فصلية علمية متخصصة
رسالة التراث الشعبي من البحرين إلى العالم
العدد
67

العدودة المصرية وسؤال النوع

العدد 46 - أدب شعبي
العدودة المصرية وسؤال النوع
كاتب من مصر

يختلف سؤال النوع في الأدب الشعبي عن نظيره في الأدب الرسمي، وتتبدى السهولة النسبية لسؤال النوع فيه بسبب الطبيعة التداولية لأنواعه المختلفة، إذ يُرد كل نوع إلى سياق اجتماعي معين لا يأتي فيه سواه، كما يتأكد ذلك من خلال ارتباط كل نوع منها بطقس متاخم له، مغاير لما يمارس في الأنواع الأخرى، فكل نوع أدبي شعبي يقوم بمجموعة من الوظائف ترتبط بمناسبة ما لجماعة ما، وفي ذلك تحديد واضح للنوع في عموميته، لكونه «يُعرّف بموضوع التلفظ وغايته والوضعية الخاصة به»1، ولا يعني ذلك أن نهمل سؤال النوع كلية في الأدب الشعبي، ففهمنا للنوع – أيا كانت طبيعته- هو فهم لذواتنا، وللتحولات التي تطرأ على مجتمعنا، ومنذ القدم وحاجة الإنسان للتصنيف لا تنقطع، فقد كانت وظيفة الأنواع هي مساعدة المستمعين على صنع العلاقات والفروق المنطقية بينها، فقد كانت الأنواع «تخدم أغراضا اجتماعية في جماعة ما، وتنشأ لتُظهرأنواعا أخرى عن طريق التقابل، وتكملها وتحدد أهدافها»2

وربما كان المبدأ العام في تحولات الأنواع الأدبية، هو أن «كل مرحلة من مراحل تطور المجتمع تجسد علاقتها الجمالية بالعالم في أنواع أدبية بعينها، تلائم قدرة البشر على أعمالهم الطبيعي في هذه المرحلة، وطبيعة نظامهم الاجتماعي فيها... وعلى هذا فإن النوع الأدبي محكوم في نشأته وتطوره بوضع تاريخي اجتماعي محدد، ومحكوم في طبيعته وطاقاته ووظيفته بالوفاء بحاجات اجتماعية معينة، يحددها ذلك الوضع التاريخي الاجتماعي الذي أثمر هذه النوع»3، ولعل في ظهور العديد وزواله ما يؤكد على خصوصية الأدب الشعبي عموما في حركيته وتحولاته، وظهوره ثم اختفائه، وفقا لطبيعته الوظيفية وأثر المتغيرات الاجتماعية والثقافية، كما إنه - شأنه شأن غيره من الفنون الشعبية التي لا تنسب لمؤلف واحد- ليس من إنتاج فرد بعينه، إنما هو نص مفتوح قابل للإضافة التي تأخذ شكلا تكراريا في بنيته الموسيقية الأساسية بثوابتها ومتغيراتها.

وقد لاحظ جان ماري شافير أن «مسألة وضع الأجناس ارتكزت دائماً على الأجناس الأدبية، وقلما طرحت بالنسبة لأجناس غير أدبية أو لنشاطات خطابية شفهية، على الرغم من أنه في هذين المجالين تُلاحظ يومياً تمييزات جنسية متعددة. في الواقع، التمييزات النوعية (المتعلقة بالأجناس) موجودة في كل أحاديثنا عن الممارسات الثقافية»4، لكن شافير رفض فكرة الصعوبة والسهولة فيما يخص عملية التصنيف، ربما لأن الأمر أكثر ارتباطا بالسؤال عن ماهية الأدب، وإن كان هذا لا ينفي ما نذهب إليه من توافر قدر من الوضوح في تمييز الأنواع الأدبية الشفاهية بحكم تداوليتها، وعلى الأقل لدى من يتداولونها، وتقوم بدور وظيفي في حياتهم الاجتماعية، فالأنواع الأدبية عموما «ليست مجرد كيانات شكلية خالصة، إنما هي أشكال تعمل داخل نظام الاتصال اجتماعي، والجنس بوصفه شكلا يجسد معنى اجتماعيا محددا»5 وهو ما ينطبق بوضوح تام على أنواع الأدب الشعبي ومنها العديد.

لم يشغل الباحثون في الأدب الشعبي بالسؤال عن طبيعة العديد بوصفه نوعا، كما لم يبحثوا في نشأته وتطوره ثم انحساره وتحلله وانقراضه، فكل نوع يمر بثلاث مراحل أساسية تشبه مراحل نمو الإنسان، تتمثل في ظهور النوع ثم انتشاره ثم موته وانحساره، أو تحوله إلى نوع آخريؤسس لخصوصية جمالية أخرى مغايرة. وهو ما سنعنى به في دراستنا من خلال نظرية النوع، وما توافر لها من أدوات تجعل من النوع نفسه أداة قراءة وتفسير إلى جواره كونه أداة كتابة أو مشافهة. وقد تجلى إهمال العديد فيما قام به الباحثون من تصنيفات، فلم تشتمل تصنيفات كل من رشدي صالح أو نبيلة إبراهيم على العديد بوصفه نوعا مستقلا، إنما تكشف تقسيماتهما عن إدراجه في نوع آخر هو الأغنية الشعبية، أما محمد الجوهري فقد أكد على ذلك في تصنيفه لأنواع مختلفة من الأغاني حسب المناسبات المرتبطة بدورة الحياة ومنها البكائيات6.

وفي هذا الإطار يطرح الباحث سؤال النوع حول العديد باعتباره فنا آذن بالانقراض من عقود، ولم تبق منه سوى نصوص يقوم الباحثون بتجميعها من صدور النساء والعجائز، وتحويلها من الشفاهية إلى الكتابية، في صورة نصوص لغوية مختزلة، منفصلة عن كل ما أحاط عملية إنتاجها من طقوس وأداءات تشكل رافدا أساسيا من روافد تحقق العدودة كنوع له كينونته الاجتماعية واللغوية على حد سواء.

ميلاد النوع

إن مجال الأجناس الأدبية الحديث - على تعدد طروحه - لا يفضي، في مجال الأنواع الفولكلورية تحديدًا، إلى معرفة علمية حقيقية يمكن تطبيقها، «فجميع نماذجه - باستثناء إسهامات نوعية محدودة - يقع تحت وطأة الكتابة»، وخارج المدار الذي تقع فيه المأثورات الشعبية الأدبية، بعد انسحاب (إزاحة) الشفاهية من دائرة الفعل الإبداعي، وسيادة الكتابية على آليات تخلقه. ومن ثم، يبدو فعل التجنيس هاجسًا كتابيًّا، فرضه التغير المفهومي الذي جاءت به الكتابة: المبدع الفرد، النص، القارئ، القراءة... إلخ . بينما يحتاج النوع الفولكلوري - إذا قُدِّرَ له أن يدخل في نطاق العمل في مجال الأجناس الأدبية أو التحليل النوعي – إلى «مفردات مفهومية ملائمة لطبيعته: الراوي/المؤدي، الرواية، الجمهور، الأداء، الحدث الشفاهي، العلامات الشفاهية، الإيماءات والحركات... إلخ»7، ونحن نرى أنه ليس بالضرورة - فيما يخص العديد- أن يكون التحول تم من الفصحى إلى العامية، إذ ربما كان التحول بالأساس من أصوات غير كلامية كالنواح والصراخ الذي ينطلق في بدايته بوصفه إعلاما على حدوث الموت. والعديد قد يكتسب « طابعه التقليدي الخاص به والقائم على الأصوات غير الكلامية»8 ومن ثم يكون مولد العديد هو انحراف لغويي عن تللك الأصوات وخروج عن غير المفهوم إلى المفهوم دلاليا وموسيقيا بما يكفل استمرارية حالة الحزن لأطول فترة ممكنة. وكما سنوضح لا يمكننا فهم طبيعة العدودة دون أن ندرك أنها «عمل كلامي speech act مفرد من الممكن فهمه بطريقة أفضل كعملية وحيدة من ضمن سلسلة من الأفعال الموجهة لغرض عام»9.

