فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

الموروث الشعبي ودوره في تجذير هويّة الطفل العربي

العدد 48 - آفاق
الموروث الشعبي  ودوره في تجذير هويّة الطفل العربي
كاتب من تونس

تؤكّد مادة: ط– ف– ل في لسان العرب لابن منظور على معانٍ تجتمع في الإحالة على ما هو ناعم وليّن ورَخْص، وعلى كلّ ما هو صغير. والصَبيُّ يُدْعى طِفْلاً حين ينزل من بطن أمّه وذلك إلى أن يحتلم فيمرّ إلى مرحلة البلوغ والنضج. ومرحلة الطفولة ذاتها في حياة الإنسان يمكن أن تُقَسَّم إلى ثلاث مراحل تبرز تدرّج الطفل من حال النعومة المطلقة والبراءة الخام إلى حال أخرى يبدأ فيها في اكتساب الخبرات واستيعاب أصول التربية والتعلّم من الكبار المحيطين به في البيت والمدرسة والشارع. وهذه المراحل هي:

1. الطفولة المبكرة (من 3 إلى 5 سنوات).

2. الطفولة المتوسطة (من 6 إلى 8 سنوات).

3. الطفولة المتأخّرة (من 9 إلى 12 سنة).

ولمّا كان الطفل وما يزال على هذا النحو أرضا بكرًا قابلة للتأثّر السريع بما يطرأ عليها فإنّ مسألة الهويّة، وخاصّة في عصرنا الراهن، أصبحت تمثّل أولويّة قصوى، ومسألة لا يُستهان بها، وخاصّة بالنسبة إلى الطفل العربي الذي ستُوكل إليه في المستقبل على المدى المتوسط والمدى البعيد تمثيل بلاده العربية وخاصّة من زاوية الانتماء التي تتحدّد بمقومات الهويّة الحضارية والثقافية وما تحمله من خصوصيات.

في الماضي، كانت الظواهر وأحداث الحياة تسير ببطء شديد، وكانت الشعوب رغم ما كان بينها من تواصل واحتكاك ومُثاقفة تحتفظ لنفسها بهويات شبه ثابتة ومستقرّة. أمّا اليوم فإنّ «عجلة» التطور الحضاري والتكنولوجي بشكل خاص أصبحت تدور بسرعة جنونية تقطع الأنفاس وتهدّد في كلّ لحظة بهدم الهويّات القومية وقطع دابرها. فالكبار المؤتمنون على مصير الصغار أصبحوا يعيشون في عصر العولمة التي هي قدر تاريخي محتوم، ولكنّ هذه العولمة على ما لها من إيجابيات كشفت عن وجه لها «قبيح»، وعن سلبيات عديدة لعلّ أبرزها السعي الدؤوب إلى التنميط الأُحادي للمجتمعات والشروع في طمس معالم الهويّات القومية والوطنية. وفي هذا السياق سنحاول أن نتبيّن ما إذا كان بإمكان الموروث الشعبي العربي أن يشكّل إحدى صمّامات الأمان للحفاظ على الهويّة بالنسبة إلى الطفل العربي الذي سيحمل مشعلها في المستقبل، ولا ندري إن كان هذا المشعلُ سيبقى متوقّدا أم أنّه سيأفل بفعل «رياح الزمن»!

نريد في هذا البحث أن نبرهن ببعض الأمثلة المختارة أنّ الموروث الشعبي هو أساس الهويّة ومركز دائرة الانتماء، وأنّه خزّان فيه من كلّ شيء غثٍّ أو سمين، ومع ذلك يمكن أن نُعيد قراءته لتثمين بعض ما محتوياته وذلك لما فيه من قيم مخصوصة ومعارف وعلم من شأنها أن تعيد تجذير هويّة الطفل العربي بعد أن عرّت أغلب جذورها رياحُ العولمة التي تزداد يوما بعد يوم عنفا وقساوة.

ربّما لا يختلف إثنان في فكرة أن ليس كلّ ما هو موروث شعبي هو إرث مثالي أو نقيّ تماما. وعليه، يتعيّن علينا أن نتحاشى في ذات الوقت تقديس ما مضى أو العكس التعالي على الموروث باسم الحداثة التي خدّرت بعض العقول وأبهرتها، وخاصّة عندما يفزع مريدوها من كلّ ما هو قديم تليد. وفي المقابل نحن سنفزع إلى بعض مظاهر هذا الموروث الشعبي لاستلهام بعض ما يساعد على ترميم هويّة الطفل العربي التي بدأت تتصدّع، ولكن بدون أن ننكر أن معظم هذا الموروث قد أصبح أشبه ما يكون بـ«الماكينة» المعطلة التي تحتاج إلى إعادة تشغيل، وبدون أن ننكر أيضا أن هذا الموروث الذي هو روح الهويّة قد تحوّل إلى منتوج «مُناسَباتِي» وحتّى سياحي يسعى معظم الناس إلى تسويقه لجمع بعض المال! وهو مآل ساذج لا يخلو من الانتهازية والتعامل السطحي مع موضوع من صميم وجود الشعوب قاطبة، وليس فقط الشعوب العربية وهو موضوع الهويّة. إنّه بالفعل إشكال حادّ يتجسّد في طرح السؤال: هل الموروث الشعبي بمختلف أشكاله ومضامينه أمر ضروري وإيجابي لتجذير الهويّة الوطنيّة والقومية أم أنّه سبب من أسباب التأخّر الحضاري عندما نحرص على التمسّك به أو محاولة إحيائه وردّ الروح إليه؟

في قراءة أولى ينظر البعضُ إلى تلك الموروثات والمأثورات الشعبية نِظرة دونية تبخيسية لأنّها حسب تقديرهم علامة من علامات التخلّف عندما نُصرّ على التمسك بها، فتلك القراءة «تنظر إلى الثقافة الشعبية باعتبارها مظهرا لعلل في ثقافة الأمّة وفي نسيج الحياة الوطنية أو القومية، وإلى محاولات تصويرها على أنّها قرين للتخلّف الحضاري، وأنّها نقيض للمعرفة الرشيدة»1.

وبالفعل، فإنّ بعض المفكرين منذ أكثر من قرن كانوا وما يزالون يُلقون اللوم على التراث فيدّعون أنّه أحد الأسباب الجوهرية التي أبقت البلدان العربية متخلّفة، أو على الأقلّ في مستوى دون المستوى الذي بلغته شعوب أخرى! والحلّ عند هؤلاء يكمن في استنساخ مظاهر الحياة الغربية، وخاصّة في مستوى زخمها المادي فضلا عن القيم المترتبة عن ذلك، متناسين في ذات الوقت أنّ ذلك سيؤدّي حتما إلى طمس الهويّة الثّقافية نهائيا.

إنّه بدون ريب موقف ينبني على خطأ منهجي فادح. والوجه في ذلك أنّ التراث والمأثورات الشعبية ليست مجرّد رداء يمكن التخلّص منه بسهولة في الوقت الذي نريد، فهم تناسوا عمدًا أو بحسن نيّة أنّ تلك المأثورات الشعبية مكوّن رئيس من مكوّنات هويّة الشخصية الحضارية والثقافية. والدليل أنّها ستنبعث وتطفو من حين إلى آخر غصبا عن الجميع في مستوى القول والسلوك ورؤية الكون والعالم حتى وإن عمدنا إلى إخفائها والتنكّر لها بدعوى مجاراة حال الوقت وما تقتضيه الحياة المتحضرة والعصرية من نفض لغبار الماضي.

صحيح أنّ الكثير من البلدان العربية أصبحت في العقود الأخيرة تهتمّ بالتراث بدعوى إحيائه، ولكنّ ذلك لمْ يتجاوز ظاهر الخِطاب، لأنّ هذا الاهتمام ليس موجّها للتراث في حدّ ذاته أو من أجل الحفاظ على الهويّة، هكذا بشكل مبدئي مجرّد، وإنّما من أجل خدمة اقتصاد السياحة وتنمية العائدات المالية. هذا ينطبق مثلا على بعض بلدان المغرب، وأمّا في الخليج العربي فإنّ اكتشاف النفط أحدث كما هو معلوم نُقلة سريعة وهائلة في أنماط العيش، وفي تغيّر آليات الإنتاج فضلا عن الوافدين على المجتمع الخليجي من كلّ حدب وصوب، والنتيجة أنّ ذلك المجتمع اكتسب وجها آخر مغايرا. وعليه كيف تستطيع الموروثات الشعبية أن تجد لنفسها مكانا في هذا الخضمّ وهي التي طالما ارتبطت بالحياة البدوية أو القروية وببساطة العيش عموما؟

هل صارت تلك الموروثات جزءا «متحفيا» من الماضي؟ هل أصبحت مادّة للعرض الفُرجوي فحسب؟ إنّها أسئلة حارقة أصبح يطرحها البعض ممّن أفاقتهم «صحوة الهويّة» بفعل زلزال العولمة فانبرى لفيف منهم يحنّ إلى عبق الماضي بما فيه من عفوية وبساطة، ولفيف آخر يقول إنّ الحضارة المادية ليست كلّ شيء في الحياة فأخذ ينبّه إلى خطورة الاستمرار في إنكار التراث والتعالي عليه لأنّ ذلك سيؤدّي حتما إلى إنتاج أجيال قادمة لا هويّة لها، أو أجيال آلية خالية من كلّ حسّ إنساني (Génération automate). ولا يخفى أنّ هذا الحنين إلى الجذور (La nostalgie)، وأنّ هذه الإرادة المتصاعدة لإحياء الموروثات أو على الأقلّ الوعي بها تنطلق جميعُها من تأثيرات الحسّ القومي والأطفال دائما في البال لأنّهم هم الذين سيصبحون كبار المستقبل. فـ«مجتمع بدون تراث هو مجتمع لقيط، يعني يُنظَرُ له بشَكّ وبدون احترام بين المجتمعات الإنسانية»2.

