الموسيقى الشعبية القديمة بالبلاد التونسية بين الهيدونية والعقلانية: دراسة تاريخية توثيقية
العدد 45 - موسيقى وأداء حركي
في بداية هذه الدراسة، كان هاجسنا الأوّل هو عملية التوثيق للممارسة الموسيقية الشعبية القديمة خلال الفترتين البونية والرومانية بالبلاد التونسية، وكان تخوّفنا الأساسي هو السقوط في فخّ التوثيق للممارسة الموسيقية التي تأتيها الفئات الاجتماعية العليا دون سواها، في تغييب كلّي أو شبه كلّي للممارسة الموسيقية لدى العامة في مختلف مناطق البلاد، وهذا التخوّف «المعرفي» نعتبره مشروعا خاصّة إذا ما دقّقنا النظر في مختلف الوثائق التاريخية الإغريقية والفارسية والعربية على وجه الخصوص، فإننا نجدها لم توثّق إلا الموسيقى «الرسمية» التي تتبناها «السلطة» في مختلف أشكالها كالسلطة الدينية والسلطة الحاكمة وغيرهما دون التعرّض إلى الممارسات الموسيقية التي تأتيها العامة وتوثيقها ودرس أنظمتها الموسيقية وآلاتها وطرق عرضها والاستفادة منها لإثراء المادة الموسيقية معرفيا ومنهجيا.
ولتجاوز هذه «المخاوف المعرفية»، ارتأينا أن نتناول هذه المسألة الموسيقية باعتماد مقاربات ومناهج هي تاريخية وحضارية بالأساس، لكن تناولنا لها كان بطريقة مستحدثة مبنية على الملاحظة والتصنيف واستقراء مختلف أنواع الوثائق المكتوبة والمرسومة والمشيّدة وكذلك مختلف الوثائق الأيقنوغرافية ونقدها، وهي بالأساس المنهجيات الحديثة المعتمدة في مباحث علم الآثار الموسيقي والأنثروبولوجيا الموسيقية والإثنوموسيقولوجيا.
وخلال تحليلنا لمختلف الوثائق النصية والأيقنوغرافية، التي تحصلنا عليها لتعميق فهمنا للممارسة الموسيقية الشعبية خلال الفترتين البونية والرومانية، لاحظنا أن المسألة الموسيقية خلال هاتين الفترتين تراوحت بين الممارسة الهيدونية1 المبنية على مبدإ التلذذ والتنعّم والترفيه، والممارسة العقلانية2 الواعية الموجهة للشأن التعليمي والتكويني في الموسيقى بطريقة منظّمة، ومن هنا ارتأينا أن نقسّم هذا البحث حسب الفترات التاريخية محور الدرس (البونية والرومانية)، ومن خلال ذلك نبين أهم ما كتبه المؤرخون الأفارقة (السكان الأصليون للبلاد التونسية) وكذلك إبراز أهم الآلات الموسيقية ومجالات استعمالاتها حتى ندرك واقع الممارسة الموسيقية الشعبية في هاتين الفترتين في بعديها الهيدوني والعقلاني، وسنعتمد في ذلك على الصور المجسّمة لمختلف الوثائق الأيقنوغرافية من رسوم جدارية ولوحات فسيفسائية ورسوم على الصفائح العاجية والتماثيل الفخارية المتوفرة في مختلف متاحف البلاد التونسية قصد الاستدلال والتوثيق.
ملامح الممارسة الموسيقية الشعبية خلال الفترة البونية (814 قبل الميلاد – 146 قبل الميلاد)
لدراسة مختلف أشكال الممارسة الموسيقية بالبلاد التونسية خلال العهد البوني، لا بد من الرجوع إلى المصادر التاريخية بمختلف أنواعها التي توثق جملة الأنشطة والآلات الموسيقية المستعملة والتكوين الموسيقي في هذا العهد، وأهمّ هذه المصادر هي المصادر المكتوبة، لكن أغلب المؤرخين لهذا العهد وأغلبهم من الإغريقيين اللاتينيين لم يتعرضوا في كتاباتهم التاريخية إلى الفنون والموسيقى، وأهم المصنفات المؤرخة لهذا العهد نذكر كتاب «التاريخ» لهيرودوت (484 ق. م. – 420 ق. م.) وكتاب «السياسة» لأرسطو (384 ق. م. – 322 ق. م.) وكتاب «التاريخ» لبوليبيوس (200 ق. م. – 120 ق. م.) وكتاب «تراجم مشاهير الرجال» لكرنليوس نيبوس (100 ق. م. – 24 ق. م.) وكتاب «المكتبة التاريخية» لديودورس الصقلي Diodore de Sicile (90 ق. م. – 20 ق. م.) وكتاب «التاريخ الروماني» لتيتوس لييوس Tite Live (59 ق. م. – 17 م.) وكتاب «التاريخ الروماني» لآبيانوس الأسكندراني Appien d’Alexandrie (القرن 2 م.) وكتاب «ملخص تاريخ العالم» ليوستينوس Justin (القرن 2 م.) 3 .
إن المتأمل في هذه الكتابات التاريخية وغيرها يلاحظ ارتباط الممارسات الموسيقية في العهد البوني بالممارسات الدينية الطقسية المرتبطة بمختلف الآلهات وطرق التعبد، وبما أن الممارسات الدينية الطقسية تمس كل الشرائح الاجتماعية والعمرية فإن الممارسة الموسيقية هي الأخرى تأتيها كل الطبقات والفئات، ولم يقتصر حضور الموسيقى في المجتمع البوني على الممارسة الطقسية فقط بل تعداه أيضا إلى التكوين والتعليم.
1) التكوين الموسيقي بالبلاد التونسية في العهد البوني:
تعتبر شخصية صفنبعل Sophonisbe ابنة عزربعل Hasdrubal أحد سياسيي قرطاج أحسن مثال يمكن درسه لمعرفة مدى اعتناء البونيين بالجانب التكويني في الميدان الموسيقي، ذلك أن صفنبعل كانت قد تلقت تكوينا جيدا في الموسيقى والرقص علاوة على تكوينها الأدبي وإجادتها لغات عصرها وثقافتها الواسعة4. ومن هنا يمكن لنا أن نفترض وجود مختصين في التكوين الموسيقي يعتنون خاصة بأبناء الطبقات الاجتماعية العليا، كما نفترض أيضا وجود مدارس تعليم الموسيقى للفئات الاجتماعية الأخرى وهو ما يفسر انتشار القيان والعازفين المحترفين في مختلف فضاءات اللهو والتسلية والخمارات.
أما اعتناء الطبقات الاجتماعية العليا بالتكوين الموسيقي لأبنائهم خلال الفترة البونية فإنه يزيدنا قناعة بأهمية التأثيرات الخارجية على القرطاجيين وخاصة منها المؤثرات الفكرية لحضارات البحر الأبيض المتوسط الفينيقيين والإغريق وغيرهم، ذلك أن أبرز أعلام الفكر والسياسة الإغريق هم أول من أعطوا الموسيقى بعدا فكريا ومتنفسا معرفيا بعيدا عن كل مظاهر التنعم والتلذذ وكل أشكال الهيدونية، فنجد مفهوم التربية الموسيقية في بعدها الإيطيقي مع دامون الأثيني، وهو رجل سياسة إغريقي5 رأى في الموسيقى إصلاحا للناشئة لما لها من وقع كبير في نفوسهم وفي ذلك إقرار بأهمية الموسيقى وشرعيتها كمنطلق لمقاربة مثالية في وجودها المجتمعي.
