«المحفل» على خطى الأجداد عادات ومعتقدات- شحنة من الرموز والدلالات
العدد 48 - عادات وتقاليد
يلعب الموروث الشعبي دورا فعالا في قراءة الواقع الثقافي للمجتمعات التقليديّة، وذلك من خلال مختلف التّعابير الفنيّة التي ما فتأت تعكس بوضوح أفكار ورؤى وشواغل أصحابها على مر الزمن. وتعد المناسبات الاحتفاليّة الشعبيّة ميدانا ثريا وحاضنة أساسيّة للمخزون الثقافي الجماعي، اذ يلتقي فيها الديني بالدنيوي والواقعي بالخيالي فتحضر المعتقدات مع المعارف وتمتزج العادات بالتقاليد، ويتفاعل ذلك الكل وفق ضوابط ونظم معيّنة في إطار ممارسة احتفاليّة طقوسيّة جماعيّة لها تمثلاتها ورموزها الدلاليّة. ومما لاشك فيه أن تلك المناسبات ساهمت بشكل كبير في تشكيل و بلورة الآثار الثقافيّة واستمرارها داخل المجتمعات، الشيء الذي جعلها وجهة عديد الباحثين على اختلاف تخصصاتهم وتفرعاتها الثقافيّة والتاريخيّة والاجتماعيّة والاثنوموسيقولوجيّة والسيميولوجيّة وغيرها، للبحث واستجلاء حقائق الحراك الإبداعي الفكري والنشاط المادي الإنساني للمجتمعات.
وفي إطار البحث داخل المخزون الثقافي لمجتمعاتنا والمتعلقة بالمناسبات الاحتفاليّة الشعبيّة ورموزها الدلاليّة يندرج عملنا هذا المتمثل في ظاهرة المحفل، وسنحاول من خلاله تعريف وتحليل هذه الظاهرة واستنطاق عديد جوانبها لمزيد الفهم والإدراك وتقديم المعلومة الممكنة حولها للقارئ عموما.
المحفل
«المحفل من الحفل» وحَفَلَ القَوم يَحْفِلُونَ حَفْلاً واحتفلوا: اجتمعوا واحتشدوا وعنده حفل من الناس أي جمع، وهو في الأصل مصدر. والحفل: الجمع والمَحْفَل: المجلس والمجتمع في غير مجلس أيضا. ومَحْفَل القوم ومحْتَفَلُهم: مجتمعهم»1. وفي المجتمع البدوي لا يبتعد مفهوم مصطلح المحفل عن معاني هذا التّحليل اللّغوي «والمحفل من الناحية اللّغوية الصّرفية صيغة مشتركة بين المصدر الميمي واسم المكان تدل على الفعل بصفته حادثا معلوما كما تدل على الظّرف باعتباره إطارا معيّنا يجري في حيزه ذلك الحدث»2.
والمحفل اصطلاحا هو عبارة عن مجموعة نساء متجمّلات، بأبهى ما لديهن من اللّباس والحلي، تتجمعن بالمناسبات الاحتفاليّة كالعرس والختان في شكل موكب يترجّل باتّجاه بيت الاحتفال، ويكون ذلك بطريقة متوارثة ومعلومة لدى أهل البوادي، وهي أن تضع النّسوة على رؤوسهن لحافا أحمر اللون كبير الحجم، عادة ما يكون الزّى البدوي الذي يعرف بالحولي أو الحرام، ويتم ذلك بأن يمسك الرّداء أو اللحاف من أطرافه الأربعة بطريقة مشدودة، أين تتمكن النّسوة من السّير تحته مردّدات أغاني المحفل، التي تستجلب مواضيعها من البيئة الطبيعية والاجتماعيّة ومن المـنـاسـبـة الاحـتـفـاليّـة ذاتها. وتنقسـم نسـاء المحـفـل إلى مجموعتين، تسمّى الأولى مجموعة «الـجـرّادة» والـثّـانـية «الـشّـدادة»، وذلـك حـسـب تـقـالــيـد ومتطلبات أداء الأغاني.
محفل العرس
يظهر المحفل في مناسبات ومواقيت احتفاليّة معيّنة، وهي مضبوطة حسب العادات والتّقاليد المتوارثة لمجتمع البحث3. ففي احتفالات العرس مثلا يتشكّل المحفل في مناسبتين فقط، على طول مراسم الزّواج، فيكون المحفل الأول يوم «الملاك» أي يوم عقد القران وقراءة الفاتحة، ويتشكّل المحفل الثّاني يوم «الجحفة»4 أي يوم العرس وعند أخذ العروس إلى بيت زوجها.
تسير المجتمعات القبليّة عامة ومجتمع بحثنا خاصّة وفق أعراف ونظم اجتماعيّة متوارثة ومتّفق عليها، حيث يسعى الجميع للسّير وفقها، وتطبيق ما تداول من عادات وتقاليد، والالتزام بضوابطها وبأدق تفاصيل طقوسها وشعائرها، ذات الرموز الدلاليّة والمفاهيم الخاصّة داخل المجتمع. «فالعيش بالرموز وتوظيفها فعالية إنسانية بكلّ امتياز، بها يعيش الإنسان ويؤثث وجوده ويبني عالمه المادي والمعنوي ويرسي نظام الأشياء والعلاقات بينه وبين الآخرين من الناس. ودلالة الأشياء والعلاقات لا تدرك إلاّ من خلال استعمالاتها وممّا تتضمّنه من معنى في حياتهم وممّا تتخذه من دلالة في متخيّلهم الجمعي»5.
تلتقي في المحفل جملة من العناصر المشكّلة لهذه الظّاهرة، تتمثل في نخبة من النّساء اللاّتي تتقن الغناء والزّغردة، ومختارات من أغاني المحفل والتي تكون في مجملها ذات علاقة بالإطار والمناسبة، إلى جانب حضور جملة من الرموز والدلالات تنطلق من المخيال الجمعي وترتبط أساسا بأدوات التخاطب المتعلقة باللفظ والحركة والشكل واللون، التي تحمل بدورها شحنات معنويّة لها قدرة تأثيرية على ممارسيها، اذ تثير لديهم صورا وأفكارا ذهنيّة يتجاوبون ويتفاعلون معها ويجدون لها مقاصد ومفاهيم مضبوطة، هذا بالإضافة إلى ما يحيط بالظّاهرة من عادات وتقاليد ذات منحى احتفالي طقوسي عقائدي ينخرط الجميع في ممارستها بشكل انسيابي بحثا عن الشعور بالرضا الجمعي، ففي مثل هذه المناسبات لا يمكننا الحديث عن الفرد و الفردانيّة، وفي هذا السياق يقول دوركايم «يتشكّل لدى الأفراد من خلال حضورهم الجماعي ضرب من الشعور الجمعي الجيّاش لا يدركونه وهم في حالتهم الفردية6».