لقد دخل العديد دائرة الجمع والتصنيف على مرحلتين: الأولى تتمثل في جهود المستشرقين، ممن لهم دور واضح في جمع العديد تحت مسمى البكائيات، فنجد جاستون ماسبيرو يجمع نصوصا منها ويضمها تحت لواء الأغاني الشعبية في صعيد مصر، في إطار تصنيف وظيفي يربط كل أغنية بأمر اجتماعي ما، كزراعة أو تجارة أو حصاد أو حج أو ميلاد أو موت...إلخ ثم دراسة باول كاله وهي خاصة بالمراثي فقط، وقد صدرت بعنوان (المراثي في مصر المعاصرة)، إلى جوار دراسات أخرى لم تركز على العديد وحده، وإنما ركزت على عادات وطقوس الموت لدى المصريين، ومنها دراسة إدوارد لين الشهيرة (المصريون المحدثون شمائلهم وعاداتهم).

أما المرحلة الثانية: فخاصة بالباحثين المصريين ممن قاموا بعمليات جمع وتصنيف واسعة، وإن كانت قد تأخرت كثيرًا، وبرز في هذا الإطار دراسات عبد الحليم حفني وكرم الأبنودي ودرويش الأسيوطي وأحمد توفيق وأشرف البولاقي وغيرهم، إضافة لعدد كبير من الرسائل الجامعية.

وعلى الرغم من كثرة تلك الدراسات التي تناولت العديد، يُلاحظ أن هذه الدراسات تدور في إطار واحد، إذ تقوم بجهد تجميعي، لعدد من نصوص العديد في بيئة ما، ثم تصنيفها وفقا للموضوع الذي تدور حوله كل عدودة، وهذا الموضوع خاص بنوع الميت أو صفته الاجتماعية أو طريقة موته، وقد تكرر هذا التصنيف الموضوعي في كل ما اطلعتُ عليه من دراسات في هذا الشأن، وربما أضاف البعض تحليلا لبنية العدودة، وتمييزها عن غيرها من فنون الغناء الشعبي، على نحو ما رأيناه في دراسة أستاذنا درويش الأسيوطي، كما يضيف كل دارس لمساته في استقراء العدودة وما وراءها من عادات وتقاليد مجتمعية حاكمة، بيد أن ميلاد النوع وملابساته وخصوصيته الجمالية لم تشغل بال أي من الدارسين، إذ يكتفي البعض بنسبته إلى فن الرثاء في الشعر الفصيح وهو غرض لها امتدادته ومدونته الواسعة في الشعر العربي منذ نشأته، وقد تبع الباحثون عبد الحليم حفني في رد العديد إلى دائرة الرثاء استنادا إلى» ما به من ألفاظ فصيحة، تتداولها المعددات الأميات دون أن تعرف الواحدة منهن معنى الكلمة إلا إذا كانت في سياق كلام آخر، وبناء على هذا المقياس أسس حنفي رأيه «بانتساب العديد في أصله تراث عربي تحول من الفصحى إلى العامية»10، لكننا لا نستطيع أن نقول عن أدب شفاهي بأنه «أصيل في شفاهيته إلا بأن يكون من ممكناته أن نتذوقه بشكل ملائم في سماع مستمر فقط11، وفي العديد من الصيغ وطرق التكرار والتقفية والتوازي ما يتيح ذلك، وهذا فارق أساسي بين الرثاء في نسقه العمودي والعدودة التي ربما ترتبط – إذا أردنا وصلا لها بتراثنا الشعري الفصيح - بأنساق موسيقية أخرى.

وقد جنح باحث آخر ناحية المجاز للإفلات من ربقة المصطلح وفجاجاته، إذ من الصعب إطلاق لفظة فن على العدودة كأن نقول فن العديد، ومرجع ذلك ما قد يتبدى من تناقض بين ما يعلي الحياة ويكرس لها جماليا وما يعنى بالموت، ويصور لوعته ووقعه الرهيب عن آل الميت، ولذا جاء مصطلح(فن الحزن) لكرم الأبنودي12 وكأنه نوع من التخفف من شبهة التناقض فيما لو أطلقه على العدودة، فيما لم يتحرج خيري شلبي في تقديمه لكتاب الأبنودي من استخدام هذا المصطلح (فن العديد) باعتباره فنا مصريا خالصا، وتبعه في ذلك أستاذنا درويش الأسيوطي، مضيفا إليه تعريفات أخرى تعده إبداعا نسائيا خالصا أو غناء، كما فرق درويش بينه وبين أشكال أخرى من البكائيات مثل الندب. أما تسميات المستشرقين ممن جمعوا بعض نصوصه فكانت البكائيات، ويرى الباحث أن الحس الشعبي كان أقرب في تعريفه لطبيعته فقد أطلق عليه العديد وواحدته العدودة دون إضافة أي ملحقات أخرى وصفية أو إضافية أو تعريفية تَسمه بغير مسماه، فهو طقس لغوي يتداخل فيه الأداء مع الغناء في وحدة واحدة لا تنفصم، تجمع بين الصوت واللون والحركة، إنه أقرب للدراما الحركية التي لا تنفصم عراها ولا ينفصل فيها اللغوي عن غيره من الأنساق من الحركات والرموز والإشارات، وإلا فقدت العدودة دلالتها الثقافية، وما جاءت المسميات الأخرى إلا بعد أن دخل مضمار الدراسات الشعبية، التي حاولت تجنيسه فأطلقت عليه تلك المسميات دون تمحيص. فهو فن نسوي ريفي بالأساس يرتبط بطبيعة البنية الاجتماعية للأسرة الريفية، وترابطها، كما يرتبط بنموذجها التكافلي القائم على التعاون والذي تشغل فيه المرأة الدور الأساسي لا دور التابع كما أنه ذو سمت زراعي ريفي في الأغلب الأعم، وربما كان ما ذهب إليه درويش الأسيوطي من امتداده إلى الحضارة الفرعونية، مستندا على طقوس الموت له وجاهته في هذا الإطار، وإن كانت طقوس الموت لها جذورها في مختلف الأمم والحضارات على النحو الذي وضحه جيمس فريزر في كتابه (الفولكلور في العهد القديم)، بيد أن العديد بصيغته المصرية يمثل خصوصية لا تتجاوز امتدادتها بدايات دولة محمد علي بحال، ولعل تاريخ هذا النوع الشعبي- فيما نرى- لا يزيد عن قرن من الزمان أو قرنين على الأكثر، فلم ترصد لنا كتابات الجبرتي وابن إياس والمقريزي نصوصا منه، وهي ذاتها الكتب التي رصدت أشكالا شعبية أخرى، يضاف إلى ذلك طبيعة اللغة المستخدمة تحمل في طياتها ألفاظا معبرة عن امتدادات زمنية قريبة، وهذا الدرس اللغوي يحتاج لبحث تفصيلي يبين أن اللغة المستخدمة لا يمكن أن تنتمي بحال لأكثر من المدى الزمني الذي نرجحه، كما إن التواتر اللافت لكثير من الألفاظ والمسميات والوظائف والآلات وكثير منها مستحدث يؤكد ما نذهب إليه، ويكفي أن نمثل لذلك ببعض تلك المسميات مثل» الموضة، فستان، الحابس والدبلة، البندقية، أم زناد، شاويش، وابور (القطار)، طربوش، سرير، الحكومة، الدفتر، الباشا، الطبيب، مشرط، التمرجي، أتومبيل(سيارة)، بيه النيابة(وكيل النيابة)، البدلات (جمع بدلة)... إلخ»13 يضاف إلى ذلك طبيعة الحياة التي تقف في الخلفية بالنسبة للعدودة وما تشير إليه من علاقات وأساليب حياة وزراعة وثأر وأسواق وحكومة لا تشي بامتداد النوع لأبعد من الحملة الفرنسية 1798م، ولو صح أن للعديد امتداداته الزمنية الموغلة في القدم، أو التي تتصل بالرثاء العربي، فإن التحولات التي طرأت وأنتجت هذا الفن جعلت منه نوعا منفصلا له خصوصيته وهويته المستقلة.

