالم ولكن النصر ظل حليف الزير سالم فقتل الرعيني ولجأ قوم جساس إلى الحيلة فأرسلوا إحدى النساء التي كان يحترمها وطالبوه بهدنة فاستجاب لهم لكن ذلك لم يمنعهم من الغدر به ساعة نومه وفي غيبة رفاقه فانقضوا عليه وأثخنوه بالجراح وحملوه إلى أخته زوجة صديقه «همام» وأخت جساس لتقضي عليه انتقاماً منه بسبب قتل ابنها ولكنها أشفقت عليه ونفذت طلبه فوضعته في صندوق وألقت به في البحر ودفعته الأمواج إلى بيروت ووقع الصندوق بين يدي الملك فأخرجه منه وعالجه من جراحه إلى أن شفي منها وجعلهً قائداً لقوات هذا الملك واشترك معه في حروبه ضد أعدائه وأنقذه منهم وأراد الملك أن يكافئه على بسالته فأرسله إلى أهله معززاً مكرماً ونشبت الحرب من جديد بين بكر وتغلب ودارت بينهما معارك طاحنة واتضح بعدها أن لكليب ابناً وهو «هجرس» وكان جساس قد رباه وأشاع بين الناس أنه ابن شاليش بن مرة وكبر هجرس ورحل مع أمه إلى منجد بن وائل وتزوج من ابنته وأصبح ملكاً على قبيلته. ثم عاد هجرس بن كليب إلى قبيلته وحاول أن يساعد أخواله في القضاء على عمّه الزير سالم والتقى هجرس بالزير سالم الذي شعر بأن قوة خارقة تمنعه من قتل غريمه وتصدت اليمامة لهجرس وأخبرته أن الزير سالم عمّه وشعر الزير سالم بأن دوره في القصاص لقتل أخيه كليب قد انتهى بظهور الوريث الشرعي لكليب وهو ابنه هجرس وأصر هجرس على أن يثأر لأبيه فقتل جساساً وبهذا تحققت العدالة على يديه ويشخص لقب الزير سالم الرجولة في كثير من المبالغة والراجح أن هذه السيرة دونت في العصر المملوكي في ظلال حكم العثمانيين.

وفي مجال الحكايات الشعبية نجد حكاية تحمل عنوان «عناني الشرقاوي تدور أحداثها حول «فتي من فتيان الريف كان كغيرة من أبناء الأسرة تلميذا يطلب العلم وجاءه الخبر بمقتل والده...فرجع إلي قريته يسأل عن القاتل لوالده الذي كان يعمل ناظرا في عزبة الباشا.. ثار الفتى وثارت معه القرية وحاول الباشا إغراء الفتى لكنه هو وأعوانه لم ينجحوا ...فالفتى كشف السر المستور فزاد عناده على الانتقام من قتلة الأب.. ولما فشل الباشا استنجد برجال الحكومة لمقاومة الفتى ومن معه.. لكن الحكومة أيضا ًبقوتها فشلت.. وكان اللجوء للخيانة هو الحل حيث حاولوا إغراء واحد من أصدقائه المقربين بالمال.. وبهذا الأسلوب استطاعوا قتل الفتى المتمرد من وجهه نظرهم لكنه كان بالنسبة لأهل قريته البطل الشعبي الذي لم يمت فقامت القرية بعدة ثورات حتى تحقق النصر وقضي على الإقطاع»9.