محفل «الملاك»
يعد «الملاك» وبمختلف مسمّياته العربية، اليوم المشهود لإعلان وإشهار الخطبة في المجتمعات العربية عامة وفي بعض بلدان شمال إفريقيا والمغرب العربي خصيصا. وقد تختلف أو تتماثل طقوس وممارسات هذه الظاهرة، غير أنها تلتقي في مجملها حول الاحتفال وتبادل الهدايا بأشكال متعددة وفق مسارات علائقيّة مختلفة. ويبدو أن الملاك في البلاد التونسيّة ما هو إلا «الدزة» في بعض دول الخليج العربي مع اختلاف طفيف في مواقيت التنقل مثل ما هو متداول في الكويت، حيث «تسير ثلة من النساء من بيت والدة العروس، قبيل صلاة العشاء، على ضوء الفوانيس يحملن (الدزّة)، تتقدمهن الخاطبة، وعلى رأسها صرة كبيرة تضم الملابس والهدايا بشكل بارز لافت، ويطفن بين البيوت باتجاه بيت العروس، وهن يزغردن، ويرددن الصلوات على النبي وآله»7.
كما يطلق على الملاك تسمية الملچة أي «الملكة» في بلدان الخليج كافة، وهو أيضا التسلومة، أو «التسليمة» لدى بعض المناطق العربية الأخرى، وكما تشير الكلمة فهي تعبر عن مراسم تسليم المهر، وما يتبعه من الهدايا، مرفقة بسلة تضم احتياجات العروس من المصوغات، والملابس وغيرها، تحملها النساء سائرات نحو بيت العروس تحت أصوات دق الدفوف والغناء.
أما في دول المغرب العربي ونظرا إلى التقارب الجغرافي والتمازج الثقافي بينها، تحافظ بعض المناطق على غرار البلاد التونسية على نفس تسمية «الملاك»، وعلى سبيل الذكر المجتمع التّلمساني من دولة الجزائر، حيث تتشابه العادات وتلتقي بعض الممارسات، ففي يوم الملاك وكما جرت العادة يحمل أهل الخطيب إلى بيت الخطيبة هدايا كثيرة أهمها « الطيفور» وهو الطبق الذي يُملأ بالحنّاء لتخضّب بها العروس. كما يضعون وسط الطّيفور السُكّر لاعتقادهم بأنه رمز للحلاوة والسّكينة والمودّة. ويحمل أيضا مجموعة من الملابس تتمثل في: «القفطان» وهو جزء هامّ من المهر، وبلوزة المنسوج و«الحايك» و«الصبّاط» مع مجموعة من مساحيق التّجميل والعطور والصّابون ثم يؤتى كذلك بأطباق تملأ بأنواع من الحلويات التّقليدية، إضافة إلى الشّموع والحليب. وقد جرت التقاليد في تلمسان في ليلة الإملاك أن يشرب الخطيب خطيبته كأسًا من الحليب، وفي المقابل تقدّم له هي الأخرى نفس الكأس ليشرب هو منه أيضًا8.
أما في مجتمع بحثنا من البلاد التونسية يقام محفل الملاك يوم عقد القران وقراءة الفاتحة وهو اليوم الذي يمتلك فيه العريس رمزيا واعتباريّا عروسه، فيحمل لها عن طريق أهله (المحفل)، جملة من اللوازم للحياة الجديدة تقدم في شكل هدايا وعلى شاكلة مخصوصة، تسمّى في مجتمع بحثنا «العلاڤة»، كناية عن القفّة التي ترافق بقيّة الأدباش، وتحتوي على كم هائل من قراطيس البخور والعطور وأدوات الزّينة والحلوى وغيرها.
تصنع «العلاڤة» من سعف النّخيل وكلّما كانت «العلاڤة» ذات حجم أكبر، إلا ودلّت على ترف أهل العريس وكرمهم من ناحية وعلى مكانة وقيمة العروس من ناحية ثانية. ترصّف مكوّنات «العلاڤة» بطريقة معيّنة، حتّى تكون العناصر ذات الرموز الدلاليّة الخيّرة في متناول العروس أثناء فتح «العلاڤة»، لذلك توكل هذه المهمّة إلى إحدى العجائز من ذوي الدّراية بهذه الأمور، ثم تخاط فتحة «العلاڤة» وتشكّ المخيط التي أخيطت بها في الجانب الأيمن منها، وتلفّ بكاملها في لحاف أحمر اللّون، لما لهذا اللّون من مدلولات رمزيّة ذات معاني ومفاهيم داخل المجتمع.
إنّ منطقة بحثنا تتبرّك باللّون الأحمر وترى أنه رمز الخصب والخير والبركة وهو ما نجده أيضا في «الحنّاء» التي تصبغ بها صاحبة الاحتفال يديها ورجليها وكذلك الطّفل المختون، أما الرّجل فيصبغ خنصر يده اليسرى وكلّها حركات وأفعال لها مفاهيم خاصة بهذه المجموعة. فالحناء أو اللون الأحمر، منذ القديم لها دلالات في المجتمعات العربيّة عامّة ومجتمع بحثنا خاصّة، فقد ارتبطت أيضا بالقرابين وبالذّبائح، والتي تعرف باسم «الحمورة»، ففي هذه المجتمعات لا يستقيم الاحتفال إلاّ بالذّبح وسيلان الدّم، لما في ذلك من عادات وتقاليد يجسّدها هذا الطّقس للبحث عن أهداف وغايات جماعيّة. «فإنّ المجتمعات سواء الحديثة منها أو التقليدية أو تلك المسمّاة بلا كتابة، تنتج دوما متخيلات «des imaginaires» لتعيش بها وتبني من خلالها رموزها وصورها عن نفسها وعن الأشياء والعالم، وبواسطتها تحدد أنظمة عيشها الجماعي ومعاييرها الخاصّة»9.