فالقضيّة حينئذ هي قضية انتماء لجماعة مَّا، أي لهويّة معيّنة، والموروثات في ذاتها تحيل على العالم الجماعي في مقابل العالم الفردي، وتنصّ بجميع أشكالها المادية واللامادية على وجود رؤيات خاصّة للكون والوجود. وإذا ذهبنا إلى أبعد من ذلك قلنا إن الهويّة يمكن أن تتصرّف إلى هويات جزئية محليّة حتّى في مستوى الوطن الواحد إذا كان ممتدّا جغرافيا، وإذن فهناك ألوان من الهويات يمكن إجمالُها فيما يلي:

- هويّة البيئة الحضرية والمدن القديمة التاريخية.

- هويّة البيئة القروية الزراعية.

- هويّة البيئة البدوية الصحراوية.

- هويّة بيئة الواجهة البحرية.

ومعنى هذا أنّ طفل بيئة مَّا لا يمكن أن يكون بالضرورة ابن بيئة أخرى، فإذا انتقل من واحدة إلى أخرى فإنّه سيجد بعض الصعوبات لا محالة في التأقلم مع مقتضيات الفضاء الاجتماعي الجديد الذي يحلّ به. وهذا ظاهر جليّ فيما يحدث لطفل الريف أو البادية أو القرية عندما ينزح مع أهله إلى فضاء المدينة أو يهاجر معهم إلى بلد آخر أجنبي.

في هذا الإطار سنجمل القول أوّلا في بعض الممارسات والمعتقدات والمأثورات القولية الشعبية التي تُسهم في تأصيل هويّة الطفل العربي، وذلك قبل أن نُفصّله في الحديث عن مظاهر أخرى نعتبرها من أبرز الركائز التي تعمل على تشكيل هويّة الطفل العربي بما يتلاءم مع خصوصيـات المجتمع الذي ينتمـي إليه.

هدهدة الطفل وتنويمه:

في مختلف البلدان العربية نقف في الموروث القولي العاميّ على كلمات موزونة مغنّاة تستخدمُها الجدّات والأمّهات بالخصوص للمساعدة على جلب النوم للرضيع أو للطفل في مرحلة مبكرة من حياته، وهي خطابات شفاهية في الأصل تقوم على جمالية الإيقاع من ناحية وجمالية الصورة من ناحية ثانية بما فيها من استعارات غنيّة بالدلالات والإيحاءات، قد تُساعد على فهم ما يقوم بين مكوّنات العائلة من علاقات حميمية. فالأمّ عند التنويم والهدهدة قد تقول: «ارقد يا وليدي، يا أعزّ الناس، أمّك فُضّه وبوك نحاس!» أو تقول: «نَنِّي، نَنِّي، جاك النّوم أمّك قمرة وبُوك نْجوم!»3.

إنّ أغاني التنويم بكلماتها التي تبدو في الظاهر بسيطة، وبإيقاعها وصورها لها دون شكّ أثر لا يُستهان به في تكوين شخصية الطفل وضمان توازنه النفسي، إنّها «تتميز ... بألحانها الرتيبة المتكررة التي تساعد الطفل على الاسترخاء والنوم»4. ومن التقاليد ذات المغزى العميق في تونس مثلا هو منع الطفل من النوم مباشرة بعد بكاء أو حالة تشنج لما ينتج عن ذلك من أضرار قد تمسّ حالته النفسية وصحته العصبية وحتّى البدنية. فالاسترخاء ضروري للطفل لضمان صحّته وعافيته، ولهذا السبب نجد أنّ كلمات الأغاني تعتمد على سجلات لغوية مرققة للقلوب منها السجل اللغوي الديني، أو ما يتعلق بعاطفة الحبّ والشكوى من الغياب والرجاء في اللقاء فإذا «رَقَّصَتْ» الأمّ رضيعها أو طفلها الصغير خصّته بكلمات مفعمة بالمرح والفرح تشعر السامع بالطمأنينة والأمان، ولا ريب أنّ هذا يدخل في باب الحرص على ضمان التوازن للطفل من جميع النواحي، وهو ما يسهم في تمتين العلاقات العاطفية وحسّ الانتماء إلى العائلة.

الأحاجي والألغاز

هذا النوع من الموروث القولي يختص بتسميات عديدة في مختلف البلدان العربية، ففي تونس مثلا يطلق عليها إسم الخَبْو أو الطُلِّيعة أو السِمَّايَهْ، وفي بلدان الخليج العربي تُعرف بـ: المْحاجْيَاتْ والغْطاوِي والحَزُّورات. وتعتمد الأحجية عمومًا في مستوى تشكيل بنية خِطابها البلاغي على نظام تشفير (Codage) يحتاج إلى آليات لتفكيكه (Décodage). وفضلا عن ذلك فإنّها كانت تُعدُّ شكلا من أشكال الفُرجة الذهنية القديمة، والوجهُ في ذلك أنّ الأُحجية تقترح صورًا ذهنية غريبة تروق للسامع حين يُحاول أن يتمثّلها في المجال الحسّي. والذي كان يحصل هو أنّ الطفل كان يستفيد من هذا الشكل التعبيري الوجيز الذي يقوم على أسلوب التصوير الطريف والممازحة في أطر عائلية موسعة حين كان المكان فيما مضى رحبا والزمان هو أيضا رَحْب من زاوية ما هو معيش لا مقيس، أي حين لم تكن هناك وسائل تكنولوجية تلهي وتشغل وتشعر الفرد بضيق الوقت وضيق المكان و«انقراض» الإنسان. وسنقتصر على أحجية مستطرفة تقول: «عْلَى راجِلْ مِرْكانْتِي (ثري) وأولادُو فُلاّسْ (مفلسون)، هو يعطي لأولادُو، وولادُو يعطِيو للنّاس!» (والحل هو إبريق الشاي أو «البَرّاد» كما يُسمّى في تونس بالنسبة إلى الرجل – الأب الثريّ، والكؤوس الصغيرة بالنسبة إلى الأولاد). وقد يملأ فضاء السمر الليلي أيضا ما يُسمّى بـ«التعجيز»، وهي عبارة عن أقوال مركبة معروفة، حروف كلماتها متقاربة من حيث المخارج، يؤدى تكرارُها بسرعة إلى التلعثم والخلط فيضحك الأطفال ويدخلون في حال من المسرّة من شأنها أن توطّد عُرَى العلاقات الإنسانية بينهم5.

إنّ الغاية واحدة ممّا سبق، وهي تتمثّل في امتحان القدرات الذهنية للطفل وتسليته في آن لما في الأحاجي من صور طريفة مضحكة أحيانا. فالطفل في هذه الحالة يتعلّم ويُمتحَنُ ويشغّل طاقاته الذهنية وهو يضحك. ومن ثمّ فإنّ اللغز كان يمثّل أحد أبرز الوسائل التربوية التعليمية ضمن الموروث القولي، وعليه كما يقول أحد الباحثين «يمكن الحفاظ على هاته الألغاز التي تمثل الأصالة... حتى تُفيد الجيل القادم، الذي يجب عليه أن يحمل هذا الإرث، إرث أجداده، فبحياته والحفاظ عليه يحيا المجتمع وبموته يموت المجتمع»6.

المثــل

هو شكل تعبيري وجيز تصويري في معظم الأحيان، يقوم على الاستعارة التمثيلية وهو أحد المكونات الرئيسية للموروث. ولكن يعسر أن نجد طفلا صغيرا يتمثل بمثلٍ أو حكمة في كلامه، فإذا حصل ذلك قدّر الناس أنّ عقله أكبر من سنّه البيولوجي، والسبب واضح وهو أنّ المثل يُعتبر من أقوال الكبار الناضجين المحنكين الذين علّمتهم تجاربُ الحياة الكثيرَ من الحقائق مهما كانت طبيعتُها. فالطفل يستمع إلى الحكمة والمثل يصدران عن الكبار فيجد فيها ثقلا في المعنى ودسامة في الأفكار يعسر هضمُها بسهولة بالقياس إلى سنّه، ولكنّه مع ذلك يخزّنها في ذاكرته فتبقى ثاوية فيها لعقود طويلة قبل أن يلجأ إلى استعمالها عندما يبلغ مرحلة النضج ليفيد بها أطفاله أو أحفاده، وهكذا تستمرّ الحلقات مترابطة مؤشرًا قويّا على استمرار حياة الهويّة الثقافية لما للمثل من خلفيات يَعْسُر مَحْوُها.