أما الأمثال الشعبية فهي الأخرى تدور في نفس الفلك حيث معنى الحرية والقوة والكفاح والمقاومة فالحرية مؤداها أن يعيش الناس أحراراً يعبرون عما يدور في أذهانهم بدون عائق .. وبما أن مصر شغلت بوجود الأجنبي لذا فقد خلق هذا في نفوس أهلها شيئاً من المرارة .. الأمر الذي دفعهم إلى الدفاع عنها.. ومن هنا كان وجود هذا الأجنبي بمثابة العائق الذي أخضع مصر لإرادة خارجة عنها «حداية من الجبل تطرد أصحاب الوطن»، «البيت بيت أبونا والغرب يطردونا» من أجل هذا نذر الناس أنفسهم لخدمة الوطن «يوم النصر ما فيهش تعب» فجاهدوا من أجل تحقيقه أشد جهاد «اللى يرشك بالميه رشه بالدم» وهذا يدل على أن مفهوم الحرية عندهم يحمل معنى الحياة «الحبس ذل ولو في جنينه» أي لا حياة للإنسان ما لم ينعم بالحرية ولا سعادة للشعب ما لم يملك إرادته في اختيار مصيره «بدل ما أقول للعبد ياسيد أقضي حاجتي بأيدي» «واللي يربط في رقبته حبل ألف من يسحبه»، «ضمة قبر ولا ضمة عدو». أما التمرد والمقاومة فهي الشجاعة والقوة والكفاح والوقوف ضد الظلم والقهر والعبودية وذلك لأنه «مافيش حد أحسن من حد»، «ولأننا كلنا ولاد تسعة» أما السكوت والرضوخ خوفاً من القهر والقتل فهذا ما يستدعي العصيان والتمرد والرفض والمقاومة ويجعلها ضرورة لازمة للحياة بإباء وعفة وكرامة «قال نام لما أدبحك قال دا شئ يطير النوم» «وقالوا لفرعون أيش فرعنك .. قال ما لقيتش حد يردني» أما السكوت علي وجود هذا الأجنبي فهو نوع من الرضا والاستسلام «والسكوت علامةالرضا» ومن ثم «سكتناله دخل بحماره» وبالتالي أصبح «الساكت في الحق زي الناطق في الباطل» ومن هنا كانت ثورة الشعب «الباب اللي يجيلك منه الريح سده وأستريح» خصوصاً إذا لمسنا روح الوحدة في النضال والكفاح المسلح.. هذه الروح لم تؤكدها الأمثال لمواجهه الخطر فقط لحظته وإنما هي الروح التي أتت بمعجزة الأهرام.. روح الكل في واحد «الأيد الواحدة ما تسقفش» حيث اندمجت فيها الملايين فأصبحت قلبا واحدا وعاطفة واحدة وفكرة واحدة .«اللي يحاديك حاديه وأجعل عيالك عبيده واللي يعاديك عاديه ولو كانت روحك في أيده».. أما «الأيد اللي تمتد ولا تضربش تستاهل قطعها» بينما الخضوع للسلطة، فتعبر عنه الثقافة الشعبية من خلال مجموعة من أمثالها، تتضافر لتجعل من ترتيبها أمرا طبيعيا.

«العين ما تعلاش على الحاجب»
«تربط حمارك جنب حمار العمدة»
«لما أنا أمير وأنت أمير، مين فينا يسوق الحمير»
«اسجد للقرد في زمانه»
«إذا لقيت ناس بتعبد الجحش، حشن وارمى له»

وتأتى الدراما الشعبية لتصور تلك المآسي وترسمها حية بالصوت والصورة .. وترسمها مجسمة في صورة نماذج لذلك الفساد وتلك الرشوة التي أستشرت في عهود الأسرة الحاكمة (أسرة محمد علي ) من أمور تمثلت في شدة الضرائب وسوء سلوك الموظفين جميعا وما يصاحب ذلك من تعذيب وإهانة في إشارة واضحة إلي تلك الإهانات التي يلاقيها الشعب آنذاك.. ولعل خير شاهد علي ذلك وتمرد على تلك الاوضاع ما رسمته « تمثيلية شيخ البلد»10 التي أوردها (أدورد وليم لين ) حيث عرض نماذجا ً لتلك الصور.. ولم تقف الصورة إلي هذا الحد بل أمتدت إلي الأغاني والمواويل الشعبية حيث الرفض الجماهيري لأساليب ومكائد الأستعمار وأعوانه.

تقول الأغنية: 11
هيلا هوب هيلا هوب
كرباج الأفندي نازل
هيلا هوب هيلا هوب
فوق ظهورنا زلازل
ياأبو الهموم ثقيلة
من كل حته واكل
وعيال كتيرة وعيله
وسبعه مليم للنفر
الموج دا أصله دمي
يامهون المواجع
ياأبويا لم عضمي
ما تقولش يابا راجع
وسبعه مليم للنفر
دا العمر دم ضايع
هيلا هوب هيلا هوب

وعلي نفس المنوال نجد الموال التالي الذي يكشف مآسي الأستعمار من جراء المذبحة التي حدثت في دنشواي12 حيث يعد احتجاجاً اجتماعياً وتمردا على الظلم والقهر من جانب الناس علي ما حدث:

بعد حكم المحاكم والشاويش والباش
ملايين وسقها كرومر معجبة للباش
أتفرعنت الانجليز بعد ما كانوا أوباش
نزلوا على دنشواي ماخلوا نفر ولا أخوه
اللي أنشنق أنشنق واللي فضل جلدوه
واللي نطق كلمة الحق في سجنهم ورموه
يوم شنق زهران كانت صعبه وقفاته
أمه تبكى عليه من فوق السطوح وإخواته
وكان له أب زى السبع يوم الشنق لم فاته
 صبرك علينا يا ظالم بكرة راح تندم
ولأجل نصر الديانة أتانا مصطفى كامل
راح البطل في الحال ولا تأناش
عزموه كبار الانجليز الكل ما خلاش
قالوا له طالب إيه يا مصطفى كامل في الحال قوام
قالوا له أدى الدوا والقلم.. في الحال قوام فدنا
قال أنا طالب عزل كرومر م البر ختموا له
وطالب مساجين مصر تخرج في الحال خرجوا له
وطالب مال لصاحب الدم صرفوا له.
ارتد فرحان على استانبول بالمزيكه ضربوا له
رجعوا سقوه.. مات.. ياخسارة يا كامل باش
أمانة يا دنشواي إن عاد الزمن تاني
 شاوري على الظلم وابكي دم من تاني
 شاهد وخصم وحكم إيه راح يكون تاني

ويجيئ موال أدهم الشرقاوي ليشيع روح الوطنية بين الناس متخذاً من أسلوب التمرد معبراً ليتخطى به معنويات الشعب المنهارة وكرباج الحاكم الذى يلهب ظهورهم ومستنداً في ذلك إلى رصد كبير من الأبطال الذين ضحوا بأرواحهم فداء لمصر ومن هنا كان أدهم الشرقاوي كما يحكي الموال بطلاً متمردا استلهمه الشعب كي ينفس به عن نفسه. بطلاً قدر له أن يكون مرهوب الكلمة ليس في قريته بل في مصر بأسرها.. فهو صاحب حيلة إلى جانب قوته ومضاء عزيمته وجمال صورته.. يجمع الي جانب الشجاعة وقوة الجسد المرح والذكاء والمرونة بل وحسن الحيلة بطل أراد الشعب أن يجعله هويته الذاتية «ومنين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه».

وبعد فكل هذه نماذج أدبية رسمها المأثور الشعبي من الناحية البطولية لتعكس الدور الذي يقوم به االمأثور الشعبي في علاج قضايا المجتمع مما يجعلنا في النهاية ننظر على أنه «أدب للمقاومة الشعبية»13 في قضايا الوطن التحررية.

ثالثا: موال الأدهم بين البطولة والتمرد:
وبعد هذه الاطلالة التاريخية والتراثية الشعبية لقصص الكفاح المصري وما بها من نماذج لأجيال تلو أجيال تمردوا واستحقوا لقب البطولة والشهامة ولشعب عانى كثيرا من الظلم والقهر والذل والاستعباد من مرارة الاحتلال وأعوانه من الفسدة والمستغلين والأقطاعيين، يجدر بنا أن ننظر إلى موال أدهم الشرقاوي وما به من رموز ودلالات.

فأدهم الشرقاوي، من منظور التاريخ الرسمي، مجرم خارج على القانون، ولكن السؤال الذي لابد من الإجابة عنه: أي جرم ارتكبه؟ وأي قانون تمرد عليه؟. لكن أدهم الشرقاوي بطل من وجهة نظر الشعب لأنه تحدى القانون الظالم من ناحية ولأن جرائمه موجهة ضد المستغلين الظالمين ولحساب الأغلبية المظلومة المستغلة. أدهم تبنى القانون الشعبي الذي ينحاز إلى الأغلبية المقهورة وتمرد على القانون الذى لم ينصفه، فهو يبحث عن الإنصاف القانوني ويبحث عن الحق الضائع، وهذا ما يشير صراحة إلى اليأس من قوانين الحكومة والكفر بها «جت الحكومة بتقول يأدهم عملت كده ليـــــــه؟! قال لها.. يا حكومة.. لما انقتل عمي عملت إيه؟!» لقد قرر الأدهم أن يقيم العدالة بنفسه، ذلك لأن الحكومة لن تنصفه، وقوانينها لن تفيده، ومثل هذا الموقف الذي يحظى بإعجاب جماهير الفلاحين، وهم صانعو الموال وحافظوه حول الأدهم إلى بطل ليكشف عن الكثير من خيبة الأمل تجاه القانون السائد بقدر ما ينم عن الأمل الذي لا يخبو في قانون بديل.

ومن هنا تناول الموال حادثة خروج أدهم الشرقاوي على القانون، نتيجة استشعاره عدم كفاية حكم المؤسسة القانونية الرسمية ولا الجزاء الذي وقعته على قاتل عمه ومن ثم يأخذ هو على عاتقه تنفيذ الحكم الذي تفرضه معايير القيم التقليدية. ثم يتصاعد تمرده ومواجهاته مع السلطة وأدواتها وإظهار عجزها عن أن تطوله إلى أن تجد أن الخيانة هي سبيل الوصول الوحيد إليه.