تأخذ «العلاڤة» وكل لوازم العروس من بيت العريس وترفع فوق رؤوس النّسوة، وتسرن بتؤدة في مقدّمة المحفل الذي يتكفّل بالغناء والزّغردة فيرددن نماذج من الأغاني مثل «شَــاِردْ10 لَرْيَــامْ ِزينـَـة»، والتي تقول أبياتها:
نـَـجَــعْ11 أُبَـيِّكْ وينَــهْ
يـَا شَـاِردْ لـَرْيـَــامْ ِزينَـة
يَـا زِيـنَة يَـا بـْنَـيّـتْ عَـمِّـي
مـَا صَابِك ْعِلْكَة فِي فُمِّي
رَايْ12 بِـيــنْ أَنْـيَـابِي دِيمَه
يـَا شَــاِردْ لـَرْيـَـامْ ِزيـنَـة
... نَجَـعْ أُبَيِّـكْ ويـنَهْ ...
يَا زِيـنَة حُمر الشَّوَاِربْ13
رَايْ صِيفَةْ لَرْياَلْ14 هَارِبْ
كِي شَافُو الصّيَادْ زَاِربْ15
كِي شَافُو رَڤّـّـِدْ عـِينـَهْ
يـَـا شَـاِردْ لـَرْيـَــامْ زينَـة
... نَجَـعْ أُبَيِّـكْ ويـنَهْ ...
واْلمَحْفِلْ جَا مِنْ الْمَكْنَاسِي16
جـاَبَاتَـهْ عـْرَبْ اللِّبَـاسِي
رَاي مَـشْـيَة وتْذَهْلِيلَة
عـَلَى شَـاِردْ لَرْيَــامْ ِزينَة
... نَجَـعْ أُبَيِّـكْ ويـنَهْ ...
الْمَحْفِـلْ جَا مِنْ الْمِزُّونَة17
جــاَبَـاتَهْ سُـودْ عْـيُـونَـهْ
رَاْي مَـشْــيَـة وتْـذهْلِيلَة
يـَا شَـاِردْ لـَرْيـَــامْ زينَـة
... نَجَـعْ أُبَيِّـكْ ويـنَهْ ...
الْمَحْفِـلْ جَا مِنْ ڤَمُّـودَة18
جَابـاَتَهْ زُهْـرَة ومَسْعُـودَة
رَايْ مَـشْيَـة وتْـذهْـلِيلَة
يـَا شَـاِردْ لـَرْيـَــامْ ِزينَـة
... نَجَـعْ أُبَيِّـكْ ويـنَهْ ...
الْمَحْفِـلْ جَا مِنْ الظّوَاهِـرْ
جَـابَاتَـهْ عْـرَبْ الجَّوَاهِـرْ
رَايْ مَـشْـيَـة وتْـذهْـلِيلَة
يـَا شَـاِردْ لـَرْيـَــامْ زينَــة
... نَجَـعْ أُبَيِّـكْ ويـنَهْ ...
ومما جاء في هذه الأغنية تشبيه المرأة بالغزال الشّارد وهي صورة تعبيريّة مستوحاة من الواقع الطّبيعي والبيئي لمجتمع البوادي، الذي يستلهم منه أصحابه إبداعاتهم الشّعريّة والغنائيّة، فمثل هذه الصّور تتكرّر كثيرا في تركيبة الأغنية الغزليّة وفي القاموس اللّغوي البدوي عامّة.
وكما هو ملاحظ في نص هذا المثال فقد تراوحت «جراريده» بين التّغزّل بذات الحبيبة (زينة حمر الشّوارب) وبشكلها الذي مثّله بالغزال من خلال تعديد أسمائه لريال لريام، (راي صفة لريل هارب) وكذلك بالمكانة الاجتماعيّة للحبيبة والتي تحددها كثرة المحافل القادمة إليها من مختلف الأماكن. وكثيرا ما تردّد نساء المحفل مثل هذه النّماذج من الأغاني ذات المواضيع الغزليّة و المعاني والتّعابير الوصفيّة للمرأة والفارس والفرس والهودج وغيرها من عناصر الاحتفال.
وفي اتّجاه بيت العروس تعنى النّساء وخاصّة المقرّبات من أهل الاحتفال بمراقبة المحفل، وهن النّساء اللاّتي تسرن تحت الرّداء الأحمر، حيث يحرصن دائما على أن يتكوّن ذلك الموكب من صفوة نساء «العرش»، أي من ذوات المكانة الاجتماعيّة الهامّة واللاّتي لهن استقرار في حياتهن العائليّة والزوجيّة، فممارسة الطقوس داخل المجموعة تستوجب تحديد المهام و ضبط الأدوار كما يجب. وربما نلتقي هنا مع ما ذهب إليه «كلود ريفيار» بالقول «إنّ الوظائف التي يضطلع بها المنخرطون في طقوس الزواج، هي نفسها تلك الأفعال التي يمارسها الأفراد بوصفها نماذج ممسرحة (théâtralisés)»، ومن هذه الأدوار أن تجد دائما إحدى المقرّبات تحوم حول المحفل وتبعد بطريقة أو بأخرى، كل امرأة أرملة أو مطلّقة أو عاقر عن الرّداء الأحمر، ويعود ذلك إلى الخوف والاعتقاد بأن اللّعنة والشؤم الذي أصاب إحداهن قد يتسرّب إلى العروسين عن طريق محفل زواجهما.