الملابس التقليدية

يَحْسُنُ أن نعتبر هذا النعت «التقليدية» غير مناسب، وعليه ربّما يُستحسنُ أن نستبدل المركّب بملابس الهويّة، إنْ بالنسبة إلى الكبار وإنْ بالنسبة إلى الصغار. وبما أنّ مقتضيات العصر الحاضر لم تعد من جنس متطلبات الماضي، حيث كانت الملابس مناسبة آنذاك لأنماط العيش السائدة فإنّ خوفا مَّا يصل أحيانا إلى حدّ الفزع بدأ يُداخل النفوس من الفقدان النهائي لهذا المقوم من مقومات الهويّة، ولهذا السبب تكفلت العديد من الجهات الرسمية والهيئات المدنية في معظم البلدان العربية بـ«أرشفة» هذا التراث في المتاحف عبر نماذج ممثلة، أو عبر صور فوتوغرافية بعضها يعود إلى بدايات التصوير الفوتوغرافي. وبهذا حصلت النقلة من حالة حاملي التراث، إلى حالة الوساطة في حفظ التراث. وتجلّي الفرقُ بين الهويّة في مستوى اللباس كممارسة فعلية والهويّة كحالة استحضار أو إعادة تقمّص للماضي.

يتجلى هذا الأمر في الكثير من البلدان العربية من خلال الاحتفال بما يُسمّى «شهر التراث» أو «يوم اللباس التقليدي». وفي مثل هذه المناسبات يتمّ –على سبيل المثال- إلباس الأطفال نماذج من اللباس التقليدي في أجواء احتفالية. وفي أحسن الأحوال يتمّ توظيف هذه الملابس في المناسبات كالأعراس وحفلات الختان وبعض الاحتفاليات الكبرى ذات الصبغة الفُرجوية. ثمّ وبالعودة إلى الحياة اليومية المألوفة تُعاد تلك الملابس إلى الرفوف باعتبار أنّها لم تعد مناسبة للحياة المعاصرة من النواحي العملية7.

عادة الاستسقاء:

هذا الطقس الموغل في القدم يرتبط بالمجتمعات الزراعية الرعوية، وهي التي تفزع من طول جفاف ينذر بالخطر وفناء الخلق من بشر وحيوان وشجر. فتلجأ جماعيا كبارا وصغارا إلى هذا الطقس وتفزع للسّماء متضرّعة، وهي التي كانت وِفْقَ رؤية الناس القلبية الشعورية للوجود آنذاك أقرب منهم ومن الأرض ممّا هي عليه الآن!

لقد كان الطفل يرى كلّ ذلك فيدرك ما للماء من أهميّة قصوى في الحياة، فيستبشر تلقائيا كما يستبشر الكبارُ بنزول المطر بعد انحباس طويل، ويجد في الرائحة الخاصّة التي تنبعث من الأرض اليابسة الكالحة وهي تستقبل القطرات الأولى من «غيث السماء» ما يُضاهي رائحة أرقَى العطور، ويتأكد الطفل من تلك القيمة عندما يرى الأمهات والجدات يقمن بإعداد الثريد الساخن احتفالا بنزول الغيث. هل بإمكان الذاكرة أن تنسى تلك النصيحة الشهيرة الموجّهة للبنات على أبواب الزواج وهي تقول وخاصّة على لسان الأمّ «ولْيَكُنْ أطيبَ طيبك الماءُ، وليكن ريحُك ريح أرض (شَنٍّ) غِبَّ مطرٍ»8.

كان الأطفال يشاركون في تأثيث طقوس الاستسقاء، وهي من الطقوس الموغلة في القدم عند شعوب عديدة، وفي لحظات احتفالية تقرب إلى الأجواء «الكرنفالية» يقوم الجميع بدور الممثلين ويخرجون عن مسار الحياة اليومية الروتينية، ويصيرُ الطفلُ البريء عنوان بركة فيكون أحقّ من غيره بعطف السماء التي تحنو على الطفل المهدّد بالعطش القاتل كما تحنو على البهاليل وأهل «النّيات الصافية»، وحتى من يُظنّ بهم جنون، وهكذا «لم يكن لهذا الطقس أن يُنتج غايته بدون صوت الجنون الذي يرتفع متوسلا داعيا ليعيد العطف إلى عين السماء الغاضبة في نظرتها إلى الأرض المبتئسة»9.

لقد كان الأطفال يُدفعون في مقدمة موكب الاستسقاء لعلّ السماء ترقّ لهؤلاء العطاشى الأبرياء، أوهم حسب اعتقاد الكبار الفئة الأنسب والأطهر لإقامة علاقة مباشرة مع الله ومحاورته بكلام خاصّ، أو يُخاطِبون النساء (رمز الخصوبة) فيقولون:

أمّك طنقو يَا نْسَا طَلْبِتْ رَبّي على الشّتَا

أمّك طنقو بِسْخَيِّبْها طلبِتْ ربّـــي لا يخَيِّبْهَا10

وفي روايات أخرى تختلف حسب البيئات المحلية:

يَـا مْطَـرْ يـا خَـالْـتِي صُـبْ علـى قُطّايْتِـي

قُطّايِتِي مبلولة (مدهونة) بزيت الزيتونَهْ

أو:

أمّك طنقو يا نْسا صُبّوا عليها شويّه ماء

أو قولهم:

أمّك طنڤو تْحِلْ في شْعِيراتْها

رَبّـــي يْبِـــلْ خْـرِيصــاتْهــا

ويثبتُ «الرزقي» منظومة أخرى يغنّيها الأطفالُ في معنى الاستمطار فيقول «ومن ألاعيب الصبيان الّتي يتغنّون بها على رنّاتِ الكفِّ أنّهم إذا رَأَوْاالغرانيق طائرة في الجَوِّ يتفاءلون منها بقُرْبِ نزول المطر فيقولون على نغمةٍ واحدةٍ خفيفة:

يا غْرانق لِبْحَرْ اِمتينْ تْصُبْ لِمْطَرْ

يا غْرانِقْ يا طيّاره بَشْرُونا بِالبشارَهْ

راهُو الوَطَنْ يِبْسِتْ أَشْجارَهْ

مابْقَى حتّى شَيْ أخْضَرْ11

هل كان طقس الاستسقاء مجرّد عادة بدوية ريفيّة بحتة عندما يعزّ الماء ويجد الناس ضنكا في الحصول على القليل منه إذا شحّت السماء؟، هل أنّه لم يعد لهذا الطقس معنى يُذكر في إطار الحواضر والمدن العصرية حيث تمتدّ قنوات توزيع المياه وتمتلئ المتاجر بقوارير الماء المعدني أو المصفّى؟ هل الأمر يتوقّف عند هذا الحدّ، أم أنّ الاستسقاء برمزيته حمّال لرسائل خالدة يتعيّن على الناشئة الجديدة أن تعيها؟

صحيح أنّ الاستسقاء أصبح عملا «فولكلوريا» غير ذي معنى وخاصّة لدى الأجيال الجديدة التي لم تعد تدرك ما للماء من قيمة بفعل حالة الرخاء والنماء التي أفسدت بقدر ما أصلحت. فالأطفال اليوم ربّما لا يَعُون أنّ الاستسقاء يتضمّن رسالة خفيّة لا مجال للتشكيك في جدّية مضمونها تنصّ على ضرورة المحافظة على الماء الذي سيشكل على المدى المتوسط معضلة كبرى للعديد من الشعوب وخاصّة العربية منها بفعل ما يشهده المناخ من تقلّبات، فضلا عن قرب نضوب المصادر المائيّة الحالية ومشاكل التلوّث وهي من الأمور المصيرية التي أصبحت تتحكم في الوجود الإنساني أصلا.

الحفاظ على «النِّعمة» للتوقّي من زمن النقمة !

المراد بــ«النِّعمة» ههنا الخبز (المصنوع من طحين القمح) والكسرة (المصنوعة من طحين الشعير)، أيام كانت «النّعمة» عزيزة المنال، ولهذا السبب لم تتأخر الذاكرة الشعبية الجماعية في الدعوة تصريحا أو تلميحا عن طريق الترميز والخطاب الاستعاري إلى الحفاظ عليها واحترامها، والرسالة موجهة بدرجة أولى للأطفال وهم في طور التنشئة. والشائع في لغة عامّة الناس أنّهم وهم يخاطبون الأطفال يعمدون إلى تصغيرها تحبّبا، وإضافتها إلى الله عندما يقولون لهم: تلك «نْعِيمَةْ رَبِّي» فلتحافظوا عليها.

الأمر يتعلّق في تبليغ هذه الرسالة باستخدام رمزيات عديدة منها رمزية القمر، «فالقمر ... أقمار إذ هو في منزلة أولى مجرّدة جرم سماوي تابع لكوكب الأرض، وفي منزلة ثانية إمرأة جميلة من زاوية استعارية (والعديد من النسوة يحملن إسم قمر أو قمرة)، وفي منزلة ثالثة قمر خرافي يتجسّد على صفحته الفضية وجهُ زنجية علقها الله من أشفارها لما اقترفت من إثم حين استهانت بقيمة الخبز»12.

فالظاهرة حينئذ تتعلق بتمثل خرافي صنعه الكبار لتأديب الصغار وتربيتهم على ضرورة احترام الخبز. فالأمهات والجدّات كُنّ إذا ما وجدن قطعة خبز أو كسرة مرميّة على التراب يلتقطنها ويضعنها على الجبين وربّما يقبّلنها، ثمّ يضعنها على مكان عال (حائط مثلا) ليأكل منها الطير أو سائر الهوام. وفي الكثير من المجتمعات العربية «يحرصُ الفلاّحُ على ألاّ يدوس أيّة قطعة خبز مهما صغرت. وإذا ما وجد الفلاّح شيئا من الخبز قد سقط على الأرض فإنّه يتناوله بكلّ خشوع واحترام ويُقبّله ويضعه على جبينه ثمّ يُودِعه جانبا بحيث لا يتعرّض لأن يُداس بالأقدام»13. كلّ ذلك كان يجري على مرأى من الأطفال وسمعهم مع التذكير الدائم بمصير تلك الزنجية المعلقة من جفونها على صفحة القمر من زاوية القراءة الميثولوجية الشعبية للكون «فالكونُ في بُعده الميثولوجي يُحدثُ الإنسان بأنّه كون حيّ ومتحرك وغنيّ بالمعاني»14.