يقول الموال :14
ومنين اجيب ناس لمعناة15 الكلام يتلوه16
شبه المؤيد اذا حفظ العلوم وتلوه17

يروي لنا التاريخ أن جريدة المؤيد هي واحدة من الصحف السياسية التى ظهرت في مصر ابان الاحتلال الانجليزي لها ودأبت على نشر فظائع الاستعمار من قتل وسلب ونهب لرصد تلك الجرائم التى كانت ترتكب في حق أبناء الوطن ومن ثم حفظت جريدة المؤيد ذلك الخبر وغيره وتلته بعد ذلك عبر التاريخ ليتدبره من يحسن فهم المعاني.

الحادثه اللى جرت على سبع شرقاوي
الأسم أدهم لكن النقب18 شرقاوي

تقول الدكتورة «عبلة سلطان»19 إن اسم الشرقاوي لقب فقط وليس اسم العائلة وأن أجدادها عندما انتقلوا إلي مصر استقروا في الشرقية وعندما انتقل الجد مصطفى إلي البحيرة لقب بالشرقاوي واستقر في عزبة زبيدة بإيتادي البارود مع بعض أفراد العائلة والتي امتلكت أكبر نصيب من أرضها.

أما أدهم فاسمه الحقيقي أدهم عبدالحليم علي سليمان موسي عبدالرحمن الشرقاوي مواليد 1 يونيه 1897 وأن والدته هي السيدة نبيهة حسن رشوان ومحل ميلاده عزبة الشرقاوي، وكانت العائلة تمتلك هذه العزبة ومساحتها 5000 فدان تتبعها عزبة الكوم وزبيدة و14 عزبة أخري توارثتها الأجيال من الجد الأكبر لأدهم وهو الشيخ عبدالرحمن الشرقاوي كبير أعيان مصر والذي عين مع عمر مكرم محمد علي باشا حاكما على مصر وكان أحمد شقيق عبدالرحمن من شيوخ الأزهر الذين قاوموا الحملة الفرنسية واستشهد أحمد ورفض الفرنسيون تسليم جثته للعائلة كيداً لهم، أما الشيخ علي الشرقاوي فقد طالبه الزعيم الوطني أحمد عرابي بإعداد جيش من رجال المنطقة لمقاومة الإنجليز ومقابلته في كفر الدوار وسرعان ما استجاب الشيخ للزعيم؛ وانتصر المصريون علي الإنجليز في معركة تاريخية وحصل بعدها الشيخ علي الشرقاوي على لقب أفندي وتم مكافأته بـ300 فدان علي شجاعته.أما والد أدهم الشيخ عبدالحليم الشرقاوي فكان حاصلاً علي الاجازة العالمية من الأزهر وتعادل شهادة البكالوريوس الآن ولم ينشغل بالوظيفة واهتم بأملاكه 106 أفدنة، اضافة إلي عقاراته الممتدة بشارع الألفي في طنطا، واتسم بعلاقاته الاجتماعية الواسعة والمعتدلة إضافة إلي أعماله الخيرية ومنها تكية أوقفها للفقراء بها 13 غرفة والتي أوقف لها 25 فدانا للانفاق عليهم وعاش والد أدهم 33 عاما بعد وفاة ابنه وترك عزبة زبيدة وغادرها الي مدينة طنطا أمامحمود الشرقاوي عم أدهم فيعد من أهم الشخصيات التي أثرت في البطل الشعبي، أما بقية أعمامه فكانوا من كبار الملاك والمزارعين وبلغت أملاكهم حوالي 500 فدان، إلي جانب توليهم العمدية ومشيخة البلد.

كان جدع جــد وصاحب شجعنة20 اليوم قتلوه
أسمع كلامي ع الأدهم الشرقاوي لما كبر وزال همه
وأتربـي في المدرسة تسع تاشر سنة لما بلغ سنه
خد الشهادة حتى العلم الصعيب21 تمه
راح له الخبر في المدرسة أنه أنتقل عمه
فضل يبكي وبكت التلاميد حواليه (حوله)
قال عمي مات وسكن لحود الفنا وأنتم حتعملوا لي إيه
والله لأمشي وأنزل البلد وأشوف (أبحث )أصل الحكاية إيه
نزل على البلد وقال ياأهل البلد دلوني
علشان أشفي غليلي وأطفي نار قلبي وعيوني
قالوا اللي قتل عمك أنمسك وآدي الحديد في أيديه
وراح على أبن العدو فسخه بأيديه
جت الحكومة بتقول يا أدهم عملت كده ليـه ؟!
قالهـا ياحكومة لما أنقتل عمي عملتي أيه ؟

