الطيب محمد الطيب .. خمسون عاما في الحقل
العدد 10 - في الميدان
لم يكن أحد ليصدق أن هذا الشاب القروي البسيط والذي يدعى الطيب محمد الطيب (1937-2007) يمكن أن يفجر ثورة في دراسات الفولكلور السوداني، إذ لم يكن يحمل أي مؤهل أكاديمي يساعده في هذا المجال، لكن هذا الشاب ظل يتجول- منذ أن كان في العشرين من العمر- في الحقل جامعاً للجنس الفولكلوري، وظل في الحقل قرابة نصف قرن، وعندما لفظ آخر أنفاسه كان قد ترك رصيداً ضخماً من أدبيات الفولكلور من الكتب والمقالات والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، من أهم هذه المساهمات كتبه المسيد (1998) الدوباي (2002) والإنداية (2004) ومئات الحلقات من برنامجه ذائع الصيت صور شعبية الذي ظل يقدمه عبر شاشة التلفزيون القومي لما يقارب الثلاثين عاماً.
لقد أعطى الطيب للوطن حصيلة خمسين عاماً قضاها باحثاً وجامعاً للتراث وكان ينطلق في جهده هذا بحب صادق لهذا الوطن.
هذه الورقة تحاول أن تسلط الضوء على بعض ملامح تجربة الفولكلوري الرائد والفذ الطيب محمد الطيب.
جاء الشاب الطيب محمد الطيب إلى الخرطوم من قرية المقرن من ضواحي عطبرة وهو لا يحمل سوى مؤهل بسيط وذاكرة متقدة وطموحات لا تحد، وكان من حظ السودان أن ذلك الشاب عرف أين يضع أقدامه في التراث الشعبي كان المثقفون والأكاديميون قد انتبهوا إلى ضرورة تأصيل الشخصية السودانية والبحث عن الذات فأتاحت كلية الآداب بجامعة الخرطوم فرصة لدراسة هذه الذاتية فكان تأسيس شعبة أبحاث السودان بمبادرة من ساندرسن وعبد الله الطيب(1963) وظهر تيار (الغابة والصحراء) في أعقاب ثورة أكتوبر 1964م لمؤسسيه صلاح أحمد إبراهيم والنور عثمان أبكر ومحمد عبد الحي. ولعل أكبر مساهمة للتيار هي الاعتراف بالمكون الإفريقي في الشخصية السودانية الذي رمز إليه بالغابة جنباً إلى جنب مع العنصر العربي الذي رمز إليه بالصحراء. وهكذا تم تجاوز المدرسة العروبية التي ركزت على المرجعية العربية، ورائد المدرسة هو عبد الله عبد الرحمن الضرير الذي وضع أساسها القوي في كتابه العربية في السودان (1923)، وفي ذلك الوقت أسست وحدة أبحاث السودان، وضمت صفوة أساتذة وخريجي كلية الآداب مثل د. يوسف فضل أستاذ التاريخ، بجانب سيد حامد حريز وأحمد عبد الرحيم نصر وعبد الله علي إبراهيم وثلاثتهم يحملون درجة الشرف في الآداب في تخصصات اللغة الإنجليزية والفلسفة والتاريخ على التوالي، وجد الطيب نفسه في خضم مؤسسة أكاديمية لا يملك أفرادها سوى تأهيل أكاديمي وإرادة قوية وأحلام لا تحد. ولم يكن الطيب يملك ذلك التأهيل ولكن كان يحمل شخصية كاريزمية وذكاء ثاقب لا يخلو من دهاء وكل هذا سيجعل منه فيما بعد واحداً من أهم جامعي التراث في السودان إن لم يكن أهمهم على الإطلاق.