إنّ في ذلك رسالة ثمينة للأطفال محصّلها عدم الاغترار بأيّام اليُسر، لأنّه حسب قانون الحياة قد تعقبها أيّام عُسر لم تكن في الحسبان، فيها تصير قطعة الخبز مطلبا عزيز المنال أثناء المجاعات المهلكة والحروب، وليس الخبز فقط بل أيضا القليل من الماء. ولكن بتلاشي هذه المكابح التراثية الحمّالة لأنبل الرسائل صار الخبز اليوم بفعل حالة الرخاء في بعض البلدان يُداسُ بالأقدام وتمتلئ به المزابل، وصار ذلك القول الشائع «يأكلون الغلّة ويسبّون المِلّة» ينطبق على هذه الحال التي تنزل إلى مرتبة الكفر.

وحتّى في السير الشعبية كالسيرة الهلالية نقف على أقوال ومنظومات جاءت على لسان الجازية الهلالية تدعو إلى تربية الأطفال لأيّام الرّخاء والشدّة، فما يُنسب للجازية «المُخَبَّلة في شْعُورْها» و«المْخَبِّلة بِكْلامْهَا» البليغ كثير، بعضه يتّصل بمناهج تربية الأطفال وهي التي تمدح قيم الشدّة والفحولة حسب منظومة القيم البدوية الأصيلة، ومن ذلك قولُها:

لا خِيــــرْ في الطفــل إذا نْشَـــا

وكـانْ رَقــادْ كْثيـــرْ هْمــايْدَهْ

إذا ما جَـــابْ الشرق والغَــربْ

وقَطِّـــعْ بيــــن الثنـايــا مْــزاوْدَهْ

إمّـــا يمـوتْ يِرْتـــاحْ مِ العْنَـــا

وإلاّ يْـرُوح كِـالصَّقْر يِحْمي حْمايْدَهْ

رَبُّـوا أولادكـم للشِـدّه والرّْخَـا

يْلاقُـوا في حْيـاتِهم كُـلْ فَايـدَه15

وحتّى في الشعر فإنّ الشاعر الشعبي يأمر بتوخّي بعض الشدّة في تربية النشء ضمانا لسلامة مستقبلهم عندما يقول:

اضْرُب وِلدك بالعصا يَرْجَعْلِــكْ

اضـربْ ولـد النــاس مـا تَلْقـاهْ16

فما تقدّم في هذه المعاني مجرّد نبذ ممّا هو مُخَزَّنٌ في التراث الثقافي الشعبي، قد يقدّر البعض أنّها لا تعدو سوى لحظة من الماضي البعيد، أو أنّها مجرّد ذكريات مصيرها الانقراض، وعليه كيف يكون السبيل في راهــــــن العصر إلى تجاوز كونهـــــا مجـــــرّد نصوص يرثهــــا السلف عن الخلـــــف، وذلك بتفعيـــــل ما تتضمنه من قيم حتّى تكتسب الهويّة المسداة إلى الطفل صفة السيرورة والمرونة فتستطيع تلك الموروثات أن تَرْفُدَ ما هو جديد مستحدث بما هو قديم تليد مع الحرص على التناغم والتكامل بينهما؟

فإذا قدّرنا أنّ الهوية قيمة اعتبارية مرنة، وأنّها ليست إطلاقا «قطعة أثرية» مخزّنة في المتاحف جاز لنا ونحن نمرّر تلك المعتقدات إلى الأطفال بطرق مستحدثة يمليها حال الوقت أن نعتبر الهويّة من الثوابت، ولكن دون أن تعني جمودًا وتكلّسًا، وذلك بالحفاظ على سيولتها انسجاما مع سيولة الزمن الذي يتغيّر بتغيّر نمط حياة الإنسان.

الهُويّة من خلال الحكاية الشعبية:

الحكاية الشعبية المقترحة على الطفل ظاهرُها إمتاع وباطنُها انتفاع. والحكمة إذا قُدِّمت للطفل بشكل مباشر وصريح فإنّها قد تكون ثقيلة عليه، ولهذا السبب نجدها في الحكايات الشعبية تُمرّر بطرق ذكيّة ويتلطف الكبار في إيصالها حتّى يتمكّن الطفل من استيعابها. ولقد كان الأطفال يمثلون أحد أبرز مكوّنات الجمهور بالنسبة إلى سماع الحكايات الشعبيّة، وذلك قبل أن يتضاءل هذا الحضور بفعل ظهور وسائل ترفيهيّة عديدة وتغيّر نمط الحياة. والسرّ في التعلّق بالحكاية عند الأطفال يتّصل بغريزة حبّ الاطلاع والفضول وعشق كلّ ما هو بطولي أو خارق للعادة والمألوف.

ينهض راوي الحكاية الشعبية في صلته بالأطفال بدورين فهو في آن متكلم وممثّل. والطفلُ يستهويه أن يرى الراوي يُوضّح ما هو مُبهم ويشخّص ما هو خيالي، وذلك عندما يدمج التعبير الجسدي في التعبير اللساني. كل راوٍ له من المهارات ما بها يتميّز عن غيره من الرواة. فهو يستطيع أن يروي «تكاذيب» مستعذبة ولا يستطيع أحد أن يقيّد عليه شيئا ما دام الجسرُ الواصلُ بينه وبين المستمعين هو المشافهة. يستطيع أن يقول ما يريد أو أن يُغالط فلا يُحاسب. إنّه يتعامل مع أميين والطفل هو واحد من أولئك. كما أنّه يستطيع أن يسرد الحكاية مُنجَّمَةً فيقسمها إلى حلقات يوزعها على ليالٍ عديدة17.

وبما أنّ النهارَ ضياءٌ يكشف جميع الموجودات ويشتّت حاسّة الإبصار، وبما أنّه فضاء للعمل لابدّ في النهاية أن يضعف طاقة التركيز الذهني، فإنّ الليل في المقابل يبدو الفضاء الزمني الأنسب للقصّ. إنّه مثل الغرفة الكبيرة المظلمة التي تستبطنُ سحرا خاصّا مشبعا بالغموض فتتحفز جميع الحواس من سمع وبصر لمتابعة أطوار الحكاية الخرافية، فيشاهد الذهنُ ما يُشبه الشريط السينمائي من خلال نافذة الرواية. وبما أنّ الطفل جزء من المنظومة الاجتماعية التي ينتمي إليها فإنّه ينتظر دائما القصّ في كنف الظلام والإضاءة الضعيفة. وجديرٌ بالتذكير ذلك التحذير من القصّ نهارا عند معظم الشعوب اتقاء لمكروه مَّا قد يحصل للقاصّ نهارًا حسب ما تنصّ عليه الكثيرُ من المعتقدات السائدة.

هل كانت الحياة في الماضي روتينيّة «مملّة» حتّى نفهم لماذا كان الأطفال يستمعون إلى الحكايات بكلّ شغف، ويُلحّون على إعادة الاستماع إليها مرارًا وتكرارًا؟. ألم تكن تلك الحكايات سبيلا من سبل الانعتاق من أسر الروتين اليومي؟. أليس الطفل في مستهلّ حياته كتلةً من الأحلام، وعليه كان يجد في تلك الحكايات بما فيها من عجيب وغريب ما يلبّي له تلك الحاجة إلى الحلم بأشياء تبدو مستحيلة التحقيق؟، وحتّى بالنسبة إلى عصرنا الراهن أليس ما يُعرض في أشرطة الصور المتحرّكة نماذج جديدة مستحدثة من الحكايات الخيالية والخرافات العجيبة يحكيها جهاز التلفزيون الذي افتكّ دور الجدّ أو الجدّة؟

يستمع الأطفال بشكل أو بآخر إلى الكثير من الحكايات الشعبية فيظنّ بعض الناس أنّها محليّة وأنّها محدّد من محدّدات الهويّة، ولكنّهم سُرعان ما يكتشفون بالبحث والمقارنة أنّها حكايات ذات صيت عالمي، وأنّ أطفالا آخرين من مختلف أصقاع العالم قد استمعوا إليها أيضا، وإذن فإنّ ما يتعلّق بثنائية الهويّة المحلية القُطرية والهويّة الكونية مسألة شائكة بالنسبة إلى جنس الحكاية الشعبية. فالباحثون في هذا المجال اكتشفوا أنّها تُوحّد ولا تُشتّت، ومن ذلك «اهتمام (الأخوين جريم) بالمظاهر العالمية للحكايات الشعبية... وعندئذ ثار السؤال الكبير عن كيفية تفسير هذا التشابه بين تلك الحكايات والذي بلغ بعضُها حدّ التطابق»18.