هوية العدودة

إن هوية العدودة لا تتحدد بملفوظها اللغوي فقط بل بعنصر آخر هو الأداء، الذي لا ينفصل البتة عن الملفوظ، بل يترك في الملفوظ إكراهاته الموسيقية والتنغيمية على النحو الذي سنفصل القول فيه، «فالكينونة الفنية من أي نمط كانت- أي من أي نوع- متصلة بالواقع استنادا إلى شرط مزدوج؛ وتحدد متعينات هذا التوجيه المزدوج نمط هذه الكينونة أي نوعها. إن العمل يتوجه أولا إلى مستمعيه ومتلقيه وإلى مجموعة من الشروط المحددة الخاصة بالأداء والفهم، كما أن العمل يتوجه ثانية إلى الحياة من الداخل، من خلال محتواه الثيميthematic» والكينونة الفنية لنص شفاهي، مثل العدودة شكلا وموضوعا، تحددها «الظروف الملائمة أو (المشؤومة) لتحيينه الأدائي، وهنا تبدو الشعرية والتداولية أكثر ما تكون تلاحما، فالعمل الشفاهي لا يحيا بوصفه هكذا إلا في سياقه المقامي المحين»15، ولا شك أن العديد - وقد تحول إلى طقس ملازم للوفاة- حقق وظائفه الاجتماعية في أوان تداوله، ولم ينظر إليه من منظور جمالي قط، وإنما كانت مقاصده تأثيرية بمختلف الطرف اللغوية وغير اللغوية، رغم أنه لا يخلو من جماليات الغناء الشعبي ومكوناته الفنية والموسيقية، لكن العدودة تسير في اتجاه تفجير شحنة الحزن لدى المتلقى واستدرار تعاطف الجماعة، وتبيان عظم الفاجعة في الميت، فالعديد ينظر بعينين، إلى المتوفى ومكانته، وإلى من تركهم من أهل وأحباب وسوء حالهم من بعده.

وللتسمية دور في إبراز تلك الهوية، وهوية جنس ما هي بصورة أساسية «هوية مصطلح عام مماثل مطبق على عدد من النصوص»16، وبالنظر إلى بعض المسميات التي تحيط بالعديد نجد أن النسوة اللائي ينتجن العديد ويتداولنه يقال لهن، الندابات أو الشلايات، وإذا رجعنا للأصل للغوي لمادة (ندب) نجد أن من معانيها «ندَبَ الميت أي بكى عليه، وعدد محاسنه، يندبه ندبا والاسم النُدبة بالضم، وندب الميت بعد موته من غير أن يقيد ببكاء، وهو من الندب للجراح، والندب أن تدعو النادبة الميت بحسن الثناء في قولها... وفي الحديث كل نادبة كاذبة إلا نادبة سعد»17. فالندب تمتد جذوره لما قبل الإسلام، النادبة امرأة ذات وظيفة محددة تقوم بها، قوامها أن تعدد محاسن الميت وأفعاله، أما ما جاء في حديث الرسول الكريم، فيدل على أن الندب كان يقوم في كثير من الأحيان على المبالغة والتلفيق، وإذا نظرنا لمادة (شلا) نجد أن «الإشْلاء هو الدعاء، يقال أَشلْيت الشاة والناقة إذا دَعوتَهما بأسمائهما لتَحلبهما، وتأتي أيضا بمعنى الإغراء»18، ولم نجد فيما راجعناه من معاجم وجود للشلاية، فهو أحدث من الندابة، إضافة إلى أنه جاور الندابة -لا النادبة- في طبيعة وظيفته، وما انتقال صيغ اسم الفاعل إلى صيغ المبالغة (من نادبة إلى ندَّابة) إلا مظهر لما طرأ من تحول في طبيعة الوظيفة إلى المبالغة في إظهار الحزن، أو ذكر محاسن الميت بصورة مجافية للواقع. نضيف إلى ذلك أن لفظ العديد ذاته ليس له وجود في المعاجم اللغوية، وكل ما وجدناه بالرجوع إلى لسان العرب، ما يقال له: «العِدادِ وهو وقت الوفاة؟ وقال ابن السكيت: إِذا كان لأَهل الميت يوم أَو ليلة يُجْتَمع فيه للنياحة عليه فهو عِدادٌ لهم»19، ونفهم من هذه المادة أن كلمة العديد هو تحوير للعداد، وأنه لم يكن معروفا على الأقل حتى عصر ابن منظور (630 - 711 هـ) باسم العديد، كما نفهم أيضا أن طقوس النياحة على الميت كان لها وجودها، وأنها كانت مرتبطة بسبب ما بعِدة الميت. أي أن ثمة نصوصا كانت متداولة ولكنها ذهبت طي النسيان، ولا نستطيع أن نجزم أنها امتداد لما وصلنا من نصوص.