ولدامون الأثيني السبق في تناول المثل والتربية الموسيقية قبل أفلاطون (428 ق.م. – 347 ق.م.) الذي أعطى للموسيقى بعدا تربويا ومتنفسا معرفيا ودلاليا وفلسفيا بحيث يمكنها أن ترتقي إلى مصاف الإدراك المطلق والجمال: جمال الفضيلة وحسن التدبير. وقد جعل أفلاطون الموسيقى أداة تربوية بإدراجها ضمن الرابوع المعرفي «quadrivium» أساس تربية الناشئة والذي يتكون من الرياضيات والهندسة والفلك والموسيقى، وبذلك فهو يتدرج بالموسيقى مدرج التعاليم التأسيسية في المجتمع الإغريقي، وينحو بذلك منحى الفضيلة والأخلاق كقيمة اجتماعية مطلقة. ومن هنا يبرز الدور المثالي للموسيقى خاصة من الناحية التربوية، ذلك الدور الذي يحمل في طياته حثا للمجتمع على إتيان الفضيلة والسمو إلى الأدب والكمال حتى تكتمل معالم المدينة الفاضلة التي يسعى إلى إنشائها.
2) الممارسات الموسيقية في المجمع الكهنوتي القرطاجي:
يعمل المجمع الكهنوتي على تسيير الحياة الدينية والممارسات الطقسية خلال العهد البوني، وهناك العديد من النقائش والشواهد القبرية التي عثر عليها بقرطاج مذيلة بأسماء جملة من الكهان رجالا كانوا أو نساء ومعلومات حول ترتيبهم الاجتماعي والآلهة التي كانوا يخدمونها6. ومن بين الذين ورد ذكرهم في هذه النقائش والذين ينتمون إلى المجمع الكهنوتي نجد سدنة المعابد الموسيقيين الذين كانوا من الأحرار وكان بعضهم من النساء وكانوا يعيشون حول المعابد، ونجد أيضا كاهنات قرطاج الموسيقيات حسب الحفريات الأثرية التي قام بها الأب ديلاتر ومن بعده بول غوكلار في أواخر القرن التاسع عشر والتي أثبتت وجود العديد من بقايا الآلات الموسيقية بقبور الكاهنات حسب ما تدل عليه النقائش القبرية وأغلب هذه الآلات هي الكوسات المعدنية التي يقرعها عادة الكهان المخصيون وهم يطوفون بتمثال الآلهة والنواقيس.
«فقد استخرج ديلاتر من قبر الكاهنة جر ملقرت السابقة الذكر كوسات من البرنز وناقوس معدني صغير وفي قبر آخر ناقوسا معدنيا مربوطا من طرفه بسلسلة. كما كشف في أوتيكة قبر يحتوي رفات كاهنة متزينة بحلي وقد دفن معها كوسات متكون من صحنين معدنيين مربوطين بسلسلة إلى جانب ناقوس برنزي لازال محتفظا بمطرقته الرنانة»7.
ويشير الباحث محمد حسين فنطر إلى أن هذه الآلات الموسيقية المعدنية الموجودة في قبور الكاهنات تلعب دور تعويذات صوتية لها وظائف التمائم والطلاسم وهي «الأدوات التي بصوتها تزعج الشياطين فينصرفوا [هكذا]8 بعيدا عنها.»9 ومن هنا نتبين مدى ارتباط الموسيقى في العهد البوني بالممارسات الطقسية، إذ هي وسيلة للتقرب من الآلهة وتستخدم كأداة كهنوتية لاستجداء الآلهة والالتحام بها عن طريق الغناء ومختلف أنماط الرقص ومحاباتها بالقرابين المصاحبة بالأنغام والألحان وإبعاد القوى الشريرة بإزعاجها بقرقعة النواقيس وتصدية الكوسات.
لئن أشارت أغلب المصادر النصيّة المكتوبة إلى تحرك أغلب الممارسات الموسيقية خلال العهد البوني في المجال الديني الطقسي، فإن استقراء بعض الوثائق الأيقنوغرافية تحيلنا مباشرة على تحرك الممارسات الموسيقية في الأنشطة الدنيوية أيضا، فنجد الموسيقى مرتبطة بالتسلية والمآدب والمجالس الخمرية والألعاب الرياضية والفرجوية والمسابقات الموسيقية والعروض المسرحية وغيرها من الأنشطة التي تقوم على مبدإ التنعم والتلذذ وكل مظاهر الهيدونية، وهناك جملة من الوثائق الأيقنوغرافية المعروضة بمتاحف باردو وسوسة ولمطة تحيلنا على أهمية الممارسة الموسيقية في المجال الدنيوي من ذلك الرسوم على الصفائح العاجية التي عثر عليها ضمن الحفريات الأثرية بقرطاج 10، واستقراء هذه الوثائق التاريخية تحيلنا أيضا على مدى تأثر الأنشطة الموسيقية الدنيوية في الفترة البونية بالحضارة الإغريقية وتعابيرها الجمالية ومختلف مقوماتها الفكرية.
3) الآلات الموسيقية بالبلاد التونسية في العهد البوني:
أثبتت الحفريات الأثرية بمختلف المناطق بالبلاد التونسية وجود عدة آلات موسيقية كانت مستعملة خلال الفترة البونية، ومجمل هذه الآلات كانت تستخدم في المجالات الدينية والمجالات الدنيوية، وهي آلات إيقاعية وهوائية ووترية.
أ- الآلات الإيقاعية:
الصنّاجات: وهي الكوسات (جمع كوس)، ومفرد صناجات: صَنْجٌ. إن ملاحظة أغلب الصناجات التي عثر عليها في مختلف الحفريات الأثرية بالبلاد التونسية تتمثل في صحنين قليلي التقبّب في كل صحن منهما حلقة تمكن العازف من إدخال إصبعه لتيسير عملية المسك أثناء التوقيع.
النواقيس: مفردها ناقوس وهو الجَرَس أو الجُرَيّـِس. يوجد بمتحف قرطاج 35 عينة أصلية من النواقيس المصنوعة من النحاس أو البرنز وكلها من الحجم الصغير، إذ يصل ارتفاع أغلبها إلى 4 صم. ويبلغ قطر فوهة الناقوس 2.8 صم.
الدفوف: وهي جمع دفّ، من عائلة الآلات الإيقاعية ذات الغشاء، ويعتبر الدف من أكثر الآلات الموسيقية وجودا على المحامل الأثرية القرطاجية، وغالبا ما يكون الدف مشخصا بيد دمى (تماثيل) صغيرة من الطين المفخور تشكلت على هيئة عازفات يمسكن بدف. كما نجد صفيحة عاجية تجسد عازفة دف. والدفوف في العهد البوني على نوعين: الدفوف الصغيرة والدفوف الكبيرة.
ب- الآلات الهوائية:
يعتبر تعدد ووفرة المشاهد الأيقنوغرافية القرطاجية التي تجسد آلة المزمار المزدوج دليلا واضحا على كثرة استعمالها وانتشارها بالبلاد التونسية خلال العهد البوني.