تقول د.عبلة سلطان أن أدهم كان ذا بنيان قوي منذ مولده، وكان يبدو علي ملامحه السمات الأوروبية بالوجه الأحمر والشعر الذهبي وعينين عسليتين، وتميز منذ طفولته بالقدرة الفائقة علي الاستيعاب وظهر ذلك من خلال قدرته علي حفظ القرآن الكريم، وتعلم خلال طفولته اللغة اليونانية دون معلم لأنها كانت اللغة السائدة بين تجار القطن، وكان والده معجباً بنبوغه فألحقه بمدرسة لغات فرنسية خاصة في طنطا وكان عمره 3 سنوات كما أتقن اللغة الإنجليزية والفرنسية وقبل أن ينهي دراسة البكالوريا ترك مدرسته وتدلل الدكتورة عبلة على شجاعة أدهم، أنه عند زيارة السلطان حسين كامل لمدينة طنطا جمع المسئولون طلاب المدارس لاستقباله والهتاف بحياته كتقليد متبع وفجأة خرج أدهم ليهتف يسقط عميل الاستعمار يسقط السلطان وسرعان ما انضم إليه جمع غفير من الصبية والشباب يرددون الهتاف مما أوقع المسئولين في حرج شديد وكاد يفصل من المدرسة لولا تدخل عمه العمدة عبدالمجيد بك الشرقاوي الذي أصبح منذ هذا اليوم قلقا من تصرفاته وذلك نظرا لطبيعة منصبه، ومنذ ذلك الوقت ذاع صيت أدهم بين أهل قريته والقرى المجاورة وتميز بشجاعته وبأسه وقدرته علي مواجهة الخطر، فلم يكن يخشى هجمات اللصوص أو عواء الذئاب، اضافة إلى كرمه الشديد مع الفقراء وتعاطفه معهم في مواجهة الأثرياء وكبار التجار كما أن والدته وصفته بالعند والذكاء والتمرد ورغم ذلك كان يتميز بالحنان والعطف على أخويه، كما كان بارا بوالديه ولفتت إلي أن حادثة دنشواي 1906 تركت أثراً بالغاً في نفسه وكان عمره وقتها 9 سنوات، وأشارت إلي أن هناك واقعة أخرى أثرت في حياة أدهم وهي مصرع عمه الشيخ محمود الشرقاوي بسبب تصديه للرسوم التي فرضها الباشا علي المياه، وبسبب مساندته لإحدي قريبات الباشا، والذي اغتصب أرضها وتنامى إلي سمع الباشا أن الشيخ محمود يعتزم الزواج بها فقرر نفيه إداريا وعندما عاد الشيخ محمود أطلق عليه الباشا الرصاص ليلقى مصرعه. وكان أدهم شديد الفخر بعمه لما يتميز به من عدل بين الناس عند عقده المجالس العرفية بصفته نائبا للعمدة وورث أدهم تلك الصفات عنه مما دفعه للتصدي للصوص ولذا أحاطه الفلاحون بحبهم وتستروا عليه في بيوتهم وكثيراً ما أخفوه عن أعين السلطة المستبدة وأشارت إلي أن أدهم كان له صديقً كان مؤمناً بفكره هو محمود محمد بدران الشهير بـ«بدران» وكان شيخاً لخفراء الناحية وتولى وخفراؤه حماية أدهم ورجاله من رجال السلطة والاحتلال وكان بدران من أهم العوامل التي أدت إلي نجاح أدهم خلال مسيرته النضالية وورث بدران وظيفته عن أبيه الشيخ محمد بدران وتلقى تعليما أوليا بكتاب القرية ثم التحق بالأزهر وجمعته بأدهم صداقة حميمة وتعرض للفصل من وظيفته أكثر من مرة لرفضه الإدلاء بأية معلومات عن أدهم للسلطة وكان الجميع يعرفون أن أدهم لابد وأن ينتقم من قاتل عمه.

لذلك كانت هنا محاولات لقتله وفي إحدي المرات تعرض أدهم لإطلاق النار عليه لكنه نجا منه بالابنطاح على الارض وكلمح البصر عاجل الرامي بطلقة مقابلة واستقرت في رأسه. وأكدت الدكتورة عبلة أنه كان بإمكان أدهم الفرار لكنه سلم نفسه بارداته واعترف بقتله دفاعا عن نفسه وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الى السجن سبع سنوات مع الاشغال في سجن أبوزعبل خلال عام 1917.