إنّ التراث العالمي من الحكايات الشعبية على قدر كبير من الضخامة، ومن سماته الارتحال المستمرّ، إنّه لا يعترف بالحدود ولا يحتاج إلى تأشيرات عبور، ولا خوف منه على الهويّة المحليّة أو القُطرية لأنّ معظم مضامين هذا التراث ذات صبغة إنسانية خالصة، وكأنّها لم تُوضع إلاّ لتربّي وتهذّب وتعلّم الناشئة، فالحكاية الواحدة عندما تفد على مجتمع مَّا تكتسب تلقائيا صَبْغَ بيئته الثقافية ونظام قيمه فيحدث فيها من التحويرات الجزئية والطفيفة ما لا يؤدّي إلى طمس كيانها الجوهري.

وربّما يتبادر إلى أذهان البعض أنّ الحكاية الشعبية قد وَلَّى زمانُها، وأنّ التمسك بها يؤدّي إلى أن نجد أنفسنا خارج التاريخ، أو كما يُقال عادة «خارج الموضوع والنص»، وهم في ذلك يَحتجون بأنّ المزاج يختلف من جيل إلى آخر، وبأنّ أطفال اليوم ليسوا أطفال الماضي، وبأنّ الحديث عن الحيوان والغيلان في الحكايات محض عبث ومضيعة للوقت نظرا إلى تلاشي البيئات الحاضنة لمثل تلك «الخرافات»، وأنّ الزمن اليوم هو زمن الوحوش الآلية التي تُقَدُّ من الحديد والفولاذ.

فهؤلاء الذين يتهمون المتمسكين بالحكايات الشعبية بالمحافظة والتزمّت وجمود الفكر، ويدعون إلى تطويع المادة الحكائية التراثية وتأهيلها بما يستجيب لأحوال الوقت وإلى الانتقاء وإدخال تغييرات على الحكايات مراعاة للأذواق الجديدة ولما يُسمّى بـ»الأجيال الصاعدة» نسوا شيئا مهمّا وهو أن تُؤخذ الحكاية الشعبية برمّتها كما هي على ما فيها من خيال مفرط و»تخريف» في نظر البعض، لأنّ في ذلك ما يبرّر قيمتها ونجاعتها في تحفيز الطفل على أن يصبح عالما بعد أن كان حالما.

والدليل الذي لا يرقى إليه الشكّ هو أنّ معظم ما هو من صميم المستحدث التكنولوجي اليوم مستلهم ومستوحى من روح الحكايات الشعبية. فالطفل محتاج وهو في طور العريكة الليّنة إلى شحذ الخيال، وعليه ألم تكن معظم المخترعات اليوم فيما مضى محض خيال فيما يُقال داخل الحكايات؟ ألم يقل «علي بابا» في الحكاية «افتح يا سمسم» فإذا بجدار الكهف ينفتح تبعا لتلك العبارة السحرية فأصبحنا اليوم نقدر بفعل التقدم العلمي أن نفتح جهازا أو أن نغلقه بإصدار كلمات؟. أليس من أشهر محتويات بعض الحكايات الشعبية الحديث عن عوالم أخرى بعيدة وسحرية، وبالتوازي صارت همّة علماء الفضاء اليوم منصرفة إلى اكتشاف المزيد من الكواكب والنجوم والمجرّات البعيدة بإرسال الصواريخ والمسابر يريدون معرفة حقيقتها وما تُخفيه؟. ألا نرى في بعض الحكايات كيف أنّ المسافر أو الطائر أو الكائن العجيب يقطع أطول المسافات في لمح البصر فتقبل النفسُ الحالمةُ ذلك قبل أن يصير كلّ ذلك حقيقة ملموسة اليوم بالوسائط العلمية؟. أليست الحكاية الخرافية الشعبية مسبارًا لغويا؟ أليس العالِمُ «طفلا كبيرا» كان في ما مضى طفلا يتسلّح بالحلم فأصبح فيما بعد في درب المعرفة يتسلّح بالعلم؟!

ليس الهدف من إسماع الطفل الخرافة هو تبنّي ما يجيء فيها، وإنّما القصد هو أن يتمثّل ما تستبطن من قيم أخلاقية ومعرفية ووجدانية خفيّة أو ظاهرة، شريطة أن يسمو كلّ ذلك بخياله ويرفده بمزيد من الخصال الإنسانية السامية. ومن الأفضل أن نترك للطفل فرص اكتشاف ما فيها بنفسه وهو يتدرج في مسلك النضج الفكري بمرور الزمن، ولكن إذا سأل واستفسر كان حريّا بالكبار ألاّ يبخلوا عليه بالإجابة.

وثمّة شيء آخر في بعض الحكايات الشعبية ربّما يُثير بعضا من الاحتراز وهو ما يتّصل بثقافة العنف. ففي العديد من نماذجها نجد دمًا يُسال وحرصًا على الانتقام والأخذ بالثأر، ولكنّ البلسم الشافي الشفيع فيها بالنسبة إلى متقبّل حسّاس مثل الطفل يبقى كامنا في أنّ معظم تلك الحكايات تنتهي بانتصار الخير وتصدع الظلم وانهياره، وهي نهايات تُريح الطفل وتُشعرُه بالرّضى19.

وثمّة مشكل آخر شكّل مصدر جدل بين الباحثين في مجال الحكاية الموجهة للطفل يقوم على حقيقة أنّ ما يقدّم له من هذا النوع الأدبي صنفان: صنف محلّي موروث وصنف ثانٍ مترجم أو منقول عن لغات وثقافات أخرى، وأنّ الصنفين معًا يبقيان من صنع الكبار، ومن ثمّة فهما يعبّران عن رؤيتهم للحياة، والمترتب عن ذلك أنّ هؤلاء الكبار يحمّلون الأطفال بما يدبّجون من حكايات هموما هي أكبر منهم لا تكون عادة مناسبة لهم، وعليه فإنّ البعض يدعو إلى تحاشي الأساليب «الببغائية» وإملاء الحقائق على الأطفال والتحفيظ الساذج، وفي المقابل فهم يدعون إلى تشجيعهم على الابتكار والجرأة.

ولا يخفي البعض الآخر احترازه من بعض الخرافات والأساطير المرويّة للأطفال لأنّها في تقديرهم قد تقدم لهم تفسيرات مغلوطة لبعض الظواهر التي يمكن تفسيرُها علميا بشكل سليم، وفي هذا السياق يقول أحدهم «إنّها مضيعة للوقت ومفسدة للفكر، إنْ لم نقل جريمة في حقِّ أطفال هم في حاجة إلى من يأخذ بأيديهم ليلجُوا بثبات عصْرًا اكتشفت فيه أسرار غريبة في علم الأحياء مثلا»20.

ويذهب هذا التيار في تقييم الأدب الموجه للطفل إلى أبعد من ذلك فيقترح الابتعاد عن توظيف الجنّ والغيلان والعفاريت في الحكايات، ولتبرير هذا الموقف يعتبر أصحاب هذا التيّار أنّ الأطفال اليوم محتاجون إلى الخيال العلمي لا إلى الخيال الخرافي المُخيف، وقد تناسى هؤلاء أنّ مثل هذه الرؤية إن هي وجدت طريقا إلى الإنجاز الفعلي ستؤدي حتما إلى وأد الخيال بمعناه الشامل، وهو الذي يكون الطفل في طفولته المبكرة في أشدّ الحاجة إليه لما له من دور في شدّ الانتباه والإمتاع والتسلية، وذلك قبل أن ينتبه لاحقا للحقائق العلمية والتفاسير الصحيحة التي يوفرها له التعليم والتمدرس وهو يترقى في مدارج العرفان والنضج العلمي21.

يحيل الطفلُ على البدء و»البدائية» التي تحتفل بالخيال فـ«عقلية الطفل مثلها مثل عقلية الإنسان البدائي تَسْخَرُ من المنطــــق والعقل»22. هو ميّال للعواطــــف، فالحكاية قد تجعل الطفــــــل يحزن أو يفــــــرح أو يقشعرّ بدنُه أو يبكي أو يضحك. وهذا يحصل حديثا عند الأطفال المتابعين للصور المتحركة. ولا ضير في أن «يُترك للأطفال المستمعين المجال فسيحا ليذهب بهم الخيالُ إلى حدّ تقمص شخصية البطل ولو لبُرهة قصيرة»23 «فأيّ طفل لا يرغب في تقمص شخصية التاجر البسيط الذي يتزوّج بعد تقلبات ومغامرات عدّة ابنة السلطان؟... هنا يبدو أنّ الحكاية الخرافية تؤدّي وظيفة تعويضية تخفف من كبت الطفل... وهو في طور تكوين شخصيته»24.

إنّ الطفل يُولد مرّتين: في المرّة الأولى يولَدُ بيولوجيا وصياحه وحرارة جسده هما الضامنان لدخوله الرسمي في الحياة. وفي المرّة الثانية يُولد اجتماعيا عندما يستمع إلى المأثورات الشعبية ومنها الحكايات. فالكبار يروون تلك المأثورات الشعبية بأنواعها على مدار ساعات اليوم والصّغار يُصغون إليها ويتقبلونها بشكل مباشر أو غير مباشر، فيُسهم كلّ ذلك في ترسيخ جذور هويتهم وانتمائهم الاجتماعي المخصوص. وهذه الحالة مشروطة بنشأة الطفل في إطار عائلي موسّع ومترابط، فيه الجدّ والجدّة والأب والأمّ والعم والعمّة والخال والخالة فيأخذ الصغير عن الكبير. وهذا الصغير سيصبح في يوم مَّا كبيرا يأخذ عنه صغير لاحق، وهكذا لا تنقطع السلسلة ولا تنفرط الحلقات لأنّ المثل العامي يقــــــول «اللّي حْضَرْ على بُوه سمع ما قال جَدُّو»25.