لاشك أن وراء نجاح الطيب محمد الطيب كجامع تراث ذكاؤه الاجتماعي وفهمه العميق للشخصية السودانية، فقد امتلك منهجه المميز في إدارة الجمع الميداني وهو منهج يلتقي كثيراً مع عناصر منهج الجمع الميداني العلمي كما وردت في مؤلفات علماء الفولكلور في أوربا مثل المرشد للجامع في الفولكلور لمؤلفه قولدشتاين (Goldstein)، وقد ظل هذا المرشد واحداً من أهم المراجع في هذا الصدد في قسم الفولكلور وقد وضع الكتاب باللغة الانجليزية ولم يترجم للعربية حتى الآن _ حسب علمي _ ويركز (قولدشتاين) على صفة مفتاحية لابد من توفرها لدى الجامع ودونها يستحيل القيام بالجمع ألا وهي صفة القبول Rapport، ويوضح المؤلف كيف يمكن للجامع أن يصنع هذا القبول عبر آليات محددة، وسنحاول في هذه الورقة دراسة منهج الطيب محمد الطيب في الجمع الميداني من خلال رصد تجاربه التي لا تحصى في الجمع طوال أكثر من نصف قرن من الزمان، طاف فيها الطيب الوطن الذي أحبه من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، بل وطاف اغلب أجزاء إفريقيا وكل العالم العربي. وقد تلمس الطيب قيمة الجمع الحقلي بعد عدة تجارب وزيارات ميدانية، بمكن القول إن الطيب تعلم من هذه التجارب الكثير وأثرى بها تجربته، لم يكن الطيب الجامع الشاب المولع بالتراث الشعبي يحفل بالجمع الحقلي في بداية اهتمامه بالتراث، فقد نشر العديد من المقالات في مجلة الخرطوم التي كانت تنشر هذه المقالات وغيرها تحت عنوان: “من التراث القومي” تارة، وتارة تحت عنوان “من التراث الشعبي”. وكان الطيب في هذه المرحلة واقعاً تحت تأثير المدرسة العروبية، خاصة تأثير أساتذته عبد المجيد عابدين وعبد الله الطيب، ففي دراسته عن عبد الله ود شوراني لا نجد أية إشارة للجمع الميداني (الطيب. د. ت) يقول الطيب في مستهل دراسته “إن بادية البطانة التي أهدتنا من الشعراء الفحول، أمثال الحاردلو وود النعيم وخنساء البادية، لا تزال مطوياتها ثرة دفاقة تلهب خواطر الشعراء وتحرك عواطفهم وهي ما تزال مستودعاً للكلم العربي الفخم والعادات والقيم السودانية الأصلية.” (نفسه: 16). في واقع الأمر إن الطيب لم يكن متفرداً في عروبته حين تناول شعر البادية خاصة، فقد ظل هذا التيار غالباً في دراسات الشعر الشعبي.
على كل سرعان ما عرف الطيب بحسه العلمي ومزاجه التراثي أهمية الحقل ومقابلة الرواة وجهاً لوجه وصار الحقل ضالته، الأمر الذي تمرس فيه إجادة، فللطيب خاصية القدرة على اكتساب المعرفة والتعليم الذاتي.
بدأت تجربة الطيب في الجمع الميداني برحلات ميدانية شارك فيها الأساتذة والطلاب والباحثين في شعبة أبحاث السودان، وكانت حصيلة هذه الرحلات مادة أثمرت عن عدة مؤلفات منها كتابان أعدهما الطيب هما: التراث الشعبي لقبيلة الحمران (الطيب: 1970) والتراث الشعبي لقبيلة البطاحين (الطيب: 1970) وساهم مع آخرين في إعداد كتاب ثالث هو التراث الشعبي لقبيلة المناصير (الطيب وعبد السلام وعلي سعد: 1969)، وقد أشار الطيب في هذه المؤلفات إلى الجهد الذي قام به في الجمع الحقلي. ففي كتاب الحمران نجده يقول «هذا الكتاب ثمرة عمل ميداني طفت فيه ديار الحمران مرات ثلاث. مارس 1968، فبراير 1969. نوفمبر 1969، تمكنت فيه من جمع هذه المادة بعد جهد ومشقة من أفواه الرواة» ونجده يضيف «ولا أحسب أن انتزاع مسألة أو قصة أو رواية تاريخية من الحمران بالأمر السهل الميسور إذ أنهم أقاموا حاجزاً نفسياً بينهم وبين قصة تاجوج ومحلق وكثير منهم يتحرج من ذكرى تاجوج يحسبانها عرضاً يجب صونه» (الطيب: يونيو 1970). وحق للطيب الفخر بهذا الإنجاز فقد نجح في جمع تراث الحمران بالرغم مما عرف عنهم من عزلة وانطواء، بل نجح في جمع نص مطول عن قصة تاجوج والمحلق وهو من النصوص النادرة لهذا الرومانس الذائع الصيت، وقد اهتم الطيب بالنص وأفرد له فصلاً كاملاً هو الفصل الرابع.
نلاحظ جهد الطيب في جمع مادة كتاب البطاحين وهم جماعة تنتشر في مساحة واسعة في الجزيرة وشرق النيل، وقد حرص الطيب على زيارة أغلب القرى والمدن التي يتواجد بها البطاحون إن لم تكن كلها، وهو يصف أسفاره هذه قائلاً: «بدأت الاتصال بالبطاحين الذين يسكنون حول العاصمة مثل قرية الحاج يوسف والمايقوما، ثم ذهبت إلى أبو دليق عاصمة البطاحين ومن ثم أمكنني وضع خريطة تبين الأماكن التي يتواجد فيها البطاحون خارج منطقتهم مثل القرى الواقعة حول النيل الأزرق والجزيرة والمناقل وسنار». (الطيب: يونيو 1971،1).