إلى جانب المقاييس الاجتماعيّة والانتربوثقافيّة، لابدّ أن تكون نساء المحفل من «الغنَّيَاتْ» البارعات والمعروفات في المنطقة، من ذوات الأصوات القويّة والجميلة واللاّتي تحفظن رصيدا هاما من الأغاني وتتقنّ أدائها حسب ما يقتضيه المقام. وتعتبر أغاني المحفل الأغاني الأكثر صعوبة سواء على مستوى طريقة الأداء والنّغمة المستعملة أو على مستوى الطول وعدد مقاطعها، وربما كانت أغاني المحفل على تلك الشّاكلة من الطول والتّمديد والأغراض المتناولة، قصد ملأ الفضاء الزمني الذي يستغرقه المحفل في طريق الوصول إلى بيت الاحتفال، وتدور مجمل مواضيع أغاني محفل «الملاك» حول المرأة ومكانتها الاجتماعيّة وقيمتها الاعتباريّة والرمزيّة، فلا تتوانى نساء المحفل في التّغنّي بجمال المرأة خلقا وخلقا والرّفع من شأنها داخل المجموعة. وفي هذا المقام أمثلة عديدة ومتعدّدة من الأغاني نذكر منها «قدّك طاغي من بعيد يبان»، «يا خد إلّي لاح»، «يا ربيحة يا خد المرزم»، «شبهت ريم الفالي»، «راو قدها علام»... كما تردّد نساء المحفل مثلا عَڤْلًي غَدَا فًي سَيَّهْ فتغني:
عَڤْلِي غَــدَا20 فِي سَيَّـهْ21 هَزَّاتَهْ عِيشَـهْ بَيَّــــهْ
يَـا عِيشَــهْ وهْذَبْهَــــا ڤُصَّهْ22 علَـى حَاجِبْهَــا
وشَــامْ23 كِي عَذَّبْهَــا زَادْ وَرِّدْ السَــيَّــالـَــهْ24
يَـا سَعْدْ مِنْ كَاسِبْهَــا وخَاسِـرْ عَلِيهَــا مَالَـــهْ
عَڤْلِي غَدَا فِي سَيَّهْ
يَا وخَيْ نْشبَحْ 25طُفْلَـهْ فِي العِرْسْ عُقْبْ الحَفْلَـهْ
صَنْدُوڤْ وحَلُّوا القُفْلَهْ فِي السَّـانِيـَـهْ26 الڤْبْلِيَّــهْ
يَـا عِيشَهْ وأَڤْدامِكْ شِبْرِينْ عَرْضْ حْزَامِــكْ27
لَوَكانْ نْجِي لَوْهَامِكْ28 لَسْمَــرْ 29 ينَوِّضْ 30عَلَيَّـا
عَڤْلِي غَدَا فِي سَيَّــهْ هَزَّاتَــهْ عِيشَــهْ بَيَّـــــهْ
وعند الوصول إلى بيت الاحتفال يستنفر الجميع لتطبيق كل مراسم الاحتفال حسب ما يقتضيه المكان وزمان تلك المناسبة، وخاصة تلك التي تتعلّق بالاعتقاد والمعتقد وكل ما يحوم حولهما من شواغل جماعية، ذوات الأفعال الطقسية المتوارثة ومن ضمنها استمرار نساء المحفل بالغناء دون انقطاع. فبدخول منزل الاحتفال تستقبلهم العروس بطريقة مخصوصة حيث تقف داخل البيت متّجهة إلى القبلة ومغطاة كليّا برداء أحمر اللّون، أو أبيض لدى بعض العروش مثل أولاد رضوان ويتمثل في لباس «السّفساري»، ولا تجلس العروس إلا بعد دخول المحفل بكامله ووضع «العلاڤة» أمامها، حينها تأخذ مكانها دون الكشف عن وجهها وتبدأ مرحلة حلّ «العلاڤة» والتي تخضع بدورها إلى جملة من الضّوابط الطّقسيّة التي لا بد من تطبيقها دون زيادة أو نقصان، لذلك توكل هذه المهمة إلى إحدى العجائز ذات الدراية وتكون من مقربات العروس وتساعدها أخرى من أهل العريس، فتفرشن ذلك الرداء الأحمر الذي كانت تحمله نساء المحفل فوق رؤوسهن، وتبدأن بفتح «العلاڤة» فوقه.
يفكّ خيط «العلاڤة» من جانب فقط حتى تتمكن العروس من إدخال يدها وأخذ بعض الأشياء منها، وهو بمثابة التّنبؤ لمستقبل العروس وحياتها مع زوجها، ومن أحسن الأشياء التي على العروس أن تتحسّسها وتخرجها من «العلاڤة»، هي المرآة حيث تأخذها وتنظر فيها من تحت الّلحاف الأحمر ثم ترجعها، أو الحلوى التي يجب أن تأكل منها وتوضع بعضها تحت قدميها داخل «الدّماق»31، وذلك للاعتقاد السائد بأن هذه الحركات والأفعال تجعل من حياتها صافية صفاء المرآة وسعيدة وحلوة بطعم الحلوى التي توزع على جميع الحاضرين من النساء والأطفال.
تواصل العجائز فتح «العلاڤة» كليا بإزالة ذلك الخيط الذي لا بد أن يحفظ في مكان آمن فيقدم عادة لأم العروس كي تخبأه خوفا من أن تحصل عليه إحدى الغيورات من ابنتها وتستعمله في سحرها وعرقلة زواجها. ومن خصائص «العلاڤة» أن تفتح كل القراطيس الموجودة بداخلها دون استثناء، ثم توزع الحلوى والفواكه الجافة والحنّاء والسّواك واللّوبان(العلكة) على كل الحاضرات، وتقسّم بقيّة المواد بين جزء لصناعة البخور وآخر لصناعة «السخاب»32 حيث تتجمّع النّساء في اليوم الموالي للملاك وتقوم بإعداده. ولا يجوز الاستغناء عن أي عنصر من مكونات «العلاڤة» مهما كانت بساطته، فحتى القراطيس التي تم تفريغها تحفظ جميعها كي تستحمّ العروس فوقها ويعتقد أن سكب الماء عليها قد يبطل استعمالها في أغراض سحريّة أو ما شابه.
وكما هو ملاحظ فان المحفل يمثل ظاهرة كليّة تضمّ الممارسة الفنيّة الاحتفاليّة وكذلك الفاعليّة الطّقوسيّة والثّقافيّة في المجتمع العربي عامة ومجتمع البوادي خاصة، حيث تجد الطّقوس مكانها لتفرض النظام وتؤسس للمكان، وتقوي لحمة الجماعة، ضمن ممارسة طقوسية قد تلتقي فيها النّوازع الوجدانيّة حول إجابة أو معنى ذو دلالة، يستند فيه إلى الطقوس كأداة احتماء من الاغتراب والذّوبان. «فالممارسات الطقوسية قد مثّلت في هذه السياقات مجالا للاستثمار الرمزي (investissement symbolique) تنخرط فيه فئات منشغلة كثيرا بهويتها ووجودها الاجتماعي. فتتخذ من هذه الاحتفالات الطقوسية فرصا لتتعهّد رأسمالها الاجتماعي، وتربط «صفقات» تنمّي بها رصيدها العلائقي. ويختلف مثل هذا الاستثمار من حيث أهدافه وكثافته باختلاف الفئات الاجتماعية ومواقعها وشواغلها»33.