وفي ألفاظ الحكاية الشعبية وبعض تعابيرها ما يؤكّد أنّها مُشبعة بالأنفاس الدينية الإسلامية. وكأنّها بذلك تذكّر الطفل بشكل مباشر أو غير مباشر بأنّه ينتمي إلى دين الإسلام. فتشكلات الخِطاب الديني في مقدمة الحكاية ومتنها وخاتمتها تتحول إلى ما يُشبه التعويذة التلفظية التي تحمي الراوي والحاضرين من كلّ شرّ ومكروه، كما أنّها توحي بالبركة والخصب والرخاء وخاصّة عندما تشارف الحكاية نهايتها. وعليه «فالحكاية الخرافية خِطاب شفوي يجمع بين باثّ ومُتلقٍّ، ويُؤسس عند الجماعة المعنيّة تفكيرا ذاتيا، ويجسّد منظومة القيم التي تُنظِّمُ علاقات أفرادها بعضهم ببعضهم الآخر، ويعبّر عن مشاعرهم ووجدانهم...»26.

وشأنها شأن بقيّة أشكال الموروث الشعبي فإنّ الحكاية تمثل بدورها سلطة الأسلاف على الأخلاف فيكون لزاما على الطفل إلاّ أن يذعن لتلك المشيئة27. وحَريّ بالراوي أن يحرص على أن يكون كلّ ما في الحكاية متلائما مع التقاليد السائدة والنظام الاجتماعي العام. وله أيضا أن يُغيّر بعض الشكليات فيها بما يساعد الطفل على تمثل الأشياء في محيطه القريب فيُسمّى بعض الشخصيات بأسماء أو بعض الأماكن بتسميات يعرفُها الطفل أو يسمع بها. فكل ذلك يساعده على تمثلها بوضوح في ذهنه.

فالحكاية سبيل من سُبل تمتين علاقة الطفل بمؤسسات مجتمعه في تشكلها الديني والعائلي، إذ هي من أقوى الأسباب التي تمتن صله الرحم من خلال تلك السهرات العائلية الجماعية. وقد ذهب معظم هذا إلى زوال، فنحن أصبحنا «نرى في الحكاية الخرافية شهادة صادقة عن مؤسسات اندثرت اليوم أو في طريقها إلى الاندثار»28.

ولكن إذا حصل تفكك عائلي أو اجتماعي جذري كما هو الحال في بعض المجتمعات العربية فإنّ الأمر سينتهي إلى حالة من الانبتات تتفاوت درجاتُه. وهذه الظاهرة أصبحت أمرًا واقعا وخاصّة في الأماكن التي شهدت تحوّلات اجتماعية جذرية تحت مسمّى «التمدّن»، وهو ما أدّى إلى التأثر المباشر والسطحي بالآخر البعيد وتفكك العائلات الكبيرة وتشظيها. وقد وصل الأمرُ بالنسبة إلى الكثير من الأطفال الذين وُلدوا ببلاد المهجر إلى فقدان الركيزة الأولى للهويّة وهي اللغة الأم (العربية)، لغة الأجداد والآباء ففقدوا بفقدانها بقيّة ما يؤثث للهويّة من تعابير ومأثورات شعبية وهي الحمّالةُ لهموم المجتمعات التي فارقها آباؤهم وهم يبحثون بالهجرة عن «لقمة العيش» كما يُقال دائما.

إنّ أطفال الجيل الثالث من المهاجرين بالخصوص إمّا أنّهم يجهلون العربية تماما أو أنّهم يستعملون لغة فيها الكثيرُ من الخلط بين اللغات ليس فيها من الهويّة إلاّ «اللاّهويــــــة»، والدليل القاطـع هو ما يُكتب اليوم من كلام على صفحات «الأنترنات» في شكل تعاليق أو في شكل إرساليات على الهواتف الجوّالة. وحتّى لا نكون من «البكائين على الأطلال» لما في ذلك من تناقض مع التناول العلمي والموضوعي للظواهر، يحسنُ أن نذكّر على سبيل التوصيف بِما كان يجري فحسب عندما كان الطفل العربي قبل عقود قليلة من الزمن متصالحا مع جذوره التراثية والثقافة القومية، وخاصّة في الفترات التي كانت فيها معظم البلدان العربية تعيش على وقع نخوة العروبة ونشوة الاستقلال29. ففي تلك الفترات كان الطفل العربي يُقبل على المطالعة بنهم شديد، وكانت دور النشر آنذاك استثمارا مُربحا في مجال المعارف بأنواعها، وكانت أثمن جائزة تُوهب للطفل المتفوّق تتمثّل في حُزمة من الكتب.

ففي تلك الفترات ذات الصبغة الاحتفالية، ونتيجة لِما تحقق من استرجاع الشعوب لاستقلالها كان كلّ شيء يُوحي بتجذّر الأطفال في بيئاتهم المحليّة والقُطرية إن في مستوى السلوك اليومي وإن في مستوى استخدام التعابير. واليوم، وبعد أن شهد العالم ما شهد من تحوّلات متعاقبة وسريعة، هل ما زال العربُ يتكلمون بمثل ما كانوا يتكلمون به قبل عقود قليلة؟ إنّ اللغة بألفاظها وتعابيرها الخاصّة تحيا بحياة الناطقين بها، فإذا غيّب الموتُ جيلا من الناطقين باللغة على نحوٍ مَّا غيّبَ معهم ما كان يدور بينهم من تعابير سيّارة موروثة. والكثير من الأطفال اليوم صاروا يجهلون تلك التعابير والعديد من معاني الألفاظ والسبب يعود إلى العديد من العوامل أبرزها تقلّص الحوار العائلي بفعل الانشغال بالوسائل الاتصالية والترفيهية الحديثة التي غيّبت في البيت «الصوت الحيّ» لتحلّ محلّه أصوات تنبعث من أجهزة إلكترونية تُصَدِّرُ إلى الأطفال لغات ولهجات مختلفة وقيما من جميع أنحاء العالم.

هذا كلّه يجرّ إلى طرح الأسئلة التالية: هل أنّ طفل اليوم هو طفل الأمس؟، وهل أنّ طفل الأمس كان ساذجا وعفويا وبريئا؟، وهل أنّ طفل اليوم فقد براءته وعفويته قبل الأوان بفعل المستحدثات والوسائل الاتصالية الحديثة التي حطمت عُرى التواصل التقليدية الإنسانية ذات الصبغة الحميمية؟ وهل يمكن الحديث عن بون شاسع أو شرخ هائل أصبح يفصل بين «طفل الجدّات» و»طفل الأنترنات»؟ هل أصبح الطفل «آبقا» عندما هرب من حضن الجدّة والجدّ والأب والمعلّم ليرتمي في «أحضان» محلاّت الأنترنات العمومية (Publinet)؟ أيّ رقابة على هويّة الطفل يمكن أن نسلّطها أو أن نتحكّم فيها والطفل يُحاور بمفرده وبشكل انزوائي جهازا قُدَّ بمقاييس تسمح له بأن يُغرق مستخدمه بمعلومات من كلّ حدب وصوب فتغرق معها هويّته وهي تصرخ ولكن مَا من مجيب؟30

الهويّة من الممارسة اليومية إلى الممارسة المسرحية

إنّ الهويّة ليست مسألة نظرية، ولا هي مادّة تُلقّن في المدارس للأطفال. إنّما هي ممارسة وحالات نعيشها يوميا. والذي يحصل اليوم أنّ الكثير من مقوّماتها بدأ يتلاشى نظرا إلى فقدان الأطر والمنظومات المناسبة. لقد أصبح من يريد أن يجسّد هذه الهويّة في الوقت الراهن يجد الكثير من الصعوبات والإكراهات. وربّما يكمن المنقذ في الوسائل التكنولوجية الحديثة التي أصبح بإمكانها، وبدقّة عالية أن تُخزّنَ ممارسات الهويّة بالصورة والصوت.

كانت الهويّة فيما مضى ممارسة يومية، واليوم أصبحت عملا تمثيليا أو مسرحيا. ففي المدارس أو دور الثقافة والمسرح يتمّ اللجوء إلى تمثيل ما كان يجري في الماضي. ففي تونس مثلا، وبمناسبة اليوم الوطني للّباس التقليدي يتخلّى الأطفال مؤقّتا –أي لبضع ساعات- عن الملابس الحديثة الغربية فيرتدون نماذج مصغّرة من ملابس أجدادهم وجدّاتهم مثل «الجبّة والكدرون والرداء والحرام والفرملة والشملة والكوفية وتريكو فضيلة» ويضعون في سيقانهم «البلغة والقبقاب»، وعلى رؤوسهم الشاشية الحمراء، أو يستعملون وسائل إنتاجية تقليدية مثل الرحى الحجرية والمغزل والصوف و«القرداش» و«الطابونة» لإعداد الخبز التقليدي إلخ...