ويتكرر الأمر في جمع مادة كتاب المناصير الذي أنجز على مرحلتين مرحلة قام بها عبد السلام سليمان وعلي سعد علي، والثانية قام بها الطيب، وقد غطت المرحلة الأولى المناصير الذين يسكنون على النيل، بينما اختار الطيب الجماعة التي تسكن صحراء بيوضة وهي جماعة المناصير الرحل الذين يتنقلون في صحراء بيوضة نحو الحسانية جنوباً ومروي شرقاً.». (الطيب عبد السلام سلمان وعلي سعد: ج) وفعل الطيب الشيء نفسه في إعداد كتابه عن الشيخ فرح ود تكتوك حلال المشبوك: الشيخ فرح ود تكتوك (الطيب: 1972) ويصف الطيب أسفاره وترحاله لجمع المادة قائلاً «وجدت عندي بعد الفراغ من إعداد كتاب التراث الشعبي لقبيلة «البطاحين» شتاتاً ]هكذا[ من المعلومات حفزتني لمواصلة البحث عن سيرة هذا الرجل وزرت سنار وما حولها ست مرات وفي كل مرة كنت أجد بعض المعلومات الجديدة عنه. وبعد أن حصلت على تلك الروايات الشفهية رحت أسأل عن بعض آثاره المحفوظة فلم يخيب أهل الفضل ظني. (نفسه: 22).
وكالعهد به بذل الطيب جهداً كبيراً في جمع سيرة العالم الجليل والفقيه فرح ود تكتوك (1047-1147هـ). فهو قد أجرى مقابلات مع أربعة عشر راوياً وأكبرهم سناً بلغ عمره ثلاثة وتسعين عاماً وأصغرهم خمسين عاماً واعتمد على الكثير من المخطوطات التي سعى إليها حثيثاً ونجح في الحصول عليها. ويصف الطيب هذا الأمر بقوله: “وبعد أن حصلت على تلك الروايات الشفهية رحت أسأل عن بعض آثاره فلم يخيب (هكذا) أهل الفضل ظني. فوجدت بضع مخطوطات تحدثت عن سيرته ودونت أقواله”. (نفسه: 22).
وقد تميز الطيب بالدقة في جمع المعلومات من أفواه الرواة. هو يحتفظ برأيه في المادة ويجمعها كما هي، نلمس هذا في حديثه عن الروايات عن الشيخ فرح حيث يقول “أما أقواله وأحاديثه فقد كتبتها كما وجدتها وفيها المستقيم والمضطرب، الشعر بصفة خاصة وظني أن للرواة يد في ذلك الاضطراب والوهن، ولم أحاول تقويم أي شيء منها ولعل هذا يقع في الغد على من يتصدون لمثل هذه الدراسات”. (نفسه: 23).
إن أي فكرة بسيطة أو اسمٍ أو لفظٍ يشكل حافزاً للطيب ليتوغل في الحقل، على سبيل المثال أول مؤلفاته حلال المشبوك، فقد كان الطيب يظن أن الشيخ فرح ود تكتوك شخصية وهمية، فنجده يقول:« لأول مرة سمعت اسم الشيخ فرح ود تكتوك من جدتي (فاطمة بت فاطمة) وكنا نحسب أن الشيخ مثل الغول والسعلوة والدكة وفاطمة القصب الأحمر.» (نفسه: 21). وعندما اضطلع الطيب بإعداد كتاب عن البطاحين عام 1970 بتكليف من شعبة أبحاث السودان ظل يسمع اسم الشيخ فرح ود تكتوك كثيراً، وهذا مما أثار فضوله حول شخصية الشيخ.
والشيء نفسه نجده في دراسته عن الأنداية التي تولدت من خواطر عامة ترسمت في ذهنه منذ الطفولة، ونجده يصف كل هذا في مدخل كتاب الأنداية (الطيب: 2004). يذكر أنه أثناء بحثه عن أحد رواته قيل له أنه “ذهب للأنداية” وذهبت جهة الأندايات في تردد وحياء شديدين وكانت تدور في ذهني مشاعر شتى وأنا مقبل على هذا المكان الذي لم الفه (هكذا) ولي فيه رأى أو يجب أن يكون ليه فيه رأي مسبق بحكم نشأتي في بيت أشبه بالبيوت البيت نطلق عليها البيوتات الدينية” (نفسه: أ).
