المقاربة الأنثروبولوجية للوشم الأفريقي في الروايات السعودية
العدد 47 - عادات وتقاليد
المقاربة الأنثروبولوجية للأدب:
إن الأدب بما يتضمن من الأجناس الشعرية والنثرية، من أشكال الأدب المكتوبة، وأنواعه الشفاهية، وما تحتوي هذه الأنواع من الأدب الشعبي كالسّيرة الشعبية، والأسطورة، والحكاية الشعبية، والأغاني الشعبية، والأمثال، كلها لا تتبلور في شكله العام إلا من خلال نافذة الثقافة والمجتمع الذي أنتج فيهما، فتلقى في الأدب، «عناصر تاريخية، وعناصر نفسية، وعناصر جغرافية، وعناصر اجتماعية أحيانا في نفس الصفحة، فإذا بك تتحول وأنت تقرأ هذه الصفحة، إلى مؤرخ وجغرافي ومحلّل نفسيّ أو نفسانيّ وعالم اجتماع»1، والسمة البارزة – غالبا- على هذه العناصر كلها أنها السائدة في العصر الذي أنتجت فيه، فالأدب في المقام الأول وثيقة انعكاسية للثقافة ومستودع حضارة وعلوم ومجتمع عصره.
والأنثروبولوجيا في عملها تعتمد بشكلٍ أساسٍ على العناية بالثقافة والمجتمع، مستهدفًا قراءة ورصد الظواهر السائدة في الثقافة والمجتمع، معتمدا على آلية الوصف (الأثنوغرافيا) وتفسير هذه الظواهر، ثم تحليلها، وقد استعانت مؤخرا بآليات الأنثروبولوجيا التأويلية الرمزية، وهي إحدى الآليات المنهجية التي بها تُستقرأ ظواهر الأنثروبولوجيا الثقافية والاجتماعية، منطلقة من الازدواج الدّلالي للرمز؛ بحيث يكون أحدهما معلنًا والآخر مضمرًا؛ أي أنّ الدلالة المضمرة تكون عادةً لا شعورية بالنسبة للمؤلف وكذلك في اللاوعي بالنسبة للقارئ، وهذا ما يستلزم وجود تفكير معمّق بغية استخراج الدلالات المضمرة لهذه الأنساق الثقافية من خلال الخطاب الأدبي2.
انفتاح الروايات السعودية
لعل انفتاح الروايات السعودية على القضايا الإنسانية الكبرى من حيث تصويرها مجتمع الآخر؛ حياة الناس فيه، واهتماماتهم إلى غير ذلك مما يعكس علاقة هذا الآخر بالمجتمع السعودي بشكل مباشر أو ضمني، ولعل من أهم المرجعيات المساعدة على انفتاح الروايات السعودية التحولات الثقافية التي شهدتها السعودية من خلال انتاجاتها الإبداعية وغيرها.
إن أية ثقافة في تعبيرها عن الرؤى غالبا ما تنطبق من تمثيل ذاتها، ثم تنطلق منه إلى تمثيل الآخر؛ فـ«لا تخلو ثقافة من الثقافات من تمثيل للذات أو للآخر، فالتمثيل هو الذي يعطي للجماعة صورة ما عن نفسها وعن الآخر، وهو الذي يصنع لهذه الجماعة معادلا لما يسميه بول ريكور بـ«الهوية السردية» للجماعة، أن تمثّل بالمعنى المسرحي يعني أن تتقمص الدور وتتصدّر المشهد وتفرض حضورك على الآخرين، وأن تمثّل بالمعنى النّيابي هو أن تتحمّل مسؤولية النطق بالنّيابة عن الآخرين الممثَّلين، وهو وضعية لم تبلغها الثقافة العربية إلا مع ظهور الإسلام الذي دفع ثقافة العرب إلى الواجهة، وأتاح لها إمكانية التوسّع والامتداد في بقاع العالم الوسيط، كما وفّر لها إمكانية كبيرة لاحتضان الآخرين المختلفين واستيعاب ثقافاتهم المتنوعة»3.