ويبدو من خلال استقراء مختلف الشواهد الأيقنوغرافية المتوفرة بالبلاد التونسية والتي تعود إلى الفترة البونية أن استعمال المزمار المزدوج كان في مختلف الأغراض الدنيوية ولكن يبقى المجال الديني والممارسة الطقسية هي المجال الأوسع لاستعمال هذه الآلة خاصة في مراسم تقديم القرابين 11 .
ج- الآلات الوترية:
إن المتأمل في جملة الشواهد الأيقنوغرافية الخاصة بالآلات الوترية التي تحصلنا عليها من الحفريات يلاحظ تعدد آلات الكنارة وانتشارها في أكثر من منطقة بالبلاد التونسية في مقابل غياب آلة الجنك التي كانت مستعملة في نفس الفترة بإيطاليا عند الفينيقيين. ويفسر بعض الباحثين غياب هذه الآلة كشواهد أيقنوغرافية بعدم الاعتراف بها كآلة رسمية من الضروري استخدامها في المناسبات الدينية والممارسات الطقسية، ولعل أكثر الأدلة التي تساند هذا الرأي هو استعمال الجنك من قبل القيان المحترفات اللواتي كن يعزفن في الخمارات والملاهي ولم يستعمل الجنك في الممارسات الطقسية كالدفوف والصناجات والمزامير المزدوجة 12. والكنارة البونية هي آلة وترية تشبه القيثارة الإغريقية في شكلها لكنها تتميز عنها بالمادة التي تصنع منها، إذ أثبتت الشواهد الأيقنوغرافية أن الكنارة البونية تصنع عادة الرقبة من قرون الوعول والغزلان بينما تستعمل هذه القرون في الكنارة الفينيقية لصناعة المقبض فقط وهو ما يؤكده المؤرخ هيردوت في كتابه «التاريخ» 13 . والكنارة البونية وجدت على شكلين مختلفين: الكنارة المستطيلة والكنارة المقوسة.
ونظرا إلى هذه المعطيات، فإن الممارسة الموسيقية بالبلاد التونسية خلال الفترة البونية قد تراوحت بين النزعة الهيدونية المبنية على مبدإ التلذذ والتنعم والترفيه والممارسة الطقسية التعبدية وبين النزعة العقلانية المبنية على التوظيف الواعي للمسألة الموسيقية خاصة في مجال التعليم والتكوين، ويبرز ذلك جليا من خلال:
تعدد الآلات الموسيقية وانتشارها وتنوعها: آلات إيقاعية وهوائية ووترية.
تعدد تقنيات العزف على مختلف الآلات الموسيقية.
اعتناء مختلف الطبقات الاجتماعية بالتكوين الموسيقي.
تعدد المناسبات التي يكون للممارسة الموسيقية فيها حضور بارز من مناسبات اجتماعية دنيوية ومناسبات دينية طقسية.
ممارسة مختلف أفراد المجتمع الموسيقى، سواء الموسيقى الدينية الطقسية أو الموسيقى الدنيوية التي تبعث على الهيدونية أو حتى الموسيقى ذات الأبعاد الفكرية العقلانية.
انتشار الفضاءات المعدّة للتسلية والترفيه التي يكون حضور الموسيقى والموسيقيين من عازفين وقيان حضورا بارزا.
تفتح البونيين القاطنين بالبلاد التونسية على مختلف الحضارات المتوسطية الأخرى كالفينيقيين والإغريق وتأثرهم بها وتأثيرها فيهم. ولعل وجود شواهد أيقنوغرافية في مدينة بومباي الإيطالية متضمنة لنفس الآلات الموسيقية المستعملة في البلاد التونسية خلال الفترة البونية لخير دليل على تفتح السكان الأصليين على مختلف التيارات الفكرية والفنية للحضارات التي تزامنت معها. وهذا الأمر ليس بغريب على أهالي هذه البلاد الذين يتميزون بالتفتح وعدم التقوقع، فقد أثبتت جملة من الدراسات التاريخية أن البونيين بالبلاد التونسية لم يقطعوا المعاملات التجارية مع الفينيقيين خلال فترة الحروب البونية الفينيقية (264 ق. م. – 146 ق. م.) وأن التفاعل الثقافي بينهما لم يخمد بل تبلور في ضوء وجود جاليات أجنبية إغريقية تفاعلت مع المجتمع القرطاجي14.
ملامح الممارسة الموسيقية الشعبية خلال الفترة الرومانية (146 قبل الميلاد – 439 ميلادي):
سقطت قرطاج البونية على أيدي الرومان سنة 146 ق.م. وصارت إفريقية (البلاد التونسية) ولاية رومانية (إفريقيا الرومانية) تعرف بمطمور روما إذ كانت تزود روما بالحبوب. وقد سكنها المستوطنون الرومان وهُمّش السكان المحليون فرضخ البعض إلى سلطة المحتل بينما اختار البعض مقاومة العدو المحتل ومجابهته. ومنذ بداية القرن الثاني الميلادي اندمج السكان الأصليون في الحضيرة الرومانية وعمّ الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي البلاد وتبنى الأهالي ثقافة الرومان وتقلد بعضهم مراتب سياسية وعسكرية عليا وعمّ الرخاء على إفريقية وبرزت المعالم الحضارية التي نلاحظها الآن من خلال البقايا الأثرية الشاهدة على مدى البذخ الذي عاشته أغلب الطبقات الاجتماعية في الفترة الرومانية بالبلاد التونسية، الأمر الذي أدى إلى إشعاع قرطاج من جديد كعاصمة علمية وثقافية. ومما يؤكد سرعة ذوبان السكان الأصليين في ثقافة المحتل ومعتقداته هو اعتناق الأهليين للديانة المسيحية على الرغم من حملات الاضطهاد التي لاحقت المسيحيين وأراقت دماء العديد من معتنقي العقيدة الجديدة من الأفارقة (السكان الأصليين للبلاد). وتبعا لهذا الذوبان على مستوى العقيدة، فإننا نتساءل عما إذا كان السكان الأصليون قد تبنوا أيضا مختلف الممارسات الموسيقية الرومانية التي جاءت مع المحتل وهل تنكروا للموسيقى المحلية بكل مقوماتها الدلالية والفكرية والحضارية.
لدراسة الممارسة الموسيقية الشعبية خلال الفترة الرومانية بالبلاد التونسية ارتأينا أن نعود في البداية إلى الشواهد النصية المكتوبة المؤرخة لهذه الفترة. وعلى عكس الفترة البونية فإن المصادر التي كتبها الأفارقة تعتبر متوفرة بكثافة ولعل ذلك يعكس في مرحلة أولى مدى اهتمام الرومان بالتوثيق الموسيقي وتبعا لذلك بالممارسة الموسيقية. وكثافة المصادر المكتوبة للأفارقة تجعلنا قادرين على إيجاد معلومات أكثر تهم الممارسة الموسيقية في العهد الروماني على الرغم من ندرة المصادر المختصة في هذا المبحث. ومن بين المصادر التي اهتمت بالممارسة الموسيقية نذكر:
كتاب: أبولوجيا «Apologia» أي التبرير ألفه أبوليوس Apulée وهو لوقيوس أبوليوس Lucius Apuleius ولد سنة 125 ميلاديا بمدوروس «Madauros» مدوروش حاليا شرق الجزائر توفي سنة 180 ميلاديا. والكتاب عبارة على نص للمرافعة التي كتبها للدفاع عن نفسه في محكمة صبراتة من تهمة تعاطي السحر لإغراء أرملة كان قد تزوجها في طرابلس، وإلى جانب أهمية الكتاب الأدبية، فللكتاب قيمة تاريخية إذ يقدم عدة معلومات حول المجتمع الإفريقي في القرن الثاني ونجد فيه أيضا بعض المعلومات الخاصة بالموسيقى وممارستها في الطقوس وعلاقتها بالمعتقدات المحلية للسكان الأصليين 15 .