أما عن دراسة الدوباي فهي كذلك انطلقت من فكرة بسيطة، يسترجعها الطيب قائلاً “كنت أظن حتى سنة 1965م أن كل الشعر الشعبي لا يخرج عن دائرة الدوبيت. وفي أولى رحلاتي للبادية زرت منطقة أم شديدة وما حولها والتقيت في تلك الرحلة بعدة أشخاص منهم الشاعر والراوية. ولفت نظري أنهم لا يقولون (الدوبيت). (الطيب: 2002). وكالعهد به حرص الطيب على توثيق معلوماته عن مصطلح الدوبيت ويقول في هذا الصدد “ولما طال إلحاحي وإصراري على ترديد كلمة (الدوبيت) نبهني المرحوم الشيخ الصديق أحمد طه قال “الغنا ... دا اسمه عندنا الدوباي ومن أراد الدوبيت فليذهب إلى ناس البحر” ويعني بهم أهل المدينة، وكان متحمساً حماساً في رده على إصراري، فصمت وتظاهرت بالإقتناع وأنا في قرارة نفسي منحاز لكلمة الدوبيت” .(نفسه: 11). ولكن الطيب لم يتعصب لرأيه وأعطى لنفسه الفرصة للتحقق من الأمر، وبالطبع اعتمد على العديد من المصادر وأهمها الجمع الحقلي فقام بعشرات الرحلات الميدانية وسافر إلى مناطق شندي وبربر ومناطق الشكرية والقضارف، وبعد هذه الرحلات بدأت قناعة الطيب تهتز وخلص إلى القول “واتضح لي من كل الأشخاص الذين التقيت بهم من هذه الرقعة الواسعة أنهم لا يعرفون كلمة دوبيت وأنهم سمعوها من خلال راديو أم درمان في السنين الأخيرة” .(نفسه: 12) لكن الطيب ظل أحرص ما يكون على حسم الأمر، ولم يشفِ غليله ما توفر لديه من معلومات لهذا قرر المضي قدماً في جمع ما يتعلق بالمصطلح ونجده يقول “طرحت كلمة الدوباي وصرت أقول مثلهم الدوباي) ولم أكتف بتلك الرحلة الاستطلاعية وعاودت تكرار الرحلات إلى تلك الأماكن التي زرتها من قبل”. (نفسه: 12).
وانطلق الطيب مرة أخرى في بحثه الدؤوب عن الفرق بين الدوبيت والدوباي؟ “وسافرت من بعد ذلك لأعالي حوض نهر “اتبرا” ومنه إلى نهر ستيت حتى الحدود الأثيوبية ثلاثة مرات متتالية ومنها ذهبت إلى منطقة الدندر والرهد (----) ولم أسمع في تلك الجهات غير كلمة “دوباي” إزداد اقتناعي”. (نفسه: 12). وظل الطيب يواصل جهده ونجح في جمع الطواف على اغلب أجزاء السودان خاصة مضارب المجموعات العربية مثل الكواهلة ورفاعة والحمرة وكنانة وكانت حصيلة كل هذا الجهد العظيم مادة ثرة لا تتعلق بالدوبيت فحسب بل بالشعر الشعبي عاماً وأهم ما في كل هذا توصل الطيب إلى حسم أمر المصطلح، فنجده يذهب للقول “بعد هذا اقتنعت بما لا يدع مجالاً للشك أن أهل السودان الذين يتداولون وينظمون هذا اللون الغنائي لا يعرفون كلمة الدوبيت التي أشاعتها الإذاعة والمثقفون الذين يكتبون في الصحف وغيرها”. (نفسه: 13).
لا شك أن الطيب قابل الكثير من الصعوبات وهو يتصدى لمهمته الجليلة، جمع التراث من أفواه الرواة وعلى الرغم من شخصيته الكاريزمية، إلا أنه كثيراً ما كان يجد نفسه في مواقف صعبة، ولكنه وبذكائه وحنكته كان يعرف كيف يجتاز الصعاب ويهزم التحديات.