وبممارسة الطّقس يعاد إحياء الزّمن وتولد المعنى، والطّقوس عامّة ممارسة جماعيّة، محدّدة المكان والزّمان ومضبوطة المعنى والدّلالة، يتّخذ منخرطوها شحنات رمزيّة، ترد في شكل ممارسات تصاحبها حركات، شعارات، أشكال وألوان...، وفق نجاعة الطّقوس وفاعليتها، لتحديد معنى للفعل الجماعي.
محفل «الجحفة»
وكما أشرنا سابقا، فإنّ المحفل في احتفالات العرس التونسي يتشكّل في مناسبتين، يتم الأول يوم «الملاك» والثّاني يوم «الجحفة». ويكون محفل»الجحفة» يوم العرس، حيث تأتي النّساء كالعادة متجمّلات ومرتديات أبهى ما لديهن من ملابس وحلي، فيحضر الجميع لمواكبة إعداد وتزيين «الجحفة»، وفي تلك الأثناء تملأ أصوات النساء وزغاريدها المكان، فتردّد نساء المحفل أمثلة من الأغاني متداولة ومعلومة لدى المجموعة وخاصة بهذه المواقيت، حيث تغنّي في البداية « هَذَا النَّهَارْ المُبَارِكْ» وهو مثال يتكرّر كثيرا في افتتاح المناسبات الاحتفالية في المنطقة وفي ما يلي نصّها:
هَذَا النَّهَارْ المُبَارِكْ ويَا مَنْ حَضَرْ
سِيدِي عَلِي34 وأوْلاَ دُو جُو عَالظِّهَرْ
يَــا حَبَّةَ الرُمّـَانْ فُــوﭫْ البُيـــُوتْ
واليــُومْ يَا خَيَّــالَة35 عَنْبَرْ يڨـــُوت36
يـُوسفْ مَـرَقْ منْ ديَـارَا حرَامُو حَريرْ
تَحْتُو شَقْرَا تعَشّي طَالبَة المَسـيرْ
هَذَا النَّهَارْ المْبَارِكْ ولُوخِرْ سَعِيدْ
سِيدِي عَلِي وأوْلاَدُو جُو مِنْ بَعِيدْ
يَـا حَبَّة الرُمَّـانْ فُــوڤْ الفِـــرَاشْ
واليُومْ هَا خَيَّالَة المِيرَمْ37 مَا جَـاشْ
يَـا حَبَّـة الرُمّـَانْ فُـــوﭫْ السّـــِطَحْ
واليـُومْ يَا رَجَّــــالَة المَـلْعَبْ38 رِكَحْ
وكما توضّح مقاطع هذه الأغنية فان موضوعها يتمحور حول طلب الخير والبركة، كما يبرز أيضا الاعتقاد في الأولياء الصّالحين لدى هذه الجماعات، من خلال ذكر «سيدي علي السّايح» وهو احد الأولياء الصالحين ذو المكانة والصيت بمنطقة سيدي بوزيد وكذلك ابنه «يوسف»، مع الدّعوة إلى الاحتفال والفرح في هذه المناسبة السّعيدة، فغالبا ما تعبّر أغاني المحفل عن رؤى هذه الجماعات ومشاغلها وتحقّق جزأ من المعادلة النفسيّة التّي هم في حاجة إليها. «ومن خصائص الفنون التقليدية أنها فنون ليست ذاتية، وإنما جماهيرية غير مغلقة ومحدودة في تركيبها. إنها تعكس وعيا جماعيا، لأنها غير مقصودة لجمالها وإنما لفائدتها الاجتماعية، لأنها تمارس بشكل أو بآخر تأثيرا فكريّا وروحيّا وأخلاقيّا كبيرا»39.
وعندما يعدّ الهودج ويزيّن كما يجب، يحمل على ظهر جمل هادئ، مروّض ومعتاد على حمل «الجحاف»، وتتكفّل بقيادته امرأة ذات مكانة مرموقة في المجتمع، تجمع بين جمال الذات وشرف النّسب والقيمة الاجتماعيّة داخل المجموعة. تنطلق «الجحفة» في اتجاه بيت العروس ويتبعها المحفل، تحيط به جموع النّاس بما فيهم من الفرسان الذين يتبارون من حين لآخر مستعرضين مهاراتهم في ركوب الخيل وقدرتهم على استعمال السّلاح، فيطلقون النار بين الفينة والأخرى، وكلّما استحسنوا غناء المحفل إذا ما تطرّق إلى التّغنّي بالأمجاد وبشجاعة الشّجعان، إذ تحيي مثل هذه الأغاني الاعتزاز بالقيم القبليّة والتّي يتبوّأ فيها الفارس والفرس مكانة خاصّة لدى هذه المجموعات.