كتاب دي سبقتاقوليس «De spectaculis» أي العُروض وهو أحد أهم مؤلفات ترتليانوس Tertullien وهو قوينطوس سبتيموس فلورنس ترتليانوس Quitus Septimius Florens Tertullianus ولد وعاش في قرطاج بين سنتي 155 و225 الميلاديتين. والكتاب يحمل عدة معلومات قيمة تؤرخ للموسيقى والموسيقيين بولاية إفريقيا الرومانية وخاصة عاصمتها قرطاج من ذلك وصف مختلف العُروض وتصنيفاتها والبحث عن دلالاتها وكيفية إقامتها. ويقدم لنا الكتاب أيضا صورة للحركية الفنية وعلاقتها بالسلطة العليا ومختلف طبقات المجتمع 16.
كتاب دي سبقتاقوليس «De spectaculis» أي العُروض الذي ألفه قيبريانوس القرطاجي Saint Cuprien De Carthage وهو تسقيوس قيسيليوس قيبريانوس Thascius Caccilius Cyprianus ولد بقرطاج سنة 200 واشتغل بها خطيبا ومحاميا أُعدم سنة 258 ضمن الحملة التي شُنت ضد المسيحيين، والكتاب يعتبر مصدرا قيما لتأريخ الحركة الفنية والموسيقية بولاية إفريقيا الرومانية في القرن الثالث الميلادي على الرغم من أن الكاتب عمل من خلال الفصول الستة من الكتاب على وعظ سكان قرطاج بتجنب حضور العروض والألعاب لأنها تتنافى مع مبادئ الدين المسيحي 17.
كتاب ضد الوثنيين «Adversus nationes» للكاتب أرنوبيوس Arnobe ولد سنة 260 وتوفي سنة 327 اشتغل مدرسا لفنون الخطابة في سيقا وناريا «Sicca Veneria» الكاف حاليا، وقد ألف هذا الكتاب بين سنتي 304 و312 وقد احتوى على العديد من المعلومات الخاصة بالممارسات الموسيقية المقترنة بالممارسات الطقسية للوثنية، كما يُبرز الكتاب الحراك الفكري والأدبي والفني للزمن الذي عاش فيه الكاتب.
كتاب «De Musica»، «رسالة في الموسيقى» «Traité de la musique» الذي ألفه أوغسطينوس Saint Augustin وهو أورليوس أوغسطينوس Aurelius Augustinus ولد بتغست «Thgaste» سوق هراس حاليا سنة 354 وتوفي بهيبونا عنابة حاليا سنة 430. يعتبر أوغسطينوس - حسب علمنا - المؤرخ الوحيد من الأفارقة الذين خصّوا الموسيقى بكتاب في شكل محاورة بين معلم وتلميذه تعرض من خلال فصوله المتعددة إلى ماهية الموسيقى وعلاقتها باللغة، كما تعرض إلى الإيقاعات والألحان وتجاوز مفهوم الموسيقى عنده حدود التطبيقات الفنية إذ يراها معرفة نظرية فيها جملة من المعادلات الرياضية وتقوم على التناسق المستمد من المنطق العددي الذي بواسطته يُدرك العقل جمالية الموسيقى وتطرب الأذن لسماعها. كما بحث الكتاب في قواعد العَروض والإيقاعات الشعرية وعلاقتها بالمقاطع الصوتية للجمل وفيه ربط بين الشعر والموسيقى. كما عالج الكتاب مسألة الفروقات الجوهرية بين الإيقاع والعروض، وتعرض أيضا إلى علم الهرمونيقا والنسب العددية للأبعاد الموسيقية.
كتاب دي نيوبتيس فيلولوجيا آت مارقوريي «De nuptiis Philologiae et Mercurii» أي أعراس فقه اللغة والمرقوريوس للكاتب مرتيانوس كبلا Martianus Capella وهو مينيوس فليكس كبلا Martianus Minneus Felix Capella ولد بقرطاج وعاش فيها قبل سنة 439. خُصص الجزء الأخير من الكتاب للتعريف بعلم الموسيقى متعمقا في شرح النظرية الموسيقية الإغريقية التي تجعل من الموسيقى مكونا أساسيا للرابوع المعرفي دون الإتيان على ذكر الأنماط الموسيقيّة الرائجة في عصره.
إلى جانب دراسة المصادر المكتوبة التي تناولت الممارسة الموسيقية خلال الفترة الرومانية بالدرس ارتأينا أن ندرس أيضا مختلف الشواهد الأثرية من فضاءات عروض ووثائق أيقنوغرافية في محاولة منّا لفهم الوضع العام للموسيقى والموسيقيين، وبناء على ذلك تتشكل لدينا صورة تكون أكثر وضوحا حول الممارسة الشعبية للموسيقى بالبلاد التونسية خلال هذه الفترة.
1) فضاءات العروض:
تعتبر البلاد التونسية من أهم المناطق المتوسطية التي تحتوي على فضاءات عروض تعود إلى الفترة الرومانية، وكثافة هذه الفضاءات وتنوعها تحيلنا على مدى اعتناء الرومان والأفارقة بالموسيقى والعروض المسرحية والألعاب الرياضية التي تعتمد الموسيقى وكل هذه المعطيات تحيلنا بدورها على الممارسة الموسيقية الشعبية المتأثرة بمختلف حضارات البحر الأبيض المتوسط. والمسارح الرومانية بالبلاد التونسية تصنف إلى نوعين: المسارح المغطاة والتي تعرف بالأوديون والمسارح الدائرية:
أ - المسرح المغطى: الأوديون
تعني لفظة أوديون «Odien» في اللغة الإغريقية الغناء21، والأوديون «odéon» هو صرح معماري مخصص لاستماع الموسيقى استماعا جيدا. ويتميز الأوديون عن بقية الفضاءات المخصصة للعروض بكونه فضاء مسقفا معزولا عن كل المؤثرات الصوتية الخارجية، ويرجح أغلب المؤرخين أن استحداث هذه النوعية من الفضاءات فرضتها جملة من العوامل لعل أهمها ضعف صوت أغلب الآلات الوترية المستعملة في الفترة الرومانية وكذلك بدافع مقتضيات المسابقات الخاصة بالعزف والغناء التي كانت تقام في ذلك العهد والتي كانت تتطلب إصغاء جيدا لتحقيق النزاهة في التقييم2 2. وتضم قرطاج أكبر أوديون في العالم الروماني وقد بناه الإمبراطور سبتيموس سويروس في القرن الثالث لتقام فيه ألعاب بيثيا23 وقع تهديمه من طرف الوندال ولم يبق منه سوى بعض الأعمدة والتماثيل التي تشهد على مدى ضخامته. وعلى الرغم من قلة المعلومات حول هذا الأوديون القرطاجي فإن سعة حجمه التي تجعل منه أكبر فضاء مغلق مخصص لسماع الموسيقى وإقامة المسابقات الموسيقية في العالم القديم هو تأكيد على مدى اهتمام الرومان والسكان الأصليين للبلاد التونسية بالموسيقى والممارسة الموسيقية الشعبية تنفيذا وتقبلا.