وهذا يعني أن أية ثقافة تتطلب درجة عالية من النضج والوعي الذاتي لكي ترتقي إلى مرحلة المستكشف والمتبصر لثقافة الغير، وهي مرحلة مهمة لأية ثقافة؛ فاستكشاف ثقافة الآخر يساعد على فهم ثقافة الذات، بل إن هذه العملية تعدّ محورا أساسيا لبلورة مفهوم الذات ثقافيا، واستجلاء هوية المستكشِف بالاطلاع على ثقافة الآخر، ثم إصدار آراء وأحكام حول هذه الثقافة.
لقد استطاعت الثقافة السعودية أن توجد لنفسها من خلال رواياتها الأدبية والفنية عن الآخرين وثقافاتهم معنى التمثيل بمفهوميه؛ المسرحي في تقمص دور الآخر، والنيابي في الحديث على لسان الآخر، ليرى كما يرى الآخر، ويتحدث كما يتحدث، وهذا ما يُعنى هنا بالتحولات الثقافية، بحيث استطاعت أن تتحول من ثقافة الذات داخليا إلى فهم واستيعاب ثقافة الآخر عالميا، ثم تصوير هذا الآخر تصويرا إن لم يكن دقيقا فيقترب منه، وذلك على غرار تفوقها في تصوير ذاتها.
والملاحظ أن هذا التمثيل محكوم بآلية الجذب والدمج والاحتضان، وهي التي توفّرت في هذه الثقافة بفضل الإسلام واعتماده على مبادئ عالمية تبشّر برسالة توحيدية، تهدف إلى هداية الناس أجمعين، ومن شأن هذه الآلية أن تخلق هوية ثقافية منفتحة ومتسامحة، وتؤدي إلى انفتاح الهوية على الآخر واستيعابه استيعابا يرمي إلى تحقيق تلك المعادلة الصعبة والمتمثلة في معايشة الاختلاف في المساواة أو المساواة والتعايش السلمي مع الاختلاف والمغايرة لا استيعاب إخضاع وهيمنة4.
أفريقيا في هذه الدراسة
المقصود بأفريقيا عند إطلاقها تلك القارة التي تبلغ مساحتها (30.2 مليون كيلومتر مربع)، وتعدّ «ثاني قارات العالم من حيث الحجم»5، التي يبلغ عدد سكانها مليار نسمة وفقاً لتقديرات 2009، وتتكون من 61 إقليماً، و 54 دولةً، وتَحُدُّ القارة من الشمال البحرَ المتوسط، ومن الشمال الشرقي تحدّها قناةُ السويس والبحر الأحمر، ومن الجنوب الشرقي والشرق المحيط الهندي، ومن الغرب المحيط الأطلسي6.
وتشتمل هذه القارة على مجموعة أعراق، بناءً على ذلك يمكن تقسيم هذه القارة نظراً للتقسيم الذي يعتبر الصحراء الكبرى حداً فاصلاً «إلى قسمين مختلفين كل الاختلاف؛ قسم يقع شمالها ويسمّون (أفريقيا العربية الإسلامية)، وآخر يقع جنوبها ويسمون (أفريقيا جنوب الصحراء- Africa South of the Sahara)»، على أن المعني بأفريقيا هنا هو هذا الأخير.
تعريف موجز بنماذج من الروايات المختارة:
ستستعين الدراسة لإنجاز أهداف هذه الدراسة، وتصوير الوشم الأفريقي كما عكستها الروايات السعودية بثلاث روايات سعودية هي:
1. رواية ميمونة: للروائي محمود إبراهيم تراوري، صدرت عن منشورات دائرة الثقافة والإعلام سنة 2002م، طبعت بعد ذلك من دار مدى للنشر سنة 2007م.
- صوّرت الرواية معاناة عائلة إفريقية ذاقت الأمرّين في رحلتها من موطنها الأصلي، فاغتربت وهجرت خلاصا مما تعيشه من ظلم واستبداد المستعمر من جانب، ورغبة في مجاورة بيت الله الحرام من جانب آخر.