وراح على السجن وقال حاس23 عدوني
وهاتوا كبار السجن يصارعونـي
عشرة لعشرة شلتهم لشالوني
قال صفولى لي السجن أ ثنين ورا أثنين
وارووا لي الحوادث كما فعل النظر والعين
اللي يقول أنا م الصعيد ولا بالي
واللي يقول أنا م المنوفية قاتل ومتيتم عيالي
واللي يقول أنا م الشرقية لكن عند الكريم باري
واللي يقول أنام البحيرة قاتل سبع شرقاوي
قال بس دنته زميلي بطوال العمر ما أفرط فيه
ميل عليه ميله فسيخه ما بين أيديه
التمت عليه العساكر بكثرة وحطت الحديد في إيديه
على الزنزانة لوحده وقفلوا عليه
باتوا ( ناموا) عيون السبع الليله دي ماناموش
طلع م السجن سور السجن ما حاشوش 24
لبس حكمدار وراح ايتاي البارود 25 هزه
قال عايزين السلاح القديم نجيب بداله جديد ونعزه
عمل رخصة لشيل السلاح من غير ما يشور ولا يتكلم
طلع مسك الخلا26 والوديان
وسلم أموره لواحد مقتدر ديان
طلع ع الجبل وعمل مغاره قعد فيها
طلعت عليه الحكومة بتدور27
لبس لهم قميص ومقور28
ومسك الشمع أمام الحكم29 منور
قال منين البلاد يـا حكومة
قالوا بنبحث عن الأدهم واخد بتار30 عمه شبابين
قال أنا الأدهم ما شفتوش31
أسمع عن الأدهم أنه ساكن وسط الجبال والوحوش
قاموا ما يوقعش الأدهم إلا الصاحب
بعتوا لصاحبه وعدوا له من المال كتير
قال لهم ما أقدرش أروح لأدهم لوحدي
الأدهم ساكن في الجبال والعلالي
راح له وقال يأدهم يالله نسيب العلالي
وننزل في مكان داري
والله قلم المباحث ورانا أيام وليالي
قال قلبي بيحدثني في هذا اليوم
إن الشباب أنتهي ولا عدش في الأجل يوم
يشمت عزالي ويكتر هرجهم اليوم
قال له فداك ياحبيبي عيون الذي تراه
قام البطل قام وكان النظر صايب
وداس ع الزناد طلع النشان صايب
أول رصاصة جت مالكه اليسر
قال راحت ليالي الهنا وجت ليالي العسر
ثاني رصاصة جت مالكه بزه
قال ليه ياعيوني من ضرب الرصاص بتنزه32
ثالث رصاصه جت مالكه الصره
قال بعد ما كنت أقرأ وأنا في العلوم جره33
ياما كسيت الغلابه ودمدمت ع الحره
الحق عليه أنا اللي خليت أبن المره يعرف لي طريق جره
ومنين أجيب ناس لمعناة الكلام يتلوه
أمانة يا عيلة الشرقاوى محدّ بعدّيه
لا أخ لي ولا عم، يأخذ التار بعدية

وفي الليمان ارتكب جريمة قتل أخرى، حيث التقى عبدالرءوف عيد قاتل عمه محمود وقد قبض عليه في جريمة أخرى، فضربه على رأسه بالآلة التي يقطعون بها حجارة الجبل. استغل أدهم حالة الفوضى والاضطراب وهرب من السجن مع عدد كبير من السجناء. وهنا تنسب إليه بطولات خارقة ومواقف وطنية، فيقال إنه تحدى المأمور الانجليزي «باكيت» وقاد تمرداً وسط السجناء حيث قال لهم جملته الشهيرة: «أنتم محبوسين زي الفراخ وإخواتكم بره بينضربوا بالرشاشات» في إشارة إلى ثورة 1919.

وبفضل قوته الجسمانية خلع بوابة الزنزانة ( هناك رواية تشكك في قوته الجسمانية وتؤكد فقط جرأته الشديدة وأنه لا يهاب أحداً) ثم قيد حارسه بالسلاسل، وهرب مع زملائه في الزنزانة بعد معركة دامية مع البوليس سقط فيها ما يقرب من ثمانين قتيلا
وتنسب إلى أدهم براعته في التنكر، فمرة يتحدث بلغة أجنبية وكأنه خواجة، ومرة يرتدى لبس سيدة، مما صعب من مهمة البوليس. وحسب الرواية الشعبية التي تراه بطلاً ناضل ضد الإنجليز وأعوانهم وانتصر للفلاحين الغلابة، فإن البوليس أدرك أنه لن يستطيع النيل منه.

