النّهّام مغني البحر
العدد 13 - لوحة الغلاف
كان العمل في مجالات الغوص على اللؤلؤ في منطقة الخليج العربي قبل اكتشاف النفط مهنة غالبية السّكان، يمتهنها الكبار والصّغار ويمتدّ تأثيرها الاقتصادي والاجتماعي والوجداني ليشمل كافة الفئات. وتُعدّ مهن العاملين على ظهر السّفن في عرض البحر من أشقّ الأعمال وأشدّها ضراوة ناهيك عن عمل فئة الغواصين الذين ينزلون إلى قاع البحر عزلا عرايا لجمع محار اللؤلؤ وجلبه إلى سطح السّفينة عرضة لوحوش وهوام البحر طيلة الموسم الذي يمتدّ لشهور، بعيدًا عن الأهل والأحباب.
كان نظام الإقطاع البحري في الخليج الذي ينظم ويموّل رحلات الصّيد أسوأ من نظام الإقطاع الزراعي؛ حيث البحارة المساكين يرتهنون أيام عمرهم وأسرهم لديون مركبة تتفاقم من عام إلى عام وبحيث لا يحصل مجمل البحارة إلا على ما يسدّ رمق العيش لاستمرار الحياة. واستغلالا للجهد البشري للعمال لتحقيق أقصى المكاسب يقرن هذا النظام الإقطاعي المجحف أصول العمل في مهن الغوص على اللؤلؤ بالرّجولة والتشجيع على إظهار الشّجاعة وبذل قصارى الجهد حتى الإعياء مقابل كلمات الثناء وابتسامات الرّضى.
ولتطرية جوّ العمل الشّاق، وكما هو الحال في أغلب المهن التي تتطلب جهدًا عضليّا، كانت أغاني العمل حافزًا على تنظيم الحركة وربطها بالإيقاع اللحني في الوقت الذي تؤدّي فيه معاني الكلمات المصاحبة تأثيرها النفسي العميق من تطمين وترضية للفؤاد ومن زجر للنفس عن التهاون في الأداء المتواتر. فكانت أغاني العمل على السّفينة جزءًا مهمًّا من حياة البحارة ومن نظام الغوص على اللؤلؤ في آن؛ ففي الوقت الذي يشعر فيه البحارة بالانتشاء وبالتنظيم الموقع لحركات العمل (رفع الشراع، جر المجاديف، رفع المرساة وغير ذلك من الحركات الجماعية) كان أرباب العمل يجدون فيه دافعًا لاستغلال المزيد من الجهد. وقد حفلت أغاني البحر بجهد إبداعي متميّز في جانبيها الموسيقي والنصّي فتوارثت الأجيال منذ نشوء هذه المهنة عبر غابر السّنوات ألحانـًا وأهازيج ونصوص أزجال ومواويلا ً غنية بالمعاني التي تمّ تداولها وانتقلت من على ظهر السفينة لتكون امتدادًا وجزءًا مكملا ً لأغاني السّمر على اليابسة.
يبرز في أغاني البحر دورُ الـ(نـّـهّـام)، وهو مغني البحر وقائد جوقة الأداء في أغاني السّمر المسماة (فجري)، وهي مجموعة فنون غنائيّة تؤدَّى على اليابسة في دور مخصّصة للطرب الشّعبي يؤمّها الرجال، وتؤدَّى بمصاحبة الطبل والـ(طويسات) المعدنيّة على ظهر السفينة وتـُضاف إليها الدّفوف والـ(مَـراويس) على اليابسة. وبدون الدور المحوري الذي يقوم به النهام لا يمكن أن تؤدى هذه الفنون. والـ(نــّهـّـام) لغة ً فصيحة، ويورد ابن منظور في لسان العرب في (نَ هـَ مَ) نهم وتوعّـد وزجر، ونهم يـنـهـِـم نهيمًـا: هو صوت كأنـّه زحير وقيل: هو صوت فوق الزّئير. وقال الأزهري: النهيم: شبه الأنين والطحير والنحيم ، وأنشد:
مالك لا تـَـنـهـِـمُ يا فـلاّحُ
إن الـنـهـِــيمَ للـسـقاة راحُ
والـنـّهـّـام : الأسد لصوته
1.ويتميّز هذا الدّور الذي يلعبه مغنـّي البحر بارتكازه على موهبة صوت جهوريّ صارخ عميق ورخيم يسبغ على الرّوح عند سماعه حنوًا إنسانيـًّا ويبثّ في النـّفس راحة وهدوءً ممزوجين بشجىً عجيب، هذا إلى جانب قدرة غير عادية على حفظ النصوص الشّعرية (المواويل) واسترجاعها مع معرفةٍ بأصول إيقاعات كلّ فنّ بحريّ من هذه الفنون وقواعد أدائه وخبرةٍ في قيادة جوقة المنشدين وضاربي الإيقاعات. فكان الممولون يتبارون في إلحاق أفضل الـنهّامين بسفن غوصهم، ويزايد كلّ منهم على الآخر بدفع سلفةً أكبر للـنهام صاحب الصّوت الأجمل والتأثير الأبلغ. وكانت سفن الغوص الكبيرة توفر نهامَـيـْـن أو ثلاثة على متنها يتناوبون الأداء.