ما نقصده من هذه المراجعة اللغوية المتعجلة لهذا النوع ورواته؛ هو التأكيد على وجوده بوصفه صيغة خطابية مميزة لها خصوصيتها ولها رواتها أو حافظوها من النساء ممن اتخذوها حرفة يتم استدعاؤهن مثلما يستدعى المغسل والقارئ، يُضاف إلى ذلك مجاورة العديد بوصفه نوعا لأنواع خطابية أخرى، فهو ليس بدعا بين الأنواع المرتبطة بظروف معيشة الأفراد وثقافتها المنتجة لأنواع أخرى، كالسيرة الشعبية والموال... إلى آخر تلك الفنون الشفاهية التي تقوم بدور فاعل في حياة المجتمع الشفاهي. وكان تحول العديد إلى طقس ثابت من طقوس تشييع الموتى كفل له البزوغ بوصفه نوعا شعبيا له بنيته المميزة ونماذجه التي انتقلت من بيئة لأخرى، ولأنه ذو طابع شعبي، فقد تميز بالثبات النسبي مع إضافات محسوبة تحكمها اللهجات حينا والترادفات حينا آخر في إطار بنية موسيقة وصيغية ثابتة، فجلّ ما وصلنا من نصوص العديد على كثرتها لا يحمل إشارات موغلة في القدم، إنما هي نتاج بيئة مصرية خالصة، وامتداداتها التاريخية تجعلنا نقول إن تشكله وازدهاره لم يزد عن قرنين أو قرن ونصف من الزمان، وهذا الازدهار يرتبط بطقسيته، ووجود متشيعين له، فقد أصبح في هذه الفترة حرفة لها أدواتها- الطار مثلا- ولها طقوسها وقواعدها الفنية والأدائية والاجتماعية.

وهنا نطرح سؤال يقع في صلب هوية العدودة الأدبية وهو خاص بجماليتها، وهو من الأسئلة المعقدة، في كل أشكال الأدب الشعبي ذي الطبيعة الوظيفية، فما بالك بعديد الموتى؟ ولكن ندرك مرامي هذا السؤال علينا أن ننظر إلى العدودة على مستوى الخطاب لا على مستوى ما تكتنزه من ملفوظ أو انحرافات مجازية أحيانا، وذلك لأن الفصل بين الأنشطة الموسومة(جماليا) والأنشطة غير الموسومة لا تستطيع أن تؤخذ بعناية إلا في وقت لاحق وذلك عن طريق ملاحظة السمات النصية للأداءات، وبكل تأكيد، فإن الخطاب الموسوم ينفصل عن المحادثة العادية، سواء كان ذلك عن طريق استعمال مستوى خاص من الكلام أم كان ذلك عن طريق تأطير خاص، مثل استعمال بعض صيغ الفتح والإغلاق تقانة ضرورية لا سيما عندما يبقى الفعل الأدبي كلاما وأسلوبا مغرقا في الخطاب اليومي، وبقول آخر يجب أن يوجد في كل الأحوال «عنصر إما كلامي وإما سياقي، يسمح بتحويل العلاقة بين هذا الذي يتكلم وهذا الذي يسمع، إلى علاقة بين منفذ ومستمعيه. وهو تحويل آهل لتحقيق المرور من سلوك كلامي فقط إلى تمثيل كلامي مضطلع منه بوصف هكذا»20، وفي إطار ذلك نلاحظ أن العديد يحيل إلى شكل من أشكال التواصل الاجتماعي لا التواصل الأدبي والفرق بين التواصلين بعيد، كما إن جماليته ظلت كامنة فيه لفظا وأداء، لكن لم يلتفت إليها، ولم تتحول إلى فن بالمعنى التقليدي للفن، اللهم إلا بعد تدوينها وقراءتها في ضوء مفاهيم الأدب الرسمي والشعري التقليدي، إذ إنها توسلت- وبنفعية تامة- بعناصر مؤسسة لجماليتها كالصيغ والتكرار والتقفية والتوازي والوزن الموسيقي، والتنوع الصوتي على طريقة الغناء الشعبي، لا لتقدم نصا جماليا وإنما للتأثير في المتلقي وإثارة عاطفته، فجمالية العدودة لا تنفصل بحال عن نفعيتها. كذا نجد أن العدودة كنوع ولدت مكتملة، ومنفصلة عن أية أنواع تقليدية أخرى، ولم تسمح لها الظروف بحدوث انحرافات نوعية، اللهم إلا بعض الانحرافات الشكلية على مستوى البنية الموسيقية، من مثل إضافة التطويحة أو تعدد المقاطع أو تنوع الأسلوب ما بين المونولوج أو الحوار أو استدعاء المتوفى وإنطاقه، إضافة لطرائق الأداء الصوتي والجسدي المصاحب، فانحراف العديد عن الكلام العادي يتم على مستوى الخطاب بالأساس لا على مستوى العبارة المفردة أو الانحراف اللفظي فقط، إذ نرى أن معدلات الاستعارة والمجاز في عباراتها قليلة، لا تتجاوز الحد المعتاد في الكلام اليومي، فجمالية العدودة من خلال نصوصها المدونة هي جمالية منقوصة ومشروطة في الوقت نفسه، وقاصرة على ما هو مدون، وكأن الكتابة قد جعلت منها نصا جديدا مغايرا لما تم تداوله، ولا شك أن نماذجه العالية فنية بمقايس الأدب المكتوب، إذ أنتجت بعد دربة ورويّة، من خلال طائفة الندابات ممن اتخذوا من العديد حرفة ورحن يطورن نصوصه بصورة مسبقة. كما إن اشتمال بعض العديد على صور مجازية ينافي القول بالبداهة في التأليف والسرعة في الإنتاج، إذ دائما وراء الصورة وعي ما يقوم بالجمع بين المتباينات ويحدث انحرافات دلالية لا نستطيع أن نقول إنه تم بصورة تلقائية أو فطرية دائما. فقول المعددة:

قلبي مدينة وتاه مفتاحه

كثرت همومه وقلت افراحه21

بما يتضمه من صورة مركبة من نتاج عفوية في لحظة شديدة التأزم، إنما خلفها وعي يفكر ويدبر ليخرج بجملة فنية موسيقية ذات طابع جمالي يتنافى مع مقام الموت بما يحيط بها من عويل وضجيج، كما إن إعطاء الأصوات في كثير من نصوص العديد إلى الميت تارة وإلى شخصيات أخرى تارة أخرى إضافة لتنوع الخطاب بين المتكلم والمخاطب والغائب يعبرعن فنية عالية لا تتأتى للخطاب اليومي أو العادي، وتنوعه بين المونولوج والديالوج، وهذا كله لا يمكن أن يصدر عفو الخاطر. نعم غالبا ما تكون المعاني بسيطة ومباشرة ذات طابع إيقاعي مناسب للمقام، ولهذا نجد أن العديد «يتحاشى المعاني والأساليب البعيدة والعميقة ويؤثر ما أمكنه أن يكون مصوغا في صورة مبسطة، تؤدي الغرض منها بصوغها في قالب عاطفي مؤثر يهيج الحزن والبكاء»22، ويأتي هذا في إطار تقاليد النوع الشعبي ذو الطابع الوظيفي الذي يقدم زادا معنويا وشحنا عاطفيا في مقام يتطلبه ويستدعيه، ومن الصعب أن نربط الأدبية بالخطاب الأدبي الرسمي أوأن نجعل كل ما ينتج شفاهيا أو كتابيا يدور في إطاره أو ينظر إليه بوصفه معيارا لكل أنواع الخطابات المنتجة، ذلك « أن صفة الأدبية ليست ترتبط بالنوع في إطاره الأدبي أو تلك الأنواع التي توصف دائما بصفة الأدبية، وإنما تتسع تلك الصفة لتشمل ما هو غير متعارف عليه من خطابات دعائية ونشرات وخطابات سياسية، مما تتحدد أدبيته بمدى موافقته لتقاليد النوع الذي ينتمي إليه ومدى تحقيقه للأغراض التبليغية والأيديولوجية والخطابية المستهدفة؛ لذا فإن الخطاب السياسي، أو الدعاية، أو أي نوع كتابي آخر يصبح أدبيا إذا التزم تقاليد نوعه أولا، وإذا حقق من خلال ذلك النوع أهدافه ثانيا»23؛ لذلك كانت ممارسة الصلة المستمرة بين ما هو أدبي وغير أدبي أو رسمي وشعبي فيها كثير من التضليل إذ إن اللغة العادية تحتوى على الخصائص التي يفترض أنها تنتمي «لمجال المنطق الجدلي للشعر poetic discourse، وأن الأدب مثل اللغة لا يمكن فهمه بعيدا عن المضمون الذي يحدث فيه»24 وقد توافر للعديد ما يجعل منه أدبا شعبيا مميزا عن غيره من الأنواع سواء على مستوى البنية الموسيقية، أوعلى مستوى التصوير وحرارة العاطفة، فهو مثال حي لعاطفة متوقدة، فـ «قوة التصوير وقوة التخيل العاطفي تجعله يتمتع بأخص ما يميز الأدب عن غيره... وقد كان نصيب العديد من العاطفة أوفى من نصيب أي أدب آخر في موضوعه، كما أن الميزة الثالثة وهي الحوار المناقشة تضفي عليه رونقا من الحيوية والتشويق»25، مع الاعتراف أن هذا المنظور الجمالي لم يدر بخلد منتجيه أو متداوليه، إذ تظل الوظيفة التواصلية الاجتماعية سابقة على ما عاداها من وظائف العديد، وما كان دخول العديد إلى دائرة الأدب الشعبي إلا من خلال تدوينه ومن ثم قراءته، وما الأدبية إلا محصلة تفاعل لاستجابات القراء للنصوص بأنواعها المختلفة، والشعور وليس الإدراك هو الأداة الرئيسية في فهم الأدب والأدبية، وإذا كان لعنصري السمات الأسلوبية، واستجابة القارئ دور في تشكيل أدبية النص، فإن العنصر الثالث يتعلق بشعور القارئ ومحاولته للتعبير عما يثيره فيه النص من مشاعر، ولذا فالأدبية «نتاج عملية مثاقفة، ترتبط ارتباطا وثيقا بالقدرات اللغوية والتعبير عن المشاعر، والتصور الذاتي»26 وهو ما ينطبق على العديد بصورة بينة. ولم يطرح سؤال أدبية العديد وجماليته إلا بعد أن انفصل عن واقعة الموت في آنيتها، وصار نصا شفاهيا له تاريخ وقابلية للتداول والتنقل؛ ومن ثم درج على سلم الجمالية، من خلال فئة المعددات اللاتي ينفصلن عاطفيا عن الموتى الذين يعددن في جنائزهم، ومن ثم تظهر المنافسة بينهن، حول من منهن أكثر قدرة على تسخين وإثارة أهل الميت، وهذا التنافس ذو جوانب عدة، ما النص إلا واحد منها، ومن ثم نجد أنهن يعملن على استدرار البكاء وتكريس الحزن بشتى الوسائل اللغوية والأدائية، وهنا تبرز الشحنة العاطفية والانفعالية العالية التي يكتنز بها نص العديد، في مرحلة أخرى من مراحل الانفصال عن الواقعة بتاريخيتها. وتداول النص شفاهة في مواقف أخرى مغايرة لسياق إنتاجه وما يترتب على ذلك من اختلاف بين النص والسياق الجديد بصورة تدعو للعجب، إذ تذكر العدودة ما ليس في الميت ولا يخصه، وهذه أولى مراحل تحقق الأدبية، إذ يتعالى النص ويكتسب صيرورة حياتيه فاعلة، ثم مرحلة ثالثة تتعلق بانتقال النص من الشفاهية إلى الكتابية، وتفريغه من الطقسية والأداء ليتحول إلى نص لغوي منبت تماما عن لحظة إنتاجه بوصفه خطابا ليتحول إلى مجرد نص يمكن الحديث عن جماليته اللغوية أو ظلاله الاجتماعية والثقافية المنتجة له. وفي هذه المرحلة تتبدى صعوبة نقل الأداء المصاحب للنص اللغوي المفرغ من عناصر أخرى ضرورية كالصوت والحركة والتنغيم ودور الآلة الموسيقية المصاحبة (الطار). فالعديد من ذلك الأنواع التي تجمع إلى جوار اللغة، وما النص اللغوي إلا جزء من نشاط أكثر سعة، يضم تحت إهابه أنظمة متنوعة إشارية وطقسية وحركية، وإن ظلت المشكلة دائما تتعلق بما يتضافر مع النص اللغوي من أنظمة غير لغوية مصاحبة.

يتضح مما سبق أن السياق له دور أساسي في تحديد أدبية العديد، مع التفرقة بين سياق إنتاجه، وسياق تداوله، ثم سياق تصنيفه وكتابته، ثم سياق أكثر اتساعا هو السياق الثقافي الذي «يشمل شبكة التقاليد الاجتماعية والاقتصادية والمؤسساتيه التي تحكم الثقافة الواحدة»27 فكل خطاب له سياق ثقافي يؤثر فيه على مستوى تحولاته الداخلية وعلى مستوى استمراريته أو وجوده كخطاب مميز.

العدودة والتقاليد الشفاهية

ربما كان من الطبيعي القول «إن كل إرسال شفاهي يتضمن أداء شفاهيا»28، والعدودة فن شفاهي كغيره من فنون الأدب الشعبي، لكنه يختلف عنها في أن شفاهيته خاصة بالنساء، وخصوصا العجائز منهن، ويترتب على ذلك أن تدور شفاهيته في دائرة ضيقة من أفراد المجتمع، وأن يتم تداوله في إطارات جغرافية ضيقة نوعا ما؛ لأسباب اجتماعية تتعلق بوضعية المرأة المصرية إبان القرن العشرين، وما قبله من تهميش وتضييق حركي يحول دون أن يتم تبادل التأثيرات أو تلاقح النصوص وتناصاتها، يضاف إلى ما سبق ارتباط العدودة بأمر جلل بالنسبة للإنسان وأقاربه وهو ما يعني أن العديد نوع مغضوب عليه منذ نشأته، وما كان استمراره إلا بقوة دافعة تتعلق بطبيعة الطقوس المحيطة بالموت والحزن المرتبط به.