2. رواية فخاخ الرائحة: صدرت للروائي يوسف المحيميد عن دار رياض الريس للكتب والنشر، والطبعة الثانية من الدار نفسها سنة 2006م، وقد تُرجمت الرواية إلى اللغة الإنكليزية والفرنسية؛ جاء عنوانها في اللغة الإنجليزية تحت مسمى (Wolves of the Crescent Moon) أصدرها دار (Penguin Books) للمترجم أنتوني كالدربانك (Anthony Calderbank)، في 18 ديسمبر 2007، بينما أتت الترجمة الفرنسية بعنوان (Loin de cet enfer) يقابلها في العربية (بعيدا عن هذا الجحيم) ترجمها إيمانويل فارليت (Emmanuel Varlet) ونشرها (Actes Sud edition)، في 27 يونيو 2007.
- حشدت الرواية مجموعة من الشخصيات التي عانت من عقد حياتية مختلفة، لكن توحّدت همومها – تقريبًا – في نقصٍ أو تشويهٍ في خِلقتها لغير عامل طبيعي، فطرّاد مقطوع الأذن، و ناصر مفقوء العين، والعم توفيق رقيق أسود مخصي؛ فالروائي بذلك «يقيم تواشجًا وتواصلًا بين المنفيين، وتسلطًا متتابعًا ومتآزرًا من عالمهم الذي يغتالهم ليستعبدهم، وينفيهم ليبرأ من الالتصاق بنفيهم»11.
3. رواية سماء فوق أفريقيا: رواية «سماء فوق أفريقيا» لعلي الشدوي، وقد طُبعت الرواية مرتين عن دار طوى للنشر، الطبعة الأولى سنة 2007، والثانية سنة 2013.
- وتدور أحداث الرواية عن مسافر أبيض البشرة متجها إلى مدينة (بلبلة) الجيبوتية، أغدق في وصف كل ما تقع عليه عيناه في رحلته تلك، تقاسيم وجوه الناس، همومهم، ملامحهم، المدينة وأشكال الثقافات والعادات، الفن والوشم، المساكن، الأسواق، التجمّعات، والطقوس الدينية، من غير أن يضنّ بإيجاد تفسيرات وتحليلات لما يقع عليه قلمه في كل ظاهرة من هذه الظواهر.
في مفهوم الوشم والشلخ
لعل من الأجدر الابتداء بتحديد إطار مفهوم الوشم وما قد يشاركه في الدلالة في مدونات الدراسة كـ«الشلخ» وغيره مما كان ممارساً لدى الأفارقة بإضفاء دلالاتٍ خاصة عليها.
لقد أتى المفهوم اللغوي لكلمة الوشم بأنه: العلامات التي تظهر بإحداث النتوء في الجلد، أو التأثير فيه بالنقش أو الغرز بإبرةٍ ونحوها12، قال (ابن دريد): «الوشم شيءٌ كانت النساء تعمله في الجاهلية يغرزن أيديهن بالإبر ثم يحشونها بالنيل أو النؤور»13.
وقد جاء مفهومه الاصطلاحي بأنه «عملية تتم على عضو أو أكثر من أعضاء الجسد الإنساني والحيواني بوساطة التلوين الثابت والتلوين القابل للامحاء، بوساطة الغرز في الوشم الثابت، والنّقش والتخضيب في الوشم القابل للامحاء»14.
يظهر هذا التعريف تنوّع الوشم إلى نوعين؛ أحدهما ما يسعى إلى غرزه تحت الجلد بواسطة إبرٍ وأدواتٍ أخرى، فيثبت تحت الجلد ما بقي صاحبه على وجه الأرض، وهذا النوع هو المراد من الوشم في هذه الدراسة؛ إذ إنه النوع الأكثر ممارسةً في الثقافة الأفريقية وتاريخها. أما النوع الثاني فهو أقرب إلى الرسم بالحناء أو الأدوات الأخرى التي يمكن إزالته بالسهولة إذا رغب عنه صاحبه.