ذكر الطيب طرفاً من تلك المواقف في مؤلفه الأنداية (الطيب: 1974) فعندما ذهب إلى مقابلة الراوي عرف أنه ذهب للأنداية وكانت تنتابه مشاعر متناقضة، كما ذكرنا من قبل، ولكن الطيب حسم هذا التناقض الأمر الذي شرحه قائلاً: «هذه الأصداء البعيدة التي يختزنها العقل الباطني كانت تدور في ذهني وأنا أجر قدمي نحو الأنداية وكدت أرجع عدة مرات وتغلبت على مشاعري بعد نزاع طويل وأعانني فضولي الفطري والمكتسب وتوكلت على الحي الدائم واقتحمت الأنداية كواحد من عشرات الرواد». (نفسه: ب) بالطبع نجح الطيب في جمع المادة وفيما بعد ستكون هذه التجربة مرشدة في تجاربه في الجمع الميداني. نلمس هذا في قوله «وعين التجربة لقيتها في دار حامد عندما كنت اقتص أثر الهمباتي المشهور موسى أبوسريح وذات التجربة تعرضت لها في النهود عندما كنت اسأل عن حفظة شعر (أبوغزالة)، شاعر الحمر الكبير في نيالا وسنار والقضارف. ويحكي الطيب أسلوبه في خلق القبول بينه وبين الراوي بقوله: «كنت أدخل على المجموعة وأجلس معهم بعد الاستئذان وبين يدي جهاز التسجيل ثم أشرع في تسميعهم بعض الأغاني التي توافق مزاجهم تلك اللحظة. كالدوباي والدلوكة. فإن كانوا من أهل الغرب أسمعتهم الجراري أو الحسيس وما يناسب ذوقهم». (نفسه: د).
وقد نجح الطيب في الجمع الميداني أيما نجاح الأمر الذي يبدو واضحاً في المادة الضخمة والثرة التي جمعها حول الأنداية. وكان أكثر ما يكون سعادة بنجاحه في الوصول إلى قلوب الرواة وكسب ودهم، فنجده يقول: «وكنت أجد القبول عندهم بهذه الوسيلة وسموني (سيد الصندوق) وبعد برهة ترتفع بيننا الكلفة ونبدد سحابة الشك ثم ترد عليّ الأسئلة من وين يا ود العم، وأهلك من وين يا ود أخوي وعندما أحس منهم الاطمئنان والثقة أبدأ أسئلة عامة وأسجلها ثم أسمعهم أصواتهم فيزداد تعلقهم بي وبهذا الجهاز العجيب الذي يردد أصواتهم في التو والحين». (نفسه: د).
وعلى قدر الصعاب والتحديات كان نجاح الطيب محمد الطيب، لكن مثل هذه المصاعب لم تضعف من إرادة الطيب محمد الطيب بل ساعدته على صقل شخصية الباحث وجامع الفولكلور الكامنة في داخله وفيم بعد سيكون الطيب أكثر جرأة وإقداماً في اقتحام المصاعب حينما يقرر جمع مادة ما أو مقابلة هذا الراوي أو ذاك، وسنلاحظ أن الجرأة صفة أخرى اكتسبها الطيب محمد الطيب وقد نبه عبد الوهاب موسى لكتاب المسيد (الطيب: 1999) يقول عبد الوهاب موسى» كان الإنتاج الأول للأستاذ الطيب هو كتاب الأنادية الذي تلقفه القراء بمختلف مستوياتهم العلمية على أن الذي كان جديداً على القراء هو أن يتجرأ كاتب على تأليف كتاب عن الأنداية التي يتحرج معظم الناس لمجرد ذكر اسمها لاسيما على المستوى الاجتماعي المستنير». (نفسه: 807).
وكذلك أشار عبد الوهاب موسى إلى كدح الطيب في مجال الجمع، وذلك في قوله: «ويكفي أن يعرف القارىء أن جمع مادة هذا الكتاب (المسيد) استغرق أكثر من ربع قرن وأنه استوجب سفراً طويلاً إلى شتى مناطق السودان، وأسفاراً أطول على كل بلاد المغرب وموريتانيا والنيجر ونيجريا وتشاد والصومال واليمن والسعودية ودول الخليج.” (نفسه: 8).
وقد نجح الطيب في خلق شخصية جامعة حقلي من الطراز الأول إن لم يكن مثالياً، فهو إلى جانب شخصيته الكاريزمية يمتلك المعرفة الموسوعية عن الثقافات السودانية بكل تعددها وتنوعها، وهو يعرف كيف يجذب الرواة ويكسب ودهم مما يسهل عليه الحوار معهم واستنطاقهم. كل هذا يبدو جلياً في المادة الضخمة والثرة والمتنوعة التي جمعها من الحقل، بل إنه سجل الكثير من النجاحات في هذا الأمر،على سبيل المثال جمع روايات حول قصة (تاجوج والمحلق)، لم يكن من السهل لشخص غيره أن يقنع أفرادا ًمن الحمران لرواية حكاية تاجوج والمحلق. فهذه الحكاية الذائعة الصيت لم تجمع أشتاتها إلا مرات نادرة، فقد بادر بجمعها المؤرخ محمد صالح ضرار (ضرار: د. ت)، وعلى الرغم من انتماء ضرار بصلة قربى للحمران إلا أن الأمر لم يكن ميسوراً له.