ب - المسرح الدائري:
أقيمت خلال الفترة الرومانية عدة مسارح دائرية وهي على نوعين، فمنها ما شُيِّد على هضبة أو جزء من هضبة ومنها ما شيد على أرض منبسطة لإقامة ألعاب مصارعة الجلادين وقنص الحيوانات البرية وذلك لتعويض الفضاءات المفتوحة بالساحات العامة التي كانت تقام فيها هذه الألعاب، وهذه الفضاءات المفتوحة تعرف باسم الفوروم «forum».
كما استغلت المسارح الدائرية أيضا للعروض الموسيقية العامة التي تستعمل فيها الآلات الموسيقية ذات الأصوات القوية. ويحتوي المسرح الدائري على حلبة تعرف باسم أرينا «arène» المشتقة من اللفظة اللاتينية التي تعني الرمل «arena» وهو الفضاء المخصص لألعاب المصارعة والاقتتال. يحيط بحلبة المسرح الدائري عادة جدار مرتفع يعرف بجدار المنصة البوديوم «podium» ويكون متوازنا مع جدار ثان يفصل بين الحلبة ومدارج المتفرجين، كما يحتوي المسرح الدائري على مدارج لجلوس المتفرجين تساعد بحكم شكلها المدروس على حسن انتشار الصوت خلال العروض الموسيقية أو العروض المسرحية.
تتميز بناءات المسارح الرومانية بعدة خصائص صوتية تحيلنا على مدى اهتمام الرومان بمسألة انتشار الصوت داخل الفضاءات التي تقام فيها الألعاب والعروض الفنية بصفة عامة والعروض الموسيقية بصفة خاصة، وهذا الاهتمام يعكس مدى الاهتمام بالممارسة الموسيقية الشعبية السائدة في المناطق القريبة من المسارح الكبرى الموجودة بالبلاد التونسية خلال الفترة الرومانية وهي مسرح قرطاج ومسرح دﭬـة ومسرح الجم. ومن أهم المميزات الصوتية لهذه المسارح نذكر بُعد المسارح عن المدن وكذلك عكس الصوت وتضخيمه وأيضا دقّة انتشار الصوت إلى جانب العناية بحيازة الصوت وتفخيمه.
2) الممارسة الموسيقية الشعبية في الفترة الرومانية من خلال لوحات الفسيفساء:
لدراسة الممارسة الموسيقية الشعبية بالبلاد التونسية خلال الفترة الرومانية لا بدّ لنا من دراسة الشواهد الأيقنوغرافية المميزة لهذه الفترة وهي الفسيفساء. ويعتبر المشهد الموسيقي والممارسة الموسيقية من أهم المواضيع التي سجلت حضورها بكثرة في لوحات الفسيفساء التي تعود إلى هذه الفترة وذلك في مختلف الأنشطة الدينية الطقسية والأنشطة الدنيوية الاجتماعية.
نلاحظ من خلال جملة اللوحات الفسيفسائية التي تعود إلى الفترة الرومانية بالبلاد التونسية والتي تتضمن مشاهد من الممارسات الموسيقية مدى اهتمام الرومان بالممارسة الموسيقية الشعبية في بعديها الهيدوني والعقلاني، ويظهر ذلك من خلال:
حضور الممارسة الموسيقية في عدة مناطق بالبلاد التونسية خلال الفترة الرومانية: قرطاج والجم وصفاقس ودﭬـة وﭬـفصة وأوتيكا وسوسة إلى غير ذلك من المناطق التي عثر فيها على لوحات فسيفسائية تجسم بعض الأساطير والشخصيات المرتبطة أساسا بالموسيقى.
تنوع المناسبات الدينية والدنيوية التي يكون للموسيقى فيها حضور فعال.
تعدد الآلات الموسيقية وتنوعها مقارنة بالآلات الموسيقية الموجودة خلال الفترة البونية.
الآلات الموسيقية بالبلاد التونسية خلال الفترة الرومانية:
1) الآلات الإيقاعية:
المضارب الرنانة: نلاحظ من خلال دراسة الوثائق الأيقنوغرافية وجود ضربين من المضارب الرنانة بالبلاد التونسية خلال الفترة الرومانية وهما القضبان المتصادمة والصاجات، ويعود استعمال المضارب الرنانة بنوعيْها إلى العصور الحجرية.
القضبان المتصادمة: تبرز القضبان المتصادمة في العديد من الوثائق الأيقنوغرافية على طول يقارب الأربعين سنتيمترا ويرجح الباحث أنيس المؤدب أن هذه القضبان تصنع من الخشب الصلب. 24
الصاجات: تتكون الصاجات من زوجين من القضيبان الرفيعة يكونان متساويين في الطول ويبرز في نهاية كل منهما رأس مستدير مسطح.
الكوسات: يتميز الرومان عن البونيين باستعمال الكوسات أو الصناجات في الموسيقى الدنيوية إلى جانب استعمالها في الموسيقى الدينية والممارسات الطقسية، ويبرز ذلك جليا من خلال بعض اللوحات الفسيفسائية الراجعة إلى الفترة الرومانية والتي تجسد مشاهد رقص دنيوي فيه حضور مكثف للكوسات.
الصلاصل: تحيلنا مجمل الشواهد الأيقنوغرافية التي تجسد الصلاصل أن استعمالها ارتبط أساسا بعبادة الآلهة إيزيس، وتتصل رمزية الآلة بالحضارة المصرية القديمة.
الدفوف: ارتبطت الدفوف خلال الفترة الرومانية بالممارسات الطقسية لديانة «قيبال» فنجدها بكثرة في الاحتفالات الديانوسية إذ نجدها بكثرة بأيدي أتباع ديونيسيوس: المينادوس والسيلانوس. والدفوف خلال هذه الفترة تصنف من ضمن الآلات الشعبية ذلك أنها غير مرتبطة بأية آلهة من آلهات الفنون بل بقيت آلة مصاحبة فقط للرقص والتمثيل في المسرح.
2) الآلات الوترية:
الجنك: من خلال دراسة الشواهد الأيقنوغرافية التي تعود إلى الفترة الرومانية والتي فيها حضور لهذه الآلة نلاحظ ارتباطها بالعازفات دون العازفين وهو على شكل مثلث غير منتظم الأضلاع ويتجاوز ارتفاعه مستوى رؤوس العازفات.
الكنارة: يعتبر استعمال آلة الكنارة خلال الفترة الرومانية بالبلاد التونسية دليلا على مدى تأثر الموسيقى الرومانية بحضارات البحر الأبيض المتوسط وخاصة الحضارة الإغريقية، ذلك أن هذه الآلة بمختلف أنواعها كانت رائجة بكثرة في عهد الإغريق وهي آلة مقدسة مقترنة بأبوللو وموساي، كما اهتم بها كبار المنظرين والمفكرين، إذ جعلها أفلاطون آلة أساسية من الضروري أن يتعلمها النشء حتى يكونوا أسوياء من خلال تنظيره لإنشاء المدينة الفاضلة25. كما أكد أرسطو على تعليمها للنشء بما أنها آلة تنمي الذكاء26. وتشير الشواهد الأيقنوغرافية التي تجسد الكنارة إلى أنها تتضمن عدة أنواع أهمها الليرة والقيثارة:
الليرة: تبين مختلف الشواهد الأيقنوغرافية مكونات الليرة التي تميزها عن بقية الآلات المشابهة لها، ذلك أن صندوق الرنين يصنع من تُرس السلحفاة يمتد منه قرنان متناظران بينهما مقبض تنطلق منه الأوتار المتوازية لتصل إلى المشط المثبت في أسفل الصندوق المصوت.