إن النوع يتأسس في الثقافة الشفاهية التي لا تمتلك سوى الأصوات على الذاكرة الخطابية، بمعنى أن الخطاب عندما يبسط باعتباره فضاء نصيا يبني لنفسه تدريجيا ذاكرة داخل نصية، وهو في كل لحظة يحيل على ملفوظ سابق، وإن لم تستغله بمجرد الإحالة، في إنها تستغله في إطار بنيته الشكلية والموسيقية، «ذلك أن التشكيلات الخطابية عموما محاطة بذاكرة مزدوجة؛ فهي تمنح لنفسها ذاكرة خارجية باتخاذها مكانا ضمن تناسل تشكيلات خطابية سابقة، وفي مجرى الزمن تنشأ أيضا ذاكرة داخلية بالملفوظات المنجزة سابقا في نفس التشكيلة الخطابية؛ فالخطاب يعتمد إذن على سنة، ولكنه يُشيء شيئا فشيئا سنته الخاصة به»29، وفي هذا الإطار ينبغي «إجراء تمييز بين شفهية ظرفية، تعود ببساطة إلى عدم وجود نظام كتابة وبين شفهية مبدئية لاتنفصل فيها الخصوصية الجنسية عن الكمال الشفهي، وهي التي تحدد الفعل التواصلي»30، والعديد ينتمي إلى النوعين معا، فهو شفاهي بحكم طبيعة متداوليه ومنتجيه، وشفاهي بحكم خصوصيته الجنسية وارتباطه بالأداء الجنائزي، والمعددة أقرب ما تكون إلى الشاعر الشفوي في الاعتماد على «مستودع من القوالب الصياغية، والغناء بلغة متخصصة يكون القالب الصياغي فيها هو الوحدة الصغرى المنفصلة، وليس الكلمات المستقلة»31.

وإذا كان للذاكرة هذا الدور، في حفظ تشكيلات خطابية بعينها، فإن نشأة كل نوع شعبي شفاهي مثل العدودة يرتبط بها، شأنها في ذلك شأن كل جنس من أجناس الخطاب، وما النوع «سوى جزء من الذاكرة الجماعية، وليس مجرد تقاطع للخصائص الاجتماعية والشكلية»32، لذا نجد أن بعض المحفوظات تحفظ وبعضها لا يحفظ، وليست جهات الاحتفاظ بها سوى شيء واحد مع هويتها»33 وما كان ظهور الشلايات (المرأة التي تحترف العديد) إلا حضورا لذاكرة مكتنزة بهذا النوع من الخطاب المفتوح القابل للإضافة بحكم بنيته الموسيقية.

ويمكن القول إن كثيرا من الخصائص النوعية للعدودة ترتبط بطابعها الشفاهي، وما كانت الضرورات الإيقاعية إلا نتاج هذا الطابع. يضاف إلى ذلك أن العديد بحكم ذلك الطابع صار أكثر معيارية وأكثر انسجاما وأقل عرضة للتحولات التي قد نراها في الأنواع الأدبية ذات الطابع الفردي أو الرسمي، فحين نقول العديد فإننا تلقائيا «نعيِّن تعيينا قبليا محتوى الإنتاجات التي تنسب إليها»34، ويتهيأ المتلقي لقبول النوع بكل مقتضياته اللغوية والأدائية التي تحقق كينونته ومنها الضرورات الإيقاعية.

الضرورات الإيقاعية

يكشف فن العدودة عن مجموعة من الضرورات الإيقاعية تتعلق بطبيعة إنتاجها وسياقاتها الاجتماعية والثقافية، وطريقة الأداء، باعتبار أن الأداء هو المعيار المميز للعدودة بوصفها أدبا شفاهيا، وهو الفعل المركب الذي يتم من خلاله نقل العدودة وإدراكها في آن، ويتجسد من خلاله التقاء المتكلم بالمخاطب بالظروف الطارئة، بناء على نموذج سابق، ذلك أن الألفاظ المنطوقة الأدائية لا يمكن أن تنجح سوى من خلال اقتباس، أو من خلال ما أسماه دريدا التكرار inerrability، «فالأداء لا يمكنه أن يؤدي دوره ما لم يكن معرفا بواسطة تطابقه مع نموذج مكرر»35، والبنية الموسيقية للعدودة «تتأسس على وجود المعددة القائدة تختص بترديد الترديدة أو مفتاح العدودة، وقد يعاد ترديدها من الجميع، وهي قاسم مشترك لكل مقطوعات العدودة، وتجمع بين الثبات في أولها والتغير في آخرها ويجري التغيير على قافيتها فقط، وهذا التغيير هو الذي يحدد المتغيرات التالية في المقطوعة»36، ويلاحظ على طبيعة الترديدة أنها جملة غير مكتملة في الغالب، إذ تمامها في الشطر الثاني الذي يقوم الجميع بترديده، فقد يكون المفتاح كلمة واحدة أو أكثر وقد يكون إنشائيا أو خبريا، لكنه في كلتا الحالتين غير مكتمل إلا بما يليه:

قليل الخليفة يدوا عزاه لمين (يدوا/ يعطوا، عزاه/ العزاء، لمين/ لمن)

فالترديدة عبارة عن مضاف ومضاف إليه يشير إلى من مات بدون أن ينجب، لا تحمل دلالة إلا بما واءها حيث يدخل في صيغة سؤال تم تأخير أداة استفهامه لآخر الشطر الثاني(لمين)؛ لأن قليل الخليفة هو البؤرة التي تتمركز حولها كل الأسئلة والأجوبة التي ترد في العدودة، ويأتي الشطر الثاني بمثابة الجواب:

يدوا عزاه لكل مين حاضرين37

وقد تكون الترديدة نداء أو استفهاما على لسان المتوفى أو أمه أو أي فرد من أفراد أسرته. لكنها في كل الأحوال مفتاح يدعوجموع النسوة لإكماله، باعتبارها ضرورة إيقاعية لدفعهن على المشاركة في العديد ومن ثم تصاعد البكاء والنواح بما يحمله من مضامين مؤثرة.

كذا تمثل الخرجة ضرورة إيقاعية أخرى تتناسب مع قفل العدودة، وتصدر بعفوية، وليس ضروريا أن تصدر من المعددة القائد، لكنه بمثابة القفل الختامي للعدودة لتعقبه صرخات النساء، وما يتبعه من طقوس حزن متنوعة.

ويفرض الأداء الجسدي أثره في العدودة - فهي نتاج أداء ولفظ معا- فيما يعرف بالتطويح، ويقال في اللغة «تطَوَّحَ إِذا ذهب وجاء في الهواء»38، ويقصد به في العدودة وفقا لما ذكره درويش الأسيوطي «مد النائحة صوتها بالغناء؛ استعدادا لقفلة المقطوعة. ولذلك يأتي الحرف الذي تمده النائحة في الشطرة ما قبل الأخيرة من المقطوعة... وهو من متطلبات الأداء الغنائي»39. فيما ينسبها عبد الحليم حنفي إلى أن «التطويحة تتمثل في البدء ببضع مقاطع من عديد يتميز بكثرة حروف المد فيه بحيث يسهل مد الكلمات وطول النطق بها فينطقن هذا المد منغما وكأنه تنغيم سلم موسيقي ... ويسمينه التطويح ولعل هذه التسمية ترجمة لمعنى المد، فبين المد والتطويح قرب في المعنى»40 وليس ثمة تناقض بين الرأيين، إذ إن التطويح بناء على معناه اللغوي يعبر عن تمايل الجسد، هذا التمايل يتم وفقا لمقتضيات الأداء، ويكون بمثابة مقدمة تمهيدية لما بعده من عديد، أو خاتمة لعديد وبداية لمقطوعة أخرى. لكنه على أية حال لا ينفصل عن الأداء الجسدي للنائحات، هذا الأداء الشفاهي برافديه اللغوي والجسدي يظهر بوصفه أداء أشاريا متعددا بعمق، ينقل جزءًا محوريا من العمل من خلال تغيير طبقة الصوت، والمد والإمالة ...إلخ إلى جوار الأداء الجسدي، ولذلك لم يكن غريبا أن تلخص لفظة التطويح كليهما في لفظة واحدة.