وقد حكى ضرار معاناته لأجل جمع روايات حكاية تاجوج، قائلاً: “واليوم سنة 1955، لم يبق من رهط تاجوج إلا رجل واحد اسمه محمد صالح همد وهم كسائر أهل البادية لا يوافقون على ذكر حوادث تاجوج أو رواية أشعار المحلق في مجالسهم”. (نفسه: 6).
للطيب ولع كبير بالمخطوطات، ومثل أي جامع أكاديمي يعرف قيمة المخطوطة في استكمال ما غمض في شهادة الرواة، عادة ما ينجح أسلوبه السهل والذكي بإقناع مالكي المخطوط بالاطلاع عليها بل وأخذها لدراستها وتحليلها. ونجده يفرز جزءاً لمخطوطات عن البطاحين في مقدمة الكتاب، ويقول: “في أثناء طوافي عثرت على بعض المخطوطات التي لها اتصال مباشرة بالبطاحين، وجدت وثيقتين بأبي دليق ومخطوطتين بود ساقرته ومخطوطة واحدة في سنار”. (الطيب: يونيو 1971)، ثم يستطرد في وصف محتوى هذه المخطوطات بل ويحرص على مضاهاة الرواية الشفاهية بالوثيقة، وهو يسجل ما خلص إليه بقوله “هذا وقد ورد على لسان رواتي ما يوافق هذه المخطوطات مثل قصائد الشعر للشيخ فرح ومما يزيد في الاطمئنان إلى المخطوطة الأخيرة أن معظم الرواة يذكرون في آخرها البيت الذي يذكر فيه الشيخ فرح اسمه وهي عادة سلفية عند شعراء المدائح والصوفية أن يذكر الشاعر اسمه في آخر القصيدة، كذلك وجدت إشارات بل وعبارات واضحة توافق ما في المخطوطات والوثائق الأخرى من الروايات الشفاهية”. (نفسه: 3).
وقد انتبه يوسف فضل في تصديره لكتاب البطاحين، لتوظيف الطيب للمخطوطات ومضاهاتها مع الروايات الشفاهية، يقول يوسف فضل “ولقد اعتمد الأستاذ الطيب في إعداد الكتاب على عدة روايات شفهية فضلاً عن المخطوطات التي تحصل عليها من بعض شيوخ القبيلة والتي تحكي الكثير عن تاريخ قبيلة الباطحين. (نفسه: أ).
لقد فتح الطيب الطريق واسعاً للكثيرين من الباحثين في مجال الفولكلور من غير الأكاديميين وأكد أن هذا المجال ليس حكراً على الأكاديميين ويمكن لأي باحث ولوجه إذا تدرع بالجرأة والفهم العميق للجماعة أو الثقافة التي يوثق لها، بل أن الطيب يشجع غيره ويحفزه للمضي في هذا المجال، لهذا لم يكن غريباً أن يتوجه الأستاذ مهدي الفحل الذي أزجى شكره للكثيرين من بينهم الطيب محمد الطيب وذلك تصديره لكتاب تاريخ وأصول العرب بالسودان لمؤلفه الفحل الفكي الطاهر (الطاهر: د. ب)، يقول مهدي الفحل “شكرنا وتقديرنا لكل من عاون في جمع المعلومات بالوثائق أو الرسائل أو شفاهة ولكل من أعان في الطبع وللأخ الأديب الطيب محمد الطيب الذي عاون (هكذا) كل المعاونة الفعالة التي توجت بوضع هذا الكتاب بين أيدي القراء الكرام. (نفسه).
على كل، لقد برز جيل كامل ترسم خطى الطيب محمد الطيب من هؤلاء، محجوب كرار الذي ترك الكثير من الدراسات عن الشايقية، من أهم مؤلفاته من أمثال الشايقية (كرار: د.ت). ونجد كذلك الطيب علي أبو سن الذي أعد كتاباً عن الشعر الشعبي عن الرباطاب (أبو سن: 2001) وصديق محمد أحمد البادي وله مؤلفه عن لمحات من حياة وثورة عبد القادر ود حبوبة ونجد كذلك النور داؤد خير الله وله كتاب اللغة في الأدب الشعبي المقارن (خير الله: 1999). ونجد كذلك الباحث جيمس ألالا دينق الذي أعد كتاباً عن التراث الشعبي لقبيلة الشلك (دينق: 2005) ومن الكاتبات نجد كذلك فاطمة أحمد علي التي أعدت كتاباً موسوعياً عن منطقة مروي (علي: 2001). وثمة من اهتم بالأنساب مثل فخر الدين فلاوي الذي أعد كتاب مهم الأنساب لمعرفة الأرحام (فلاوي: د.ت).