كانت لمغني البحر مكانة خاصة في مهنة الغوص على اللؤلؤ وفي مجتمع البحارة بصفة عامة، وحصته من حصيلة ما يوزع على البحارة، وإن كان ضئيلا حسب النظام الجائر لهذه المهنة، إلا أنها تساوي حصة أمهر الغواصين التي تعد أعلى مرتبة في توزيع الحصص، وفي بعض الحالات ربما تفوقها. وكان الـنهامون يتبارون فيما بينهم عند التناوب على قيادة أداء فنّ من الفنون وكان التباري في قوة الصّوت وجماله وفي قوة نصّ الموال المؤدَّى ومستوى تعبيره عن واقع الحال. كما كان شعراء الموال يجيدون التعبير بعمق عن كلّ ما في الحياة من شجن وألم واستسلام قدري حتـّى عـُدّ الموال صندوق الآلام ومكنز البوح الإنساني الحميم في علاقة الإنسان بالآخر وبكلّ ما في هذا الوجود من عناء. وقد أفرز هذا المجال شعراء موال ونهامين مجيدين من البحرين والكويت وقطر والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السّعودية، ومن أشهر نهامي البحرين اسماعيل بوضاحي، الملا فرج، سعيد العلان، خميس بن نافل، عبدالله الراعي. وكان النهامون بصفة عامة في تواصل حميم مع شعراء الموال.
ويعتبر الـنهام البحريني سالم بن سعيد العلان المولود في قلالي حوالي 1905 والمتوفى عام 1987 من أشهر الـنهامين المجيدين، وشكـّـل هو والـنهام أحمد بوطبنية الثنائي الأخير الذي تميّز بالأداء المتقن لتلك الفنون الذاهبة. كانت للعلان حنجرة صادحة وصوت جهوري عميق تشوبه بُـحة ٌجاذبة ذات طلاوة أسهمت في نقل الفنون الغنائية البحرية من زمن وهجها الأول إلى الزمن الذي تلا اكتشاف النفط وانتهاء مهنة الغوص على اللؤلؤ. كما تمتع بذاكرة اختزان لاقطة تجيد حفظ الموال المكون من سبعة أشطر بمجرد سماعه للمرة الأولى، وامتاز بحرصه الشديد على تطبيق كافة قواعد فنون الغناء البحري وأصولها الفنية المتوارثة والذود عنها في مواجهة المتغيرات العديدة التي طرأت على نمط العيش في المنطقة، وكان من الممكن أن تؤثر سلبا على مستوى أداء هذه الفنون وتمييع أو تحويرأصولها المتوارثة. وكثيرا ما كان يردد:
ألا يا فنجري 2 واصعد الدوم3
جـــواعــد4 البـحـر ضاعت
ألا يــابـحـر ما فــيك معـروف
ضيّـعـت شـوقـي وأنـا أشـوف
وُلد العلان كفيفـًا، ومنذ طفولته انخرط في اشتغالات البيئة البحرية كسائر أقرانه وكان أكثر قربا والتصاقا بوالده الـنـّـهّـام الشهير سعيد العلان فتشربت روحه الغناء البحري وُأخذ بالمعاني التي احتوتها نصوص المواويل من قيم أخلاقية وجمالية، وعَـنيَ بحفظ نصوصه وتتبع الجديد منها، كما أولع بترديدها. وقد تعلــّم فنون أداء الـ(فجري) من خلال تردده على الدور الشعبية واستقى أصولها وخبايا قواعدها من والده حتى أجادها فكانت هي كلّ حياته والنـّور الذي من خلاله يتحسس كلّ ما في هذا الكون. وعندما سألته قبل وفاته بأشهر في مقابلة تلفزيونية مسجلة
5: متى تأخذك الرّغبة في الغناء؟ أجابني بعفوية: إنّ الطـّبل تحت سرير نومي، وكلـّما شعرت بضيق احتضنته وقلت ما يخطر ببالي ساعتها من مواويل إلى أن ينفرج ما بي.
وفي ديسمبر من العام 1962 حينها كنت طالبا بالثانوية العامة، عندما جاء إلى البحرين البروفيسور الدنيماركي بول روفسنج أولسن المتخصص في علم موسيقى الشعوب لتسجيل أغاني البحر في البحرين، وكنت دليله في جولة عمله الميداني الثانية واستمع إلى أداء العلان بدار جناع بـ(حالة بوماهر) وهو في قمة انتشائه وتجليه يؤدي والمجموعة فن الـ(حساوي)، أذكر تمامـًا أنـّه مال عليّ مأخوذا بالحالة التي كان عليها العلان، ليسألني:هل يدخن أو يشرب هذا المغني شيئا منعشا قبل الأداء؟ فشرحت له - نافيا ما خطر بباله - الحالة الشعورية التي تنتاب ندرة من المؤدين وهم في حالات الانسجام الروحي، مبينا له كذلك الاعتقاد السائد لدى البحارة في الخليج بصلة ابتداع فنون الـ(فجري) بالجن أولا ثم انتقالها إلى الإنس، كما يفيد أغلب الرواة الممارسين لهذه الفنون، ومنهم النهام سالم العلان نفسه
6.رحم الله الفنان سالم العلان، ولا عزاء لفقده وأنداده ممّن ذهب مع ما كان لدينا من فنون البحر.
الهوامش
1 -لسان العرب، ابن منظور، دار صادر للطباعة و النشر – بيروت، ج 13 ، ص 373
2 - فنجري : شجاع، مقدام.
3 - الدوم : اختلال في نظام البكرة والحبل في أعلى قمة الصارية.
4 - جواعد : قواعد.
5 - خليج الأغاني، برنامج تلفزيوني، إعداد: علي عبدالله خليفة، إخراج: إبراهيم الصباغ، إنتاج: تلفزيون قطر، عام 1986.
6 - المصدر السابق نفسه.