جدل التراث والواقع
العدد 48 - التصدير
إنّ ما يعطي التراث قيمته الحقيقيّة هو كونه يجسّد هويّة لكلّ أمّة، وسندها التاريخيّ والحضاريّ، وجملة الثوابت المستقرّة في وجدانها على أنّها جوهر وجودها، وحصيلة مشتركة من العادات والتقاليد والأحداث والذكريات والانطباعات والرؤى تجمّعت وترسّبت عبر حلقات الماضي الطويل لتصوغ كيانها وتعبّر عن سرّ بقائها. وهذه العوامل تشفّ عن دلالات مهمّة يؤكّدُها بجلاء تنوّعُ أشكال التراث ووظائفه، وثراءُ ما ينطوي عليه من عناصر وتصوّرات وأبعاد، وانفتاحُه على تجارب إنسانيّة عميقة تكثّف شعور المجتمع بالحضور في نفسه وفي بيئته؛ بما يمكّنه من تمثّل ذاته الاجتماعيّة، ويدعوه إلى تمتين أواصر التفاعل ودعائم التكامل والانسجام مع شتّى حقول الحياة. وليس من شكّ في أنّ ما يثبت جدوى هذا التجاوب والتكامل هو الواقع الذي يمكن من خلاله امتحان الموروث، واشتقاق صيغ معرفيّة وجماليّة جديدة منه تضبط اتّجاهاتنا وحدودنا في التعامل معه، وتحملنا على التلاؤم مع مطالب الحياة وتحدّياتها. فكيف يمكن أن يتجلّى ذلك؟
لا يخفى ما في هذا الموضوع الذي نحن بصدده من أهمّيّة كبرى؛ إذ تمثّل العلاقة الجدليّة بين التراث والواقع إحدى الأسئلة الجوهريّة والإشكاليّات الأساسيّة للمشروع الحضاريّ العربيّ في الزمن الراهن والمستقبل. والحقّ أنّ موضوع التراث من أكثر الموضوعات بحثًا واتّساعًا وتعقيدًا، وأشدّها انتشارًا في مجالات معرفيّة مختلفة، ما أفضى إلى اختلاف زوايا النظر التي ينظر إليه منها، وتعدّد منطلقات تناوله، وتفاوت أشكال تعاطيه ومستويات التعامل معه حتّى في الاتّجاه الواحد. ولعلّ ممّا يدلّ على ذلك تعريف التراث الذي يفصح عن وجهات نظر متباينة، فثمّة من حبسه في نطاق ضيّق، وحكم عليه بالجمود والانتهاء، وثمّة من وسّع دائرته ليكون مجالاً خصبًا لكلّ الأحداث والعادات والتقاليد والآداب والعلوم والفنون والشخصيّات الأدبيّة والتاريخيّة والأسطوريّة التي تنتقلُ آثارها من جيل إلى جيل، ونقفُ على امتدادها في الزمن الراهن وفق تجليّات متعدّدة.
ولئن كان الأمر على ما ذكرنا من الاختلاف في تعريف التراث، فإنّ التعامل معه وطرائق توظيفه جاءت متباينة أيضًا؛ إذ قدّسه البعض، واعتبروه حاملاً لأبرز مقوّمات شخصيّتهم، واعتقدوا أنّ من شأن قيمته المرجعيّة نحت السلوك وبلورة ردود الفعل واصطناع أسباب القوّة القادرة على تحقيق مكانة الأمس، ورأوا أنّه ماضٍ فاعل يتميّز بقابليّة الحركة والتحوّل التي يمكن عن طريقها الانسجامُ مع الراهن رغم ما جَدَّ فيه من تغيّرات وتحوّلات؛ ولذا عَدُّوا الرجوع إليه رجوعًا إلى الأصل، وتأكيدًا للوجود، وصيانة للهويّة، والتخلّي عنه انسلاخًا عن الذات، وانسياقًا للتغريب والغزو الثقافيّ، وأمارةً على المسخ والتبعيّة والاستغلال. وعليه فإنّه لا نصيب للعرب من الوجود والاستمرار إلا بقدر استعادتهم أو محاكاتهم لذلك النموذج العربيّ الإسلاميّ الأصيل في عصور مجده وازدهاره. ويرى الجابري أنّ مثل هذا الفهم التراثيّ للتراث جعل أصحابه يكرّرون التراث نفسه، ويوظّفونه بصورة مجتزأة ورديئة، تكشف اندغامَهم بإشكاليّات المقروء واستسلامهم لها، بسبب يعتور منهجهم من تغييب للروح النقديّة، وفقدان للنظرة التاريخيّة.