أما الشّلخ فقد يكون من الصعوبة التماس تعريف صريح يمكن إسقاطه على الممارسة الأفريقية التي يُعنى بها: تلك «الخطوط المرسومة على الخدود من أثر الفصد بالموس، ولا يشمل هذا المفهوم العلامات الموسومة على الجباه، أو العلامات الناتجة عن الكي بالنار أو بعض المواد المحرقة على الوجه»15، فلم تعِ الثقافة العربية هذه الممارسة الأفريقية، وإن كانت ثمة مراجعٌ عربيةٌ أطلقت على هذه الممارسة «الشلخ»، على أنها قد يُعنى بها شلخ اللحم، وهو «شق بالطول والعرض، وشلخه بالسيف هبره»16، والهبر بالسيف(قطعٌ في الشّيء وتقطُّع)17، « قال الصَّاغانِيّ: هو اسمٌ من هَبَر ، أَي قَطَع»18، « ويقال هبر له من اللحم هبرة قطع له قطعة وهبره بالسيف قطعه به»19.
فسواء أكان الشلخ نبرا بالسيف أو هبرا به، فقد يمكن الحكم على إصابة استخدام الكلمة، وانطباق دلالتها على المفهوم الذي يراد سحبه على الكلمة؛ ذلك أن الممارسة الأفريقية التي يطلق عليها «الشلخ» تؤدي إلى قطعٍ في جلد إنسانٍ من أي موضعٍ من مواضع في جسمه، وهذا القطع قد يكون بالطول أو العرض أو بهما معاً، بأداة قطع حادة كالسيف، ينتج عنه بعد التئامه نتوءٌ أو بروزٌ في الجرح أو حافتيه.
حضور الوشم الأفريقي في الروايات السعودية
من الروايات التي ورد فيها الوشم رواية «سماء فوق أفريقيا»، ولم يُسع فيها إلى عكس الوشم كظاهرةٍ ثقافيةٍ أفريقيةٍ قديمةٍ، أو باعتبارها إحدى التقاليد الأفريقية الموغلة في القدم، والتي كانت تمارس باعتبارها انعكاسًا للرؤى الطبيعية لما كان يشاهده الأفريقي حوله، هذا باعتبار الوشم من الموروثات الشعبية القديمة التي تداولتها المجتمعات على مرّ السنين، وجزءًا من حياة الناس اليومية، بل عكست الرواية ظاهرة الوشم كظاهرةٍ خاصةٍ بعصاباتٍ وتنظيماتٍ خاصةٍ، وهذا ما تؤكّده التأويلات التي انطلقت منها الرواية:
« كل من تحدثت معهم عن هذه الوشوم، يؤلفون عنها حكايات بطريقتهم الخاصة، لكن الروايات التي وثقت فيها هي أن أغلب الموشومين ينتمون إلى كوادر حزبية دنيا، وتنظيمات سرية، فعندما انهارت السلطة المركزية في الصومال، وقامت الحرب الأهلية تزايد اللاجئون، وبدؤوا يستخدمون الوشم والرسم للتعبير عن انتماءاتهم السياسية وإظهار العودة»20.
فاعتبرت الرواية الوشم وسيلةً من وسائل إظهار الولاء لعصاباتٍ أو انتماءاتٍ حزبيةٍ، أو تنظيماتٍ إجراميةٍ، وهذا الذي تعكسه الرواية قد يكون جانبًا من جوانب تسليط الضوء على تلك الممارسة حديثًا، وخاصةً في مجتمع معيّن من المجتمعات الأفريقية المتعدّدة.
وإلى جانب الرؤية الحديثة التي انطلقت منها الرواية، فقد عكست كذلك بعض الممارسات التي تصاحب عملية الوشم، واستحضار بعض الوظائف التي تؤديها في هذا المجتمع:
«مثلما سمعت، ترسم هذه الوشوم والرسومات في حي بلبلة وبأدوات بدائية: مسامير وأسياخ مدببّة وحواف زنك مستعمل، أما الحبر فيحصلون عليه بحرق أحذيتهم، وخلط ما ينتج عن احتراقها ببولهم، ولكي يتجنبوا تحولها إلى جروح عميقة يقرؤون عليها بعض الطلاسم العفرية»21.