من الناحية المسرحية المشهدية صارت الهويّة ممتعة من هذه الزاوية الاحتفالية الفُرجوية، بل صار بالإمكان تخزين كمّ هائل من التسجيلات النادرة للتقاليد والنصوص المرويّة أو المغنّاة، ولكن هل يمكن لكلّ ذلك أن يُضاهي متعة عيش حالة الهويّة والتلبّس بها؟. للإجابة عن هذا السؤال سنكتفي بمثال دقيق يخصّ الأطفال وهي لعبة «العفاريت» (الثعابين الطائرة). فاليوم صرنا نرى أطفالا يُطيّرون في الجوّ عفاريت بلاستيكية ملوّنة من صنع صيني أو آسيوي عموما يشتريها لهم آباؤهم من محلاّت بيع الألعاب، وهذا لم يكن يحصل أبدا منذ عقود زمنية قليلة، ولا كان للآباء في هذا الموضوع دخل، ولا هم كانوا يدفعون من أجله مالاً إرضاء لأطفالهم. فقبل عقود كانت هذه اللعبة حالة يعيشها الطفل بمفرده وهو يلعب بما توفره له بيئته من تراب وحجر وشجر، فيصنع مع غيره من الأطفال «عفاريت» يتنافسون في ضبط أشكالها وأحجامها ومدى قدرتها على الطيران عاليا وبقائها لأطول مدّة في السماء وهي طائرة تتحدى الرياح التي تهبّ في كلّ مرّة من اتجاه.

وأمّا مكوّنات هذه العفاريت فهي لا تُشترى ولا تُباع، وإنّما هي أشياء توفرها البيئة: أوراق تُقصّ من الكتب والكرّاسات التي انتهت الحاجة إليها أو أوراق مجلاّت وصحف قديمة يهبُها «الحمّاص» (بائع الفواكه الجافّة) لمن يريد. وأمّا ما يشدّ حلقات الورق فهي أشواك (في شكل إبر) التين الشوكي المنتشر في كلّ مكان (ما يُسمّى ظلف الطوابي)، وأمّا الخيط الذي يُربط به العفريت ليطير عاليا فهو من الخيوط المستعملة في صنع شِباك الصيد (إذا كانت البيئة بحرية)، أو من خيط الجِدَّادْ (خيط تستعمله النّساء في غزل الصوف) إذا كانت البيئة ريفية قروية.

كانت عفاريت الصغار الورقية منذ عقود قليلة تملأ سماء القُرى والأرياف معلما من معالم الهويّة. وإنّ في ذلك لعبرة، فتلك الألعاب حلم يَسبق العلم. والدليل أنّ مصنّعي الطائرات اليوم أصبحوا يتنافسون في ابتداع أشكال غريبة ومرعبة لها، وفي اختيار تسميات مخيفة لها، وفي قدرتها على بلوغ أقصى مسافة من العلوّ في السماء، وفي بقائها أطول مدّة زمنية وهي تحلّق في الأجواء. ألم يكن كلّ هذا هو ما يشغل الصّغار وهم يلعبون بالعفاريت فأصبح فيما بعد مشغلا علميا جديا للكبار؟. والطريف في الأمر أنّ البعض من الأطفال الذين كانوا يطيّرون العفاريت في الماضي أصبحوا اليوم من كبار المهندسين الذين استوعبتهم كبرى شركات صنع الطائرات للإسهام في تصميمها وصُنعها والطيران بها. وهكذا تمّت النقلةُ من طفل الهويّة الحالمة إلى كبير الهويّة العالمة.

حوصلـة وتتويـج

في هذا الظرف، ومراعاة «لأحوال الوقت» –والعبارة طالما ترددت عند المفكرين منذ أن انشغلوا بمسألة الحداثة والتحديث منذ أكثر من قرن- صار من الضروري التأكيد على أنّ الحفاظ على الهويّـــــــــة لم يعد يعني الانغلاق على الذات، لأنّ المجتمعات التي تحاول الانغلاق على نفسها لابدّ أن يكون مصيرها الاندثار، وأبسط مؤشر على ذلك أنّ الذي يتكلم اليوم بلغة واحدة قد يُصبح معدودا من الأمّيين. والعكس صحيح أيضا، فالشعوب التي تُلقى بنفسها في تيّار العولمة الجارف وتتخلّى عن مكابح الهويّة فإنّها قد تصبح أثرا بعد عين.

إنّ تطور البنيات الاجتماعية أمر حتمي لا جدال فيه، وهذا التطور يؤدّي عادة إلى تغيير في أنماط العيش وإلى خلخلة تمسّ القيم الثقافية، والمشكل المتجدّد عبر الأجيال يتمثل في أنّ الأطفال الذين سيصبحون في مدّة وجيزة شبابا لابدّ أن يتطلعوا إلى كلّ ما هو جديد في منظورهم وأن يتوقوا عادة إلى أن يكون لهم زمانهم الخاص. ولكنّ هذا الزمان من يوفّره لهم؟ هل يوفره الآخرُ البعيد الذي صار قريبا أكثر من اللازم، فيكون مقتضى الحال أشبه ما يكون بمن له أولاد فيتركهم على ذمّة الغير فيربّونهم بالشكل الذي يريدون، فإذا ما شبّوا واشتدّ عودُهم وجد الوالد الأصلي أنّهم أصبحوا غرباء عنه؟ أم أنّ الحل يكمن –كما يقدّر البعض- في إعادة قراءة عناوين الموروث الشعبي بمقاربات واعية تهدف إلى الوقوف على ما فيه من قيم إنسانية ومضامين معرفية مفيدة لتطور العلوم والمعارف الحديثة؟

إنّ الكثير من الكتابات اليوم لا تتردد بشكل صريح في الدعوة إلى ضرورة تنقية الموروثات من الشوائب، وتهذيبها! فهل معنى ذلك أنّ الأجيال السابقة تقبلت بالموروث مادّة مغلوطة أو مسمومة عادت عليها بالوبال؟ إنّ هذا الموقف يُبرّر عادة بالنسبة إلى الطفل بالدعوة إلى اختيار «ما يمكن أن يوطّد في نفسه الاعتزاز بانتسابه إلى حضارة عربية إسلامية معتبرة»31.

لقد كان ما صرنا اليوم نُسمّيه بـ«الموروث» حاضرا بقوّة في الحياة اليومية العملية، لقد كان ممارسة فعلية رغم تغييبه العفوي أو المتعمّد فيما هو مدوّن من النصوص. ومعنى ذلك أنّ الفكر المتعالي لم يفلح طيلة قرون في طمس أو تهميش كل ما يتصل بالثقافة الشعبية. ولكنّ الأطفال مع ذلك ورثوا في مستوى التمدرس وفي إطار المؤسسات التعليمية بشكل عام صورا مشوّهة وحتى مغلوطة عن الثقافة الشعبية رغم أنّهم يعيشون بعض فصولها في البيت والشارع. ولهذا السبب برزت بعض الدعوات في إطار الخوف على الهويّة تقترح إدخال ما يتّصل بالموروث الثقافي الشعبي في مقرّرات برامج التدريس، والحال أنّ الحياة العامّة هي المجال الطبيعي الذي تتحرك فيه تلك الموروثات المعبّرة في جوانب كثيرة منها عن الهويّة.

إنّ الهويّة «المعاصرة» تعني في تقديرنا أن تُحافظ الشعوب على ما لديها من مكتسبات تراثية وأن تطلع على ما لدى الآخر في نفس الوقت، وهذا لا يُفسد ذاك. والدليل أنّ الموروث الشعبي يُوحي في الظاهر بالخصوصية المحلية أو القُطرية الضيّقة وبالانغلاق، ولكن عندما نرصد الظواهر الثقافية ونسبر النصوص ونقارن بين مرويات الشعوب على سبيل المثال نجد أنّها تتقاطع في القيم الإنسانية الجوهرية وما عدا ذلك فأصباغ وألوان لا حصر لها تختصّ بها ثقافة كلّ شعب.

وممّا يؤكّد أنّ الموروثات ثقافة منفتحة لا منغلقة، وأنّ الهويّة طائر يطير بجناحين أحدهما محلّي والآخر كوني، وأنّها لا تقدر أن تتخلّى عن الأبعاد الإنسانية أنّ معظم أطفال العالم وخاصّة المتعلمين منهم يعرفون حكايات ألف ليلة وليلة، ويعرفون قصّة «سندرلاّ» وغيرها والفضل يعود إلى جهود الرواة أوّلا ثمّ جهود النشر لاحقا.

إنّ الطفل لا يعرف ذاته ولا «من هو» إلاّ إذا تعرّف على الآخر المختلف، وذلك بمساعدة الكبار لأنّه بحكم محصوله المعرفي المحدود في تلك الفترة قد لا يستطيع بسهولة أن يدرك الفوارق الثقافية. ومن الملاحظ أن أكثر الناس التزاما بالتقاليد في مختلف المناسبات هم المهاجرون. فهؤلاء هم أكثر فئات المجتمع خوفا من أن يفقد أبناؤهم هوياتهم. ولهذا السبب نراهم عند يعودون لقضاء إجازاتهم في بلدانهم الأصلية يطلبون من أهاليهم أن يكلموا أبناءهم بلغتهم الأمّ، أي العربية، وأن يعرّفوهم بالتقاليد في مختلف جزئياتها، ومعنى كلّ ذلك أنّ الانفتاح على الآخر لا يعني أن نتبنّى تماما مَا لثقافته من مضامين، إلاّ في حالة واحدة وذلك عندما تكون هذه المضامين ذات صبغة إنسانية عامّة كونية تهمّ جميع أصناف البشر فتكون عامل توحيد لا عامل تفرقة.