ومن أسف أن الطيب لم يسجل تجربته في الجمع الميداني عدا إشارات عابرة، ونذكر هنا أن الطيب شارك مصطفى مبارك ومحمد عمر بشارة في إعداد دليل الباحث السوداني لجمع الفولكلور (الطيب ومصطفى مبارك ومحمد عمر بشارة: 1973)، ومصطفى مبارك أكاديمي تخصص في الفولكلور ومحمد عمر بشارة تشكيلي خريج آداب جامعة الخرطوم، ولاشك أن الطيب وفر زبدة خبرته إعداد الكتب، وقد أشار المعدانِ في المقدمة لهذا الأمر قائلين “كما أن الملاحظات الخاصة بحقل العمل الفولكلوري في السودان أمدنا بها الباحث السوداني الأستاذ الطيب محمد الطيب الذي يعد خبيراً بمنابع الفولكلور السوداني”.(نفسه).
لقد سعى الطيب لتكريس مفهوم التنوع الثقافي وجمع ووثق من أغلب المجموعات على سبيل المثال الحمران في شرق السودان والبطاحين في وسط السودان والمناصير في شمال السودان وكان برنامجه الذائع الطيب صورة شعبية الذي ظل يقدمه عبر شاشة التلفزيون القومي مساء كل سبت، كان هذا البرنامج مرآة صادقة لهذا التنوع وكان الطيب يرهق نفسه كثيراً في إعداد مادة البرنامج برغم الظروف الصعبة التي كان يعمل فيها وبرغم شح الموارد. لهذا ظل البرنامج يقدم لحوالي عقود ثلاث، وكان واحداً من أهم برامج التلفزيون وقدم فيه الطيب مادة ثرة تعددت أنماطها ورواتها مثل الزار وأغاني البنات وكلاب الصيد والسبحة والمديح النبوي والطب الشعبي والحج والحكامات والبرامكة والإبل على سبيل المثال. ويمكن القول أن البرنامج تناول أغلب أعراق وثقافات السودان، وكان الطيب يفضل نقل الصورة حية وصادقة للمشاهد، لهذا كان يحرص على تسجيل حلقات برنامجه في الحقل متى ما كان ذلك ممكناً، وإذا لم يتوفر هذا الأمر فهو يسعى لخلق بيئة داخل الأستديو أقرب ما تكون لبيئة الجنس الفولكلوري الذي ينقله للمشاهد وهذا ما يسمى في الجمع الحقلي بـ”السياق الطبيعي المصنوع”.
نخلص للقول أن الطيب محمد الطيب فولكلوري من الطراز الأول، وهو نسيج وحده بين كل الفولكلوريين السودانيين بأجيالهم المختلفة، فهو قد دلف إلى الفولكلور من باب المحبة والحماس، لكنه عاش في بيئة أكاديمية ثرة، فقد عمل في شعبة أبحاث السودان منذ ميلادها في عام 1966م، وعمل مع الرواد الأكاديميين يوسف فضل وسيد حامد حيري وأحمد عبد الرحيم نصر وعبد الله هلي إبراهيم، وليس من الصعب على شخص في ذكاء الطيب محمد الطيب أن يستوعب تقنيات وأصول العمل في الحقل في وقت وجيز، والدارس لمساهمات الطيب محمد الطيب يلمس التطور الكبير بل والنجاح والتفوق في جمع وتوثيق ودراسة وتحليل الجنس الفولكلوري. وخير مثال لما نقول آخر دراساته حول الدوباي (الطيب 2000). وهي دراسة معمقة وعلى درجة عالية من المنهجية الصارمة، ولا نحتاج للإشارة للجهد الذي بذله الطيب في جمع مادة دراسته من الحقل، وقد أسهب في وصف هذا الجهد في مقدمة الكتاب (نفسه: ص12) لكن النجاح الكبير في المنهج العلمي الذي اتبعه في دراسته، فهو يهتم بكل عناصر الجنس الفولكلوري: المؤدي والنص والجمهور والسياق على حد سواء، لكن دون أن يضل عن هدفه الأساسي ألا وهو إرساء مصطلح الدوباي بدلاً عن المصطلح الشائع الدوبيت، فهو يقول في تمهيد كتابه “يبدو لي أن كلمة الدوبيت أشاعها المتعلمون الذين قرأوا تاريخ الأدب العربي، أشاعوها من خلال كتاباتهم ومن الراديو ومن المنابر العامة.” (نفسه: 16) وهكذا نضع الطيب بدأب حسيس في تأكيد أطروحته وبعد أن نظر في الحصيلة الهائلة والثرة التي جمعها من أفواه الرواة يخلص للقول وبكل ثقة “اتضح لي من كل الأشخاص الذين التقيت بهم في هذه الرقعة الواسعة أنهم لا يعرفون كلمة الدوبيت وأنهم سمعوها من خلال راديو أم درمان في السنين الأخيرة، ومن هنا طرحت كلمة الدوبيت جانباً وصرت أقول مثلهم الدوباي.” (نفسه: 12)
المراجع
أبو سن، الطيب علي : الشعر الشعبي عند الرباطاب 2001: بيروت: دار الفلاح
بطحاني (آل) سالم محمد : مسادير البطانة:الشاعر عبد الله ود حمد ود شوراني
جمع وتحقيق وشرح : الرياض: المطابع العالمية 1993
حاردلو (ال) إبراهيم : «بين الحاردلو وأخيه» 1974 الخرطوم، العدد الثالث، يناير صفحات (70-93) حريز، سيد حامد: فن المسدار 1976
الخرطوم: دار الطباعة جامعة الخرطوم.