لعل من أبرز الوظائف التي تذكر للوشم الوظيفة السحرية، والتي قد تتمثل في مستويات، كحماية الإنسان من روح القتيل، وفي اعتباره تعويذةً ورقيةً تجلب المنافع وتدفع عن الإنسان العين الشريرة22، ولعل مما يساند الوشم على تأدية هذه الوظيفة غالبًا الطلاسم التي تصاحب إنجاز هذه الممارسة، فليس مقتصرًا على حمايتها من الجروح فقط -كما تؤوّلها الرواية-، وإنما تشملها وغيرها مما ارتبط بها من المعتقدات منها الحماية من الشر وضروبه.
وقد استحضرت الرواية أشكال بعض هذه الوشوم بالوصف:
- «فهناك المزيد من الأشكال، تحملها الأجساد التي أحاطت بي: رجلٌ في أواخر العقد الرابع من العمر وشم على ذراعه أفعىً منطويةً على ذاتها، وآخر وشم نجمتين على كفه اليمنى، وثالث وشم على ذراعه شبكةً يحملها طائر، ورابع وشم عينا على جبهته، أما الوشم الذي آذى عيني أكثر من غيره فهو أذن رسمت بدلًا من أذنٍ مقطوعةٍ»23.
ليس الغرض الأساسي هنا تقديم تأويل يعتبر الأصوب من جميع جوانبه لهذه الوشوم المستحضرة، وإنما السعي للوقوف على الوظيفة التي تؤديها الوشوم في حياة مجتمعاتها، والفلسفة المؤطرة للرسالة المشفّرة التي تحملها في طياتها؛ فالحقيقة أن «الوشم واحدٌ، والتأويلات لا تحصى، كأنه كتابةٌ تتولد معانيها بتعدد قراءاتها وليس بالضرورة أن تلتقي تلك التأويلات مع قصد صاحب الوشم، تمامًا كما أنه من الحتمي أن لا تلتقي قراءة نصٍ إبداعيٍّ ما مع مقاصد صاحبه»24.
فقد يتضمّن هذا الوصف للوشوم وظائف متعددة؛ سحرية، أو دينية، أو اجتماعية أو تزيينية، لكن تركيز الرواية على الوشم الأخير: «أما الوشم الذي آذى عيني أكثر من غيره فهو أذن رسمت بدلًا من أذنٍ مقطوعةٍ»25، قد يعكس تصوير الأبعاد النفسية التي قد يحملها الوشم كوظيفةٍ إضافيةٍ ذات مرامٍ أبعد مما قد تؤديها الوظائف الأخرى المذكورة، ويؤيد السياق الذي استحضرت فيه الروايةُ هذا الوشم ماهية هذه الوظيفة النفسية؛ حيث أدت هذه الوشوم إلى اعتبارها دوافع محفّزة لحامليها بإظهار منطويات عُقدهم النفسية في القتل والنهب والاغتصاب في المجتمع، يضاف إلى ذلك أن الرواية قد وضع هذا الوشم في تأويله ومتعلقاته في السياق النفسي من حيث إن المتلقي وهو الملاحظ القارئ للوشم «بعين المشمئز والمشفق، أبعدني فراغ الأذن عن حقيقة الأجساد البشرية، وأدخلني فخ الوهم الفارغ بوجود الأشياء بعد زوالها»26، لذا فإن هذا الوشم وإن لم يتقصد صاحبه لتأدية هذه الوظيفة العميقة في نفس ملاحظ وشمه إلا أنه قد أدّى تلك الوظيفة في نفس المتلقّي.
أما الشلوخ فيتجلّى استحضارها في رواية ميمونة باعتبارها رمزًا تعريفيًّا يختصّ كل قبيلة ومجموعة أفريقية بشكل معيّن، يستعان به في التعرّف على هويات الأفراد وانتماءاتها العرقية و الدينية:
- «في أمكنتنا تحدّد خطوطٌ وشلوخٌ على الوجوه ديانات الناس. مضوا بجوارنا مملوئين بالشتائم تجاهلناهم حتى اختفوا في ظلام الغابة والنهر الذي يبنون قراهم على ضفافه»27.