تثير نساء المحفل بغنائهن، مشاعر الاعتزاز بالنّفس وبالانتماء لدى الأهالي، كما تحيي ما خزّن في الذاّكرة من قيم الفتوّة والفروسيّة وبطولات المعارك والصّراعات، لذلك تحرص نساء المحفل على انتقاء الأغاني حسب متطلّبات المقام، فإذا ما رأت الفرسان يستعدّون للرّكض واستعراض مهاراتهم تغنّي مثلا:
الله ولاَكُـــوتْ مـيَــصِّــلْ40
مَرْبُوطْ فِي الرِّتْعَة41 يَصْهَلْ
ركْـبُــو وَلَـــدْ مَـــاطَـــاحْ
لَـْو كَــانْ لَسْمَـر42 يـتْــكَـلَّـم
فِي وَسْطْ الجَّـعَـبْ طَوَّاحْ
يُـقْـتُـلْ ومَــا يَعْطِــي دِيّــه43
سَــلِّــمْ عَـلـى لـَحْــبـَــابْ
يـَـا الْحَـاجْ يَاغَـالِي الْفَيّـــه44
هُــــوَ بَــطَـا مَــا جَــاشْ45
نِـحنَـا قَـطَعْــنَـا الْخِـيـِريّــه46
خَــلاّصْ كُــــلْ أَوْحَــــالْ
يَا الْـحَـاجْ يَـاغَـالِي الْـفَـيّـه
الله ولاَ كـُــــوتْ ربَـــــعْ47
والــــدِّيـــــر48مْــهَــلّـَــــــعْ
سَرْجَه49 بِالذهْبْ مَرَصّـعْ
فـِــي الـحَــــافِـــي يــرِع50
مـُـولاَهَ مَـاشُـــو بَــايـَــعْ
الهـَجْـفَــا 51مِيجَــالَكْ بـِطَـا52
عند الوصول إلى بيت العروس تتحوّل مضامين الأغاني، إلى تلك النّماذج التي تتغنّى بجمال المرأة وبنسبها وبقيمتها ومكانتها الاجتماعيّة، فتراوح نساء المحفل بين وصف العروس ومدح زوجها، متّخذة من المحيط معانيها ومن الطّبيعة مواضيعها ومن القيم والعادات أسسها. لطالما مثّلت المرأة، مبعث الغزل ومداره فهي جملة من الصّفات تتفاوت تعميما وتخصيصا، حسب المناسبة والإطار الذي تردد وتتداول فيه نصوص الأغاني، فيتحوّل جمال الذّات مثلا (القوام، اللّباس، الوجه العينين، الشّعر، الشفتين...) إلى مقياس اجتماعي تضاف إلى العفّة وشرف النّسب، وبهذه الصفات تكتسب المرأة مكانة مرموقة داخل المجتمع، إذ هي تجمع بين الجاه والجمال وتصبح موضوع غناء فتردّد النّساء مثلا:
بالله يَـــا الفَـارِسْ تُوصِلْ قِدَا خـَدْ العَكْرِي53
مَصْقُـولَـة النِّيـبَانْ سَاسْ الحَرَمْ54 غَالِي الفَيَّـا55
شُوشَانْ56 كَلِّمْهَا وهَيَّا
يَا طِفْل يَا مَسْعُـودْ57 سُوڨْ الجَمَلْ يدَوِّحْ58بِيهَــا
عْلَى رڤْبَةْ المَطْرُودْ59 رَايْ شَهْبَه خِيرْ مِنْ حُورِيَّة
شُوشَانْ كَلِّمْهَا وهَيَّا
بالله يَا الفَارِسْ....
رِكْبِتْ عَلَى هَدَارْ60 مَهْـرِي وأجْـنَابـُو لُكّيَّــة61
وخْدُودْهَا تَحْمَــــارْ قُرْمِز62 نَصَّاعْ فِي شَاشِيَّــة63
شُوشَانْ كَلِّمْهَا وهَيَّا
بالله يَا الفَارِسْ....
تْكَلِّـمْ الصَّـڤْعــَارْ64 حَافُوا65 الذَّرَارِي66 اللُّزْمِيَّـة
رُسْمُوا مِثْلْ أحْجَارْ تَحْلِفْ تُرْكْ67 جُو فِي سَيَّة68
شُوشَانْ كَلِّمْهَا وهَيَّا
وتواصل نساء المحفل أداء الأغاني ذات المواضيع المتعلّقة بالمرأة من حيث وصف الجمال والمكانة الاجتماعيّة، وكذلك التّغنّي بأهلها وعشيرتها متباهيات بفرسانها وشجعانها وتظلّ الأصوات والزّغاريد تصدح حتّى ترفع العروس إلى «الجحفة»، وتتم هذه العملية تحت هالة طقوسيّة من العادات والتّقاليد، والتي تحظر بامتياز في مثل هذه المناسبات.
بعد الانتهاء من تزيين العروس المحتجبة عن أعين الرّجال منذ اليوم الأول من مراسم الزّواج، تغطّى المرأة كليّا ببرنس رجالي أبيض اللّون، وما في ذلك من رموز ودلائل ذات مفاهيم ومعان داخل المجتمع، ثم تُحمل العروس من قبل رجل فيضعها في الجحفة، مع العلم أن ذاك الرّجل لابد أن يحمل اسم محمد أو علي، وفي تلك الأثناء تغنّي النّسوة عن الجمل وعن الجحفة فتردّد مثلا:
سـَاڨـُو جَـمَلْ جَـنَّـاتْ69 ويَا سِـمْـحَ الرَّناتْ70
عَـلْصَدْرَهَا شَرْكَـاتْ71 ومَـا بِـينْ الـخِلَّــى72
جَـابُو جَمَلْهَـا اثْنِيــــنْ ومَحَــــدِّرْ لِلْـعِـيــنْ
والقُرْمِـزْ عَــالخُدِّيــنْ جَــنَّـاتْ الهَجْفَـاءْ73
ولا تنتهي مهمّة المحفل إلاّ عند وصول العروس إلى بيت زوجها، فتصبح الأغاني ذات مواضيع في شكل تمنّيات لأهل الاحتفال بالحياة السّعيدة وبالبركة والخير، وقد يتّجه الغناء في هذه الأثناء إلى أم العريس باعتبارها المتكفّلة بتسيير كل نساء العائلة، ففي هذه المجتمعات ينضوي الأفراد تحت نظام عائلي تجمعهم فيه وحدة القرار ووحدة المكان، ويعتبر كل استقلال بالرّأي أو المقام، هو خروج عن المألوف والمعتاد، ونظرا لأهميّة أم العريس في بسط نفوذها على نساء أسرتها وفي شدّ أوتاد أركان العائلة، تتّجه نحوها نساء المحفل مباشرة فتغنّي:
شَـــرِّعْ74 البِــيــتْ يَا أمْ العَرِيسْ الفَالْحَة
رَايْ جَـــــاتِـــكْ الـكَنّـَة75 صَالْحـَة
يَـــــا أمْ الـــوَلَـــدْ يَـــا أمْ الـــوَلَــــــدْ
خَشِّتْ76 بِالمَالْ والـذِّرِيَّة جَرْجَارَة الحِـرَامْ البَيَّة
خَشِّتْ بِالبَرْكَة والسَّعْدْ يَـا الوَاهْمَـة لُوخَـيَّــة
ينتهي دور المحفل في هذا التّوقيت، إذ تضع نساء المحفل اللّحاف الأحمر من فوق رؤوسهن جانبا، وتتحوّلن إلى «غنّيات» في سهرات النّجمة.