القيثارة: عند دراسة مختلف الشواهد الأيقنوغرافية التي تعود إلى الفترة الرومانية بالبلاد التونسية والتي تتضمن تجسيدا للقيثارة نتبين مدى ارتباط هذه الآلة بأبوللو وآلهة الموسيقى ايراتو. وتختلف القيثارة عن الليرة من حيث الشكل وأيضا من حيث مادة الصنع، ذلك أن شكل صندوق رنين القيثارة يكون مستطيلا منحرفا أو سداسي الأضلاع تمتد منه رقبتان سميكتان.
العود «باندوريوم»: يعتبر استعمال الباندوريوم في الفترة الرومانية بالبلاد التونسية من قبيل التأثر بالحضارات القديمة على غرار الحضارة المصرية القديمة والحضارة الآشورية. وعلى الرغم من ارتباط الموسيقى الرومانية وفنونها عامة بالحضارة الإغريقية فإن استعمال الباندوريوم لم يكن متداولا عند الإغريق ذلك أنهم كانوا يحبذون الآلات ذات الأوتار المطلقة عن الآلات ذات الأوتار المعفوقة. ومهما يكن من أمر فإن توفر الوثائق الأيقنوغرافية التي تعود إلى الفترة الرومانية وانتشارها في مختلف مناطق البلاد التونسية تدل على كثرة استعمالها في مختلف المناسبات 27.
ومن خلال بعض الشواهد الأيقنوغرافية نلاحظ أن الصندوق المصوت للباندوريوم مصنوع من ترس السلحفاة ولعل استعمال هذه الآلة في الممارسات الدينية الطقسية وخاصة الطقوس الجنائزية يجعلنا نميل أكثر إلى رأي الباحث جاك بريل Jacques BRIL الذي يرى أن العلاقة بين الآلات الموسيقية والأشكال الحيوانية لأجزائها أو استمداد مواد صنعتها من أعضاء حيوانية معينة هو فعل عقائدي طوطمي، بحيث يكون هناك استمرارية حيوية القوى الطوطمية «totémique» في الآلات التي صنعت من أعضائها29. ومما يؤكد استعمال الباندوريوم في مختلف المناطق التابعة للنفوذ الروماني وفي مختلف المناسبات وجود دمى من الطين المفخور تجسد هذه الآلة في منطقة قصر غيلان بجنوب البلاد التونسية.
3) الآلات الهوائية:
الشعيبية: الشعيبية «syrinx» هي آلة موسيقية هوائية متعددة الأنابيب المتدرجة في الطول مثل «flûte de pan»، ولم يتفق المؤرخون على تاريخ أول ظهور لها إذ أثبتت الحفريات والدراسات الأثرية استعمالها في مختلف الحضارات القديمة المتباعدة جغرافيا وزمنيا. أما في البلاد التونسية خلال الفترة الرومانية فقد كانت الشعيبية تصنع من القصب وقد وجدت بعض النماذج الأصلية مصنوعة من الخشب وأخرى من البرنز والعاج وذلك حسب الشواهد الأيقنوغرافية المتوفرة والتي تبين استعمالها أيضا في مختلف الممارسات الدينية والدنيوية.
القصبة: أبرزت الدراسات والحفريات الأثرية أن استعمال القصبة كان في مختلف الحضارات البشرية التي ظهرت في مناطق مختلفة من العالم منذ أقدم العصور، لكن استعمال القصبة خلال الفترة الرومانية بالبلاد التونسية كان على غرار استعماله في الحضارة الإغريقية غير محتفى به على الرغم من استعماله في شتى الممارسات الدينية الطقسية والدنيوية، ولعل ذلك راجع بالأساس إلى تصنيف هذه الآلة ضمن الآلات الشعبية حتى أنها غير مرتبطة بأي ربة من ربات الفنون، إذ نجدها مرتبطة بالأنشطة الرعوية وارتباطها بالمضامين الطبيعية.
المزمار المزدوج: اعتبر المزمار المزدوج من الآلات الشعبية الوضيعة منذ العهد الإغريقي لارتباطه بأسطورة الآلهة أثينا التي صنعته ثم تخلت عنه بسبب الاعوجاج الذي خلفه لها بفمها وقد تبناه بعد ذلك مرسياس أحد شياطين الطبيعة. وعلى الرغم من هذا المعتقد السائد فإن الإغريق لم يتوانوا عن استعمال المزمار المزدوج في مختلف المناسبات الدينية والدنيوية ولكن بقي من الآلات الدونية الوضيعة التي لا ترتقي إلى الآلات المتقنة التي اعتنى بها الفكر اليوناني القديم والتي جعل منها آلات النخبة المفكرة كالليرة والقيثارة30. وقد تواصل هذا المعتقد الأسطوري خلال الفترة الرومانية بالبلاد التونسية على الرغم من ارتباطه بربات الموسيقى واستعماله وحضوره بكثرة في مختلف الشواهد الأيقنوغرافية التي تجسد المزمار المزدوج بنوعيه: المزامير المزدوجة ذات الأنابيب المستقيمة والمزامير المزدوجة ذات الأنابيب المعقوفة.
الأرغن المائي: تعددت المصادر التاريخية المكتوبة التي تناولت الأرغن المائي بالدرس، فقد أرجع هيرون الأسكندراني Héron d’Alexandrie هذه الآلة إلى القرن الأول، بينما ترجع أغلب المصادر تاريخية هذه الآلة إلى القرن الثالث قبل الميلاد 31. وتبرز أغلب الشواهد الأيقنوغرافية أن استعمال الأرغن المائي في الفترة الرومانية بالبلاد التونسية كانت في جميع المناسبات الدينية والدنيوية وخاصة الاحتفالات الخاصة وألعاب مصارعة الجلادين إلى جانب استعمالات عسكرية تتمثل في المصاحبة الموسيقية لتدريبات الجنود 32.
مزمار الجراب:لم يكن استعمل مزمار الجراب بالبلاد التونسية خلال الفترة الرومانية متداولا بكثرة ولكن في المقابل لا يمكن إنكار تداوله، فقد تعرض سويتونيوس إلى هذه الآلة في كتابه «حياة نيرون» حين ذكر أن نيرون كان من أبرز العازفين عليها. وتبين لنا الشواهد الأيقنوغرافية أن مزمار الجراب وقع استعماله خلال الفترة البيزنطية، ومن هنا يمكن أن تستخلص أن استعمال مزمار الجراب بدأ منذ الفترة الرومانية وتواصل فيما بعد خلال الفترة البيزنطية.
البوق: يعتبر استعمال البوق في الفترة الرومانية امتدادا لاستعماله خلال الحضارة الإغريقية أو من قبيل تأثر الحضارة الرومانية بحضارات البحر الأبيض المتوسط، فقد استعمل البوق عند الإغريق في الميدان العسكري وخاصة تدريبات الفرسان، وتواصل استعماله مع الرومان في مختلف النشاطات العسكرية خلال فترات السلم وأثناء الحروب.