«المهم أنني بعد أيام وصلت منطقة الحصاحيصا، عشت أكثر من شهرٍ هناك، تعرفت إلى أناسٍ كثيرين، هوامل وبعضهم موسوم في ظهره أو رقبته»28.
تتجاذب الشلوخ لدى القبائل الأفريقية أهدافًا وظيفيّةً متعدّدة، لعل من أبرزها الوظيفة الاجتماعية، والتي تتمثل في أنها «شعارٌ رئيسيٌّ تعرفه القبائل البدوية التي تعيش في العصر الحاضر، يتمثّل في طريقة معيّنة في تصفيف شعورهم، وفي كثير من أنحاء العالم، وبصفةٍ خاصةٍ في أفريقيا، يكون شعار القبيلة وشمًا أو «شلخًا» يحفر في عضو من أعضاء الإنسان»29، وإلى هذه الرؤية سعت الرواية في تأويل هذه الشلوخ باعتبارها رمزًا.
فالشلخ يكون مفروضًا على أفراد بعض القبائل الأفريقية؛ لتميِّزهم عن غيرهم، بل عدّ ذلك «بطاقة» المرء في القرون الماضية في القارة، ولا زالت بعضها متمسكةً بها إلى الوقت الحاضر؛ أمثال قبائل الهوسا، والزرما، وموسي، واليوربا، وأشنتي30. وبذلك يمكن الحكم بأنه يتناقض الوشم والشلخ مع المفهوم المعتاد له؛ فالوشم الذي يستعمله الأفريقي ليس وشمًا بالمعنى المتعارف عليه لدى القبائل العربية أو لدى الغرب اليوم، وإنما هو علاماتٌ ورموزٌ في الجسد تؤدّي وظائف متعددة.
إن تلك الخدوش والوشوم التي تظهر على الأفريقيّ، تمثّل في مجملها رموزًا وعلاماتٍ، وعلى هذا الأساس يمكن القول بأنها: «لغةٌ تواصلية بين أفراد قبائل وسط إفريقيا، فكلّ علامةٍ لها دلالتها اللغوية، وبما أن مسألة الكتابة المنظّمة لا يطرح في مثل تلك المجتمعات، فظهور علامة الحرف ينطوي في الواقع على تحوّل جذري في رؤية العالم، والرمز عند البدائيين يعبّر عن نفسه داخل الشكل الخطّي للتطور وليس داخل الشكل الخطي لأبجدة ما، إن شئنا الحديث عن كتابةٍ ما، فيجب الحديث عن كتابة الوشم، والأقنعة، والتماثيل، والجدرانيات الصخرية، تتكلم بنفسها وتتحدث عن ماهيتها»31، فإن غياب الكتابة الفعلية في حياة هؤلاء البدائيين يؤدي إلى أن يستشري توظيف مثل هذه الرموز في أوساطهم كوسيلة بديلة للتعبير في قالب فنّي متميز.
لذلك فإن الوشم والشلخ في المقام الأول فنٌّ تعبيريٌّ يأتي محمّلًا بقيمٍ فنّيةٍ جماليّةٍ تعكس فرادة القدرة الإبداعية للفنان، وهذا من جانب كونه فنًّا يتميز بذاتية مبدعه، كما يأتي محمّلًا بقيمٍ تعبيريّةٍ تعكس روح الجماعة والبيئة التي أضافت المعنى لهذا الرمز، ليدلّ على مفهومٍ يتبادر إلى الأذهان عند رؤيته، وهذا من جانب كونه تعبيرًا جماعيًّا عن معنىً معين.
فيعدّ الوشم في نسقه الأفريقي خطابًا فنّيًا من جانبٍ، وخطابًا تعبيريًّا قبَليًا منغلقًا، يتخذه أفراد القبيلة كوسيلة لإحداث التواصل، تغني رؤيته عن مزيد استيضاح معانيها وشفرة رموزها لدى أفراد القبيلة، فيمكن اعتبار ممارسة عملية الوشم أو الشلخ ابتداء على أساس أنه عمل فني، لا تقل فنّيته عن تلك التي يمارسها الفنان التشكيلي والرسام والنحّات في المجتمع الأفريقي في تصويرٍ تفاعليٍّ بين ذاته وموضوعه الذي يرتبط ارتباطًا شديدًا برؤاه للكون، فلذلك يسعى إلى إنجاز هذا الفن الذي يوازيه شعائر وطقوس دينية تعكس صورة معتقده في فنّه، في قالب فردي واجتماعي في الآن نفسه.