هنا عززت الحكومة قوات الأمن في المنطقة وأكثرت من دورياتها، إلى أن تخاصم أدهم مع أحد أقربائه وهو خفير اسمه محمود أبو العلا فوشى به لدى البوليس ودلهم على مكانه وحين حاصرت الحكومة مخبأه تركه أعوانه خوفاً على حياتهم، فراح يتنقل بين مراكز إيتاي البارود وكوم حمادة والدلنجات. وأخيرا أرسل ملاحظ البوليس( الجاويش محمد خليل وأومباشى سوداني وأحد الخفراء) فكمنوا له متنكرين في حقل ذرة في زمام عزبة جلال، وكان أدهم في حقل مجاور من حقول القطن يتأهب لتناول غدائه الذي جاءت به امرأة عجوز. ولما أحس بحركة داخل حقل الذرة المجاورة أطلق عدة طلقات من بندقيته دفاعا عن النفس ولكن الجاويش محمد خليل أطلق عليه رصاصتين فسقط قتيلا قبل أن يتناول شيئا من طعامه ووجدوا معه نحو مائة طلقة وخنجرا. وتلك هي الرواية الثابتة تاريخياً بأن ثلاثة من أفراد البوليس شاركوا في قتله.

خاتمة
أدهم الشرقاوي هو رمز بطولي تمرد على ماهو سلبي في مجتمعه حيث قتل عمه ظلما فثأر لمقتله ومن ثم كان في نظر القانون مجرما، وخارجا على القانون إلا أن الوجدان الشعبي تعاطف معه وسلك معه مسلكا يحطم به واقع الظلم والقهر والعبودية الذى كان سائدا في هذا المجتمع، والملاحظ الأكيد أن الرواية الرسمية تخالف الرواية الشعبية ففور أن عرف أدهم بمقتل عمه وجه الاتهام إلى الحكومة ورفع قضيته للثأر من الحكومة.

كما أن أدهم لم يكن الشخصية المثالية التي تتسم كل أعمالها بالنبل والجلال ولكنه شخصية إنسانية عادية تتأرجح أفعالها بين الصحة والخطأ بل أنه زاد على ذلك أن سمة البطولة التي أسندت إليه تثير في الناس روح الشفقة عليه وتدفعهم الى التعاطف معه، وتتوالى الأحداث بالقبض عليه ليحكم عليه بالإعدام الا أن الأهالى دفعوا مئة جنيه وحولوا حكم الإعدام الى سجن سبع سنوات، لكنه هرب من السجن، وطلبت السلطة القبض عليه حيا أو ميتا. صحيح تعرف على القاتل في السجن وقتله، إلا أن ذلك لم ينه القضية.

وهكذا يبرز لنا التشويه الرسمى لصورته والتى كانت من المعتمد البريطاني آنذاك، وهو ما تلقفته الصحف الموالية للسلطة وبعض رواة التاريخ من أنه كان يسرق من الأثرياء ويعطي الفقراء وكان هذا جزءا من شيطنة الشخصية سلوك قديم سبق أن نبه اليه ابن خلدون في مقدمته «إن فحول المؤرخين قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها، وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها، وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها، وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها، واقتفي تلك الآثار الكثير من بعدهم وابتدعوها، وأدوها إلينا كما سمعوها، ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها»34.