إنّ المجال الذي بحثنا فيه يندرج في إطار ما يُسمّى بـ«الثقافة الخاصّة» أو «ثقافـة الهويّة»، ولكن بـدون أن نكون قد قصدنـا أنّها «ثقافـة معزولة» أو «ثقافـة عزلة». فالموروثات بشقّيهـا المادي واللاّمادي (القولي) كانـت فيما مضى مستعملة على مدار اليوم في إطار الجمهور الموسّع (La masse populaire)، وكانت لصيقة بهموم الناس ونشاطاتهم المختلفة. وعلى ذلك فهي في تقدير علماء الاجتماع صوت جماعي أو رأسمال رمزي (Les biens symboliques)، بمعنى أنّها سلع ثقافية بها كانت تُدافع المجتمعات عن كيانها وتحصّن نفسها. والسؤال المطروح اليوم هو: هل ما زال بإمكان تلك الموروثات أن تحصّن الذات الثقافية للشعوب العربية حتّى تضمن حصانة أبنائها ومناعتهم في ظلّ مع ما يشهده العالم اليوم من تحوّلات وتقلّبات متتالية؟ ألسنا في عصر أصبح فيه الأطفال يجدون البعيد قريبا والقريبَ بعيدًا؟ وهي ظاهرة تُؤشر لحدوث أمر جلل يتعلّق بهويّاتهم قد لا ندرك حقيقته إلاّ بعد عقود أخرى.

الهوامش

1. رأي لحسين يحيى، ضمن ندوة الثقافة الشعبية والمناهج التعليمية، بمجلّة الثقافة الشعبية (البحرينية)، ع 4، سنة 2009، ص 166.

2. رأي لسوسن كريمي، ضمن مجلّة الثقافة الشعبيّة، ع 4، سنة 2009، ص 174.

3. انظر نماذج وافية منها في كتاب: أغاني النّساء في برّ الهمامة، لنعيمة غانمي وأحمد الخصخوصي، الأطلسية للنشر، ط 2، تونس 2010.

4. انظر مقال: من أغاني المهد في البحرين لبزّة الباطني، ضمن مجلّة الثقافة الشعبية، ع 9، س 2010، ص 153.

5. انظر مزيدا من التفاصيل حول الأحاجي والألغاز في كتابنا: من قضايا الموروث القولي، طبع دار نُهى للنشر، صفاقس (تونس) 2013.

6. مقال: الألغاز الشعبية كجنس من الثقافة الشعبية لعزيز عرباوي، ضمن مجلّة الثقافة الشعبيّة، ع 19، س 2012، ص 58.

7. انظر للاستئناس بهذا الموضوع في مقال: الملابس التقليدية للمواليد في مكة المكرمة لليلى عبد الغفار فَدَا، ضمن مجلّة: الثقافة الشعبية، ع 21، س 2013، ص ص 146 - 169.

8. انظر مزيدا من التفاصيل فيما يخصّ الأمثال الفصيحة في كتابنا: وظيفة الأمثال والحكم في النثر الفني القديم، نشر كلية الآداب بالقيروان ودار سحر للنشر، تونس 2004.

9. محمد حيّان السمّان: خِطابُ الجنون في الثقافة العربية، لندن، ط 1، 1993، ص 137.

10. محمد الصادق الرزقي: الأغاني التونسية، دار سحر للنشر، تونس (د. ت.) ص 294.

11. المرجع السابق، ص ص 291-292.

12. ناجي التباب: مقال أشكال الموروثات في القصص التونسي، ضمن مجلّة رحاب المعرفة، ع 53، 2006، ص 32.

13. حسن الباش ومحمد توفيق السهيلي: المعتقدات الشعبية في التراث العربي، دار الجليل، دمشق (د. ت.) ص 348.

14. جان صدقة: رموز وطقوس، طبع رياض الريّس للكتب والنشر، لندن (د. ت.) انظر الصفحات: 11-140-197. وانظر مزيدا من التفاصيل فيما يتعلّق برمزيّة القمر في كتاب: المعتقدات الشعبيّة في التراث العربي لحسن الباش ومحمد توفيق السهيلي، ص ص: 28-31. وانظر أيضا في كتاب أساطير عابرة للحضارات لمحمد حسن عبد الله، دار قباء، القاهرة 2000، ص 60.

- وقد روى لي أحد البحّارة وهو المعروف بصلابته وشدّة بأسه أنّه لم يتأثّر قطّ في حياته كما تأثّر مرّة في عرض البحر الأبيض المتوسط بمشهد قارب يغصّ بالمهاجرين خِلسة «الحرّاقة» (رجال ونساء وأطفال ورضع) استغاثوا بمركبه وكانوا في حال بين الموت والحياة فرمى لهم بكلّ ما لديه من خبز وماء فتلقفته الأيدي في مشهد لم ير له طيلة حياته نظيرا في القسوة والعبثية.

15. المرزوقي: سيره بني هلال، ص ص 93 - 94.

16. انظر مختارات من شعر العربي النجار، الدار التونسية للنشر، تونس 1990، ص 166.

17. أنجزت العديدُ من الدراسات والبحوث فيما يتعلّق بشخصية الراوي في القصص الشعبي أو مَا يُسمّى بـ«الفداوي». ومن أهمّها في تونس رسالة ماجستير عنوانها: الفداوي بين الفُرجة التقليدية والعرض القياسي الحديث لعمر الخماري (عمل مرقون بالمعهد العالي للفنون الجميلة بسوسة السنة الجامعية 2006 - 2007).

- هذا العمل الذي يقع فيما يُقارب المائتي صفحة فصّل القول في ماهية وظيفة الفداوي وجذوره في التاريخ والأدب كما تطرق إلى البحث في مفهوم الفرجة وملابساتها وتقنياتها ووسائلها من حيث اللّباس والصوت والحركات والحضور الجسدي وما يتعلق بالأطر المكانية والزمانية. وعموما اعتنى البحث برصد صورة الفداوي (الخرّاف) في المجتمعات التقليدية القديمة وصورته في العصر الحديث. وفي هذا البحث ممّا يتعلّق بالحكاية الخرافية الموجهة للطفل إشارات عديدة تُبرز أهميّة المقارنة بين التلقي التقليدي للحكاية والتلقي الحديث لها بالنسبة إلى فئة الأطفال.

18. فوزي العنتيل: عالم الحكايات الشعبية، دار المريخ للنشر، الرياض 1983، ص 77.

19. انظر مقال: الحكاية الشعبية وثقافة العنف لوجدان الصائغ، ضمن مجلّة الثقافة الشعبية (البحرينية)، ع 3، سنة 2008، ص ص 104 - 108.

20. انظر مقال: أدب الأطفال بين الإبداع والاقتباس والترجمة لطاوس حاجي بالطيب، ضمن الحياة الثقافية (التونسية)، ع 145، س 2003، ص 40.

21. لفتت نظري في إحدى المجلاّت جملة هامّة لِـ«باتريك دولابان» اتخذت عنوانا لإحدى المقالات، هذا نصّها: الشّعوب بدون أساطير تموت من البرد. والمقال لعائشة الدرمكي في مجلّة تراث (الإماراتية) انظر العدد 166، س 2013، ص 51.

22. البقلوطي (محمد الناصر): الحكاية الخرافية في تونس، مقوماتها ودلالاتُها ضمن كتاب القطاع الهامشي في السرد العربي، دار البيروني للنشر (د.ت)، ص: 69.

23. المرجع السابق، ص ص: 68 - 69.

24. المرجع السابق، ص: 71.

25. انظر كتابنا: المثل الشعبي، عراقة الحديث وحداثة العريق، مطبعة التسفير الفني بصفاقس (تونس) 2008. فهو مبني على فكرة ترابط الأجيال في مستوى تداول الموروثات القولية العامية.

26. البقلوطي: الحكاية الخرافية في تونس، ص: 51.

27. المرجع السابق، انظر ص 61.

28. المرجع السابق، ص 69.

29. الملاحظ أنّ الزعيم الحبيب بورقيبة في تونس إبّان الاستقلال ومن نهج نهجه في الفكر أصبح ينظر لما سُمّي آنذاك بـ»الهويّة التونسية» ولكن دون أن يعني ذلك تملّصا من الهويّة العربية الإسلامية.

30. بعض الباحثين ما زالوا متفائلين ويرون أنّه لا داعي للفزع فأحدهم يقول «إنّنا نتوهم أنّ أجيال اليوم لن ترغب فيما كنّا نرغب فيه في صغرنا. وهو خطأ، فالحكاية المباشرة تؤمّن الصلة بين الراوي والمستمع، وهذا بحدّ ذاته يؤمن أقصى درجات التفاعل الوجداني والفكري عند الطرفين في آن واحد». انظر مقال: التراث الحكائي العربي لأحمد الطيّار، ضمن مجلّة تراث، ص 63.

31. انظر مقال: أدب الأطفـال بين الإبداع والاقتباس والترجمة لطاوس حاجي بالطيب، ضمن مجلّة الحياة الثقافية، ص 39. (مذكور أعلاه).

الصور

1. https://i.pinimg.com/originals/79/01/b6/7901b610110e68b45b54d7c194acf08d.jpg

2. https://i.pinimg.com/originals/ed/e4/4e/ede44ef93dbdae6a7dcea7b4a7ec3fce.jpg

3. https://arabswagger.tumblr.com/image/34854609844

4. https://i.pinimg.com/originals/f6/53/7d/f6537d956d3f4306ddffe51a7f487f62.jpg

أعداد المجلة