الخاتمة
يخلص البحث في نهاية هذه النقطة إلى أنه قد عني بالحديث عن الوشم والشلخ، وكلٌّ منهما من الممارسات الموغلة في القدم في الثقافة الأفريقية التي تصاحبها طقوسٌ وشعائرٌ دينية، تؤدى بها وظائف متعددة.
أما الوشم فقد تجلّى في رواية «سماء فوق أفريقيا» كظاهرة ثقافية مغلقة خاصة بالعصابات الخاصة والتنظيمات الإجرامية، وهي بذلك تكون ذات وظيفة نفسية – كما يرى الباحث-، وذلك بالاستناد إلى سياق حضورها في الرواية وتأويلها فيها، فعكس الوشم الوظيفة النفسية التي تكشف عن الإحساس الداخلي للفرد من حيث استعاضة الوشم بالعضو الإنساني.
وأظهرت رواية «ميمونة» ورواية «فخاخ الرائحة» الوظيفة الاجتماعية لظاهرة الشلوخ؛ إذ تعُدّ القبيلة الأفريقية أن وشم أو شلخ شكلٍ معيّن في موضع معيّن من الجسم بمثابة هوية أفرادها، بذلك عدّ الباحث الظاهرتين خطابًا تعبيريًّا يأتي محمّلا بقيم فنية جمالية، تعكس روح الجماعة والبيئة التي أضافت المعنى لهذا الرمز، ليدلّ على مفهومٍ يتبادر إلى الأذهان عند رؤيته، وهذا من جانب كونه تعبيرًا جماعيًّا عن معنى معين، كما تعكس فرادة القدرة الإبداعية للفنان من جانب آخر، وهذا من جانب كونه فنًّا يتميز بذاتية مبدعه.
الهوامش
1. عبد الفتاح كيليطو، مسألة القراءة ضمن كتاب المنهجية في الأدب والعلوم الإنسانية، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1993م، ص190.
2. ينظر: الغذامي، عبد الله محمد، النقد الثقافي قراءة في الأنساق الثقافية العربية، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2010م، ص73 - 75.
3. كاظم ، نادر، تمثيلات الآخر صورة السود في المتخيّل العربي الوسيط، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 2004م، ص16.
4. ينظر: المرجع السابق، ص17 - 18.
5. إسماعيل، حلمي محروس، تاريخ إفريقيا الحديث والمعاصر من الكشوف الجغرافية إلى قيام منظمة الوحدة الإفريقية، مؤسسة شباب الجامعة الإسكندرية، مصر، 2004م، ص أ.
6. ينظر: باري، محمد فاضل علي. كريدية، سعيد إبراهيم، المسلمون في غرب إفريقيا: تاريخ وحضارة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 2007م الموافق 1427هــ، ص13. سعدي، محمد عبد الغني، قضايا إفريقية، عالم المعرفة، 1400هـ الموافق 1980م ص5. أطلس العالم الكبير، بيروت - لبنان، الطبعة 1999م، ص383.
7. لقد ناقش المستفرق الألماني يان هاينزيان (Jan) المصطلحات التي أطلقت على هذا التقسيم، ويركز الباحث فيها على المسميات التي أطلقت على هذا القسم الآخر (أفريقيا جنوب الصحراء) باعتبارها وجهة الدراسة، فمن هذه المسميات؛ أفريقيا الزنجية، أفريقيا السوداء، أفريقيا غير الإسلامية، أفريقيا جنوب الصحراء، وقد اعتبر (يان) مسمى (أفريقيا الزنجية و أفريقيا السوداء) تعبيرًا من التعبيرات الجغرافية العنصرية، وعلّل لعدم دقة مسمى (أفريقيا غير الإسلامية) بأنه قد انتشر في هذا الجزء الإسلام بشكلٍ كبيرٍ، والأغلبية المسلمة في كثيرٍ من هذه البلدان اليوم يعكس ذلك، إلى جانب أنه توجد بين هؤلاء الأفريقيون الشماليون المسلمون شعوبٌ غير مسلمة. وأما المسمى الأخير (أفريقيا جنوب الصحراء) فقد رأى أن اعتبار «الصحراء الحدّ الذي يفصل بين الثقافتين المتداخلتين لا يتطابق مع الصحراء».