الهوامش

1. د. محمود ذهنى – طه حسين وصورة البطل الشعبى – الفنون الشعبية –العدد 32 – الهيئة المصرية العامة للكتاب – 1991.
2. د. احمد شمس الحجاجى – ميلاد البطل فى السيرة الشعبية العربية – دار الهلال - القاهرة.
3. ألبير كامو ، الإنسان المتمرد ، ترجمة نهاد رضا ، منشورات عويدات بيروت ، ط الثالثة 1983 ، ص 21:18.
4. ازهار محمد مجيد نصيف السباب - قياس التمرد النفسي عند طلبة معهد اعداد المعلمين ( تكريت) مجلة سر من رأى- المجلد 7 – العدد27 –تشرين الاول 2011.
5. راجع :
- د. عبد الحميد يونس – (الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي )مطبوعات جامعة القاهرة سنه 1956- ص6.
- د . قاسم عبده قاسم – بين الادب والتاريخ – دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع – القاهرة – 1986 .
- د . قاسم عبده قاسم - ، د 0 احمد ابراهيم الهواري – الرواية التاريخية في الأدب العربي الحديث – دار المعارف - 1979
6. راجع : فتحي خليل – نضال الفلاحين – دار الكاتب العربي – القاهرة سنه 1967 ص66
7. د. اسامه محمد أبو نحل -حركات التمرد في مصر في بداية العهد العثماني (1517 - 1524م) - والنتائج المترتبة عليها – موقع الفسطاط - المجلة التاريخية http://www.fustat.com-
8. راجع الزير سالم - أبو ليلى المهلهل - دار الكتب العلمية – بيروت – ط1 - 1993
9. د. مرسي الصباغ – القصة والحكاية والحدوتة الشعبية في محافظة الشرقية – دراسة ميدانية وفنية – أطروحة دكتوراة – جامعة الزقازيق – سنه 1991م – حيث يمكن مراجعة نص الحكاية.
10. أدوارد وليم لين – عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم – مطبعة مدبولى الصغير - ص 100: ص 110.
11. الأغنية من رواية الطالبة- هناء عزت السعيد بيومي – مدينة بور سعيد – ج.م.ع – 19 سنه- تاريخ الجمع فبراير سنه 1995- قام بجمعها د . مرسي الصباغ.
12. نص الأغنية من مجموعة نصوص مختارة قدمها د. أحمد مرسي في كتاب الأغنية الشعبية – مدخل إلي دراستها – دار المعارف – القاهرة
13. د. محمود ذهني – الأدب الشعبي العربي – مطبوعات جامعة القاهرة – الخرطوم - 1972 – ص104.
14. لنص الموال – مجموعة روايات مختلفة – ويمكن مراجعة:
- كاتب السطور / الموال في مركز الزقازيق – دراسة ميدانية وفنية - أ طروحه ماجستير نه1978جامعه الزقازيق ج.م.ع.
- د. أحمد مرسي – الأغنية الشعبية – مصدر سابق .
15. لمعناه ... لمعاني
16. يتلوه ... من التلاوة والأستمرارية في الحديث .
17. تلوه ... أعادوا ذكره
18. النقب ...شهرة العائلة .
19. هبه معروف – حوار اجرته مع الدكتورة عبلة سلطان أستاذ التاريخ الإسلامي حفيدة شويكار الشرقاوي ابنة عم أدهم الشرقاوى - جريدة صوت الأمة نشر فى يوم 31 - 10 - 2009 م
20. شجعنة... شجاعة
21. الصعيب ... الصعب
22. أبو علي زكريا التبريزي – شرح القصائد العشر – المطبعة المنيرية بالقاهرة 1367هـ
23. حاس... شجعوني
24. ماحاشوش... لم يمنعه
25. إيتاي البارود – أحد مراكز محافظة البحيرة – بجمهورية مصر العربية
26. الخلا ... الأرض الواسعة
27. بتدور ... تبحث عن
28. هو زي يلبسة الفلاح المصري ويصنع من قماش البفتة أو الدمور وهو من القطن لكن المقصود في الموال هو زي تلبسة الفلاحة المصرية كدلالة علي الخديعة لرجال الشرطة
29. الحكم ... رجال الحكومة (يقصد المباحث )
30. بتار ... بثأر
31. ماشفتوش ... لم أره
32. بتنزه... تنزف
33. جره...يقصد متفوقاً .
34. ابن خلدون: المقدمة، جـ1، صـ 282.

المراجع
- د . شوقي ضيف – البطولة في الشعر العربي – دار المعارف – القاهرة – ط 2 – 1984
- د . نبيلة ابراهيم سالم - البطولة في القصص الشعبي – دار المعارف – القاهرة – 1977
- د. أحمد شمس الدين الحجاجي – ميلاد البطل في السيرة الشعبية - دار الهلال – القاهرة
- د . محمود ذهني – طه حسين وصورة البطل الشعبي – الفنون الشعبية – العدد 32 – 1991 – الهيئة المصرية العامة للكتاب

الصور
1. https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D8%AF%D9%87%D9%85_%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82%D8%A7%D9%88%D9%8A#/media/%D9%85%D9%84%D9%81:Adham_elsharkawy.png
2. http://www.archivegypt.com/wp-content/uploads/a793fd01a5399ff5bc224baaba3378bc.jpg
3. https://gololy.com/slideshow/2013/02/21/77601/91417/%D8%A8%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%88%D8%B1-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AB%D8%A7%D8%A6%D9%82-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B3%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84%D9%86-%D9%86%D8%A8%D8%A3-%D9%85%D9%82/photo_1.html
4. https://encrypted-tbn0.gstatic.com/images?q=tbn%3AANd9GcQ4Tgr8K4317aww1oeZEA2DiukKUjqYe-Ho2sl3Kd5HkSbiCuD1&usqp=CAU
5. https://i2.wp.com/www.quicklook4u.com/bawaba/wp-content/uploads/2013/01/%D8%A7%D8%AF%D9%87%D9%85-%D8%A8%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D9%86.jpg?fit=574%2C604&ssl=1

أعداد المجلة