«كانت الجيوش الرومانية تستخدم بصورة أساسية آلات ذات فوهات واستنادا إلى دستور الإمبراطور سرفيوس جُهز كل جيش من جيوش روما بمئة33 عازف على البوق كانت مهمتهم أداء الإشارات المختلفة فيما يخص النشاطات اليومية للعسكريين وتسلية الجنود خلال فترة استراحتهم وعندما كان الجيش المنتصر يعود إلى روما كانت عدة فرق موسيقية تسير في مقدمة الاستعراض تعزف ألحانا عسكرية»34.
من أقدم الشواهد الأيقنوغرافية التي عثر عليها بالبلاد التونسية والتي تتضمن تجسيدا لآلة البوق أو عازف بوق أثناء العزف، لوحة فسيفسائية عثر عليها بجهة طبربة وتعود إلى القرن الثاني بعد الميلاد تشخص مجموعة من العروض وتجسد في جزء منها بوقي.
القرن: يعتبر القرن من الآلات الموسيقية التي أخذها الرومان عن الإغريق في إطار التأثر بحضارات البحر الأبيض المتوسط والتي استغلت كثيرا في النشاطات العسكرية وقت الحروب كما في وقت السلم، وسجلت هذه الآلة حضورها بكثرة خلال الألعاب الرياضية وفي الاحتفالات الرسمية والمواكب الجنائزية. والملاحظ من الشواهد الأيقنوغرافية أن القرن أصبح يصنع من المعادن المختلفة كالبرنز بعد أن كان من المواد العضوية للقرون الحيوانية.
قناع الممثل كآلة موسيقية: يعتبر القناع المكمل لأزياء الممثلين التراجيديين والكوميديين والإيمائيين آلة لتغيير الصوت بجعله حادا أو منخفضا حسب مقتضيات العرض المسرحي. وقد ذكره لوقيانوس في وصف العروض المسرحية موضحا دور القناع المغير لطبيعة الصوت البشري والمتماشي مع الأزياء التنكرية التي يحتاجها الممثلون في مختلف العروض المشهدية 35. وانتقد ترتليانوس القناع في حملته على الممثلين والعروض المسرحية، ذلك أن القناع يغير الصوت وفي ذلك خطيئة في حق الله الذي لا يحب المغالطات وكل من يشوه صورة مخلوقاته فهو مدنس لحرمته 36.
مجالات الممارسات الموسيقية الشعبية خلال الفترة الرومانية:
عند دراستنا للشواهد النصية المكتوبة ومختلف الشواهد الأيقنوغرافية التي تعرضت إلى الممارسات الموسيقية خلال الفترة الرومانية بالبلاد التونسية نلاحظ أن الحضور الموسيقي كان في هذه الفترة موجودا في مختلف الممارسات الحياتية سواء الممارسات الدينية الطقسية أو الممارسات الدنيوية الجادة أو تلك التي تبعث على الهيدونية. ولئن اقتصرت الممارسة الموسيقية على المجال الديني الطقسي وبعض المناسبات الدنيوية خلال الفترة البونية، فإن حضور الموسيقى والآلات الموسيقية في المجال الديني الطقسي يكاد يكون محدودا مقارنة بحضورها في المجالات الدنيوية خلال الفترة الرومانية، ولعل ذلك ما يفسر التنوع والتعدد في الآلات الموسيقية المحلية أو المتوارثة عن حضارات البحر الأبيض المتوسط المتزامنة مع العهد الروماني أو الحضارات القديمة كالحضارة المصرية والآشورية وغيرها مقارنة بالآلات المتداولة خلال الفترة البونية. ومن أبرز المجالات الحياتية التي كان للممارسة الموسيقية فيها دور فعال خلال الفترة الرومانية والتي كانت مهمشة أو شبه مهمشة خلال الفترة البونية نذكر:
المجال العسكري: كان للممارسة الموسيقية حضور سواء وقت الحرب أو في وقت السلم، وكنا قد تعرضنا إلى ذلك خلال دراستنا لبعض الشواهد الأيقنوغرافية المتعلقة ببعض الآلات الموسيقية الهوائية المستعملة في هذا المجال خلال الفترة الرومانية كالأرغن المائي والبوق والقرن.
المجال الرياضي: وكنا قد تعرضنا إلى ذلك من خلال دراستنا لبعض الشواهد الأيقنوغرافية المتعلقة ببعض الآلات الموسيقية الهوائية المستعملة خلال الفترة الرومانية في هذا المجال كالمزمار المزدوج ومزمار الجراب والبوق والقرن.
المجال الترفيهي: كان للممارسة الموسيقية في المجالات الترفيهية دور فعال وقد لاحظنا ذلك من خلال بقايا اللوحة الفسيفسائية التي تنقل لنا مشهد وليمة فيها حضور للموسيقى من خلال عازف شعيبية وراقصات يوقعن بصاجات.
المجال التكويني في الموسيقى: اعتنى الرومان والأفارقة السكان الأصليون للبلاد التونسية خلال الفترة الرومانية بالمجال التكويني والتعليمي للموسيقى، إذ يذكر أوغسطينوس في كتابه «رسالة في الموسيقى» أن تعلم تقنيات العزف والغناء هو من اختصاص مجموعة من المحترفين أغلبهم من العبيد والموالي، ونفهم من خلال بعض خطبه الوعظية أن منطقة بلاريجيا قد اختصت بتعليم الرقص والموسيقى عزفا وغناء، ولعل هذه المنطقة قد عرفت وجود مدارس أو معاهد لتعليم الرقص والموسيقى غناء وعزفا، ونستشف ذلك من الخطاب الذي ألقاه أوغسطينوس واعظا أهالي بلاريجيا وناصحا إياهم بالتخلي على جملة هذه الصنائع: «إخوتي متساكني بلاريجيا مدينتكم مشهورة في كل الجهات، ويتجه إليها العديد من الناس، عما [هكذا]37 يبحثون هنا؟ عن ممثلين، عن خليعات، هل تجدون في هذا مجدا؟ ألا تخجلون من الاحتفاظ بسلعة تشترى؟»38
المجال الفني: كنا قد أشرنا إلى إقامة مسابقات موسيقية خلال الفترة الرومانية بالبلاد التونسية عندما تعرضنا لدراسة فضاءات العروض وخاصة أوديون قرطاج، فقد كانت هذه المسابقات من أبرز المظاهر الفنية الموسيقية التي وقع الاعتناء فيها بالموسيقى على المستوى التنظيمي والمستوى الفني، وما إقامة مسابقات «بيثيا» الموسيقية وبناء الأوديون الخاص بهذه المسابقات إلا دليل على المستوى الفني الذي وصلته ولاية إفريقيا الرومانية، والذي يعتبر انعكاسا للمستوى الحضاري الذي عرفته البلاد التونسية خلال الفترة الرومانية. وإقامة المسابقات الموسيقية هي من قبيل التأثر بالحضارة الإغريقية، إذ عملت السلطة الحاكمة خلال الفترة الرومانية على إعادة إحياء مجد المسابقات الموسيقية على الطريقة الهلينستية وقد أحاطها الإمبراطور نيرون بهالة فخمة من المظاهر السياسية والدينية لتصير إحدى خطابات الإيديولوجيا الرومانية المعبرة عن بطولة الإمبراطور وتقديس صورته الأبوللونية.