خير الله، النور داؤد: الضرا في الأدب الشعبي المقارن
الخرطوم: مؤسسة التربية للطباعة والنشر
طيب (آل)، الطيب محمد: «عبد الله ود شوراني: شاعر البادية: 1966
مجلة الخرطوم، عدد نوفمبر، صفحات 16-20 .
طيب (ال)، الطيب محمد «طه ود الشهلمة: شاعر الطبيعة:
1967 الخرطوم: العدد الخامس فبراير، صفحات 53-57
طيب (ال)، الطيب محمد «الإبل» الخرطوم: العدد الثاني، نوفمبر، صفحات 67-73
1976
طيب (ال)، الطيب محمد : «احمد عوض الكرين أبو سن: شيخ شعراء البطانة»
1976 الخرطوم، العدد الثامن، مايو صفحات 37-40
طيب (ال)، الطيب محمد « الجابودي» الخرطوم، العدد الثاني عشر
1976: سبتمبر، صفحات 39-43
طيب (ال)، الطيب محمد «الفروسية في الأدب الشعبي»
1976 الخرطوم، العدد الحادي عشر
أغسطس، صفحات 47-50
طيب (ال)، الطيب محمد «الشاشاي» الخرطوم، العدد السابع
1976 : يونيو، صفحات 39-42 طيب (ال)، الطيب محمد «شغبة: الشاعرة القائدة» الخرطوم، العدد السابع
1976: ابريل، صفحات 81-85 طيب (ال)، الطيب محمد «الأنواء عند الشاعر الشعبي» الخرطوم: العدد الثامن صفحات23 -30
1969:الطيب محمد الطيب التراث الشعبي لقبيلة الحمران سلسلة الدراسات التراث
السوداني رقم (12) شعبة أبحاث السودان/ كلية الآداب، جامعة الخرطوم
1970طيب، محمد الطيب ومصطفى مبارك: دليل الباحث السوداني لجمع الفولكلورومحمد عمر بشارة الخرطوم، مصلحة الفولكلور
جمع وإعداد
إعداد إدارة النشر الثقافي
طيب (ال)، الطيب محمد «التراث الشعبي لقبيلة البطاحين» سلسلة دراسات في التراث
1973 السوداني رقم (16) معهد الدراسات الإفريقية والأسيوية
إعداد شعبة أبحاث السودان
عبد السلام، شرف الدين الأمين : الشاعر الهمباتي، الطيب ود ضحوية، حياته وشعره
2000 الخرطوم: دار جامعة الخرطوم للنشر
علي، فاطمة احمد : منطقة مروي: المظهر والجوهر
2001 الخرطوم: مطبعة الحياة الجديدة
فيلاوي، لخر الدين : فهم الأنساب لمعرفة الأرحام
د.ت د. ن ود دوقة حسن سلميان محمد : وصف الطبيعة والمراثي في بادية البطانة
2005 سلسلة أدب البطانة (3)
الخرطوم: مكتبة الشريف الأكاديمية
كرار، محجوب : من أمثال الشايقية
د.ت الخرطوم: دار عزة للنشر والتوزيع
هاشم، محمد عثمان تاجوج: أروع ما سطر التاريخ من ماسي الجمال والحب
د. ت الخرطوم: المطبعة الحكومية