وعلى النقيض من هذا الاتّجاه، وقف البعض موقف الرافض لسلطان التراث، وعدّه صورة من صور التخلّف، ورأى أنّ الاحتكامَ إليه عاملُ انتكاس يفضي إلى الاجترار والتكرار دون الخلق والابتكار، ويحول دون استقراء الواقع والانخراط في حداثة العصر، وفي هذا السياق يقول عبد الله العرويّ في كتابه (العرب والفكر التاريخيّ): «رباطنا بالتراث قد انقطع نهائيًّا، وفي جميع الميادين، وأنّ الاستمرار الثقافيّ الذي يخدعنا لأنّنا نقرأ المؤلِّفين القدامى، ونؤلِّف فيهم إنّما هو سراب، وسبب التخلّف الفكريّ عندنا هو الغرور بذلك السراب، وعدم رؤية الانفصال عن الواقعيّ، فيبقى الذهن العربيّ حتمًا مفصولاً عن واقعه، متخلِّفًا عنه بسبب اعتبار الوفاء للأصل حقيقة واقعيّة، مع أنّه أصبح حسًّا رومانسيًّا منذ أزمان بعيدة». هكذا يقدِّر أصحاب هذا الاتّجاه أنّ العودةَ إلى التراث رجوعٌ إلى الوراء وداعي تقهقر، ووقوع في أسر القديم الماضي بما فيه من أليف المراجع والمفاهيم، وقعود عن فهم الحاضر ومقتضياته. فكانت دعوتهم إلى «طيّ الصفحة»، والقطيعة مع التراث، وتبنّي النموذج الغربيّ المعاصر بوصفه صيغة حضاريّة للحاضر والمستقبل.
وقُبَالةَ هذين الموقفين ينبري فريق ثالث يعترف بالجدليّة القائمة بين التراث والواقع التي تقتضي ضرورة مراجعة التراث مراجعة واعية وشاملة لتصوّراته ومعطياته وآليّاته ومفاهيمه ورؤاه، وقراءة التاريخ قراءة نقديّة موضوعيّة تضمنُ توظيفه على نحو أجدى وأنفع، وتسمحُ بمعرفةٍ أدقّ للهويّة، وتيسّرُ وجوه التأليف الممكنة بين الموروث والواقع، بمحاورة التراث، وإغنائه عن طريق العمل والخلق، والمساهمة الذكيّة باصطناع رصيد معرفيّ يدفع بإمكانيّة التغيير والفعل نحو الأمام، بما يدعمُ التجاوب اللازم بين التراث ومعطيات الزمن الحاضر ومقتضيات التعديل والتكيّف مع العصر والسيطرة على الواقع، وبما يضمنُ، في الوقت نفسه، تحقيق المطامح والرؤى والتطلّعات والآمال التي تستنهض محرّكات الإبداع، وتبني المستقبل.
والحقّ أنّ هذا الموقف الأخير هو الأقرب إلى الصواب، وهو الذي انتصر له الكثير من المهتمّين بالاشتغال على التراث، ورأوا فيه السبيل الناجع إلى تحقيق النهضة، فقد أوضح الجابري أنّ النهضة العربيّة ممكن أنْ تتحقّق بممارسة العقلانيّة النقديّة في تراثنا وبالمعطيات المنهجيّة لعصرنا، ولابدّ مع ذلك من ضبط الصلة بتراثِ «الغير» صانع الحضارة الحديثة، تراثِ ماضيه وحاضره، فهو ضروريّ لنا، ولكن ليس كتراث ننصهر فيه، ونذوب في منعرجاته، بل كمكتسبات إنسانيّة وعلميّة ومنهجيّة متجدّدة ومتطوّرة لابدّ لنا منها في عمليّة الانتظام الواعي العقلانيّ النقديّ في تراثنا.
ونخلص ممّا تقدّم إلى أنّ التعامل مع التراث ينبغي أن يكون من منطلقات معرفيّة، لكون المعرفة شرط نجاعة الفعل ووجاهته، وهي الصانعة الفعليّة لقوى التطوّر والتغيير، وهي الأقدر على تمكيننا من استقراء التراث قراءة واعية تستوعب جميع أبعاده ومنطلقاته ودلالاته، ولما تشتمل عليه من منهج علميّ يسمح لنا بمراجعة ذواتنا ومحيطنا، ويضبط اختياراتنا وأولويّاتنا، ويوّجه علاقتنا مع الآخر بما يصون خصوصيّاتنا وهويّتنا بصورة إيجابيّة بعيدًا عن الانحياز والشطط وسوء التقدير. ومن شأن ذلك كلّه أن يتيح لنا استثمار الماضي استثمارًا فاعلاً ومنتجًا يستجيب لمقتضيات الحاضر ومطالبه، ويسمح بفهم تحدّيات الواقع وتحوّلاته واستقراء مدلولاته وإخضاعه بنجاعة لمطالب الإرادة ومولّدات أدوات العمل فيه، ويرسم تطلّعات المستقبل ودواعي التجديد والتطوير. وهكذا تتجلّى أهمّيّة التوليف بين القديم والجديد، والموازنة بين عوامل الثبات ومعطيات التجدّد والتفتّح، وجدوى التجاوز والاختلاف لمزاولة الواقع الراهن، والانفتاح على إسهامات المستقبل ورؤاه.