محفل «الطّهور»77
يتشكّل المحفل أيضا في مناسبة الختان وفي وقت معلوم، خاص بزيارة أضرحة الأولياء الصّالحين، فكما هو متعارف عليه، تعتقد المجتمعات البدويّة الريفيّة عامة في شيخ أو زاوية يعودون لها بالولاء، فيتبرّكون بها ويؤمها الأهالي كلما دعت الحاجة وفي مناسبات مختلفة. وفي مناسبة «الطهور» يؤخذ الأطفال قبل عملية الختان، لزيارة الأولياء الصالحين بالجهة، فيركب الطفل على ظهر حصان مسروج ومزيّن على هيئة فارس، يسير في مقدّمة موكب الزّيارة ويتبعه نساء المحفل حاملات فوق رؤوسهن الرداء الأحمر ومردّدات نماذج من الأغاني تكون مواضيعها في البداية، بذكر الله ومدح الرسول فتغني مثلا «صَلَّى الله عْلَى نَبينَا»:
مُحَـمَّـدْ مَـا أبْـهَى صْبَـاحِي
شَمْسُو زَرْڤَتْ78 فِي مْرَاحِي79
مَــايْ تُــزْرُڨْ ِوتْـعَـــلِّــي
صَـــلَّى الله عْـلَى نَـبِـيـنَـا
الطَــلْــبَــة فِـي رَبـِّــــي
صَـــلَّى الله عْـلَى نَـبِـيـنَـا
مُـحَـمَّـدْ يَـا بَـابَـا الْـزُهْـرَة
لْشَمْسُـو زَرْڤَتْ عَملَتْ بُهْرَة80
مَــايْ تُــزْرُڨْ ِوتْـعَـــلِّــي
صَـــلَّى الله عْـلَى نَـبِـيـنَـا
يَـا مْسَافِـــرْ فِي الـطَّــيَـارَة
زَايِـرْ مَكَّة ِومْرَوَّحْ لِدْيَـارَه
يّـعِــــزْ عْـــلَـى رَبِــّــــي
صَـــلَّى الله عْـلَى نَـبِـيـنَـا
يَـا مْسَــافِـرْ فِـي الْبَابُـور81
زَايِـرْ مَــكَّـة ِوالــرَّسُولْ
يّـعِــــزْ عْـــلَـى رَبِــّــــي
صَـــلَّى الله عْـلَى نَـبِـيـنَـا
يـا مْسـَافِـرْ فِي الْمَـشِيـنَا82
زَايـِرْ مَـكَّـة ِوالْـمَدِيـنـة
يّـعِــــزْ عْـــلَـى رَبِــّــــي
صَـــلَّى الله عْـلَى نَـبِـيـنَـا
وكما لاحظنا مقاطع هذه الأغنية وكلماتها في مدح الرّسول ﷺ، فهي أيضا أغنية ذات منحى ديني طقوسي، تغنّيها النّسوة في بداية جل المناسبات الاحتفاليّة ثم تتطرّقن بعد ذلك إلى الغناء عن الأولياء الصّالحين وشيوخ الزّوايا، وتنظم في ذلك أغاني خاصّة بكل شيخ أو زاوية، فيردّدها الأهالي مستعطفين رضاهم طالبين بركتهم وحماية ابنهم من العين والحسد. وزيارة الزّوايا فعل دأبت مثل هذه المجتمعات على القيام به، فهكذا توارث وهكذا تداول، كعادات يرجى من ورائها طلب الخير ودرئ المخاطر، ونورد مثال غنائي يغنّى في هذه المناسبة وهو:
يَا السَّـــايَحْ يَـا بُـو خمَارْ مُـولاَ القُـبَّة العَـالِيـة
ومِنْ بعِيدْ تْبَانْ
هَانَـا جِينَـاكُـمْ زِيَّــارْ حِلُّو لِينــَا باَبْ الـدَّارْ
آ السَّايَحْ أَرَاكِبْ العَابِرْ لَوْ حِلْ البَابْ وعَـدِّينِي
لَجُوكْ أوْلاَدِكْ لَحْرَارْ لَوِّحْ جنَاحِكْ غَطِّينِي
وبعد الزيارة يعود المحفل بالطّفل إلى البيت تحت أصوات الزّغاريد والأغاني، ويتهيأ الجميع لتطبيق ما توارث من عادات وتقاليد خاصّة بهذه المناسبة، ويعهد لكل طرف بمهمّة يستوجب عليه تطبيقها بحذافرها، إذ تقوم الأم مثلا بالوقوف داخل وعاء به ماء على يمين عتبة البيت وترفع في يدها «خلال83» من الفضّة ويعتقد لديهم أن مسك «الخلال» يقي من الحسد والعين، ووقوف الأم داخل الماء «يبرّد» آلام الطّفل المختون، مع العلم أن الطّفل وأثناء عملية الختان لابد أن يفترش رداء أحمر اللّون84.
وما يلاحظ أن ظاهرة المحفل وفي مختلف المناسبات المذكورة، تمارس في مواقيت مضبوطة ومعلومة، وإذا ما توفّرت جميع الشروط المتّفق عليها تطلق تسمية المحفل على الموكب المتنقل والسائر باتّجاهات مختلفة ومتعلّقة بأركان الاحتفال وتوكل له مهة الغناء.
ان تراثنا الشعبي يزخر بزاد ثقافي ثري من العادات والتقاليد والممارسات الشعبية، التي تعكس بوضوح هوية وأصالة المجتمعات، أمام ما يعتريها اليوم من متغيرات تحت مظلة التطور والحداثة، وهيمنة الثقافات الوافدة عبر وسائل التّواصل الحديثة، الشيء الذي حال دون معرفة الشّعوب لأصولها والتشبع بقيمها والاعتزاز بأمجادها. ولم يكن تناولنا لمبحث المحفل مجرد استعراض لجوانب من الثقافة الشعبية، بقدر ما كان محاولة لإبراز الخصوصيّات الاجتماعيّة والتّصورات الفكريّة والممارسات الاحتفاليّة والاعتقاديّة والوقوف على رموزها الدلاليّة، ولعل ذلك يشكل مدخلا إلى فهم ومعرفة موروثنا وتجديد الصلة بالسلف لا تقليدا وإنما استيعابا وتواصلا.
الهوامش
1. ابن منظور (أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم)، لسان العرب، دار صادر بيروت، الطبعة الرابعة، 2005، المجلد الحادي عشر، مادّة (حفل).
2. غانمي (نعيمة)، الخصخوصي (أحمد)، أغاني النساء في بر الهمامة، الطبعة الأولى، الأطلسية للنشر، جانفي 2010، ص89 – 90.
3. بحث تم في الوسط الغربي من البلاد التونسية (بر الهمامة).
4. الهودج الذي يحمل على ظهر الجمل وتركبه العروس أثناء تنقلها.