الصيغ التكرارية

وهي مما أطلق عليه والتر ج أونج «أساليبب تقوية الذاكرة»41، والأدب الشفاهي ذو خصوصية لغوية باعتبار أن الكلمة فيه لا تشكل وحدته الأساسية، بل الصيغة formula وحددها رولان بارت «بمجموعة من الكلمات تستخدم بانتظام في الشروط العروضية المتماثلة، من أجل التعبير عن الفكرة مع الاستعانة بالصيغ التي تم تجذيرها وترسيخها عبر سنوات طويلة في الذاكرة»42، والعديد يحرص على هذا النوع من الصيغ بصورة واضحة، من خلال عبارات قصيرة ذات الإيقاع متوازنة أوجمل متكررة، ويتم التغيير في التقفية، وهي تختلف عن نظام التقفية في القصيدة الفصحى التقليدية، «فالشعر الشعبي يعتمد في التقفية على ما نسميه حركة الحروف وليس أصواتها، فالمهم لدى الشاعر الشعبي هو الفتحة والكسرة والضمة، وحروف المد. فالقافية هي نسق من الفتح والضم والكسر للحروف الأخيرة»43، فنحن أمام إيقاع كمي ظاهري بوظيفتين:

- وظيفة تداولية تسمح بتناقل العدودة في سهولة ويسر.

- وظيفة أدائية تتآزر مع حركات الجسم وتطويح النائحات.

وتنوع التقفية ليس مقصده دفع الرتابة على نحو ما نراه في القصيدة الفصيحة، وإنما هو ضرورة تداولية وأدائية غايته استثارة البكاء، وبالتالي يكون الإيقاع التكراري هو الأداة الأولى لتحقيق المعنى الشعري في العديد، والتأكيد على طبيعته الوظيفية.

زوال النوع ونهايته

ربما صح قول القائل بأن «الشعب يستهلك التراث ولا ينتجه وأن القدرة الشعبية هي قدرة على تداول التراث والمحافظة عليه»44 وعليه فإن بقاء النوع وزواله اختيار مجتمعي تفرضه ظروف شتى، وعلينا أن ندرك أن انقراض نوعٍ ما يمثل عملية معقدة ذات أبعاد اجتماعية وثقافية وتاريخية عديدة، ذلك أن النوع «لا يتحدد فقط بثوابته، بل يتمتع بحقل شاسع من الممكنات التي تختلف وتتغير، وتتعارض أحيانا وتتدافع في مرحلة معينة من وجوده التاريخي»45، وأمر زوال النوع أو تحوله يرتبط بالذاكرة الجمعية للمجتمع، وموقفه من هذا النوع وتلقيه؛ كما أن النوع الأدبي نفسه «يتحدد من عملية الاختيار التي يقوم بها مجتمع ما، بين كافة أشكال التقنين الممكنة للخطاب، ومن ثم يُحدد ما نُطلق عليه الأنواع الأدبية»46.

ويعزو درويش الأسيوطي غياب العديد أوانقراضه إلى عوامل اجتماعية وثقافية عديدة، إذ جاء هذا الغياب في رأيه «نتيجة انتشـار الوسائط الجديدة، وتراجع تقييمنا لموروثنا في ظل الاستلاب الثقافي الحالي، ونعت هذا الإرث الثقافي بشتى صفات التحقير والتدني والجهل. يضاف إلى ذلك ما تواجهه تلك الطقوس من تحديات من قبل فقــهاء الدين ووعاظه الذين يعـدون كل تلك الطقوس بما فيها قصيد العديد حـراما، وآخر تلك الأسباب عندي استعصاء الكثير من تلك المفردات المستخدمة في صوغ تلك الأغنيات الحزينة على غير أبناء المنطقة لانتمـــائها إلى لهجات ضيقة»47

إن العوامل التي أسهمت في زوال النوع متعددة، ومعظمها يدور حول تحولات مجتمعية وثقافية ودينية عديدة طرأت على المجتمع المصري في العقود الأخيرة مما رصده الباحثون، وأشرنا إلى بعضه في سياق دراستنا. إلا أنّا نشير هنا لنقطة لها – فيما نرى- أهمية كبيرة، وأقصد بذلك التدوين والتداول، إذ يتأسس بناء النوع الأدبي عموما في المجتمعات التي تجمع بين الشفاهية والكتابية على أمرين:« شفاهية الإنتاج - كتابية التداول».

وإضافة إلى التحولات السياسية والاجتماعية التي طرأت على المجتمع في أطوار تحوله تمثل سياقا ثقافيا مناوئا للعديد على نحو ما سبقت الإشارة؛ نجد أن الكتابية قد أحدثت تغيرًا في الأنواع الأدبية التي يتم إنتاجها شفاهة، ومنها العديد، فلم تتسق شفاهية الإنتاج مع كتابية التداول ولم يمتزجا في وحدة واحدة، وإذا كانت الكتابية قد لفتت الانتباه إلى أدبية العديد وبنيته المتفردة، فإنها في الوقت نفسه عاينت ذبوله وفناءه، لأن تدوينه وجمعه لا يعني تداوله في الفئات المنغلقة من مثل العجائز والنساء المنتجات لهذا الفن، إنما هوأمر يخص الباحثين والأدباء ممن يعنون بجمع التراث، في حين أن فنانينه ورواته من النساء بعيدات كل البعد عن دائرة الاهتمام، لأسباب شتى، إذ صار التعديد حرفة مكروهة أو مغضوب عليها، وكأن أهل الميت يضطرون إليها اضطرارا، تحت ضغوط مجتمعة طارئة. وهذا يعني أن الكتابية وهي المرحلة الأهم في حياة كل نوع مفقودة، والخيط الواصل بين إنتاج النوع وتداوله مقطوع أيضا، خاصة أن حاملاته من العجائز ممن لا يتقن الكتابة أو القراءة. كذا نلاحظ أن أنواعا أدبية أخرى ترتبط بالحياة لا الموت نالت اهتماما متزايدا من الدولة المصرية إبان المد القومي، فانبرى المختصون للاهتمام به وبعثه وحفظه على نحو ما رأيناه في الموال والحكاية الشعبية والمثل وتسجيله ودراسته، فيما كان العديد بعيدا عن هذه الدائرة، لنفور المختصين منه من ناحية وطبيعته الفنية والتداولية من ناحية أخرى.