- Jahn, Janheinz, Neo-African Literature. New York: Grove Press, 1969, 19-20.
8. شلش، علي، الأدب الأفريقي، عالم المعرفة، الكويت، ع 112، 1993م، ص11.
9. ينظر: الجزيرة للصحافة والطباعة والنشر، الثلاثاء 9 صفر 1428 الموافق 27/02/2007 ، ع 12570، «بعد ترجمة روايته فخاخ الرائحة عن الجامعة الأميركية بالقاهرة»، النسخة الألكترونية.
10. ينظر: المرجع السابق، الاثنين 4 جمادى الأولى 1428، الموافق 21/05/2007، ع 199، «المحيميد بعد صدور الترجمة الفرنسية لفخاخ الرائحة»، النسخة الألكترونية.
11. القرشي، عالي، تحولات الرواية في المملكة العربية السعودية، دار الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2013م، ص210 - 211.
12. ينظر: الأزهري، تهذيب اللغة، 11/297. ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تح: عبد السلام هارون، دار الفكر، د.ط، 1399هـ الموافق 1979م، 6/113. ابن منظور، لسان العرب، 12/638.
13. ابن دريد، أبي بكر محمد بن الحسن، جمهرة اللغة، تح: رمزي بعلبكي، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 1987م، 2/881.
14. القرعان، فايز عارف، الوشم والوشي في الشعر الجاهلي، دار الفارس، الأردن، الطبعة الأولى، 1998م، ص31.
15. غنيم، محمد أحمد، الوشم دراسة أنثروبولوجية مقارنة في الفن البدائي، مجلة كلية الآداب، جامعة المنصورة، مصر، ع8، 1988م، ص199.
16. الطالقاني، إسماعيل بن عباد، المحيط في اللغة، عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ الموافق 1994م، 4/224.
17. ابن فارس، أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تح: عبد السلام هارون، دار الفكر، د.ط، 1399هـ الموافق 1979م، 6/28.
18. الزبيدي، مرتضى محمد بن محمد، تاج العروس من جواهر القاموس، دار الهداية، د.ط، د.ت، 14/388، مادة ( ش ل خ).
19. مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، الطبعة الرابعة، 1425هـ الموافق 2004م، 2/969.
20. الشدوي، سماء فوق أفريقيا، ص8.
21. نفسه.
22. ينظر: القرعان، فايز، الوشي والوشم، ص47.
23. الشدوي، سماء فوق أفريقيا، ص9 – 10.
24. باديس، نور الهدى، الوشم: الرمز والمعنى، مؤتمر قضايا المعنى في التفكير اللساني والفلسفي، جامعة منوبة، تونس، 2015م، ص302.
25. الشدوي، سماء فوق أفريقيا، ص10.
26. نفسه، ص10.
27. تراوري، ميمونة، ص 17.
28. المحيميد، فخاخ الرائحة، ص26.
29. القرعان، فايز، الوشم والوشي، ص52.
30. ينظر: عمران، كبا، الشعر العربي في الغرب الأفريقي خلال القرن العشرين الميلادي، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة إيسيسكو، الرباط، 1432هـ الموافق 2011م، 1/22 - 23.
31. خضر، عبد العليم عبد الرحمن، التراث الثقافي للأجناس البشرية في أفريقيا بين الأصالة والتجديد، النادي الأدبي الثقافي، الرياض، الطبعة الأولى، 1406هـ الموافق 1985م، ص44.
الصور
- الصور من الكاتب.
- مراجع الصور المرفقة بهذه المقالة من (Pinterest).