5. المحواشي(منصف)، «الطقوس وجبروت الرموز: قراءة في الوظائف والدلالات ضمن مجتمع متحوّل»، أعمال منتدى نور الدين سريّب للتاريخ الاجتماعي والثقافي بمدينة جرجيس، الدورة الثامنة، تونس 2007.
6. Durkheim, Emile, Les formes élémentaires de la vie religieuse. Le système totémique en Australie, (1912), éd P.U.F. «Quadrige»,1979, p.p. 370-371.
7. افتتاحيات الواحة، «فولكلور الزواج في الخليج العربي»، العدد الستون، السنة السادسة، عشرة شتاء 2010.
- http://www.alwahamag.com/?act=artc&id=1271
8. انظر إلى بكوش نصيرة المولودة قشيوش، شعــائر احتفالات الخطبة بتلمسان،» حفلة المْلاَكْ نموذجًا «، جامعة تلمسان (الجزائر)
- https://revues.univ-ouargla.dz/index.php/numero-14-ssh
9. Ansart, Pierre, Idéologie, conflits et pouvoir, Paris, PUF, 1977, p. 21.
10. بمعنى الغزال المنفرد الحائد عن المجموعة.
11. القبيلة، المجموعة من الناس.
12. بمعنى إنها.
13. المقصود بها الشفاه.
14. (14) أي الغزال.
15. بمعنى يسرع.
16. معتمدية من ولاية سيدي بوزيد، تستقر بها فرق أولاد عزيز من الهمامة.
17. معتمدية من ولاية سيدي بوزيد، مجاورة لمنطقة المكناسي.
18. الاسم القديم لولاية سيدي بوزيد.
19. بمعنى ضاع.
20. بمعنى صار على أسوأ حال.
21. شعر الناصية، «ما أقبل من الناصية على الوجه»(لسان العرب، مادة قصص)
22. يقصد بها الوشم الذي يرسم على جسد المرأة للتزين.
23. Claude, Rivière, Socio-Anthropologie des religions, Paris, Armand Colin (coll. «Cursus», Série. Sociologie), 1997, p.23.
24. وشم في وجه المرأة وبالتحديد في وسط الشفّة السفلى.
25. بمعنى نرى، و«الشّبح ما بدا لك شخصه من الناس وغيرهم من الخلق» (لسان العرب، مادة شبح)
26. البستان ذو الأشجار المثمرة.
27. هو مجموعة من الخيوط الصوفية تنسج بطرق مختلفة حسب الجهات بالبلاد التونسية، تستعمله المرأة على مستوى خصرها لشد لباسها الخارجي من نوع الحرام والملحفة...
28. بمعنى الاقتراب منك.
29. يقصد به السلاح والبارود.
30. بمعنى يطلق الرصاص.
31. نوع من الأحذية النسائيّة.
32. قلادة تتخذ من قرنفل ومحلب وعطور، تصنع في شكل خرز تفوح منها رائحة عطرة تدوم لسنوات.
33. (33) المحواشي (منصف) «المرجع السابق».
34. (34) هو الولي الصالح سيدي علي السايح، توجد له زاوية ببلاد قمودة قديما منطقة سيدي بوزيد حديثا.
35. كناية عن الفرسان.
36. كلمة تعني: تفوح منه رائحة شجيّية.
37. لفظة يقصد بها الفارس البارع ضمن مجموعة الخيّالة.
38. مكان تدور فيه المباريات والاستعراضات في الفروسيّة.
39. الحيدري(ابراهيم)، اثنولوجيا الفنون التقليدية، ط.1، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية، 1984، ص. 51.
40. كوت ميصل، حصان مؤصل من سلالة طيبة.
41. مربط الخيل.
42. يقصدون به البارود والسلاح.
43. بمعنى العوض.
44. العرش والقبيلة.
45. أي لم يأت.
46. كلمة يقصد بها الأمل.
47. أيعمره أربع سنوات.
48. شريط من الجلد يشد السرج إلى صدر الفرس.
49. ما يسرج على ظهر الحصان ويركب فوقه الفارس.
50. أي يركض.
51. المرأة طويلة القامة ممشوقة القد.
52. (52) بمعنى تأخر قدومك.
53. (53) صفة تطلق على المرأة الجميلة، كما أنه اسم علم متداول في منطقة البحث.
54. (54) أي من أصول شريفة.
55. (55) الأصل من القبيلة أو العرش.
56. (56) المقصود به الخادم.
57. اسم يطلقه الأعيان على خدمهم.
58. يتمايل بها.
59. الغزال المطارد.
60. صيغة مبالغة على وزن فعّال من هدر يهدر هدرا وهديرا( لسان العرب مادة هدر).
61. صبغ أحمر اللون تصبغ به الجلود، ويقصد به هنا السرج.
62. نوع من أحمر الشفاه.
63. تعرف في تونس ب»الكبوس»، يضعه الرجل على رأسه ويكون عادة لونه أحمر.
64. صفة لنوع من الأسلحة النارية، سمي بذلك لشدة الصوت الذي يحدثه.
65. بمعنى نزلوا للقتال.
66. تسمية تطلق في مجتمع البحث على الذكور من الذريّة.
67. بمعنى الأتراك (العثمانيون).
68. الحشد العسكري المتنقل.
69. اسم علم للمرأة.
70. يقصد بها رنات النواقيس التي تعلق في رقبة الجمل.
71. مفردها شركة، وهي نوع من القلائد التقليديّة التي تتحلّى بها المرأة في منطقة بحثنا.
72. نوع من الحُلِي، تثبت به المرأة على مستوى الصدر لباسها الخارجي المعروف بالملحفة أو الحولي.
73. الطويلة الضخمة (لسان العرب، مادة هجف )
74. بمعنى افتح مدخل البيت على مصراعيه.
75. تسمية تطلق على زوجة الابن.
76. كلمة عامية، بمعنى دخلت.
77. كلمة مستعملة في اللّهجة التونسية، تطلق على «الختان». والطهور من الطهارة، وهي عملية مفروضة على الذكور في الدين الإسلامي.
78. أصلها أشرقت.
79. بمعنى زريبة، مكان للأغنام.
80. شعلة من الضوء.
81. الباخرة.
82. القطار الذي يسير بالفحم الحجري.
83. قطعة فضيّة من الحلي في شكل مثلث، تستعمل منها المرأة البدوية زوج لشد لباسها الخارجي.
84. لقاء مع مباركة العربي إحدى الرواة من ميدان البحث يوم 20 ديسمبر 2013.
الصور
- الصور من الكاتبة