الهوامش
1 - الهيدونية: مدرسة فلسفية تجعل من اللذة والمتعة والترفيه أهم غاية حياتية سامية.
اُنظر:
* www.histophilo.com/hedonisme.php (22/9/2017)
* www.cnrtl.fr/definition/h%C3%A9donisme (18/9/2017)
* www.universalis.fr/encyclopedie/hedonisme/ (18/9/2017)
2 - العقلانية: توجه فلسفي يؤكد أن الحقيقة يمكن أن تكتشف بشكل أفضل باستخدام العقل والتحليل الواقعي.
اُنظر:
* https://marefa.org/%D8%B9%D9%82%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9 (20/9/2017)
* www.almaany.com/ar/dict/ar-ar/%D8%B9%D9%82%D9%84%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/ (20/9/2017)
3 - المؤدب (أنيس)، الثقافة الموسيقية في تونس خلال الفترة البونية والرومانية، مذكرة دكتورا في علوم التراث، جامعة تونس، مارس 2008، ص. ص. 128 – 131.
4 - اُنظر:
* GESLL (Stéphane), Histoire ancienne de l’Afrique de nord, tom III, Hachette, Paris, 1927, p. 197 – 198.
* LANCEL (Serge), Hannibal, Fayard, Paris, 1995, p. 269.
* فنطر (محمد حسين)، الحرف والصورة في عالم قرطاج، مركز النشر الجامعي، أليف- منشورات البحر الأبيض المتوسط، تونس، 1999، ص. 28.
5-PSEUDO-PLUTARQUE, De la musique, texte, traduction, commentaire, précédés d’une étude sur l’éduction musicale dans la Grèse antique préparé par François LASSERRE, Olten / Lausanne, Urs Graf-Verlag, Coll. Institut suisse de Rome Bibliotheca helvetica romana, 1954.
6 - فنطر، م. س.، ص. 145.
7 - اُنظر:
* DELATTRE (Alfred Louis), La nécropole des rabs, prêtres et prêtresses de Carthage, troisième année de fouilles, Imprimerie Paul Feron-Vrau, Paris, 1902 – 1903, p. p. 5 – 8.
* DELATTRE (Alfred Louis), La nécropole voisine de la colline de Sainte – Monique, troisième mois de fouilles, Imprimerie Paul Feron-Vrau, Paris, 1900, p. 15, notes n° 2.
8 - خطأ لغوي صوابه: فينصرفون.
9 - فنطر، م. س.، ص. 234.
10 - اُنظر ملحق اللوحات: لوحة رقم 1 و2 و3 و4.
11 - DECRET (François), Carthage ou l’empire de la mer, Seuil, Paris, 1977, p. 143.
12 - VENDRIS (Christophe), Instruments a cordes et musiciens dans l’Empire Romain, Etude historique et archéologique (II ème siècle av. J.-C/ V ème siècle ap. J. – C), L’Harmattan, Paris, 1999, p. 115 – 116.
13 - HERODOTE, Histoire, Livre IV, Chapitre 192, texte numérisé in:
* http://2terres.hautesavoie.net/livreseg/herodote/texte/herodote4.htm
14 - فنطر، م. س.، ص. 24.
15 -أبوليوس (لوكيوس)، المرافعة، أو دفاع صبراتة، ترجمة عمار الجلاصي، منشورات تاوالت الثقافية، كاليفورنيا – الولايات المتحدة الأمريكية، 2001.
* المحجوبي (عمار)، أبوليوس: صفحات مختارة، تعريب محمد العربي عبد الرزاق، المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون، بيت الحكمة، قرطاج – تونس، 1998، ص. 7 – 22.
16- TERTULLIEN, Contre les spectacles, texte numérisé d’après la traduction de Eugène-Antoine De GENOUDE, Edition Louis Vivès, Paris, 1852, tome II, in:
* www.tertullian.org/french/g2_11_de spectaculis.htm
17 - اُنظر مؤلفات Saint Cuprien De Carthage باللغة الفرنسية على الموقع:
* www.jesusmarie.com/cyprien de carthage.html
18 - ARNOBE L’ANCIEN, Contre les Gentils, traduit et commenté par Henri Le BONNIEC, Les Belles lettres, CUF, Paris,1982.
19 - SAINT AUGUSTIN, Traité de la musique, texte numérisé d’après la traduction de MM. THENARD et CITOLEUX, in:
* www.abbaye-saint-benoit.ch/saints/augustin/musique/index.htm
20 - MARTIANUS CAPELLA, De Nuptiis Philologiae et Mercurii, liber. IX, trad. Di Lucio CRISTANTE, Antenore, coll. Medioevo e umanismo, Padova, 1987.
21 - "Odéon, du grec Ωδείον (littéralement «construction destinée à des concours musicaux», mot dérivé du grec «chanter» qui a aussi donné ode et aède), est le nom de divers édifices de la Grèce antique affectés aux exercices de chants, aux représentations musicales, aux concours de poésie et de musique. Ces édifices étaient généralement de taille modeste."
اُنظر:
* fr.wikipedia.org/wiki/Odeon
22 - PECHE (Valérie) et VENDRIES (Christophe), Musique et spectacles a Rome et dans l’Occident romain, Errance, Paris, 2001, p. 68.
23 - Ibid., p. 68.
24 - المؤدب، م. س.، ص. 309.
25 - PLATON, La République, Livre III, 399d, texte numérisé d’après L’œuvres complètes de Platon, traduis en français par E. CHAMBRY, Librairie Gamier Frères, Paris, in:
* http://remacle.org/bloodwolf/philosophes/platon/rep3.htm
26 - ARISTOTE, La Politique, texte numérisé par J. P. MURCIA, traduit en français d’après le texte collationné sur les manuscrits par J. BARTHELEMY-SAINT-HILAIRE, Livre V, Chapitre VI, 5, Paris, Ladrange, 1874, in:
* http://remacle.org/bloodwolf/philosophes/Aristote/politiqueordre.htm
27 - VENDRIS, op. cit., p. 117.
28 - Totémique: adjectif du totem fonction de totémique / Totémisme: structure sociale organisé autour des totems. (Dictionnaire encyclopédique Auzou 2004, p. 1523).
29 - BRIL (Jacques), Origines et symbolisme des instruments de musique, édit. Claucier-Guéraude, Paris, 1980, p. 31.
30 - WIORA (Walter), Les quatre âges de la musique, traduction de J. GAUDEFROY-DEMONBYNES, Payot, Paris, 1963, p. 74 – 75.
31 - PERROT (jean), L’orgue et ses origines hellénistique à la fin du XIII siècle, édit. A. et J. PICARD, Paris, 1965, p. 33 – 34.
32 - PECHE & VENDRIES, op. cit., p. 78.
33 - هكذا وردت في الكتاب، والصواب: بمائة
34 - مدبك، م. س.، ص. 43.
35 - LUCIEN, De la danse, Chapitre 27, texte numérisé, traduction de Eugène TALBOT, Hachette, Paris, 1912, in:
* http://remacle.org/ bloodwolf/philosophes/Lucien/danse.html
36 - TERTULLIEN, Contre les spectacles, op. cit.
37 - الصواب: عمّ يبحثون هنا؟
38 - SAINT AUGUSTIN, Serments Denis, 17, 5.
عن: المؤدب، م. س.، ص. 405.
الصور
* الصور من الكاتب.