ووقوع العدودة في دائرة الشفاهية المحضة لمدة ممتدة، يجعلها مرتبطة بالتقاليد الشفاهية، والتي تعني فيما تعني التفاعل المباشر بين(المؤول – المؤلف) والجمهور بوصفه مراقبا بالدرجة الأولى وحافظا للأعمال: «إن العمل الذي لا يتناسب مع مطالب الجمهور يكون ممنوعا مباشرة ( في حالة انقطاع يقوم بها الجمهور) أولا تكون الذاكرة الجماعية قد أعادت أخذه، وبهذا لا يتم الاحتفاظ به. ولا يبقى في الحالتين إلا الذي يلقى قبول جماعة التلقي»48 وهذا ما يفسر انقراض النوع لا اعتراضا على معانيه ولا موسيقاه، وإنما على الأداء الشفاهي وما يتبعه من طقوس رفضها الدين في أكثر من حديث نبوي، ولأن هوية العدودة لا ينفصل فيها الأداء عن الملفوظ؛ لذا تم إسقاط التحريم على كليهما معا مما عجل بزوالها.

الهوامش

1. تزيفتان تودروف، ميخائيل باختين: المبدأ الحواري، ت: فخري صالح، المؤسسة العربية للدرسات والنشر، ط2 بيروت 1996، ص159

2. رالف كوهين، النوع والتاريخ، ضمن كتاب القصة الرواية ، المؤلف، دراسات في نظرية الأنواع ، ت خيري دومة، دار شرقيات ، ط1 القاهرة، 1998، ص 28

3. عبد المنعم تليمة، مقدمة في نظرية الأدب، الهيئة العامة لقصور الثقافة، ط 1 القاهرة 1997م، ص173،174.

4. جان ماري شافير، ما الجنس الأدبي، ت غسان السيد، اتحاد الكتاب العرب، ص11

5. بيير زيما، النقد الاجتماعي. نحو علم اجتماع للنص الأدبي، ت عايدة لطفي، دا ر الفكر للدراسات والنشر، ط1 القاهرة 1991، ص64

6. انظر تفصيل ذلك في ، مقدمة في دراسة التراث الشعبي المصري، لمحمد الجوهري مطبوعات مركزالبحوث والدراسات الاجتماعية، كلية الآداب جامعة القاهرة، ط1، 2006، ص44

7. محمد حسن عبد الحافظ - الشعر مدينة خربانة؛ السيرة الشعبية وقضايا النوع الأدبي الشعبي، مجلة الفنون الشعبية، ع62،63، يناير2003م

8. محمد الجوهري، مقدمة في دراسة التراث الشعبي المصري، مطبوعات مركزالبحوث والدراسات الاجتماعية، كلية الآداب جامعة القاهرة، ط1، 2006، ص80

9. مارفن كارلسون، فن الأداء، مقدمة نقدية، ت منى سلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ، 2010، ص123

10. عبد الحليم حفني، المراثي الشعبية( العديد)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط3 القاهرة، 1998، ص 10

11. أوزوالد ديكرو، جان ماري شفير، القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان،ت منذر عياشي المركز الثقافي العربي، ط بيروت، ص553

12. انظر فن الحزن لكرم الأبنودي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 1996م

13. انظر درويش الأسيوطي في كتابه أشكال العديد وقد أشار المؤلف ببراعة لكثير من تلك المسميات التي حدد بناء على تاريخها تاريخ نظم العدودة، وجلها لا يتجاوز القرن التاسع عشر بحال من الأحوال.

14. تودروف، ميخائيل باختين ، المبدأ الحواري، م سٍ، ص157

15. أوزوالد ديكرو، جان ماري شفير، القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان، م س، ص550

16. جان ماري شافير، ما الجنس الأدبي، ت غسان السيد، اتحاد الكتاب العرب، ص51

17. لسان العرب، مادة ، ندب، ص4380

18. لسان العرب، مادة ، شلا ص2319

19. لسان العرب، مادة عدد، ص2834

20. أوزوالد ديكرو، جان ماري شفير، القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان، م س، ص557

21. السابق، ص253

22. السابق، ص202

23. عفاف بطانية ، النصوص وسياقاتها، دراسة في الأدبية والأيديولوجيا والخطاب، مجلة فصول، ع58، شتاء 2002،ص63

24. مارفن كارلسون، فن الأداء، مقدمة نقدية، ت منى سلام، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 2010، ص119،

25. عبد الحليم حفني، المراثي الشعبية، م س، ص278

26. ? Empirical traces of reading What is literariness Miall and Don Kuiken : David S

- Paper presented at the VIth Biannual IGEL Conference, Utrecht, August 1998 p.26-29,

27. عفاف بطانية، النصوص وسياقاتها، دراسة في الأدبية والأيديلوجيا والخطاب، مجلة فصول، عددد58، شتاء 2002، ص58

28. أوزوالد ديكرو، جان ماري شفير، السابق، ص551

29. باتريك شارودو، دومينيك منغنو، معجم تحليل الخطاب، ت عبد القادر المهيري، حمادي صمود، المركز الوطني للترجمة، تونس،2008، ص361

30. جان ماري شافير، ما الجنس الأدبي، ت غسان السيد، اتحاد الكتاب العرب، ص65

31. جيمس مونرو، النظم الشفوي في الشعر الجاهلي، ت فضل بن عمار العماري، دار الأصالة للثقافة والنشر، الرياض 1987، ص27

32. 32 تودروف، باختين : المبدأ الحواري، م س، ص160

33. معجم تحليل الخطاب، السابق، ص361

34. إيف ستالوني، الأجناس الأدبية، ت محمد الزكراوي، المنظمة العربية للترجمة، ط1 بيروت 2014، ص21

35. مارفن كارلسون، فن الأداء م س، ص116.

36. درويش الأسيوطي، السابق، ص35

37. درويش الأسيوطي، السابق، ص198

38. لسان العرب، مادة طوح، ص2717

39. درويش الأسيوطي، السابق، ص51

40. عبد الحليم حفني، السابق، ص17

41. والتر ج. أونج، الشفاهية والكتابية، ص94

42. رولان بارت، النقد والحقيقة، ت إبراهيم الخطيب، مجلة الكرمل، ع11 1984، ص32

43. درويش الأسيوطي، م س، ص41

44. محمد الجوهري، التراث الشعبي في عالم متغير قراءات تأسيسية( مجموعة دراسات) مطبوعات مركز البحوث والدراسات الاجتماعية كلية الآداب جامعة القاهرة، ط1، 2002، ص15

45. 45 ميشال كلوفينسكي، ت ياسين ساوير منصوريمجلة نوافذ ع38،ص51 جدة2007

46. 46 Carolyn R. Miller : Genre as Social Action. Quarterly Journal of Speech ((May1984.) p :151-167

47. درويش الأسيوطي، السابق، ص5

48. أوزوالد ديكرو، جان ماري شفير، القاموس الموسوعي الجديد لعلوم اللسان، م س، ص549

الصور

- الصور من الكاتب

أعداد المجلة